المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌(مسألة: الأمر إذا علق على علة ثابتة - تحفة المسؤول في شرح مختصر منتهى السول - جـ ٣

[يحيى بن موسى الرهوني]

فهرس الكتاب

- ‌(الأمر

- ‌(مسألة: صيغة الأمر بمجردها لا تدل على تكرار

- ‌(مسألة: الأمر إذا علق على علة ثابتة

- ‌(مسألة: صيغة الأمر بعد الحظر للإباحة على الأكثر

- ‌(مسألة: القضاء بأمر جديد

- ‌(مسألة: إذا أمر بفعل مطلق، فالمطلوب الفعل الممكن

- ‌(مسألة: النهي يقتضي الدوام ظاهرًا

- ‌(العام والخاص

- ‌(مسألة: العموم من عوارض الألفاظ حقيقة

- ‌(مسألة: الجمع المنكر ليس بعام

- ‌(مسألة: أبنية الجمع لاثنين

- ‌(مسألة: العام بعد التخصيص

- ‌(مسألة: جواب السائل غير المستقل

- ‌(مسألة: المشترك يصح إطلاقه على معنييه

- ‌(مسألة: نفي المساواة

- ‌(مسألة: المقتضي

- ‌(مسألة: الفعل المثبت لا يكون عامًا في أقسامه

- ‌(مسألة: إذا علق الحكم على علة، عمّ بالقياس شرعًا لا بالصيغة

- ‌(مسألة: الخلاف في أن المفهوم له عموم لا يتحقق

- ‌(مسألة: «من» الشرطية تشمل المؤنث عند الأكثر

- ‌(مسألة: الخطاب بالناس والمؤمنين يشمل العبيد

- ‌(مسألة: العام بمعنى المدح والذم

- ‌(التخصيص:

- ‌(مسألة: التخصيص جائز إلا عند شذوذ

- ‌(مسألة: المخصص: متصل، ومنفصل

- ‌(مسألة: شرط الاستثناء الاتصال لفظًا

- ‌(مسألة: الاستثناء المستغرق باطل باتفاق

- ‌(مسألة: الاستثناء بعد جمل بالواو

- ‌(مسألة: الاستثناء من الإثبات نفي وبالعكس

- ‌(مسألة: يجوز تخصيص السنة بالسنة

- ‌(مسألة: الإجماع يخصص القرآن والسنة

- ‌(مسألة: العام يخص بالمفهوم

- ‌(مسألة: فعله عليه السلام يخصص العموم

- ‌(مسألة: الجمهور: إذا علم صلى الله عليه وسلم بفعل مخالف للعموم

- ‌(مسألة: الجمهور: مذهب الصحابي ليس بمخصص

- ‌(مسألة: الجمهور: إذا وافق الخاص حكم العام فلا تخصيص

- ‌(مسألة: رجوع الضمير إلى البعض ليس بتخصيص

- ‌(مسألة: المطلق: ما دلّ على شائع في جنسه

- ‌ مسألة: إذا ورد مطلق ومقيد

- ‌(المجمل:

- ‌(مسألة: لا إجمال في نحو: {حرمت عليكم الميتة}

- ‌(مسألة: لا إجمال في نحو: «رفع عن أمتي الخطأ والنسيان»

- ‌(مسألة: لا إجمال في نحو: «لا صلاة إلا بطهور»

- ‌(مسألة: لا إجمال في نحو: {والسارق والسارقة فاقطعوا

- ‌(مسألة: المختار أن اللفظ لمعنى تارة، ولمعنيين أخرى

- ‌(مسألة: لا إجمال فيما له محمل لغوي

- ‌(مسألة: لا إجمال فيما له مسمى لغوي ومسمى شرعي

- ‌(البيان والمبين

- ‌(مسألة: المختار أن الفعل يكون بيانًا

- ‌(مسألة: إذا ورد بعد المجمل قول وفعل

- ‌(مسألة: المختار: أن البيان أقوى

- ‌(مسألة: تأخير البيان عن وقت الحاجة ممتنع

- ‌(مسألة: المختار على المنع، جواز تأخير إسماع المخصص الموجود

- ‌(مسألة: المختار على المنع، جواز تأخيره عليه السلام تبليغ الحكم

- ‌(مسألة: المختار على التجويز: جواز بعض دون بعض

- ‌(مسألة: يمتنع العمل بالعموم قبل البحث عن المخصص

- ‌(الظاهر والمؤول

- ‌(المفهوم والمنطوق:

