الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مقدمة:
أما قبل:
فمنذ أن كان للشرق تراث كان ينقسم قسمين:
- قسم مقدس.
- وقسم غير مقدس.
أما القسم المقدس؛ فهو الذي أوحى الله به للإنسان أي: ما كان أصله الوحي الإلهي.
وأما القسم الآخر: فهو ما سوى ذلك.
ونعني بصفة التقديس:
1-
أنها تشتمل على معنى تعبدي.
2-
أن الإنسان مطالب بعدم ردها.
3-
أنها محددة من حيث الاتجاه العام بأوصاف معينة:
فهي من حيث الزمان: لا يُسأل عنها الإنسان إلا في سن معينة، ومن حيث المكان: يتعين على الإنسان في عبادته أن تكون نحو مكان معين.
ويرتبط الإنسان بها من خلال مستوياته العامة: من مستواه العقلي إلى مستواه الوجداني وتبرز في سلوكه تطبيقًا عمليًّا.
ولها أركانها المكونة لها من حيث أساس بنيانها:
الركن الأول: الله، والركن الثاني: الوحي، والركن الثالث: الرسول.
والتراث المقدس يرتبط بالمادة والروح معا غالبا.
وتصبح الصفة العامة للتراث المقدس: أنه موضوع للعبادة أو للتعظيم مثل الكعبة والحجر الأسود؛ فإنها مثل للتعظيم وليست للعبادة.
والعبادة تقتضي: عابدا ومعبودا وعلاقة:
عابدا: وهو الإنسان، ومعبودا: وهو الله، وعلاقة: وهو الرسول.
والإنسان مع التراث المقدس بين أمرين:
- لأنه إما مؤمن.
- وإما غير مؤمن.
فنلمس هنا أننا أمام أمرين: إما وإما، أي أننا في حرية من حيث الاعتقاد في التراث المقدس، ولكن حرية الاعتقاد مقرونة بالتخويف والوعيد وسوء العاقبة والطرد من رحمة الله.
فعدم الإيمان على المستوى النفسي: يؤدي إلى تهويش في الرؤية نحو غد الآخرة، هذا من حيث مستوى الإنسان النفسي.
ومن ناحية عضويته في الهيئة الاجتماعية: نراه -أيضا- مهددا بالطرد منها، وغير مشهود له بالعدالة، وقد تنادي بعض طبقات الهيئة الاجتماعية بحل دمه، فلا رفق ولا لين -من ناحية الهيئة الاجتماعية- مع مريض الإيمان؛ لأن هذا المرض الذي يلم بصاحبه تنتشر عدواه في المجتمع، وهو من الأمراض الخبيثة التي يرى المجتمع أنه يجب عليه مكافحتها، ويحجر على من في قلوبهم زيغ مخافة الفتنة، هذا من ناحية عضويته في الهيئة الاجتماعية.
أما من حيث صلته بتراثه التاريخي: فهو بموقفه الرافض للإيمان يشق عصا طاعة تراثه، وتلك وصمات سياط قاسية يتعرض لها من يزور عن الإيمان ويجاهر بازوراره.
ونرى حالات شتى لمن توقفوا بين الإيمان وعدمه؛ فنرى منهم من التزم الصمت بعدم المجاهرة مع دأبه في البحث والمطالعة مثل: الإمام الغزالي، الذي قال واصفا حاله -عندما انتابته هذه الحالة- حالة تهديد إيمانه الراسخ- "مكث على هذه الحالة قرابة شهرين بحكم الحال لا بحكم النطق والمقال" أي أنه ظل صامتا دأبه على البحث عن جسر الحقيقة، ثم انتهى بعد مرحلة صمته إلى نتائجه الإيمانية التي ربطته بالهيئة الاجتماعية وبعقيدته وتراثه التاريخي، وجعلته عن جدارة يُوصف بحجة الإسلام.
ويبدو أن الغزالي كان يرى وصفه بذلك اللقب حقا في نفسه، وذلك عندما قال في كتابه "المنقذ" لما رأى حالته وما هو عليه من قلق في حله وترحاله قال: وارتبك الناس في الاستنباطات وقالوا: عين أصابت أهل الإسلام.
