الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ولقد كانت الكعبة حرم الله الآمن موطنًا لدعوة إسماعيل وأهله من نسله، فكانت منذ أن عهد الله ببنائها إلى إبراهيم وإسماعيل هي محل تقديس، وأرضًا لدين سماوي أقامه إسماعيل فيها وحولها، إلى أن آلت مقاليدها إلى جرهم ظلمًا من ولد إسماعيل -ورأى إسماعيل عدم منازعتهم لخئولتهم من جهة وإعظامًا لحرمة البيت من جهة أخرى.
بيد أن جرهم بغوا فيها واستحلوا كثير من الحرمات: فظلموا من دخلها من غير أهلها، وأكلوا مال الكعبة الذي يهدى لها فتفرق أمرهم، فلما رأت بنو بكر بن عبد مناة "لعلها مناف" بن كنانة وغبشان من خزاعة ذلك أجمعوا على حربهم وإخراجهم من مكة، فآذنوهم بالحرب فاقتتلوا فغلبتهم بنو بكر وغبشان فنفوهم من مكة، وآل أمر البيت إلى رئيسهم عمرو بن لحي.
وكانت مكة في الجاهلية لا تقر فيها ظلمًا ولا بغيًا ولا يبغى فيها أحد إلا أخرجته.
كيف نشأت:
أمامنا روايتان تتحدثان عن نشأة الوثنية العربية.
الأولى نرى أنها وافدة، والثانية نرى أنها نشأة محلية.
أما عن الراوية الأولى فإنها وفدت مع عمرو بن لحي حين غلبت خزاعة على البيت ونفت جرهم عن مكة، وقد جعلته العرب ربًّا لا يبتدع لهم بدعة إلا اتخذوها شرعة؛ لأنه كان يطعم الناس ويكسوهم في الموسم، وتذكر الرواية التاريخية أنه أول من أدخل الأصنام في الحرم.
يقول الرازي المفسر: اعلم أن اليونايين كانوا قبل خروج الإسكندر قد عمدوا إلى بناء هياكل لهم معروفة بأسماء القوى الروحانية والأجرام النيرة واتحذوها معبدا لهم على حدة وقد كان هيكل العلة الأولى عندهم هو الأمر الإلهي.
وهيكل العقل الصريح.
وهيكل العامة المطلقة.
وهيكل النفس والصورة وقد كانت مدورات كلها.
وكان هيكل زحل مسدسًا.
وهيكل المشترى مثلثًا.
وهيكل المريخ مستطيلًا.
وهيكل الشمس مربعًا.
وهيكل عطارد مثلثًا في جوفه مستطيلًا في ظاهره.
وهيكل القمر مثمنًا.
فزعم التاريخ: أن عمرو بن لحي لما ساد قومه وترأس على طبقاتهم وولي أمر البيت الحرام اتفقت له سفرة إلى البلقان، فرأى قومًا يعبدون الأصنام، فسألهم عنها، فقالوا: هذه أربابنا نستنصر بها فننصر، ونستسقي فيها فنسقى، فالتمس إليهم أن يكرموه بواحد منها فأعطوه الصنم المعروف "بهبل" فسار به إلى مكة ووضعه في الكعبة ودعا الناس إلى تعظيمه، وذلك في أول ملك "سابور ذي الأكتاف".
وواضح من هذه الرواية أنها تسند أول عملية أدخلت فيها الأصنام للحرم إلى عمرو بن لحي، وأنه أتى بها من اليونان، فالوثنية اليونانية دخلت مكة، وهذا من الآثار اليونانية، وهذه الرواية1 يبدو أنها أكيدة؛ لأن الأصنام غير "هبل" كانت حجارة خالية من الفن، والذوق الجمالي، فلو أنهم أبدعوها لألبسوها مسحة فنية جمالية، وفي هذا ما يشير إلى أن العربي غير من دينه الحنيفي، لكنه ظل محبًّا لرمزياته المقدسة، ومن أهمها الكعبة فحينما ابتدع أصنامًا أو حينما أتى بها من الخارج في بعض رحلاته رأيناه يودعها في الكعبة، فالرمزيات عند العربي، لا تخرج عن معنى: الإلف، والعادة، والفرث، ولا تحمل لديه مضمونا فكريا أو دينيا، لذلك كنا نراه لا يعنى بالدين في شيء، فالمعنى الديني عنده لا يخرج عن معنى العصبية القبلية، ولعل ما قاله لهم عمرو بن لحي: نستنصر فننصر، وقد صارت عقيدة بينهم توارثوها، ونراها ظهرت على
1 راجع تفسر الفخر الرازي: "1-232" وفتح الباري: "8-472" ابن هشام ص62، والروض الأنف:"1-62".
لسان عبد المطلب وهو يفاوض أبرهة حينما قال له: أما الإبل فهي لي وأما البيت فله رب يحميه"، وتعني هذه العبارة في نظرنا أن العربي يتميز بنظرته المادية، هذا من ناحية، وأما من ناحية الموقف العربي القبلي أمام أبرهة فلم يظهر بالمستوى اللائق به فإنه كان قبليا في تشتته وليس عربيا، فالوحدة العربية ظهرت مع الدعوة الإسلامية، ولعل ذلك يرجع في نظرنا إلى العربي نفسه حين أيد وجهة نظر العربي المفاوض: إن الأمان يتحقق عند العربي حين يأمن اقتصاديا ولو أوذي الدين وليس الأمان في الدين حين يهدد الاقتصاد، وكانت هذه النظرة من أهم ما كافحها الإسلام.
ونظرته المادية هذه هي التي دفعتهم -وفقا لما يقول المؤرخون الإسلاميون- إلى الاعتقاد أن فكرة الحجر المقدس نشأت أساسًا من حبه للكعبة وارتباطه الديني بها منذ أن بناها أبوه إبراهيم وربط بها ملته الحنيفية، غير أن العربي أكثر من الرمزيات المحسوسة دون مضمون فكري وراءها، فكانت وثنيته من غير مضمون فكري، وكانت أصنامه من غير مسحة فنية، وكانت الوثنية العربية ساذجة.
وأما عن الرواية الثانية فإنها ذكرت في أكثر من مصدر، يقول الألوسي: "وقد بلغ تعظيم العرب لمكة أنهم كانوا يحجون البيت ويعتمرون ويطوفون، فإذا أرادوا الانصراف أخذ الرجل منهم حجرًا من حجارة الحرم فنحته على صورة أصنام البيت، ثم يجعله في طريقه قبلة ويطوف ويصلي له تشبيها بأصنام البيت، ثم أفضى بهم الأمر بعد طول المدة إلى أن كانوا يأخذون الحجر من الحرم فيعبدونه فلذلك كان أصل عبادة العرب للحجارة في منازلهم شغفًا منهم بأصنام الحرم وليس تذوقا للمعنى الديني القويم.
ثم نعود فنقول نحن بين روايتين:
رواية عمرو بن لحي التي تقرر أن الأصنام وافدة من اليونان، أي نشأت عن مصادر خارجية.
والرواية الثانية: تقرر أنها ليست وافدة وإنها هي من صنعهم، أي نشأت نشأة محلية، ولا مانع لدينا أن نأخذ بالروايتين معًا على أساس أن عمرو بن لحي استقدم