- ‌(النسخ:

- ‌(مسألة: المختار جواز النسخ قبل وقت الفعل

- ‌(مسألة: المختار جواز نسخ «صوموا أبدًا»

- ‌(مسألة: الجمهور: جواز النسخ من غير بدل

- ‌(مسألة: الجمهور: جواز النسخ بأثقل

- ‌(مسألة: يجوز نسخ القرآن بالقرآن

- ‌(مسألة: الجمهور على جواز نسخ القرآن بالخبر المتواتر

- ‌(مسألة: الجمهور على أن الإجماع لا ينسخ

- ‌(مسألة: المختار أن القياس المظنون لا يكون ناسخًا، ولا منسوخًا

- ‌(مسألة: المختار جواز نسخ أصل الفحوى

- ‌(مسألة: العبادات المستقلة ليست نسخًا

- ‌(مسألة: إذا نقص جزء العبادة أو شرطها

- ‌(مسألة: المختار جواز نسخ وجوب معرفته

الفصل: ‌(مسألة: الأمر إذا علق على علة ثابتة

يقتضي التكرار فرع عن كون الأمر للتكرار، فإثباته به دور.

احتج القائل بأنه للمرة: بأن السيد إذا قال لعبده: «ادخل الدار» فدخلها مرة، عُدَّ ممتثلًا عرفًا، ولو كان للتكرار لما عُدّ ممتثلًا بها.

الجواب: أنه إنما امتثل بحصول المأمور به الذي هو في ضمن المرة؛ إذ المرة من ضرورة فعل ما أمر به، لا لأن الأمر ظاهر في المرة بخصوصها، ولا حاجة إلى قوله: ولا في التكرار.

احتج القائل بالوقف: بأنه لو ثبت لثبت بدليل إما عقلي أو نقلي

إلى آخره.

والجواب: أنه ثبت بالاستقراء.

قال: ‌

‌(مسألة: الأمر إذا علق على علة ثابتة

، وجب تكرره بتكررها اتفاقًا؛ للإجماع على اتباع العلة، لا للأمر.

فإن علق على غير العلة، المختار: لا يقتضي.

ص: 29

لنا: القطع بأنه إذا قيل: «إن دخلت السوق فاشتر كذا» ، فاشترى مرة، عُدّ ممتثلًا بالمرة مقتصرًا.

قالوا: ثبت ذلك في أوامر الشرع، {إذا قمتم} ، {الزانية والزاني} ، {وإن كنتم جنبًا} .

قلنا: في غير العلة بدليل خاص.

قالوا: تكرر للعلة، فالشرط أولى لانتفاء المشروط.

قلنا: العلة مقتضية معلولها).

أقول: القائلون بأن الأمر لا يدل على التكرار، اتفقوا على أن الأمر إذا عُلق على علة ثابتة - أي ثبتت عليتها بالدليل، كما لو قال:«إن زنا فاجلدوه» - أنه يتكرر الفعل بتكرر العلة؛ للاتفاق على اتباع العلة مهما وجدت وإثبات الحكم بثبوتها، فإذا تكررت تكرر، وليس التكرار مستفادًا من الأمر، وإلا لتكرر وإن لم تكرر.

فإن عُلق على شيء لم تثبت عليته، كما لو قال:«إن دخل الشهر فأعتق عبدًا» ، فالمختار أنه لا يقتضي - تكرار المعلق عليه - تكرار الفعل.

لنا: أن السيد إذا قال لعبده: «إن دخلتَ السوق فاشترِ كذا» ، فاشتراه

ص: 30

مرة مقتصرًا عليها غير مكرر ذلك بتكرار دخول السوق، عُدّ ممتثلًا، ولو أخذ يشتري ذلك كلما دخل، عُدَّ مستحقًا للَّوْمِ، ولو وجب تكرار الفعل بتكرار ما علق عليه، ما عُدَّ ممتثلًا باقتصاره على المرة، ولما استحق اللوم إذا كرر الشراء عند تكرار الدخول.

[احتج القائل بأنه يتكرر - إذا علق أيضًا على غير العلة -: بأن تكرر الفعل بتكرر ما علق عليه في أوامر الشرع، نحو:{إذا قمتم إلى الصلاة} ، {الزانية والزاني فاجلدوا} ، {وإن كنتم جنبًا فاطهروا} ، وليس تكرره للأمر، فهو لتكرر المعلق عليه؛ إذ الأصل عدم غيره.

