الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المسيطرة عليها: قضية طبيعة "المسيح"، والرأي، ومنهجه حول طبيعة "المسيح" لم يكن واحدا، إنما كان يتغير تبعا للولاء السياسي، كما كانت غالبية هذه المارس يرجع الفضل في إنشائها إلى: بعض المضطهدين من: السياسة، والكنيسة. وهذا مما أدى إلى: فشل الهلينية في المنطقة العربية، لأن هذه المدارس كان رؤساؤها: رجال الدين مضطهدين فحولوها إلى غايات دينية غير متفق عليها؛ وكثيرا ما كان يستعدي عليها رجل السياسة، فيشتت شملها ويبعثرها، أضف إلى ما سبق: أن بعدهم عن الإغريقية جعلهم ينعزلون داخل المادة السريانية المترجمة، فانقطاعها عن الهلينية صيرها إقليمية خالصة، وحامت فلسفتها حول الدين، واللاهوت، ولئن كانت قد نشرت بعض أفكار فلسفية عن المسيحية في بلد جديد فإن هذا الفكر لم يساعد على التحول، وأصبح حال هذه المراكز الثقافية ليس بأحسن من حال العواصم السياسية للمنطقة العربية، فما تكاد تظهر وتتماثل للازدهار حتى يطويها ليلها الطويل.
يقول دلاسي أوليري: إن الثقافة اليونانية لم تنتقل إلى العرب عن طريق هذه الاتصالات الأولى، ولقد تحقق انتقال العلوم اليونانية إلى العرب عندما استقرت الخلافة العربية في مدينة بغداد التي كانت حديثة البناء بالقرب من "جنديسابور".
آراء فلسفية للمستشرقين حول الهلينستية والسامية
…
آراء قلقة للمستشرقين حول الهلينستية والسامية:
بعد عرضنا عن الهلينية في الشرق والمنطقة العربية فيه -رأينا أن نعرض بعض آراء استشراقية مغالية، ونلاحظ أن هذه الآراء مهما تنوعت أهدافها ووسائل مناهجها فإنها ترجع في نهايتها إلى موقفين:
الأول: موقف من يصم العقلية السامية بعدم الفهم الطبعي للأمور.
وهذا الموقف كان من نتائجه: أن ميز بين عقليتين:
الأولى: علقية آرية، خصائصها: جمع وتحليل.
الثانية: عقلية سامية، خصائصها: التجزيء.
الثاني: موقف من يرى: أن الشرق لا يحب الثقافة ذات النزعة الإنسانية؛ وبين خلاف جوهري مؤداه:
أن الرأي الأول: يرد العجز العقلي إلى علة فطرية.
والرأي الثاني: يرد العجز العقلي إلى عوامل كسبية أي تخلف حضاري، وهما معا -على اختلافهما في تفسير علة إخفاق الهلينية- يتفقان على أن عدم تجاوب الشرق مع الهلينية هو السبب في ذلك؛ إما: لعلة مرضية أو لعلة مزاجية.
وغاب عن الفكر الاستعماري المعادي للسامية أن السببب الذي أدى إلى عدم تفاعل الهلينية مع التراث الشرقي ليس خاصا بالعقلية السامية، إنما يرجع إلى عوامل دولية تخص الصراع الثنائي بين الإمبراطوريتين؛ ذلك أن التيارات الثقافية التي غزت المنطقة بعضها هب من فارس، وهي دولة كانت عالمية، فترى في تراثها هذه الصفة العالمية نفسها، فكانت تكافح رومة سياسيا وثقافيا؛ لإحلال سياستها وثقافتها في كل بلد تدخله.
ورومة أيضا كانت دولة عالمية، وتراثها كذلك أيضا؛ أي كانت ترى فيه هذه الصفة العالمية؛ فكانت تكافح الفرس سياسيا وثقافيا من أجل إحلال ثقافتها في كل رقعة يمتد نفوذها عليها، والمنطقة العربية التي كانت مرة في حوزة الفرس، ومرة في حوزة الروم، فكان من الصعب أن تستقر على تراث ثقافي ذي طابع واحد؛ ولا سيما أن الذين قاموا به -وهم من آباء الكنيسة- مضطهدون سياسيا ودينيا، فكان المواطن يعزف عن هذا اللون من الثقافة الحرجة، ولم تكن في المنطقة العربية دولة ذات طابع استقلالي تبنت الدعوة إلى هذا اللون من الثقافة، أضف إلى كل ذلك: أن المادة الهلينية التي ترجمت جاءت عن الإسكندرية بعدما أتخمتها بالمباحث اللاهوتية، فلو لاحظ المستشرقون هذه الاعتبارات، وأخذوا في اعتبارهم ضعف المادة الهلينية حين فسروا إخفاقها في الشرق لما انتهوا إلى هذه النتائج من جانب.
أما موقف الذين يصمون العقلية السامية بالعجز؛ لعوامل وراثية دون النظر إلى العوامل التاريخية التي أحاطت بالتراث الثقافي وذلك من جانب آخر؛ فإن النظريات العلمية المعاصرة ذهبت به بددا.
يقول ديلاسي أوليري: بتتبع التاريخ في تحول البنية الاجتماعية التي يوجد المجتمع اليوم فيها ثلاثة عوامل رئيسة تعمل في هذا التحول وهي:
- العنصر القومي.
- اتجاه تيار الثقافة.
- انتقال اللغة.
وأول هذه العوامل فسيولوجي، وأهم عامل في تقدم البنية الاجتماعية هو: تناقل الثقافات، والثقافة ليست من الأمور الوراثية، ولكن تناقل الثقافة يعود إلى الاتصال؛ لأن الثقافة تعلّم وتستفاد بالتعليم والدراسة والبحث، ولكنها لا تورث.
يقول أوليري: وليس في هذا ما يتصل بمسألة العنصر؛ فالثقافة لا تورث باعتبارها من الميراث "الفسيولوجي" الذي يرثه الطفل من أبيه، وإنما يجري تعلمها بالاتصال الناشئ عن الاختلاط بالتقليد، والتعليم، وما أشبه ذلك.
