الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كيف دخلت المسيحية مكة والجزيرة العربية:
كانت هناك روافد حملت المسيحية إلى الجزيرة العربية، بل إلى مكة ذاتها هي:
1-
الاضطهاد الذي وقع على المسيحية منذ المسيح ذاته جعل أتباعها يبحثون عن أماكن في كهوف الجبار وبطون الصحرء ليتواروا عن أعين الرقباء من الرومان.
2-
رحلات قريش التجارية ونظرية تقسيم الناس إلى أحرار وعبيد شاركت بدورها في إدخال المسيحية إلى مكة.
3-
دخلت المسيحية الجزيرة العربية دخولًا رسميًّا على يد "الحارث الغساني".
4-
دخلت المسيحية قلب مكة مع الغزو الحبشي لها.
5-
ظهور جماعة يدعون بالحنفاء يرمون وراء تحنفهم سحب الثقفة الدينية من الأوثان، ثم طلبوا أديانا شتى فبعضهم طلب الحنفية وبعضهم طلب الأوثان وبعضهم طلب المسيحية.
وإذا كانت المسيحية قد دخلت مكة فإلى أي حد انتشرت؟
بقيت المسيحية رهينة لغتها السريانية أو الرومانية فلم تنتشر انتشارا ملحوظا لا من قريب ولا من بعيد، وكل الذين اعتنقوها من العرب هم الذين كانوا على صلة باللسان الأعجمي
فلم ينتشر كتابها المقدس؛ لأنه لم يترجم إلى اللغة العربية، كذلك شعائر صلاتها "القداس" لم تترجم.
ليس معنى وجود المسيحية وانتشارها بين العرب تعلُّمَ الرسول منها وأنها كانت مصدره في تأليفه للقرآن؛ لأن الرسول ادعى النبوة وكان الوحي مصدره فيما قال وفيما يفعل، وقامت شواهد الواقع والتاريخ على صدق دعوته، ثم كان القرآن من أكبر شواهد الأدلة بيننا عليه.
وأما ما بينهما من عناصر متشابهة ومثلها اليهودية فإن القرآن نفسه حسم ذلك حين قال إن ما أنزل على محمد ليس بدعا عما نزل على غيره من الرسل: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا}
…
1 الآية، ويصبح كل بحث يحاول أن يبرز
1 سورة الشورى الآية 13.
عناصر التشابه بين ما نزل من وحي السماء، فهو من غير أن يدري يدور في فلك الآية السابقة حين أكدت وحدة وحي السماء، وفي الوقت نفسه يؤكد دعوى نبوة الرسول، وصدق ما قاله ودفع النوازع في النفوس البشرية حين تريد أن تخلق من المتجانسات تنافرًا.
وأهم علامة فارقة ميزت نصارى عرب الجاهلية عن العرب الوثنيين هي أكل النصارى للخنازير، وحملهم للصليب وتقديسه، ورد أن الرسول قال لراهبَيْن أتياه من نجران؛ ليبحثا فيما عنده:"يمنعكما عن الإسلام ثلاث: أكلكما الخنزير، وعبادتكما الصليب، وقولكما: لله ولد". وورد أنه رأى عدى بن حاتم الطائي وفي عنقه صليب من ذهب؛ لأنه كان على النصرانية.
أما الزمن الذي دخلت فيه النصرانية إلى جزيرة العرب فتحاول مؤلفات رجال الكنائس رد ذلك التاريخ إلى الأيام الأولى من التأريخ النصراني1.
وإذا كانت اليهودية قد دخلت جزيرة العرب بالهجرة والتجارة، فإن دخول النصرانية إليها كان بالتبشير.
وبدخول بعض النساك والرهبان إليها للعيش فيها بعيدين عن ملذات الدنيا، وبالتجارة وبالرقيق ولا سيما الرقيق الأبيض المستورد من أقطار كانت ذات ثقافة وحضارة، وبفضل ما كان لكثير من المبشرين من علم ومن وقوف على الطب والمنطق ووسائل الإقناع وكيفية التأثير في النفوس تمكنوا من اكتساب بعض سادات القبائل فأدخلوهم في دينهم، أو حصلوا منهم على مساعدتهم وحمايتهم، فنسب دخول بعض سادات القبائل ممن تنصر إلى مداواة الرهبان لهم ومعالجتهم حتى تمكنوا من شفائهم مما كانوا يشكون منه من أمراض، وقد نسبوا ذلك إلى فعل المعجزات والبركات الإلهية، وذكر بعض مؤرخي الكنيسة أن بعض أولئك الرهبان القديسين شفوا بدعواتهم وببركات الرب النساء العقيمات من مرض العقم، فأولدن أولادًا، ومنهم من توسل إلى الله أن يهب له ولدًا ذكرًا فاستجاب دعوتهم، فوهب لهم ولدًا ذكرًا كما حدث لضجعم سيد الضجاعمة؛ إذ توسل أحد الرهبان إلى الله أن يهبه ولدا ذكرا فاستجاب له، فلما رأى ضجعم ذلك دخل في دينه وتعمد هو وأفراد قبيلته، ومنهم من شفى بعض الملوك العرب من أمراض كانت به
1 المفصل جـ6 ص586، وأيضا البلاذري ص71، واللسان 13/ 443 مادة وثن، النصرانية وآدابها القسم الأول للويس شيخو.