الجواب: ما ذكرتم أن ثبتت عليته كالزنا، فليس محل النزاع، وإن لم تثبت فلا يثبت فيه التكرار إلا بدليل خاص؛ ولذلك لم يتكرر الحج وإن كان معلقًا بالاستطاعة، وتكرر الوضوء والغسل إما لأن المعلق عليه علة، أو للإجماع.

قالوا ثانيًا: الأمر المعلق على علة ثابتة يجب تكرره بتكررها، فالمعلق على الشرط أولى أن يتكرر بتكرره؛ لانتفاء المشروط عند انتفائه، بخلاف العلة لا يلزم من انتفائها انتفاء المعلول؛ لجواز أن تخلفها علة أخرى؛ إذ يجوز تعليل الحكم الواحد بعلتين.

ص: 31

الجواب: أن التكرر في العلة من أجل أن وجودها مقتضي وجود المعلول، وذلك منتف في الشرط، فإن وجود لا يقتضي وجود المشروط، واقتضاء انتفاء المشروع بانتفاء الشرط لا يوجب التكرار بتكرره وهو ظاهر، والشرط وإن كان في جانب العدم آكد، لكن منشأ الحكم الثبوت، والعلة في جانب الثبوت آكد].

قال: (القائلون بالتكرار قائلون بالفور، ومن قال إن المرة تبرئ، قال بعضهم: للفور.

وقال القاضي: إما الفور، وإما العزم.

وقال الإمام: بالوقف لغة، فإن بادر امتثل.

وقيل: بالوقف وإن بادر.

وعن الشافعي رضي الله عنه: ما اختير في التكرار، وهو الصحيح.

لنا: ما تقدم الفور، لو قال:«اسقني» وأخَّر، عُدّ عاصيًا.

قلنا: للقرينة.

قالوا: كل مخبر أو منشئ فقصده الحاضر، مثل «زيد قائم» ، «وأنت طالق» .

ردّ: بأنه قياس، وبالفرق بأن في هذا استقبالًا قطعًا.

قالوا: طلب كالنهي، والأمر نهي عن ضده، وقد تقدم.

قالوا: {ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك} ، فذم على تكر البدار.

قلنا: لقوله: {فإذا سويته} .

ص: 32

قالوا: لو كان التأخير مشروعًا لوجب أن يكون إلى وقت معين.

ورُدّ: بأنه يلزم لو صرح بالجواز بأنه إنما يلزم لو كان التأخير مشروعًا، وأما في الجواز فلا، لأنه متمكن من الامتثال.

قالوا: قال الله تعالى: {سارعوا} ، {فاستبقوا} .

قلنا: محول على الأفضلية، وإلا لم يكن مسارعًا.

القاضي: ما تقدم في الموسع.

الإمام: الطلب متحقق، والتأخير مشكوك، فوجب البدار.

وأجيب: بأنه غير مشكوك).

أقول: القائلون بأن صيغة الأمر إذا عريت عن القرائن تقتضي التكرار قائلون بالفور، وهو وجوب المبادرة؛ لأنه من ضرورات استغراق الأوقات، وهو المروي عن مالك.

وأما من قال: إن المرة تبرئ، سواء قلنا: وضع لها، أو قلنا: المرة من

ص: 33

ضرورة ما أمر به، فقال بعضهم: إنها للفور، ولو أخّر عصى.

وقال القاضي: تقتضي الفور في أحد الأمرين، إما الفعل في الحال، أو العزم عليه في ثاني حال، ولم يذكر صاحب الإحكام عن القاضي سوى جواز التأخير، لكن يلزم ذلك على ما قدم في الموسع.

وقال إمام الحرمين: بالوقف في مدلوله لغة، أهو الفور أم جواز التأخير؟ ، لكنه لو بادر إلى الفعل في الحال امتثل، فإن أخّر وأوقعه بعد ذلك لم نقطع بخروجه عن عهدة الخطاب.

قال بعضهم: بالوقف لغة، وأنه لو بادر لا نقطع بخروجه عن عهده الخطاب؛ لاحتمال وجوب التراخي، وهو خلاف إجماع السلف.