وأما الموقف الثاني: الذي يرى أن: الشرق لا يحب الثقافة ذات النزعة الإنسانية فذلك ما نحب أن نعرض له، ونفسح له المجال من خلال كتاب:"الشرق وتراث اليونان""هانزهينرش" ترجمة د. عبد الرحمن بدوي تحت عنوان: روح الحضارة العربية؛ وفيه يذهب المؤلف إلى آراء ينقض بعضها بعضًا، ويجعل نقطة بدايته غزو الإسكندر فيقول: كان غزو الإسكندر الأكبر وما تلاه من تكون إمبراطورية يونانية في غرب آسيا هو الحدث الفاصل في تاريخ تطور الروح الشرقية، والسبب المباشر في وقوع الشرق تحت تأثير الثقافة اليونانية التي ساعدته على أن تدب فيه حياة جديدة من الحضارات المختلفة؛ التي تتكو منها الحضارة الشرقية عامة، والتأم شملها في ودة جديدة تحمل طابع الروح اليونانية؛ وتلك الوحدة هي التي يطلق عليها اسم الهلينستية.
ثم يرى المؤلف: أنه تحت تأثير الثقافة اليونانية دبت في الشرق حياة جديدة، وتحت التأثير نفسه ترقت الروح الشرقية؛ وأن الوحدة الحضارية التي ظهرت في الشرق تحمل طابع الروح اليونانية.
ونتيجته التي استهدفها: أنه حصل في الشرق تغير، مصدره الحضارة اليونانية، ثم أخذ يشرح وجهة نظره، من بين رؤيتين للتاريخ يوضح بهما الأثر الزمني للسيطرة الهلينية؛ فيقول:
- هناك رؤية المؤرخ السياسي: وهي موقوتة بدءًا من الإسكندر، ونهاية بقيام ما يدعى بالإمبراطورية الرومانية، ثم يقول:"وللمؤرخ السياسي الحق، حينما يريد أن يفهم معنى الهلينية، وتلك الحقبة التي استمرت حتى قيام الإمبراطورية الرومانية من أسوس، حتى أكتيوم وحدها".
- هناك رؤية للمؤرخ الفكري، أو الروحي، وهي تمتد حتى أعتاب العصر الحديث كل الحداثة فيقول:
لكن الدارس للتاريخ الروحي للشرق القريب، لا يستطع الاقتصار على هذا التحديد؛ لأنه يجد أمامه هذه الواقعة؛ ألا وهي: أن ثمة أفكارًا يونانية هي التي أنشأت الحياة الروحية الشرقية، ووهبتها القوة الدافعة المولدة، لا في عصر خلفاء الإسكندر الاثني عشر وحدهم فحسب، بل وأيضا في العهدين الروماني، والبيزنطي، إلى العهد الإسلامي.
والحضارة الروحية التي أسستها الهلينية قد امتدت حتى بلغت في الشرق أعتاب العصر الحديث كل الحداثة؛ أي إلى نفوذ المدنية الأوربية والعلم منذ الأجيال الثلاثة الأخيرة.
والنتيجة كما يقول -وفق نظره:
وعلى هذا: نرى أن نقطة ابتداء الحضارة الشرقية، التي بلغت كمالها في الإسلام، هي بعينها نقطة ابتداء الحضارة الغربية.
ثم بعد ذلك طرح سؤالا جعله مقدمة لدراسة مقارنة، ممهدا له بقوله:
لكن أقل مقارنة بين الخصائص الروحية للشرق الإسلامي الحديث، ولعالمنا الغربي، تدلنا على تباين في الموقف ينتظم كل شيء العام عنه والخاص، حتى أبسط الجزئيات، فنرى أنفسنا أمام سؤال يطرح على البحث قضية بشكل آخر، وهي المقارنة بين خصائص الشعوب وهو: كيف أدى قبول قوة روحية واحدة بعينها ونعني بها الثقافة اليونانية -إلى نتائج مختلفة كل الاختلاف هناك كما هي الحال ها هنا؟
من هنا أخذ المؤلف يمهد لإجابته على ما طرحه من سؤال: يتيح له بيان خصائص الشرق الفكرية؛ وهكذا كانت صياغته سؤالا وإجابة تلخيصا لوجهة الغرب في الشرق والإسلام منذ بدأ الغرب تاريخه الثقافي فيقول: في الحضارة الشرقية نشاهد الشعور بالسنة والتقاليد وشدة التمسك بهما قد بلغا أوجهما.
بيد أن كليهما يبدو هناك في تركيبه متميزا بطريقة خاصة من فكرة التقاليد عند الغرب، فالتقاليد معناها في الشرق: المحافظة على ما هو أصلي وقديم.
والتقدم الروحي لا يمكن أن يتم عنده إلا في التفسير والتكيف مع الأوضاع الجديدة، لا في التحويل والصياغة من جديد لما ورثوه ونقلوه.
والعلة الرئيسية في هذا إنما هي: الرابطة الدينية، والتي في داخلها يتم تطور الروح في الشرق.
والتقليد -أو السنة- لا يمكن نقضها؛ لأنه ينظر إليها على أنها من الوحي وما هو من الوحي ليس في مقدور المتأخرين ولا من شأنهم أن يمسوه؛ لأنه مما بلغ للإنسان من قبل على أنه الحقيقة.
ثم رجع المؤلف متسائلا مرة ثانية عن عدم نجاح التراث الهليني في الشرق مرة ثانية: كيف أمكن إذن ألا يغير اقتحام الفكر اليوناني للشرق، منذ نهاية القرن الرابع قبل الميلاد، هذا الموقف الروحي عند الشرقيين؟
وبالجملة، ولصياغة المسألة هنا في صيغة موجزة نتساءل: كيف أمكن ألا يكون الشرق حتى العصر الحديث قادرا على إيجاد نهضة أو نزعة إنسانية؟
يقول مجيبا: ولقد قدر للشرقيين حينما اتصلوا باليونان أن يجدوا أنفسهم مالكين لثقافة روحية دخلت دور التحجر؛ تبعا لموقفها المحافظ من السنة التقليدية الذي لم يتبدل تبديلا كافيا.