أي أن ما أصاب الغزالي أصاب أهل الإسلام، وعلى أي حال هذا نوع من الإسراف في فهم الذات، وإلا فكيف نفهم أو يفهم الغزالي: أن ما طرأ عليه -من اضطراب أو قلق في أهل الإسلام؛ هذا صنف.
وهناك نوع آخر من الناس تلابسه تلك الحال -حال التوقف في مسائل الإيمان- التي تراهم يهربون منها وبها إلى آراء فلسفية ويلبسونها ألبسة دينية، وفي النهاية لا ندري أهي فلسفة أو دين؟ وعلى أي حال هو نوع من الملق الفكري الاجتماعي يلجأ إليه صاحبه حذر التنكيل به أو اضطهاده من قبل الهيئة الاجتماعية، وقد عرف التاريخ الفكري هذا اللون أيضا وحفظ شعاره وهو: التوفيق بين الفلسفة والدين، وهو شعار طريف فيه طرافة ومتعة للعقل بيد أننا من ناحية النقد العقلي أو العلمي نراه هشًّا ومهوشًا؛ لأننا فيه نساوي بين ما هو مقدس -ونحمل أنفسنا على الدينونة به- وما هو غير مقدس نرى فيه حريتنا الفكرية وذاتيتنا وتمردنا.
فهل يا ترى أي الصفتين أردنا إلباسها بالأخرى؟ هل أردنا إلباس صفة التقديس للفلسفة أم أردنا إلباس صفة البشرية للدين؟ على أي حال جانب الطرافة واضح وجانب التهويش في القضية أوضح، لذلك قلنا: إن هذا اللون من الملق الفكري للهيئة الاجتماعية وفي الوقت نفسه توسعة في مفهوم المقدس، وفي توسعة مفهومة جور على العقل والدين.
بعد ما سبق نرى: أن التراث المقدس ضروري، وتظهر ضرورته في حياة الإنسان الدينية وفي المجتمع حين لا يحجر على الفرد إلا بعد مجاهرته بعدم الإيمان، وأما حقيقة العقيدة فهي تحدد في المستوى النفسي وأمام الله.
على أن التراث المقدس وهو ما كان من الله أو من رسوله، وصفة التقديس تطلق حقيقة على ذلك شكلًا وموضوعًا.
وأصبحت القاعدة في مصدر المقدس وغيره قولهم: كل إنسان يؤخذ من كلامه ويرد إلا صاحب الروضة الشريفة.
تبدُّل مفهوم المقدس:
ثم تبدل مفهوم المقدس في نفس الإنسان وفي علاقته به، وكما لاحظنا أن الالتزام بالمقدس شيء ضروري، وأنه ليس بالهين ولا باليسير على الإنسان تركه،
ولا سيما أن تركه فيه ما يعرضه لمصاعب نفسية واجتماعية لا يقوى على تحملها فسوف يكون في تحملها انتحاره.
وعلى الرغم من أن المقدس تكتنفه تلك الصعوبات أو كما وصفه القرآن بقوله1: {إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا} .
نقول: على الرغم من تلك التبعات وجد بجانب الأديان الصادقة والنبوءات الصادقة أديان كاذبة؛ أي: وجد بجانب المقدس الحقيقي مقدس غير حقيقي.
معنى ذلك -كما يفيدنا التاريخ- أن في الإنسان جانبا يحب الالتزام ببعض المبادئ وعليه أن يرعاه بالاعتقاد المقدس، فطلبا لحاجات الإنسان الروحية تبني متنبئون كثيرون هذا الجانب وأثروه بما شاءوا له من ثروات وبما طاب لهم من قول.
فالنبوءات الكاذبة توسع وتخييل في مفهوم المقدس، وقلنا:"توسع"؛ لأنها في حقيقة الأمر ليست من عند الله، لا وحيًا ولا تكليفًا، وتبين لنا في وضوح أن وجود الشيء المقدس الذي حمل الإنسان نفسه عليه كان لا يرى فيه أنه يلغي حريته؛ لأن عدم وجوده دعاه إلى طلبه وأعانه عليه شعوره بالحاجة إليه.