ومختار الشافعي والمغاربة من المالكية: أنها تدل على طلب الفعل فقط، وصححه المصنف.

لنا: ما تقدم في التكرار من أن المدلول طلب حقيقة الفعل، والفور والتراخي خارجي، وأيضًا: الفور والتراخي من صفات / الفعل، ولا دلالة للموصوف على الصفة.

ص: 34

احتج القائل بأنها للفور: بأن السيد لو قال لعبده: «اسقني» فأخَّر من غير عذر، عُدّ عاصيًا عرفًا، ولولا أنه للفور لما فهم ذلك.

الجواب: أن ذلك إنما فهم بالقرينة؛ لأن العادة أن طلب السقي لا يكون إلا عند الحاجة، والكلام في الصيغة المجردة.

قالوا ثانيًا: كل مخبر أو منشئ مثل: «زيد قائم» ، و «أنت طالق» فإنما يقصد الزمان الحاضر، فكذا الأمر بجامع أنهما من أقسام الكلام في الأول، وأن كلا منهما إنشاء في الثاني، وصاحب الإحكام لم يذكر المخبر، وهو أحسن؛ إذ لا نسلم أن كل مخبر قصده الحاضر؛ لأن المخبر يخبر عن الماضي والمستقبل أيضًا.

الجواب: أنه قياس في اللغة وقد أبطلناه، ولو سلم فالفرق أن الأمر فيه دلالة على الاستقبال قطعًا، فلا يمكن صرفه إلى الحال؛ لأن الحاصل لا يطلب، بل إلى الاستقبال المطلق، أو الأقرب إلى الحال، وكلاهما محتمل، فلا يصار إليه إلا بدليل، بخلاف «أنت طالق» فإنه لا يتأخر عن التلفظ به تأخرًا زمانيًا، أو نقول: لا نسلم أن وقوع الطلاق على الفور من حيث اللغة، بل الشارع جعله علامة على الحكم الحالي، فلا يلزم أن يكون الأمر للفور لغة.

قالوا ثالثًا: النهي يقتضي الفور، فكذا الأمر بجامع أن كلا منهما طلب وقالوا رابعًا: الأمر بالشيء نهي عن أضداده، والنهي يقتضي الفور فكذا

ص: 35

الأمر، وقد تقدم تقريرها والجواب عنهما.

قالوا خامسًا: {ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك} ، فذم على ترك المبادرة؛ لأن «إذ» للزمان، أي ما منعك من السجود زمان الأمر، فلولا أنها للفور ما توجه الذم؛ لجواز التأخير حينئذ.

الجواب: أنه أمر مقيد بوقت معين، يدل عليه قوله تعالى:{فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين} ، ولا يلزم ذلك في الأمر المطلق.

قلت: وقد اعتمدوا هذا الجواب، ولا يتم إلا بتقدير كون الفاء في جواب الشرط تقتضي التعقيب، وليس كذلك؛ لأنها إنما تقتضيه إذا كانت عاطفة، مثل:«جاء زيد فعمرو» ، أو «أعط زيدًا فعمرًا» .

قالوا سادسًا: لو كان التأخير مشروعًا لوجب أن يكون إلى أمد، وإلا لجاز تأخيره أبدًا، فلا يكون واجبًا، ثم الأمد لابد أن يكون معينًا، وإلا لكان التكليف بامتناع تأخيره عن ذلك الأمد تكليفًا بالمحال، وتعيين الوقت لإشعار الأمر به، ولا دليل / من خارج يعينه؛ لأنهم اتفقوا على أنه لا يجوز تأخيره عن الوقت الذي لو لم يشتغل به فيه لفاته، ولا يعرف إلا بأمارة، وليس إلا كبر السن أو المرض الشديد، وكثير ممن يموت فجأة، فلا يكون شاملًا لجميع المكلفين.

الجواب أولًا: بالنقض بما لو صرح بجواز التأخير، كما لو قال: «صُم

ص: 36

على التراخي»؛ إذ لا خلاف في جواز التكليف بمثله.

وثانيًا: إنما يلزم لو كان التأخير متعينًا، فيجب تعريف وقته الذي يؤخر إليه، وأما إذا كان جائزًا فلا، لأنه متمكن من الامتثال بالمبادرة، فلا يلزم التكليف بالمحال.