فلم يكن ثم ما يتعلمونه من اليونان بل "على العكس من هذا" لم يكن لهم أن يتعلموا شيئا؛ لأن تقاليدهم قد قدسها الوحي، وفضلا عن هذا قد استغرقت الغاية بعدهم الروحي، فبينما أحس الرومان في اتصالهم باليونان أن المثل الأعلى للفضيلة
والمروءة، يمكن أن يسمى به إلى أعلى صورة، صورة الدراسات الإنسانية، ومن أجل هذا أقبلوا على اليونان برغبة في العلم غير محدودة تمتاز بالحرية الباطنية والتفتح، اتجه الشرقيون لا إلى الإنسانية وإنما إلى الظفر بالقداسة وبالنجاة.
ولهذا نرى أن المثل الأعلى ذا الطابع الديني المرتبط بالعقائد الثابتة عند الشرقيين لم يسْمُ حينما انكشف له الفكر اليوناني إلى استهداف غايات جديدة، وإنما اشتد في حركته -هو- الخاصة.
ولم يكن هذا فحسب: فإن الإمكان الحاسم، الجديد الذي تبدى آنذاك أمام الشرقيين: كان هو استغلال التراث اليوناني من أجل "توكيد" نوازعهم الخاصة.
لذا لم يكن طبع الحضارة الشرقية بطابع الهلينية، حركة نهضة أو ميلادا جديدا، وبعثا لقديم، وإنما كان استمرارا في المحافظة عليه وتخليده.
فاستفاد القوم في "الشرق" من القوى اليونانية، بإمكان تنظيم هذا الخليط العديم الصورة من المنقولات الأسطورية، والنبوية، والتشريعية، والمثلية، وترتيبه تحت وجهات نظر رئيسية موحدة يسيرة، ثم جعلها تتواتر في صورة أثبت، وقبل كل شيء: جعل فهم تقاليدهم الخاصة وقيمتها مفتوحا أمام غيرهم ممن هم خارج نطاق جماعتهم الحضارية.
وفي رأيه أن العلة التي جعلت الأثر اليوناني عقيما في الشرق هي كما يقول:
وهكذا نرى العلة الرئيسية أن التراث اليوناني في الشرق، قد كان ذا عقم بالغ حتى الأعماق، وإن لم يكن هذا التراث أقل نفوذا وتعبيرا منه عند الرومان، وهذا العمق لا يمكن أن ننعته إلا بأنه كان مؤلما فما تعلمه الشرقيون من اليونان: أفادهم في الاستغلال العربي له، لا في الظفر بتنشئة جديدة وترقٍّ في الثقافة.
ومن ناحية أخرى يتبدى جليًّا الآن: لماذا كان السؤال -الموجه إلى الحضارة الروحية الشرقية- عن العلة في أنها لم تستطع إيجاد نزعة إنسانية تتجدد من جيل إلى جيل؟
يقول- أي المؤلف: لماذا كان هذا السؤال ليس سؤالا صادرا عن خارج أو عن وجهة نظر لا تقوم في طبائع الأشياء نفسها، بل هو سؤال له أساس في جوهر الأمور عينها؟
والنتيجة النهائية هي كما يقول: إن كل من يدخل مع اليونانيين في صلة حيوية يوضع أمام الاختيار بين إحدى خصلتين:
- إما أن يتتلمذ لهم -أي لليونانيين- عن وعي وإرادة.
- وإما أن لا يفعل.
يشرح المؤلف ذلك فيقول: فإن تأثير يونان له من الصولة، وكذلك قوة عقلهم المفكر، المنظم لمجموع الواقع المطلق لنفسه، هو من الإقناع بالنسبة إلى كل إنسان يكون على علم به بحيث لا يوجد ثَم مندوحة عن هذه القوة وذلك التأثير، فمن يلق اليونانيين لا بد أن يتعلم منهم، والمسألة: هي فيما إذا كان سيحول هذه الضرورة إلى إرادة حرة ويعرف كيف يشكر اليونانيين من أجلها أم لا.
نلاحظ أن المؤلف بدا يظهر بوضوح ألمه من عدم استفادة الشرق من التراث الهليني، وأخذ يوطئ لذلك بما قاله عن الشرق وهو:
إن عدم نجاح رسالة التراث اليوناني في الشرق راجع بالدرجة الأولى إلى تمسك الشرق بتقاليده وتراثه، فما أحب الشرق أن يكون تلميذا، ولا أحب أن يفعل، وإذا كان اليونان أحب أن يكون معلما مسيطرا فإن الشرق قد نبذه.
ثم يقول: والشرقيون اعتقدوا الثقة بتقاليدهم، واعتقدوا أنهم لا يستطيعون أن يأخذوا عن اليونانيين إلا ما ينتسب إلى الصناعة الفنية، وليس عليهم أن يتعلموا منهم توجيها روحيا جديدا، ولم يستطع الشرقيون أن يرتفعوا إلى مستوى الاعتراف الخليق بالنفس العالية الحرة؛ الاعتراف بالرسالة اليونانية، التي يشير بها "هوراس" للرومان في قوله:"يونان مقهورة تقهر المتبربر الظافر".
وبعد أن انتهى الباحث إلى هذه النتيجة؛ وهي أن الثقافة اليونانية رفضها الشرق، وما أخذ منها كان بمثابة الاستفادة، أو ما أدخلوه على صناعتهم الفنية. فالشرق لم
يتتلمذ على اليونان بوعي وإرادة، لذلك عجز التراث اليوناني أن يترك أثرا للنزعة الإنسانية في الشرق.
