الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ولعل نشأة تلك البيوت المقدسة أو الطواغيت يرجع -في نظرنا- إلى نشأة مذهب قريش الأحمسي الذي صبغ البيت الحرام بصبغة قبلية قرشية اضطرت القبائل المجاورة أن تحاكيها بمثل بيتها.
تقويم التحمس القرشي:
ينازعنا القوم في محاولتنا الإدلاء برأي يحدد بوجه تقريبي تاريخ ابتداع قريش تحمسهم.
يغلب على ظني أن ابتداع مذهب الحمس القرشي كان قبل غزو أبرهة للبيت؛ لأن مذهب الحمس يؤكد على عصبية قريش القبلية، وكانوا يرون في ذلك امتيازا طبقيًّا "فليس لأحد من العرب مثل حقنا" فلا يساوي الحرم وساكنوه بالحل وساكنيه، وقالوا بعضهم لبعض:"إن فعلتم ذلك استخفت العرب بحرمتكم"، واقتضاهم رأيهم في تحمسهم أن يخرجوا فيه عن بعض دين إبراهيم، "فتركوا الوقوف على عرفة والإفاضة منها وهم يعرفون ويقرون أنها من المشاعر ومناسك الحج ودين إبراهيم".
فتألههم العصبي "العرقي" جرفهم عن الالتزام بدين إبراهيم.
وكما أنهم خرجوا بتحمسهم عن دين إبراهيم؛ ليرفعوا عصبيتهم على دينهم فرضوا تحمسهم على العرب، "فحملوا على ذلك العرب فدانت به"، وكان من نتائج ذلك على العرب وقريش أن اعتبر العرب أن مسئولية البيت تقع بالدرجة الأولى على قريش، وظهر ذلك عندما سأل أبرهة عن سيد أهل هذا البلد وشريفها، فقيل له: عبد المطلب فلما جاء إليه عبد المطلب سأله أن يرد إليه الإبل قال أبرهة لترجمانه: قل له: قد كنت أعجبتني حين رأيتك ثم زهدت فيك حين كلمتني، أتكلمني في مائتي بعير أصبتها لك وتترك بيتًا هو دينك ودين آبائك قد جئت لهدمه لا تكلمني فيه؟! قال له عبد المطلب: الإبل لي والبيت له رب يحميه.
هذا يعني أن قريشًا عزلت نفسها والبيت عن العرب، كذلك مر حديث أبرهة وغزوه للبيت لدى كتاب السير، كما لو كان الأمر مكيدة لعبد المطلب وبيته فقط، فلم يتحرك له العرب وهم أشعلوا الحروب القبلية أو بين القبيلة الواحدة لأتفه
الأسباب، وعلى ما نظنه يظهر أن الأمر في هذا لا يفهم إلا من خلال رأي قريش في التحمس وهو أنهم عزلوا أنفسهم به من حيث أرادوا تسودًا ورفعة قبلية.
وكانت النتيجة أن ظهرت قريش وعليها طابع الذلة عند مفاوضتها لأبرهة، وتخلف العرب عنه. يقول ابن هشام: ثم قام عبد المطلب فأخذ بحلقة باب الكعبة وقام معه نفر من قريش يدعون الله ويستنصرونه على أبرهة وجنده.
ويبدو لنا أن حلف الفضول؛ وهو يحمل في طياته نزعة إنسانية عالية حيث تعاقدوا وتعاهدوا على أن لا يجدوا بمكة مظلوما من أهلها أو غيرهم ممن دخلها من سائر الناس إلا أقاموا معه وكانوا على من ظلمه حتى ترد عليه مظلمته.
قلنا: يبدو لنا -ولا سيما أنه كان معه حملة أبرهة- أنه رد فعل لموقف العرب من قريش وأبرهة وتحويل للجانبين السياسي والاجتماعي لمذهب الحمس القرشي الذي وصفه الرسول بقوله: "لقد شهدت في دار عبد الله بن جدعان حلفا لو دعيت به في الإسلام لأجبت؛ تحالفوا أن ترد الفضول على أهلها وألا يعزّ ظالم مظلومًا".
بينما قريش وصفته بقولها1: لقد دخل هؤلاء في فضل من الأمر، فلم يكن الحلف واقعا من قريش موقع الرضا إنما اعتبرته تدخلا في فضل من الأمر.
ونلاحظ أن الدعوة إليه كانت في دار عبد الله بن جدعان ولو رضيت عنه قريش لدعو إليه في دار ندوتهم.
على أية حال نرى أن ما ابتدعته قريش من رأي الحمس يرجع إلى ما قبل أبرهة بكثير منذ نزعت العرب إلى تقليد الكعبة بطواغيتها، وقد أورد ياقوت نصا يؤيد فيه ما وصلنا إليه، ويقول فيه: كانت تحج إليها وفود حمير وكندة وغسان مقرِّين بأنهم مدينون للحمس من قريش ويرون تعظيمهم والاقتداء بآثارهم فرضًا وشرفًا عندهم.
1 معجم البلدان.
أما الأزرقي فإنه يرى أن ظهور الحمس كان بعد حادثة الفيل "1: 118" أخبار مكة.