وفي الجواب الثاني نظر؛ لأن التكليف بالمحال اللازم لعدم تعيين الأمد إنما هو التكليف بامتناع تأخيره عن ذلك الأمد، لا التكليف بالإتيان بالمأمور به قبل أمدة حتى يندفع بما ذكر.

قالوا سابعًا: قال تعالى: {سارعوا إلى مغفرة من ربكم} والمراد سببها اتفاقًا وهو فعل المأمور به فتجب المسارعة إليه، وقال تعالى:{فاستبقوا الخيرات} وفعل المأمور به من الخيرات فيجب الاستباق إليه.

الجواب: أن ذلك محمول على أفضلية المسارعة والاستباق؛ إذ لو وجب على الفور لو يكن مسارعًا ومستبقًا؛ لأنهما إنما يتصوران في الموسع لا في المضيق؛ لأن المسارعة مباشرة الفعل في وقت مع جواز تأخيره عنه.

سلمنا حملهما على الوجوب، لكن الفورية منهما لا من مطلق صيغة الأمر.

احتج القاضي: بما سبق له في الموسع، وقد تقدم تقريره وجوابه.

احتج الإمام: بأن طلب الفعل محقق، والخروج عن العهدة بالتأخير مشكوك؛ لاحتمال أن يكون للفور فيعصي بالتأخير، فيجب البدار ليخرج

ص: 37

عن العهدة بيقين.

الجواب: لا نسلم أن الخروج عن العهدة بالتأخير مشكوك لما بينا، ولا يحمل على ظاهره، وإلا لكان البدار مشكوكًا فيه؛ إذ الشك في أحد المتقابلين يوجب الشك في الآخر.

قال: (مسألة: اختيار الإمام والغزالي: أن الأمر بالشيء ليس نهيًا عن ضده، ولا يقتضيه عقلًا.

وقال القاضي ومتابعوه: نهي عن ضده، ثم قال: يتضمنه، ثم اقتصر قوم، وقال القاضي: والنهي كذلك فيهما.

ثم منهم من خصّ الوجوب دون الندب.

لنا: لو كان الأمر نهيًا عن الضد أو يتضمنه، لم يحصل بدون تعقل الضد والكفّ عنه؛ لأنه مطلوب النهي، ونحن نقطع بالطلب مع الذهول عنهما.

واعترض: بأن المراد الضد العام، وتعقله حاصل؛ لأنه لو كان عليه لم يطلبه.

وأجيب: بأن طلبه في المستقبل، ولو سلم / فالكفّ واضح).

أقول: اختلفوا في أن الأمر بالشيء معين، هل يكون نهيًا عن الشيء المعين المضاد له أو لا؟ فإذا قال «تحرك» فهل هو في المعنى بمثابة لا تسكن؟ .

ص: 38

قال الإمام والغزالي: ليس نفسه، ولا يقتضيه عقلًا.

[وقال القاضي أبو بكر ومن تبعه: إنه نفس النهي عن ضده، ثم رجع فقال: ليس نفسه لكن يتضمنه عقلًا] وبهذا القول قال أكثر المالكية.

قيل: وفائدته أن المأمور بالعبادة إذا أتى فيها بضدها هل يفسدها، بناء على أن النهي يقتضي الفساد؟ .

فقال الحنفية: لو سجد على نجاسة ثم أعاد السجود على طاهر لم تفسد وكذا إذا قعد عمدًا ثم قام.

ثم إن قومًا من القائلين بأن الأمر بالشيء يتضمن النهي عن ضده، كعبد الجبار وأبي الحسين، اقتصروا على ذلك ولم يتجاوزوه إلى أن النهي عن الشيء أمر بضده، وقال القاضي: والنهي كذلك فيهما.

ص: 39

أي مرة قال: إنه نفس الأمر بالضد، ومرة قال: إنه يتضمنه.

ثم القائلون بأن الأمر بالشيء نهي عن ضده، منهم من خصص ذلك بأمر الإيجاب فيكون نهيًا عن ضده، بخلاف أمر الندب لا يكون أضداده المباحة منهيًا عنها، لا نهي تحريم، ولا نهي تنزيه.

قيل: فائدة قوله: (بشيء معين)، الاحتراز عن مثل قول القائل:«افعل شيئًا» إذ لا يكون نهيًا عن ضده، إما لأنه لا ضد له، أو لأن كل ما يلابسه شيء فلا يكون ضده منيهًا عنه.