ولقد كان من الملاحظ حقيقة، ونطمئن إليه، وهو ما أفزع الباحث واقلق عليه باله: هو أن حروب الإسكندر استطاعت أن تغلب الشرق سياسيا، غير أن ثقافته اليونانية لم تستطع أن تقهر الشرق، ولا أن تتغلب عليه، ثم بعد ذلك بدأ منه تجاهل -في حنق وفي عصبية- لا مسوغ له، وليس في طرحه سؤاله؛ إنما في الإجابة عليه، الذي أراد أن يقارن فيما بين ثقافتين: ثقافة روحية يصطبغ بها الشرق اصطباغا، وثقافة عقلية يصطبغ بها الغرب الإغريقي اصطباغا؛ لكن المؤلف يقلق من تلك النتيجة فهو يقول: ومن ثم تتضح الصعوبة غير العادية التي تكمن في مسألة ما إذا كان على المرء أن يرد مركز الثقل في الإنتاج الروحي -وخصوصًا منه الديني والفلسفي- الذي أبدعه الشرق إلى الهليني أو العنصر الشرقي؟ فالمؤلف يستكثر على الشرق أن يكون مبدعًا للروحية تلك التي جعلها منقصة ثقافية، ثم يتابع شرحه فيقول: وتلك مسألة تعرض نفسها بإلحاح خاص في كل درجة من درجات التحول الروحي للمسيحية، وبالنسبة إلى تلك الحركة التي اقتحمت نطاق اليهودية، التي انكفأت على نفسها وغلقت أبوابها باطراد متزايد منذ عهد المكابيين ضد العالم الهليني المحيط، ولكنها في أصولها لم تظهر بعد صورة روحية راسخة، بل ظفرت بها أول مرة بفضل التوغل في أرض هلينية حقًّا.
إن هذه المسألة يجاب عنها بصورة جلية منذ القرن الثالث بعد الميلاد لما أن نما المذهب المسيحي في مدرسة الإسكندرية إلى نظام فلسفي استقصيت فيه الذرائع، وهذا الجواب هو أنه ما من أحد يماري في سيادة الفكر اليوناني في علم اللاهوت المسيحي من ناحيته التنظيمية المذهبية بيد أن الإجابة عن هذه المسألة تترجح وتتردد، حينما يتصل الأمر بنشأة تاريخ المسيحية، وأكثر من هذا حينما يتصل بالحركات ذوات الصلة الماسة بها؛ من حيث: التوجيه في النظرية الكونية وتسير موازية لها، وكذلك أيضا حينما يتصل الأمر بالنظرة الإسلامية في الحياة والوجود التي أتت بعد ذلك.
نقول: إن إجابة تتردد وفقا لكون المرء في أحكامه هنا: هل يبدأ من الأسس العقلية التنظيمية لهذه النظرات في الوجود والحياة؟ أو يبدأ -وهذا أقرب بكثير- إلى هذا المستشرق الذي آراؤه سبقت مقدماته من الموقف الذاتي.
ونحن نلاحظ عليه تردده عندما أخذ يبين الأثر الهليني على المسيحية واليهودية والإسلام، رأيناه متحيزا كما يظهر تردده، حين أراد أن يقومه؛ حيث تساءل: هل يرده إلى العنصر اليوناني أو العنصر الشرقي؟ ثم بعد تردده نراه يقول: الإنتاج الروحي -وخصوصًا- الديني والفلسفي الذي أبدعه الشرق يرجع إلى الهلينية.
أي أن في الشرق ثمرات إبداعية غير أنه أضافها إلى الهلينية، وإذا كان الأمر كذلك؛ أي أن التراث الهليني نجح؟ أليس في هذا ما ينقض نتيجته السابقة وهي أن التراث الهليني لم ينجح في الشرق، ويصبح ما أحصاه على الشرق من نقائص عاقت نموه الثقافي غير حقيقية؛ لأنها إن كانت فيه كامنة فلماذا استجاب لسنة التطور؟
لا شك أنه اعتراف قلق، ذلك الذي جعل المستشرق يعترف "أن في الشرق إبداعا" غير أن حيرته في تساؤله هل هو إبداع راجع إلى العنصر الهليني الذي أعلن أنه فشل في الشرق؟ أو راجع إلى الشرق الذي فيه نقائص تعوق نموه الثقافي؟ حية تنم عن تعصب وتعيننا على وصف نظراته بأنها تحتاج منه إلى مراجعة متأنية مُتَرَوِّيَةً.
ثم راح المؤلِّف بعد ذلك يبين الأثر اليوناني في الشرق، واختار في سبيل إظهار ذلك قضية الكون والوجود.
فقال: ولشق طريق علينا على الأقل خلال هذه المرحلة لا بد أن يتساءل المرء:
أين مجال التاريخ الروحي الحقيقي؟ وإلى أي نقطة يجب أن يتجه انتباهه، حتى يتبين بوضوح: تطور النظرة الكونية، ويقدر على إيضاحها؟ ومن ذا الذي يمكن أن يشك، وهو يضع السؤال على هذا النحو في أن الأسس التصورية للنظرة الكونية وأطوارها هي بعينها التي يمكن تعرفها بيقين، وتعرف درجاتها في تاريخ طور الفكر والتحرر
الذاتي للعقل، بينما التدين الفردي حينما يكون عامرًا بالقوة، والمميزات الخاصة يكون بمعزل عن التحول، بل عن الارتباط الزمني إلى حد أن انتظام أصحابه في خط التحول يصطدم بعقبات لا تكاد تذلل.
ولهذا: لا تكاد توجد إمكانيات أخرى للتأمل التاريخي الروحي عند الشرق غير ابتداء هذه الواقعة؛ ألا وهي:
أن الكلم اليوناني، والفكر اليوناني -وهذا الأخير يكون ممثلا في صفوة محدودة- بحاجة إلى مزيد من الوصف، وقد أثر كلاهما في الشرق، وحَيَا هناك وما زال يحيا حتى العهد الحديث.