مثل -ما رايشو عزخا- الراهب ذكروا أنه شفى النعمان ملك الحيرة من مرض عصبي ألم به، وذلك بإخراجه الشيطان من جسده1.
ولم يعبأ المبشرون بالمصاعب والمشقات التي كانوا يتعرضون لها، فدخلوا مواضع نائية في جزيرة العرب، ومنهم من رافقوا الأعراب وعاشوا عيشتهم وجاروهم في طراز حياتهم فسكنوا معهم الخيام حتى عرفوا "بأساقفة الخيام" و"بأساقفة أهل الوبر"، و"بأساقفة القبائل الشرقية المتحالفة"، و"بأساقفة العرب البادية"، وقد ذكر أن مطران بصرى كان يشرف على نحو عشرين أسقفا انتشروا بين عرب حوران وعرب غسان، وقد نعتوا بالنعوت المذكورة؛ لأنهم كانوا يعيشون في البادية مع القبائل عيشة أهل الوبر.
وقد دخل أناس من العرب النصرانية باتصالهم بالتجار النصارى وبمجالستهم لهم، وروي أن رجلا من الأنصار يقال له: أبو الحصين كان له ابنان، فقدم تجار من الشام إلى المدينة يحملون الزيت فلما باعوا وأرادوا أن يرجعوا أتاهم ابنا أبي الحصين فدعوهما إلى النصرانية فتنصروا فرجعا إلى الشام معهم.
ودخلت النصرانية جزيرة العرب مع بضاعة مستوردة من الخارج هي تجارة الرقيق من الجنسين، فقد كان تجار هذه المادة المهمة الرابحة يستوردون بضاعتهم من أسواق عالمية مختلفة، ولكن أثمن هذه البضاعة وأغلاها هي البضاعة المستوردة من إمبراطوريتي الروم والفرس؛ لمميزات كثيرة امتازت بها عن الأنواع المستوردة من أفريقية مثلا، فقد كان صنفها من النوع الغالي الممتاز؛ الجمال والحسن والإتقان ثم الابتكار وبالقيام بأعمال لا يعرفها من هم من أهل إفريقية.
وقد كان في مكة وفي الطائف وفي يثرب وفي مواضع أخرى من جزيرة العرب رقيق نصراني كان يقرأ ويكتب ويفسر للناس ما جاء في التوراة والأناجيل، ويقص عليهم قصصا نصرانيا ويتحدث إليهم عن النصرانية، ومنهم من تمكن من إقناع بعض العرب في الدخول في النصرانية، ومنهم من أثر على بعضهم فأبعده عن الوثنية، وسفه رأيها عندهم، لكنهم لم يفلحوا في إدخالهم في دينهم فبقوا في شك
1 المفصل جـ6 ص587، ص58، وأيضا النصرانية وآدابها جـ1 ص35، الدبورة في مملكتي الفرس والعرب للقس بولس شيخو ص32، ص47
من أمر الديانتين يرون أن الحق في توحيد الله وفي اجتناب الأوثان لكنهم لم يدخلوا في نصرانية؛ لأنها لم تكن على نحو ما كانوا يريدون من التوحيد وتحريم الخمر وغير ذلك مما كانوا يبتغون ويشترطون1.
وقد تسربت النسطورية إلى العربية الشرقية من العراق وإيران فدخلت إلى قطر وإلى جزر البحرين وعمان واليمامة ومواضع أخرى، ومن الحيرة انتقلت النسطورية إلى اليمامة فالأفلاج فوادي الدواسر إلى نجران، واليمن وصلت إليها بالتبشير وبواسطة القوافل التجارية، فقد كانت بين اليمن والحيرة علاقات تجارية وثيقة، وكانت القوافل التجارية تسلك جملة طرق في تنمية هذه العلاقات وتوثيقها. وقد قوى هذا المذهب -ولا شك- بعد دخول الفرس إلى اليمن، ولما عرف من موقف رجاله من كنيسة الروم، ولما كان لأصحابه من نفوذ في بلاط الشاهنشاه، ومن صداقته لهم2.