وفيه تعسف؛ إذ لا فائدة في الأمر به أولًا.

وقيل: المراد به الأمر بأحد الضدين لا بعينه، فإنه لا يكون الأمر به نهيًا عن الضد الآخر، وفيه نظر؛ لأن ضد أحدهما لا بعينه الكفّ عنهما، وهو منهي عنه، والظاهر أنه لا فائدة له.

احتج: بأنه لو كان الأمر بالشيء نهيًا عن الضد أو مقتضيًا له، لما حصل الأمر بدون تعقل الضد وتعقل الكف عنه واللازم باطل، أما الملازمة؛ فلأن الكفّ عن الضد هو المطلوب من النهي، ويمتنع أن يكون المتكلم طالبًا لأمر لا يشعر به، فيكون الكف عن الضد متعقلًا له، ولا يتعقل إلا بتعقل مفرديه وهما الضد والكف عنه، وأما بطلان التالي؛ فلأنا نقطع بطلب حصول الفعل مع الذهول عن الضد والكف عنه.

واعترض: بمنع انتفاء التالي، فإنا لا نسلم تحقق الطلب مع الذهول عن الضد؛ إذ المراد بالضد هو الضد العام لا الأضداد الجزئية، والذي يذهل عنه هو الأضداد الجزئية، وأما الضد العام الذي هو ترك المأمور به، فتعلقه

ص: 40

حاصل لأن المأمور لو كان متلبسًا بالفعل لو يطلبه / الآمر منه؛ لأنه تحصيل الحاصل، فإذًا إنما يطلبه إذا علم أنه غير متلبس به، والعلم بذلك يستلزم العلم بتلبسه بضده المستلزم تعقل ضده.

الجواب: لا نسلم أن المأمور لو كان متلبسًا بالفعل لم يطلبه منه، وإنما يلزم تحصيل الحاصل بتقدير كون الأمر يطلب تحصيل الفعل في الحال، وهو ممنوع بأن الأمر بطلب الفعل في المستقبل وإن كان المأمور متلبسًا به في الحال، فالمطلوب الدوام، فحينئذ لا يلزم تعقل الضد العام.

سلمنا تعقله، لكن الكف واضح عدم تعقله، واعلم أن هذا الكلام على المستند، مع أن تعقل الضد العام لازم للأمر؛ لأن إيجاب الفعل لا يتصور بدون المنع من تركه الذي هو الضد العام، فيلزم تعقل الكف أيضًا.

قيل: الجواب الأول ينافي موضوع المسألة؛ لأنها في الأمر بشيء معين، وإذا أمر بشيء معين استحال أن يكون حالة الأمر مشتغلًا به، وإلا لزم تحصيل الحاصل، فإن طلب في المستقبل، يكون المطلوب تحصيل شيء آخر لا الأول.

نعم الأمر بالماهية لا ينافي كونه متلبسًا بالفعل؛ إذ المطلوب الاستمرار.

وفيه نظر؛ لأن المراد بالتعيين هو النوعي لا الشخص، ولا مشاحة في الاصطلاح، حيث أطلق اسم الضد على الترك المأمور به، وهو أمر عدمي.

قال: (القاضي: لو لم يكن إياه، لكان ضدًا، أو مثلًا، أو خلافًا؛ لأنهما إما أن يتساويا في صفات النفس أو لا.

الثاني: إما أن يتنافيا بأنفسهما أو لا، فلو كانا مثلين أو ضدين لم

ص: 41

يجتمعا، ولو كانا خلافين لجاز أحدهما مع ضد الآخر وخلافه؛ لأنه حكم الخلافين، ويستحيل الأمر مع ضد النهي عن ضده، وهو الأمر بضده؛ لأنهما نقيضان، أو تكليف بغير الممكن.

وأجيب: إن المراد بطلب الترك ضده، طلب ترك الكف، منع لازمهما عنده، فقد يتلازم الخلافان، فيستحيل ذلك.

وقد يكون كل منهما ضد ضد الآخر، كالظن والشك، فإنهما معًا ضد العلم.

وإن أراد بترك ضده [غير] الفعل المأمور به، رجع النزاع لفظيًا في تسميته طلبه نهيًا.

القاضي أيضًا: السكون عين الحركة، فطلب السكون طلب ترك الحركة.

وأجيب: بما تقدم).