وتاريخ الفكر اليوناني في الشرق يقدم لنا الخيط الأحمر، الذي يعين المرء على ضم كثرة من صور النظرة الكونية تحت لواء مركَّب تحولي واحد مليء بالمعاني، وفضلا عن هذا يسمح بربطه ومقارنته بالتاريخ الروحي للغرب.
وهذه المصادرالذاتي للعقل، بينما التدين الفردي حينما يكون عامرًا بالقوة، والمميزات الخاصة يكون بمعزل عن التحول، بل عن الارتباط الزمني إلى حد أن انتظام أصحابه في خط التحول يصطدم بعقبات لا تكاد تذلل.
ولهذا: لا تكاد توجد إمكانيات أخرى للتأمل التاريخي الروحي عند الشرق غير ابتداء هذه الواقعة؛ ألا وهي:
أن الكلم اليوناني، والفكر اليوناني -وهذا الأخير يكون ممثلا في صفوة محدودة- بحاجة إلى مزيد من الوصف، وقد أثر كلاهما في الشرق، وحَيَا هناك وما زال يحيا حتى العهد الحديث.
وتاريخ الفكر اليوناني في الشرق يقدم لنا الخيط الأحمر، الذي يعين المرء على ضم كثرة من صور النظرة الكونية تحت لواء مركَّب تحولي واحد مليء بالمعاني، وفضلا عن هذا يسمح بربطه ومقارنته بالتاريخ الروحي للغرب.
وهذه المصادرة لا شيء أبلغ في تحقيق صحتها من مجرى التحول الحقيقي للفكر الشرقي تبعًا لكونه قد خضع بكل إذعان: لتأثير العقل اليوناني منذ اللحظة التي تعارفوا فيها، وليس في تاريخ النظرة الكونية في الشرق قوة عقلية واحدة، يمكن أن تقارن في أهميتها وجلال شأنها: بالقوة اليونانية، بل يستطيع المرء أن يذهب إلى أبعد من هذا، ويقول:
إن اتجاهات النظرة الكونية -لدى الشرقيين منذ الهلينية- تبلغ في كل حالة، درجة من الوضوح العقلي، وقابلية التعليم والفاعلية، إلا حينما عملت فيها: نظم التطورات العقلية اليونانية، والاستثناء الوحيد في هذا الباب هو: الديانة التشريعية اليهودية.
ثم يقرر المؤلف -وهو بصدد بيان الأثر الإغريقي على الشرق: إن نظرات الشرق في الوجود، أثر إغريقي؛ لأنها خضعت في أطوارها: للفكر والتحرر الذاتي للعقل، واستبعد المؤلف أن تكون هذه النظرات، وليدة التدين؛ لأن التدين -في نظره- حينما يكون عامرا بالتقوى، والمميزات الخاصة، يكون بمعزل عن كل طور،
ة لا شيء أبلغ في تحقيق صحتها من مجرى التحول الحقيقي للفكر الشرقي تبعًا لكونه قد خضع بكل إذعان: لتأثير العقل اليوناني منذ اللحظة التي تعارفوا فيها، وليس في تاريخ النظرة الكونية في الشرق قوة عقلية واحدة، يمكن أن تقارن في أهميتها وجلال شأنها: بالقوة اليونانية، بل يستطيع المرء أن يذهب إلى أبعد من هذا، ويقول:
إن اتجاهات النظرة الكونية -لدى الشرقيين منذ الهلينية- تبلغ في كل حالة، درجة من الوضوح العقلي، وقابلية التعليم والفاعلية، إلا حينما عملت فيها: نظم التطورات العقلية اليونانية، والاستثناء الوحيد في هذا الباب هو: الديانة التشريعية اليهودية.
ثم يقرر المؤلف -وهو بصدد بيان الأثر الإغريقي على الشرق: إن نظرات الشرق في الوجود، أثر إغريقي؛ لأنها خضعت في أطوارها: للفكر والتحرر الذاتي للعقل، واستبعد المؤلف أن تكون هذه النظرات، وليدة التدين؛ لأن التدين -في نظره- حينما يكون عامرا بالتقوى، والمميزات الخاصة، يكون بمعزل عن كل طور،
بل من الارتباط الزمني، إلى حد أن انتظام أصحابه في خط التحول، يصطدم بعقبات لا تكاد تذلل.
وواضح من اتجاهه أنه يميز بين نظرتين بالنسبة إلى الكون والوجود:
- النظرة الدينية: ومميزاتها عدم التطور، والتحير في مصدرها.
- النظرة العقلية: ومميزاتها التطور، ويرجع أصلها: إلى اليونان.
والمؤلف: إذ يضع هذا التمييز بين نظرتين، نراه لا يبني حكمه عليهما ولا يراعيهما في منهجه فضلا عن أننا نلمح تعسفا منه: حينما أسند نظرات الشرق في الوجود إلى الهلينية، في الوقت الذي حاول فيه -سابقا كما بينا- أن يطعن الشرق بعدم قدرته على التطور والعجز عن متابعة الهلينية كما عجزت الهلينية من وجهة نظره -أن تكون دواء لداء الشرق القعيد عن التطور، فكيف ترقى -بعد ذلك- في نظراته حول الوجود؟
ثم يرجع فيقول: ولهذا نرى المثل الأعلى، ذا الطابع الديني المرتبط بالعقائد الثابتة عند الشرقيين: لم يسمُ حينما انكشف الفكر اليوناني إلى استهداف غايات جديدة، وإنما اشتد في حركته هو الخاصة، ولم يكن هذا فحسب، بل إن الإمكانات الحاسمة الجديدة التي تبدَّت آنذاك أمام الشرقيين: كانت هي استغلال التراث اليوناني: من أجل "توكيد" نوازعهم الخاصة.
ولذا لم يكن طبع الحضارة الشرقية بطابع الهلينية حركة نهضة، أو ميدانا جديدا، أو بعثا لقديم، وإنما كان استمرارًا في المحافظة عليه وتخليده".
بعدما قرر المؤلف هذا التقرير: نراه ناقضه، وناهضه، وذلك عندما رد "نظرتهم" إلى الكون والوجود إلى الأثر الإغريقي، واستبعد أن يكون وليد تدينهم".