كذلك النبوءات الكاذبة: هي التي شلت العقل الشرقي عن أن يتابع وظيفته، وكان دور العقل معها شاقًا وعسيرًا حينما عزلته عن مناقشتها أو حتى عن فهم رمزها كما عرضت الأنبياء الصادقين لمحن القتل والاضطهاد وهم بصدد تحرير الفكر البشري والتشريع الإلهي من زيف المزيفين، وقد لبست النبوءات الكاذبة ثوب الصادقين؛ لتلبي حاجة الإنسان الضرورية إلى المقدس الحقيقي، وفي ذلك كله ما يؤكد أن في الإنسان حبًّا وميلًا طبعيًّا يدفعانه إلى الالتزام بمبادئ مقدسة إن غابت يبحث عنها في نفسه ويصاب بالقلق إن لم يجدها، ويبحث عنها المجتمع إن غابت عنه؛ فهي عامل أساسي في بنائه وتوجيه علاقاته.
1 الآية 5 من سورة المزمل.
2 الآية 72 من سورة الأحزاب.
ويصبح التاريخ في سيره من غير النبوءات الصادقة عاجزا عن السمو نحو الله.
فالنبوءات الكاذبة شاركت في تزييف معتقدات الإنسان الدينية وألهته عن معتقداته الصادقة، ووسعت مفهوم المقدس حتى انحرفت بعبادة الإنسان الصحيحة إلى شتى الأنماط؛ كالنار والكواكب وغيرها، وعلمت الإنسان الشرقي كيف يخضع عن ذلة لغير الله، وأن الشرق -من الناحية التطبيقية- لا يحكمه إلا مستبد؟ وكيف يستبد وهو يعدل؟ وهو أيا معنى من معاني النبوءات الكاذبة التي عودت الإنسان الشرقي أن يخضع لغير الله باسم الإنسان المعصوم من الخطأ وهو العادل.
بهذه الأوصاف التي ألبسها المزيفون عليه آمن الشرقي بأنه حقيقة وليس أسطورة، وبات يمني نفسه به كما منى "الفارابي" به نفسه في كتابه "آراء أهل المدينة الفاضلة"، وما زال بيننا من يعتقد في حكم المستبد العادل، وهو على أمل اللقاء به، وما زال ينتظره باسم المهدي المنتظر، أو الإمام المعصوم، أليس هذا المستبد العادل -المثل الأعلى في نظرية الشرق السياسية- يماثل نظرية الحزب الواحد في روسيا الشرقية من حيث الاهتمام بالرأي الواحد، وعدم الخوض في تصرفاته بالتعديل أو النقد، وعلى الإنسان -أخيرا- أن يقدم ولاءه للحزب فقط أو المستبد العادل، وأن ما لدى الحزب من آراء تماثل المقدس. وفي النهاية: إنها رؤية واحدة لرأي واحد، وما وراء ذلك كله من تخويف وإرهاب، وذلك عين التطرف والاستبداد المقدس فالإنسان الشرقي -هو رائد في حضارته العصرية- حكم نفسه من خلال تراث تاريخي مزيف وهو نظرية الواحد المستبد العادل، وهذا لون من التوسعة في معنى المقدس على المستوى السياسي.
ووثنية الإغريق تعني من جانب الإنسان: إشباع حاجته الضرورية إلى إيجاد معنى المقدس في حياته، ورحلات فيثاغورث وأفلاطون إلى الشرق ساعدتهما على أن يرفضوا وثنيتهم؛ ليحلوا بدارهم وفكرهم فكرة: مثال المثل، أي: الذي لا يتغير ولا يتبدل، وهو المثال الأعلى الذي تتحول الإنسانية إليه محاولة العود إلى ما كانت عليه في رحاب الله. هذا توسع في مفهوم معنى المقدس، ومحاولة منهم لإيجاد صورة
طبق الأصل لما عليه الدين الحق، غير أنها في النهاية تفتقر إلى شعار خاتم النبوة؛ ليجيز معناها الحقيقي المقدس، على أي حال نرى في فكرة أفلاطون الفلسفية تمردا حقيقيا على الوثنية؛ لأنه كان يرى أن الوثنية إن صحت عقيدة شعبية، فإنها لا تصح عقيدة للفلاسفة الكبار أو حتى صغار الفلاسفة.