وقد بقيت النسطورية قائمة في اليمن في أيام الإسلام.
أما اليعاقبة فقد انتشر مذهبهم بين عرب بلاد الشام والبادية، وقد اصطدم هذا المذهب بالكنيسة الرسمية للبيزنطيين واعتبرته من المذاهب المنشقة الباطلة لذلك حاربته الحكومة وقاومت رجاله، كما عارضه النساطرة؛ لاختلافه معهم في القول بطبيعة المسيح وفي أمور أخرى، وهذا ما حمل النساطرة على الحكم بهرطقة اليعاقبة، كما حمل هذا الاختلاف اليعاقبة على الحكم بهرطقة النساطرة حتى صار اختلاف الرأي هذا سببا في وقوع معارك كلامية وجدل طويل عريض بين رجال المذهبيين3.
واليعاقبة يدعون بالمنوفسيتين أي القائلين بالطبيعة الواحدة؛ لقولهم إن للمسيح طبيعة واحدة وأقنوما واحدا فقيل لهم من أجل ذلك أصحاب الطبيعة الواحدة، هم مذهب من مذاهب الكنيسة الشرقية نسبوا إلى يعقوب البرادعي ويسمى بجيمس أيضا، المولود في حوالي سنة 500 للميلاد في مدينة الأجمة من أعمال
1 المفصل جـ6 ص588، ص589 وأيضا النصرانية جـ1 ص33، وتفسير الطبري جـ3 ص10، وتفسير القرطبي جـ3 ص280 وما بعدها.
2 المفصل جـ6 ص629 وأيضا -النصرانية جـ1 ص59 وما بعدها.
3 المفصل جـ6 ص630، وأيضا النصرانية جـ1 ص67، شرح الأصول الخمسة للقاضي عبد الجبار ص292 وما بعدها.
نصيبين في شرقي الرها والمتوفى سنة 578 للميلاد ولد في أسرة كهنوتية، وتتلمذ لـ ساويرس الذي صار رئيسا على بطريركية أنطاكية في عام 514 للميلاد.
ثم اضطر إلى مغادرة أنطاكية إلى مصر؛ لاختلافه مع رجال الدين في هذه المدينة في طبيعة المسيح؛ إذ كان يقول بوجود طبيعة واحدة فيه؛ وأخذ يعقوب رأيه هذا في المسيح.
وذهب يعقوب في حوالي سنة 528 للميلاد إلى القسطنطينية لحمل القيصرة -ثيودورة- Theodora- على التأثير في الكنيسة، وحملها على الكف عن اضطهاد القائلين برأيه في طبيعة المسيح، وقد مكث في القسطنطينية خمسة عشرعاما، وسعى حثيثا في نشر مذهبه والتبشير به، وهذا ما أوقعه في نزاع مع بقية رجال الدين هناك؛ لخروجه على تعاليم المجمع الخلقيدوني الذي عين التعاليم الثابتة في طبيعة المسيح1، وكان يعقوب أسقفا على الرها في حوالي سنة 541م.
وكان الحارث بن جبلة من المقدرين له، والمحبوبين عنده، لذلك كان ممن توسطوا لدى بلاط القسطنطينية للسماح له بالخروج منها، وللتوفيق بين آرائه وآراء الكنيسة البيزنطية، كما توسط المنذر لدى البيزنطيين للغرض نفسه2.
وكانت في أيامه أسقفيتان على العرب: أسقفية عرفت بأسقفية العرب، وأسقفية التغلبيين، وكرسيها بـ عاقولا، وعاقولا هي موضع بالكوفة، أما كرسي أسقفية العرب فكان في الحيرة.
وقد دخل أكثر الغساسنة في هذا المذهب وتعصبوا له، وطالما توسطوا لدى الروم في سبيل حملهم على الكف عن اضطهادهم والتنكيل بهم ظلوا مخلصين لهذا المذهب إلى ظهور الإسلام3. وكان لليعاقبة مشهد مقدس يحجون إليه؛ للتبرك به والنذر له هو مشهد القديس سرجيوس في مدينة سرجيوبوليس Sergigapalis وهي الرصافة.
1 المفصل جـ6 ص631.
2 المفصل جـ6 ص631.
3 المفصل جـ6 ص631، ص632، وأيضا ذخيرة الأذهان جـ1 ص303.