ولنا بعد ذلك سؤال يقول: وترى هل تراث الشرقيين الخاص بالوجود والكون يدخل تحت وصف المؤلف لتراث الشرق "أنه خليط عديم الصورة"، "أو أنها نظرات على مستوى فكري عظيم" فينحلها إلى اليونان؟ فإذا كانت الأولى فهي وليدة الشرق، وإذا كانت الثانية فهي أثر يوناني وهذا لعمري قسمة ضيزى.
حقيقة الأمر أن المؤلف يتحامل على الشرق حينما ينحل إليه "كل خليط عديم الصورة".
ونراه لا يرى في ذلك استثناء واحدا سوى اليهودية، فيقول:
والاستثناء المميز الوحيد في هذا الباب هو -كما سنبين- "الديانة التشريعية اليهودية"، فبهذا الاستثناء بدأ المؤلف يعطى بعضا من الأصول الثابتة للشرق والأساس له في تكوين تراثه وخصائصه، حينما رأى ذلك في الدين اليهودي وهذا أقدم دين شرقي بلغة السماء نعرفه بكتابه.
إذا كانت اليهودية مستثناة -وليست كلها بل شريعتها- فما المقابل الذي يقدمه المؤلف ويظهر فيه الأثر اليوناني؟
يقول: وفي مقابل هذا نشاهد مثلا أن الديانة القائمة على عبادة النجوم، ومنشؤها من البابليين، وليست -مطلقا- نتاجا أصليا للتحول الروحي البابلي، وإنما هي بالأحرى نتيجة تعمق في علم النجوم البابلي، والقياسات الفلكية، بمعاونة التصورات اليونانية، والفلسفة اليونانية، وبخاصة: الراقية منها.
وقوة النفوذ الهائلة التي كانت للنظرة الكونية النجومية في العصر الهليني لا يجب أن تفهم إلا إذا اتضح للمرء أن اللوغوس اليوناني هو الذي نظم تلك النظرية، وبعث فيها قوة الإقناع.
والأمر على هذا النحو -أيضا- فيما يتصل باستمرار تأثير النظرة الكونية الإيرانية الأقدم في الشرق القريب وما وراءه، فالتفكير الإيراني يتضمن بعض الأطوار التوجيهية، ذات القوة الرمزية العظمى، ومضمونها الرمزي الواسع قد جعلتها تبدو أكثر قابلية للتعبير عن الميول الخاصة للثقافة الشرقية بنظرتها الكونية فيها عن غيرها، لذلك كان لا بد لهذه التصويرات الأسطورية المقيدة بالتفكير الأسطوري؛ لكي تصبح رموزًا كلية مفهومة لدى الجميع فعالة، يقول المؤلف: إنه كان لا بد من دخول العقل اليوناني فيها؛ لينظمها على هيئة مذهب محكم في تفسير العالم والتاريخ.
فما قدمه من نموذج، وهو الديانة القائمة على عبادة النجوم؛ أي الديانة الوثنية، واعتبره أثرا يونانيا: نوافقه عليه، بل نوافقه على أن الوثنية التي غزت الشرق، وغزته كان أصلها يونانيا.
ثم يقول: ولا سبيل -بعد كل ما قلناه- إلى إيضاح المهام الملقاة على عاتق التاريخ الروحي الشرقي، إلا بالتأمل في أهمية الفكر اليوناني بالنسبة إلى الشرق، ووجوهه الخاصة، أي بالتأمل في ظاهرة انعدام النزعة إلى الشرق، ووجوهه الخاصة؛ أي التأمل في ظاهرة فقدان النزعة الإنسانية في الشرق.
ويحاول المؤلف في النهاية أن يبين بوضوح أن السبب في عدم نجاح التراث اليوناني الشرقي: هو عدم اهتمامه بالنزعة الإنسانية، لماذا؟
فيقول: ذلك أن الفكر الشرقي لا يقوى على إدراك عالم محكم إحكاما لا يوصف، منظور إليه بقوة بصيرة دقيقة واضحة، وفيه لكل شيء مكانه، وتدبير الآلهة وفعل بني الإنسان كلاهما: يجرى على نظام واحد طبعي، إن جاز القول؛ إذ إن الفكر الشرقي يوجه كل همه نحو الحاجة للنجاة بالنسبة إلى الذات المفردة الخاصة، ونحو أحدية الله وعلوه على الكون، وقوته وقدرته التي تهيمن على كل الأفعال الإنسانية.
وكذلك لن يستطيع أن يفهم هذه اليقينية التي وصل إليها سقراط؛ ألا وهي: أن الحياة الإنسانية الخلقية لا تملأ معناها عن طريق التفكير العقلي الخلقي، أو التأملي النظري الميتافيزيقي، ولكن عن طريق تحقيق مضمون الحياة كله داخل نطاق الجماعة، بينما عند الشرقيين، في العصر القديم، قد أصبح التفكير والحديث عن الأمور الخلقية موضوعا للأحاديث الوعظية، وبهذا فقد القوة الدافعة إلى العمل.
ولو شاء المرء أن يعبر في صيغة موجزة عن الحد الذي عنده يقف فهم الشرقيين لليونانيين، لاستطاع أن يقول: إن هذا الحد هو الفكر الكوني عند اليوناني؛ أعني: تصور العالم: على أنه كل محكم الأعضاء، جوهره يقوم في انسجام أجزائه.
فانبعاث الفكر الشرقي لا يهدف إلى تأمل الكون المنظم، وإنما يهدف إلى جمع الصلة بين النفس المفردة والمحتاجة إلى النجاة، وربها.
ذلك أنه إذا اقتصر كل الاهتمام على النجاة الشخصية، وعلى التوتر بين الكمال الإلهي، والنقص الإنساني أصبحت العين عمياء عن العالم الخارجي عن الذات الخاصة، ولم يعد ثَمَّ تفكير في نظم العالم الموضوعية.