هدف فكرة أفلاطون الفلسفية -ذات الطابع الديني الشرقي- السعي بها إلى تنزيه الله عن مستوى الفكر الفلسفي، عن مستوى العقيدة الشعبية الوثنية، وشاعت فكرة أفلاطون على يد من بعده من الفلاسفة الذين رضوا لأنفسهم أن يأخذوا بفكرته، ثم راحوا يطبقونها على القرآن، الذي أنزله الوحي الإلهي، وقالوا: إن ما فيه يلائم الحياة الروحية السائدة بين العامة وذوي السذاجة في الرأي، أما العلماء المستنيرون فيرون -من وراء استبطانه وما يعين عليه الإدراك- أن ما فيه حق وصدق، وهم أهل التأويل، ومنهم أهل التوفيق بين الفلسفة والدينن الذين يرون أنه ليس من المصلحة الدينية أن يكشف للعامة. أما من ناحية الموازنة العامة بين أفلاطون وأهل مدرسته من بعده فإنا نرى في موقف أفلاطون جدوى وله مسوغاته، وهو تمرده على الوثنية الإغريقية، أما موقف هؤلاء الفلاسفة كالفارابي مثلا: فإني رجوت نفسي أن تفهمه أو تنظر جدوى رأيه فتأبى عليها أن تفهمه، وتحصل لها من البحث في جدواه أن فيه من التقليد والتعصب الذي بجانب عقل الفيلسوف أو المفكر ما فيه.
رُوي عن علي: وقد سئل: هل خصكم رسول الله بشيء؟ فقال: "ما عندنا غير هذه الصحيفة، أو فَهْمٌ يؤتاه الرجل في كتابه"، فعلاقة المقدس الحقيقي بالإنسان هي كما قال على:"فهم يؤتاه الرجل في كتابه" من غير مصادرة، أو تمييز خاص؛ لأن معايشة فهم كتاب الله حق للجميع بشروطه.
على أي حال شاركت نظرية أفلاطون في مجال السياسة، فخلقت حرية الرأي واحترامه، أو الرأي ومعارضته، فلا يكافح أحدهما الآخر. وكان هذا معنى من معاني الديمقراطية اليونانية.
ومن الذين توسعوا في "مفهوم المقدس" أولئك الذين دعوا إلى عبادة الوثنية في شتى أشكالها:
فمنهم الذين دعوا إلى عبادة الكواكب، وربطوا مصير الإنسان بمطالعها وإن ميلاده مرتبط بالمصادفة، فهو إن صادف ميلاده سعودًا في طالعه فهو سعيد، وإن صادف نحوسًا في طالعه فهو نحس أو شقي، فعبادة الكواكب خلفت: مشاكل الجبر، والتسيير، والمصادفة، والحظ، وفيها مصادرة حقيقية لحرية الإنسانية، وأصبح الوجود معها يشكل حرجًا في الوجود الإنساني، ومع ذلك عبدها الإنسان، واستلطف الارتماء في أحضانها، واستعذب شقاءه في عبادتها، فجبلته على رضا فيه معنى المذلة حين منحها الإنسان معنى المقدس الذي لا رد فيه ولا مراجعة.
ومع ذلك وجد من الإنسان من ثار على ذلك النوع من العبادة، ورد للإنسان حريته واعتباره، فاستحدث السحر؛ ليلغي به سيطرة الكواكب عليه وعلى مصيره.
وبالسحر استطاع الإنسان أن يعلن سيطرته على الأرواح ومدى قدرته على تسخيرها، ألهمته عرفانا بالغيب وأعانته على قضاء حوائجه، فغير بها من مستقبله ورفع بها من عظمته، وألغى من حياته سيطرة الكواكب عليه، وبوساطة السحر استبانت قدرة الإنسان في تمرده على عبادته.