وإذا صح ما ذهبنا إليه وهو أن مذهب الحمس القرشي بانت أصوله قبل حملة أبرهة الحبشي، وحملت قريش العرب عليه فتكون مظاهر الوحدة العربية والسيادة القرشية سابقة على العصر الإسلامي؛ فدينهم الوثني هو دين الجزيرة وبيتهم بات مركزًا للأصنام الممثلة للقبائل -كما حكى الأزرقي أنه وجد في مكة ما يربو على ثلاثمائة صنم؛ أي أنه لكل قبيلة صنمها في ربعها وصنم في بيت الأصنام.
كذلك يتبع المظهر العام للوحدة، المظهر اللغوي، ونعني به أن لغة قريش أصبحت سائدة ولا سيما في المناسبات الرسمية التي تقتضيهم قرض الشعر والمفاخرة به وإذاعته في منتدياتهم الرسمية عكاظ ومجنة وذي المجاز.
نقول: اتجه العرب على اختلاف لهجات قبائلهم إلى صياغة أشعارهم بلغة قريش -وذلك واضح من قراءتنا لها- حيث لا يبدو اختلاف في لهجتهم ونطقهم لا على جدار الكعبة ما يؤيد ما تذهب إليه أن هذه المعلقات تكلف لها العرب لغة قريش لترف على بيت قريش وتعتبر ظاهرة الواحدة -أي طابع قريش العام- من حيث اللغة والدين ونسك الحج والاقتصاد مما سيطر على العرب قبل الإسلام، وكانت كلها عوامل ممهدة لنزول القرآن بلغة قريش؛ إذ ليس من المعقول أن ينزل القرآن بلغة قبيلة من قبائل العرب دون أن يكون وراءه أسباب تاريخية تشهد بسمو هذه اللغة القرشية على غيرها وفي رأينا -الذي له شواهده التاريخية- أن هذه اللغة القرشية تعدت نطاق قبيلة قريش فحملوها معهم -وهم رسل التجارة- إلى بطن الجزيرة ومشارفها وخارجها، فكتبت بها العهود التجارية التي أبرمتها مع الرومان، والفرس، واليمن، والحبشة، وفي النقل التجاري عوامل حيوية في ميدان الاقتباس، فعندما نزل القرآن كان يتفق مع الروح العربية في اصطفائها لغة قريش؛ لغة ثفافة وحضارة ونشر للآداب والأشعار.
أما من ناحية المضمون الفكري فنرى أن القضايا الفكرية التي تناولتها لائحة قريش التنفيذية كانت خالية من أي عمق فكري فلا نرى فيها ما يشير من قريبب أو من بعيد إلى مشكلات المجهول: كقضايا البشرية، والخلق، ويبدو أنها كانت لا تراود عقل العربي إلا في النادر اليسير من الأوقات.
فدينهم الوثني: لا حياة فيه ولا معنى له، ولا يساعد أحدا منهم على أن يحدد العلاقات التي تربط هذه الآلهة المتعددة بالبشر، وصرفهم عن فهم ما لديهم من فكر غامض ناشئ عن قوة عالية فكانوا يقدسون الأوثان؛ لأنها تمثل هذه القوة بوساطة طقوس وثنية ورثوها عن أجدادهم.
ووثنية العرب لم تستطع أن تجيب إجابات مقنعة على الأسئلة البدهية التي تتردد في ذهن كل شخص مفكر مثل:
من أين خلقت؟ وإلى أي نهاية مصيري؟ وما هدفي وغرضي من الحياة؟
"لم يشغل العربي ذهنه بشيء من القضايا أو ما هو من قبيلها، ولكن كانت حياة العربي حياة حرية ومرح وسرور ومجون، وكانت المخمر والنساء والحرب هي الأشياء التي يحبها العربي ويهتم بها"؛ فهو إما أن يستغرق في الخمر أو ينصرف إلى الفسق أو يستنفد قوته وطاقته في الحروب القبلية أو سلب جاره وكانت حياة مرح لا يعكر صفوها أفكار خطيرة أو تأملات دينية تدفع إلى الميل أو الرغبة في عمل الخير.
"لقد كان هدفهم من الحياة أن يتمتعوا بحاضرهم وأن يحرزوا النصر في معاركهم، وإلى يومنا هذا نجد البدوي محتفظًا بهذه الصفات فهو في غالب حالاته لا يتقيد بالدين1.
"والدلائل تشير إلى أن الوثني في الجاهلية على العموم لم يكن يتمسك في دينه بعقيدة نابعة من شعور ديني عميق أو عاطفة روحية شديدة قائمة على عقل سديد أو تفكير سليم، ولكن هي عادات تأصلت في نفوسهم تقليدًا لغيرهم أو تمسكًا بسلوك آبائهم وأجدادهم السابقين"2.
ويحلل بلاشير3 العاطفة الدينية عند الجاهلية فيقول: إن العاطفة التي كانت تسيطر على النفوس في المحيط العربي قبل ظهور
1 تاريخ الإسلام العام ص18.
2 تاريخ الأدب الجاهلي علي الجندي "1: 117".
3 تاريخ الأدب العربي ص16.