ثم قال: وهنا نشير كذلك إلى وجهة نظر أخرى يجب ألا نغض النظر عنها في السؤال عن عدم تقبل الشرق لتراث اليونان.
عاد؛ ليجيب: فإن أتباع الأديان الشرقية التي أثمرا الفكر اليوناني رأوا أنفسهم منقادين إلى هذه النتيجة؛ وهي: أن مضمون الوحي الذي كان من نصيبهم: هو الحقيقة المطلقة بالضرورة.
ولبلوغ هذه الحقيقة: كان لا بد أولا من "تأويل" وثائق الوحي في صورتها الأسطورية المنقولة، تأويلا بوجهتين:
- وجهة تصور الآلهة وأضدادها ونشوئها وخصوماتها ونسبتها إلى ظواهر كونية.
- ووجهة تعدها بمثابة رموز خلقية وتسبغ عليها خيرية النفس وبشريتها وما بينهما من صراع.
بعد ذلك نقول:
إن المؤلف لا يحاول أن يتراجع، بعدما قدم من شواهد تثبت عقم التراث اليوناني في الشرق؛ سواء أكان هذا التراث لا يتفق معه، أم كان لعدم ميله إلى الأخذ بالنزعة الإنسانية.
قلنا: لا يحاول أن يتراجع على الرغم من أنه بات متحيرًا في حكمه على تراث الشرق؛ ليعيد النظر من جديد في تراث الشرق وسيكولوجية التقابل وبين الهلينية؛ على أنه لا يؤخذ من وجهة النظر العامة للمؤلف أن الشرق لم يحتفل بتراث اليونان.
أما سؤال المؤلف الذي بدأ به بحثه: وهو أن نقطة مبدأ الحضارة الشرقية هي اليونان، فكان غرضًا منه إلغاء بحثه.
وليس معنى عدم تقبل الشرق للتراث اليوناني تخلفا في الشرق، بل قد يكون كما قلنا: راجعا إلى نوعية الثقافة التي ترجمت كما قلنا.
وقد يحلو لنا أن نزكي ثقافة على ثقافة، ولكن من المكروه أن نجعلها المقياس الأمثل، أليس محاولة فرضه هي عين الاستدباد في الرأي؟ والاستبداد مرض يوصم صاحبه بالأثرة ولا يرجي له العلاج منها.
وفي ذلك ما يفيد -من خلال منهج بحثه- تورطه في معنى التعصب بشامل معناه:
- تعصب وطني.
- تعصب ديني.
- تعصب لليونانية.
لذلك جاء البحث سابقة لا توطِّئ لها مقدماته.
ثم نراه يعيب علينا أن نأخذ من الوحي في الوقت الذي نراه يستشهد بسقراط فعاب على الشرق بما أخذ به؟
ثم نأخذ عليه: أنه خلط بين الدين الإسلامي، والدين الوضعي1، وهو يعلم جيدا ما يعني مبدأ التفريق بينهما.
وفي النهاية أحب أن أشير إلى نقطة جوهرية بين الثقافة، والحضارة.
وإذا كانت الثقافة اليونانية حقيقة كما يتفق الباحثون: لم تتقدم، وكانت نمت نموًّا بطيئًا في الشرق عنه في الغرب، وكانت هي العامل الأول -كما يقولون- لكل تحوُّلٍ حضاري، فكيف نفسر إذن الحضارة الإسلامية إبان ازدهارها؟
هذا ما لم يُثِرْه المؤلف ولم يتعرض له.
1 فيقول:
…
إن خطب كليما نثنس Hone lies clementince هي التي حددت الشعور بالرسالة لدى مؤسسي الدينين اللذين ظهرا في الشرق بعد المسيح؛ ألا وهما: ماني ومحمد.
نقول: إنه قد تنتقل ثقافة إلى حضارة فتتقدم الحضارة ولا تتقدم الثقافة الوافدة، ومنها الحضارة الإسلامية التي قد تكون حددت الثقافة بغايتها الحضارية.
فالحضارة افسلاميةن كانت بعد الوحي: عواملها ذاتيةن وخارجية استفادت من الثقافات الأخرى ما وسعها الاستفادة، فتقدمت الحضارة الإسلامية: لغة وفكرا وتاريخا، وجغرافية، وما زال الإسلام مزدهرا، إن كان المسلمون في ضعة وضعف.
واصبح لها وزن خاص وخصائص حضارية خاص. إذا أخذنا هذا في الاعتبار لأصبحت دعى "هانز هيترش شيدرط يشوبها روح التعصب لليونانيةن لأن الحضارة ليست مهمتها تنمية التراث الوافد لتعيده مرة أخرى إلى حيث أتى، إنما مهمتها الاستفادة التي تيسر لها مسيرتها وتخدم غاياتها، حتى تحدث آثارها ذكرا بينا فيما يأتي من حضارات. ولذلك كان لابد للثقافة أن تتغير، وأن تكيف نفسها بكيفية الظروف المتغيرة، وأن تلبي المطالب الجديدة، ولذلك لا يمكن أن تظل وفية لماضيها دون حاضرها، غلا حين تكون حياتها غير حقيقية أو تكون ثقافة لا وظيفة لهان وعندما يكون حالها هكذا، تصبح وظيفة المجتمع: رفضها، لأنها أصبحت، لا تتناسب مع وضعه وقدرته.
على أية حال: لم تكن الهلينية من أقوى المؤثرات في الشرق والمنطقة العرية فيه: إنما كانت الأديان السماوية: هي الأثر الوحيد والحقيقي للشرق، وأثره البارز على الغرب، أو بمعنى آخر: الأديان -وهي تراث شرقي- آثر تركة الشرق على الغرب، أما مناهجه العقلية فهي اثر يوناني في بعضه.