ولأول مرة تقع دولة الأرواح مستعمرة للإنسان، يجندها لخدمته، ولا تقوى على النفور منه إلا برسالة إلهية، قام بها نبي الله موسى، وذلك حينما بات الناس في خوف وعدم أمن من كيد السحرة، فرهبهم الناس، أي وقع الناس -وهم يفرون من سيطرة الكواكب- في أسر السحرة، ودخل الإنسان مرة ثانية تحت سيطرة الإنسان وهو من نوعه وجنسه، خوفا من سحر السحرة وألاعيبهم، وبه اقتناع أن عبادة الأرواح أصبحت غير مجدية إلا عن طريق سحرة وإرضاء أهوائهم فأصبح السحر يؤدي إلى نوع من الاستعباد للإنسان.
ومن ثم اقتضت الحكمة الإلهية -وهي دائما تقف بجانب الحرية الإنسانية- أن ترسل رسولا؛ ليبطل كيد السحرة ويحقق الحرية الإنسانية التي لا تدين لغير الله.
ودائما رسالة الله ترعى الإنسان في حريته وفي عبادته وما توحي به لا سيطرة لأحد عليه، وليس عليها قيم سوى كتاب، وأما من يدعي القوامة على كتابه فإنه يدفعه إلى ذلك حبه النفسي لأن يكون شيئا في الهيئة الاجتماعية.
وفي عبادة الحجر والشجر وأشكال الوثنية المختلفة توسع من الإنسان في معنى المقدس، ونلاحظ من وراء توسع الإنسان في الرمزيات المقدسة شيئا جوهريًّا يدفعه؛ ليحدث هذا التوسع؛ ذلك هو: شعور الإنسان بإرادته وحريته وخوفه من الكون وليس حبه له.
وعلى رداءة الوثنية في مظهرها نجد أن معنى الحرية الإنسانية كامن فيها، فالإنسان الوثني شاء أن يقدس، فصنع إلهه، واختار حجره، ومثل شكله، وحدد مكانه، فأقامه، ثم إن شاء أن يستبدل بحجر آخر أو بشكل أحسن، ثم إن شاء الإنسان الوثني أن يسخر من إلهه، فعل غير مبالٍ لمعنى تقديسه فهنا سيطرة للإرادة الإنسانية على ما صنعت من رمزيات المقدس.
لكنها حرية وجلة ذليلة حين منحت عظمتها لرمزيات ضئيلة لا تغني عنها شيئا ولكن لماذا فعلت ذلك؟
نرى -من وجهة نظرنا- أن التوسع في مفهوم المقدس يرتبط أيضا بمعنى الخوف المتزايد عند الإنسان الشرقي، وذلك حينما عجز الإنسان عن فهم الكون، ثم خافه فقدسه، فصفة الخوف من الكون استغلها دعاة الأديان الوضعية المتعددة في الشرق؛ فالديانات الوضعية المتعددة وراءها نزعة الخوف الناشئة من عدم تعقل الوجود.
فالإفراط في المظهر التقديسي للأشياء مظهر من مظاهر الخوف.
والتوسع في مفهوم المقدس: فيه راحة لوجدان الشرقي، وإلغاء لعقله وإلا فلماذا توسع في المقدس وهو يعلم أن التوسع ليس من مصلحة العقل.
لذلك نقول -ومن غير إفراط- فيما نقول: إن الشرقي عندما يعجز عن فهم الشيء يخافه، ثم لا ينصرف عنه حتى يخلع عليه أثرا من آثاره النفسية، وهو التقديس، ومن خلال نزعة الخوف الكامنة في نفسه من الوجود تسهل قيادته، كذلك يتميز الشرقي بالإسراف في فهم ذاته، وذلك من خلال نصوص مقدساته فلا يكف عن نجوى ذاته بها.
فاليهودية تقول: نحن أبناء الله وأحباؤه، نحن شعبه المختار.