والنتيجة النهائية التي يجب أن يصل إليان غير أن بحثه لم يمهد لها هي كما يقول: "وأتى العرب معهم بإرادة الغزو، وكلمة دينية جديدة لكنهم لم يأتوا بحضارة خاصة يمكن أن تحل محل تلك التي وجدوها في البلاد التي فتحوها، وبقدر ما توغل في المقاطعات القديمة ذات الحضارة وبقدر ما نقلت مراكز سلطانهم من مواطنهم الأصليةك إلى سورية، ومنها إلى العراق، وجاء العرب عيالا على الحضارة العتيقة الراسخة في نفسها ذات الطابع الموحد الذي كان عند من أخضعوهم. وهكذا بدأت تبرز، منذ نهاية القرن الثامن: وحدة الحضارة الإسلامية التي لم تكن شيئا آخر
غير تحول عمره ألف سنة، وكانت القوى الروحية المقومة فيها: هي قوة التراث الهليني.
على أي حال بعد أن عرضنا للمد السياسي الهليني ومراكزه الثقافية في الشرق والمنطقة العربية فيه، ثم عرضنا لبحث "هانز شيدر" تبينَّا أن المؤلف مذعور من عدم نجاح الهلينية في الشرق، وكان هذا في نظره ظاهرة مرضية -كما بينا- أنه يتحامل على الحضارة الإسلامية، وعلى الوحي الذي عده عائقًا دون نهضة الشرق، وعده أيضًا من الحواجز الأساس دون قيام النزعة الإنسانية في الشرق، لذلك صار العرب عيالا على الحضارة العتيقة الراسخة.
ويقول: وكانت القوة الروحية المقومة فيها هي قوة التراث الهليني.
إذا كانت هذه نتائج طبعية ساقه إليها بحثه فلماذا يقول متسائلا: كيف أمكن ألا يكون الشرق حتى هذا العصر قادرا على إيجاد نهضة أو نزعة إنسانية؟
ومعروف على أية حال: أن محاولة الطعن في الشرق، أو الإسلام، كانت رسالة قديمة، قام بها الجيل القديم من المستشرقين، وأصبح الجيل الحديث والمعاصر، يؤدي خدمات جليلة للتراث الإسلامي والعربي.
يقول م. رستوفتزف:
"وعلى ذلك نرى أن حضارة العصر الهلينستي لم تصبح في أي وقت مزيجًا من الحضارة الشرقية اليونانية وإنما بقيت أو كادت تكون إغريقية صميمة في جوهرها مع إضافة شيء قليل جدًّا من العناصر الشرقية إليها، ولم يكن المظهر الرئيسي الجديد لتلك الحضارة الإغريقية في العصر الهلينستي هو طابعها الشرقي الإغريقي وإنما كان طابعها العالمي، وهذا ما جعلها مستساغة مقبولة لدى مختلف الحكومات الوطنية الجديدة التي ظهرت في كل من الشرق والغرب.
ومع ذلك لم تتقمص إحدى الدول الجديدة في الشرق -ومنها بارثيا- باكتريا -والهند- أرمينيا وغيرها- الثقافة الإغريقية تماما، بل بقيت العادات والأفكار الإغريقية طلاء رقيقا يسكو بناء محليا ذا طابع شرقي صميم، وبالإضافة إلى
ذلك نرى الأثر الإغريقي في الشرق قد اقتصر وجوده على المدن وعلى الطبقات العليا من السكان، ولم يكن له أي أثر على الإطلاق على سواد الناس وعامتهم.
وكان تغلغله أعمق في حياة الأمم الغربية من الإيطاليين والكلديين وأهل أيبريا والتراقيين ولكن الحضارة اليونانية بقيت هنا أيضًا وفية لنشأتها الأولى ولطابعها الحقيقي، فكانت هي حضارة المدن وساكنيها واستمرت محتفظة بهذا الطابع.
وعلى ذلك كانت الحضارة الهلينستية لا تعدو أن تكون مظهرًا جديدًا في تحويل حضارة المدنية الإغريقية فحسب، بل إنه في الممالك الهلينستية التي قامت في آسيا الصغرى وفي سورية ومصر وعلى ضفاف البحر الأسود لم تتأثر الجماهير المقيمة في الريف بالحضارة الإغريقية مطلقا وإنما حرصت على التمسك بعاداتها القديمة وسجاياها وعقائدها الدينية الموروثة1.
يقول ديلاسي أولير: إن الثقافة اليونانية لم تنتقل إلى العرب عن هذه الاتصالات الأولى2.
ويقول فيليب حتى: ولكن الواقع هو أن الشرق الهيلني كان شيئًا مصطنعًا، فديانة اليهودي: احتفظت بتقاليدها القديمة في وسط هذا الشرق الهليني:
وبالإضافة إلى ذلك ترى أن السلوقيين تبنوا العبادات المحلية باشكال هلينية، وأظهر أكثرهم احتراما للآلهة المحلية3.
ولكن هذا لا يعني جعل الشرق هلينيا بقدر ما يعني جعل العالم الهليني شرقيا، وأصبح أفراد الجاليات اليونانية بالتدريج: أكثر تأثرا بالحياة السامية من تأثر الوطنيين بالحياة اليونانية، ونجحت الحضارة في سورة الآرامية، وفلسطين اليهودية، بأكثر من المحافظة على مكانتها بوجه عام، فأعطت أكثر مما أخذت.
والذي حصل نتيجة إدخال الهلينية: هو تمزيق البنيان الأساسي والفكري الذي كان ساميا صرفا، والسماح للتأثيرات الرومانية بالدخول فيما بعد4.
1 يراجع تاريخ الإمبراطورية الرومانية الاجتماعي والاقتصادي "1: 23".
2 علوم اليونان ص90.
3 أصبح بعل يسمى: زفس واقيم في معبد أبولون ذلك الإله اليوناني في "وقته" وسط غابة من الشجر حيث تكثر المياه "بيت الماء" وأصبح كمركز للخلاعة فيما بعد.
4 تاريخ سورية ولبنان وفلسطين جـ1 ترجمة: جورج حداد، وعبد الكريم رافق، أشرف على مراجعته د/ جبريل جبور- دار الثقافة بيروت.