والمسيحية تقول القول نفسه مع اعتقادهم بأنهم أمة الخلاص.
والمسلمون على حالهم هذا يقولون: "خير أمة أخرجت للناس" من غير أخذ بالقرآن الذي يهدي للتي هي أقوم.
فهو لا يحب أن يفهم ذاته من خلال واقعها ويواجه أخطاءه، وهو لا يحب أن يفهم ذاته فقط إنما يتعالى على فهمها ويعتبر كل من يشير إلى خطئه متحسسا العورات.
فالتعالي عن فهم واقع الذات خلق له من الأسباب ما يسوغه مثل:
تسويغ الأخطاء، كأن يسوغ الشعب أخطاء الحاكم وهو يعلم أنه ينافقه.
وإلقاء المعاذير أسلوب لازم للمنطق التسويفي.
ومن ذلك كله الإفراط في أساليب المجاملات.
كل هذه خصال وادعاءات، تخدم التعالي وترفع من شأن الفردية في نفس الشرقي؛ لأنها أساليب نابعة من نزعة الخوف، تشيع في نرجسية الذات غرورة واستبدادًا، دون أن تساعدها على فهم أخطائها، وليس ذلك يعني أن الإنسان الشرقي ليس عنده طاقة تمييز الخطأ من الصواب، قطعًا لا نعني هذا، إنما نعني أن عنده قدرة التمييز، إنما يغلب أسلوب التسويغ والمعاذير والمجاملات على مواجهة المخطئ بما أخطأ فيه، ولذلك نراه فيما بعدُ يحكى العمل نفسه ثم يصفه بالخطأ -الذي سوغه من قبل- على شكل رواية تاريخية، وبعد أن يزول عامل القهر مصدر خوفه.
فإذا قدر للشرقي أن يفهم قبل أن تحتويه نزعة الخوف تمرد وغلب وسيطر، وذلك كان منه على حِقَبٍ متطاولة في تاريخه، وسوف أسوق مثالًا شاهدًا على ذلك وهو منهاج الإسلام.
تعثَّر الشرقي كثيرًا وهو يبحث عن ذاته من خلال الديانات المتعددة، وبينما هو يتعثر عثر على حقيقته في نظام الإسلام ومنهاجه، ووجد فيه ما يجيب على أسئلة شتى، استغلق عليه فهمها، خلال رحلته الطويلة في البحث عن حقيقته، وفيه ألفى ما تتجاوب معه النفس الإنسانية من حيث هي نفس إنسانية؛ لأنه -وهو الصيغة النهائية لسلسلة الوحي الإلهي- قدم المزيد مما يساعد الإنسان على تفهم حقيقته من خلال واقعة وجوده، وعلاقاته بالله. وأن شرعية مبدأ التوبة في حد ذاته ألغى تصوراتنا عن
الإنسان الملائكي وإمكانية وجوده، ومعنى ذلك أن على الإنسان أن يفهم ذاته من خلال بشريته أو من خلال قول الرسول:"كل ابن آدم خطاء وخير الخطائين التوابون".
لذلك نرى أن الإسلام ركز على أمور نبرز منها:
أولا: حدد مفهوم المقدس من غيره، وحدد مصدره وهو الله وما أوحى به إلى رسله، وبذلك التحديد كفل للعقل مجاله وحريته.
ثانيا: سد الطريق على كل متنبئ بقوله عليه السلام: "أنا العاقب فلا نبي بعدي".
وقوله تعالى1: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِينًا} .
وتلك مكرمة الإسلام الحقيقية؛ لأن هذا المبدأ الذي قرره الإسلام حمل العقل الإنساني مسئولية الكفاح ضد الذين يحاولون أن يعوقوا من مسيرة العقل الإنساني باسم التنبؤ أو باسم الأوصياء الشرعيين من قبل الله، وأبطل قول كل من يدعي العصمة، ولا يفيد معنى انتهاء النبوة انتهاء الدين؛ لأن الحياة الدينية باقية ببقاء الوحي الإلهي وهو القرآن وسنة نبيه.
ثالثا: دعا الإسلام العقل إلى أداء وظيفته، ووظيفة العقل في نظر الإسلام: أن يقوم بعبء وظيفته الشرعية، وهي الفهم، والتدبر، والتفكر، وألا يدع وظيفته هذه لأي مضلل ينهاه عنها.
قال تعالى2: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا} .
بذلك أرشد العقل إلى أخص وظائفه: وهو الفكر، حتى ولو كان في القرآن أو في مصدره. وكان هذا الوضع طبيعيا من دين ألغى طريقا طويلا ازدحم فيه متنبئون كاذبون، وإنها لدعوة استجاب لها التاريخ نفسه على مستواه العالمي.
1 جزء من الآية 3 من سورة المائدة.
2 الآية 82 من سورة النساء.
رابعا: ألغى الخوف الذي يدفع الإنسان؛ ليتوسع في المقدسات بقوله تعالى1: {وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ} .
بذلك رفع عن كاهل الإنسان عبء الخوف الدافع إلى الذلة؛ ليحل محلها الخشية لله فقط، فرد بذلك إلى الإنسان اعتباره.
خامسًا: يعتبر الإنسان في نظر الإسلام "خليفة الله"، وصور الرسول مهمة هذا الخليفة بقوله:"لو تعلقت همة ابن آدم بما وراء العرش لنالته"، ومعنى ذلك أن على الإنسان أن ينهض بعبء خلافته، وأن عليه في سبيل ذلك: الأخذ بمبدأ الشورى الذي قرره الإسلام، فإن سلك سبيل الإسلام ألغى الحكم الفردى من طريقه وكل تصوره عن المستبد العادل.
والله -وهو حقيقة العقيدة الإسلامية- ليس جبارًا ولا متحيزًا للمسلمين، كإله اليهود أو أي إله في أي دين؛ إنما الله في الإسلام هو من تتحدث عنه آياته في الكون حديث العقل تارة وحديث الوجدان تارة أخرى، وفي ذلك كله ما يؤكد المعرفة في النفس الإنسانية، ويعين الإنسان على تفهم وجوده في واقع الوجود.
فعقيدة المسلم قوة من الحب، وليست ضعفا من الخوف، فجعلها الإنسان حين حملها مما يتفتح بها عقله ويطمئن إليه وجدانه.
أما حين تخلى عن رسالة الإسلام -وكفاه منها انتسابه الأسمى إليها- فإنه تردى إلى طبيعة الخوف، فجبن دون مسئوليته أمام الإسلام، وانقاد مع الخرافة التي تسللت إلى مخاوف، وأعانته على توسعة معنى المقدس مرة ثانية، وتلك مرحلة يقاسيها دعاة الإصلاح.
بذلك كان الدين الإسلامي بما قدمه للعقل الإنساني -من بين سائر الأديان التي حفلت بها المنطقة العربية- هو الصورة الوحيدة في التاريخ التي تجاوبت معها الإرادة العربية.
1 من الآية 37 من سورة الأحزاب.
أما الآن فإن الإرادة العربية متخلفة كثيرًا عن فكرها لعوامل كثيرة ترجع -في نظرنا- إلى نوع الولاء والحكم، فبعض هذه الدول محكوم بعصبية الزعامة الأسرية، والبعض الآخر، محكوم بعصبية الزعامة الثورية، وفي الشكلين معًا كان ولاء الحاكم لنوع عصبة انتمائه، أما الولاء للشعب فغير متبادل بينهما إلا بما تحتمه ضرورة المجاملات، وإذا كان الفكر لا يعرف ولاءً غير ولائه الإنساني، فإن نظم الحكم عاقت تجاوب الإرادة معه، وفي هذا كله ما يعوق النهضة العربية الإسلامية عن بعضها الحقيقي، لكن متى تتجاوب الإرادة العربية؛ لتقوم بعبء رسالتها مرة ثانية؟
دكتور/ محمد إبراهيم الفيومي
مصر الجديدة في
10/ 11/ 1399هـ.
1/ 10/ 1979م.