أقول: احتج القاضي على أن الأمر بالشيء نفس النهي عن ضده: بأنه لو لم يكن إياه لكان مثله أو ضده أو خلافه، واللازم بأقسامه باطل، أما الملازمة؛ فلأن كل متغايرين إن تساويا في صفات النفس - أي في الذاتيات - فهما المثلان، كسوادين وبياضين، وإلا [فإن تنافيا بأنفسهما - أي استلزم كل منهما عدم الآخر، حتى يشمل النقيضين، والعدم، والملكة، والضدين الوجوديين - إذ التنافي بالذات بين النقيضين فقط، وإلا فهما الخلافان،

ص: 42

كالحركة والسواد] ، وأما انتفاء اللازم، فلأنهما لو كان مثلين / أو ضدين لم يجتمعا في محل؛ لاستلزام اجتماعهما اجتماع النقيضين، لكنهما يجتمعان قطعًا في الطلب وفي الوجود، فلو قال:«تحرك، لا تسكن» اجتمعا معًا في الطلب، فلو فعل الحركة اجتمعا معًا في الوجود.

ولو كانا خلافين لجاز اجتماع كل منهما مع ضد الآخر ومع خلاف الآخر؛ لأن ذلك حكم الخلافين، كما يجتمع البياض - وهو خلاف الحلاوة - مع الحموضة التي هي ضد الحلاوة، [ومع الرائحة التي هي خلاف الحلاوة] ، لكن اجتماعهما محال؛ لأن الأمر بالشيء مع ضد النهي عن ضده نقيضان، أو تكليف بغير الممكن؛ لأن «اسكن» مع «تحرك» الذي هو ضد «لا تتحرك» بالنظر إلى ذاتيهما تكليف بغير الممكن، وبالنظر إلى ما يستلزمان نقيضان.

أجاب المصنف: بأن القاضي إن أراد بقوله: (طلب المأمور به عين طلب ترك ضده) ، أن طلب المأمور به هو طلب الكف عن ضده.

سلمنا أنهما خلافان، ونمنع ما جعل القاضي لازم الخلافين عند هذا التفسير، إذ قد يتلازم الخلافان، كالعلة ومعلولها المساوي، فيستحيل

ص: 43

اجتماع أحدهما مع ضد الآخر، وإلا اجتمع الضدان؛ لأن أحدهما لا ينفك عن الآخر.

وأيضًا: قد يكون ضد أحد الخلافين ضد الآخر، كالظن والشك، فإنهما خلافان، وكل منهما ضد العلم، فلو لزم جواز اجتماع الشيء وضد خلافه، لزم اجتماع الشيء وضده، وهذا المثال غير صحيح؛ لأن الشك والظن ضدان على الوجه الذي فسر به المصنف الضدين؛ لأنهما يتنافيان وإن لم يكونا بالمصطلح ضدين؛ لأن تقابلهما تقابل العدم والملكة، والمثال: الضاحك والكاتب، فإنهما خلافان، وكل منهما ضد الصاهل.

وإن أراد القاضي بقوله: «طلب المأمور به هو عين طلب ترك ضده» ، فإن فسر طلب ترك ضده بفعل المأمور به - كما يشعر به استدلاله الثاني - رجع النزاع لفظيًا في تسمية فعل المأمور به تركًا لضده، وفي تسمية طلبه نهيًا، وكان طريق ثبوته النقل لغة ولم يثبت، ولو ثبت، قال في المنتهى: لكان حاصله أن له عبارة أخرى كالأحجية، مثل:«أخوك ابن أخت خالتك» ، وذلك شبه اللعب.

ولا يقال: مراد القاضي بترك ضده المنع من ترك الفعل المأمور به وهو جزء الطلب الجازم؛ لأنا نقول: مراد القاضي هنا إثبات أنه عينه لا أنه يستلزمه، بل لو صح له لزم منه بطلان قوله الثاني إنه ليس عينه، لكن يستلزمه.

احتج القاضي أيضًا: بأن فعل السكون مثلًا عين ترك الحركة؛ إذ البقاء

ص: 44

في الحيز الأول هو بعينه عدم الانتقال إلى الحيز الثاني، وإنما يختلف التعبير عنه، ويلزم منه أن طلب فعل السكون هو طلب ترك الحركة.

الجواب: نمنع أنه عينه، فإن السكون أمر وجودي يستلزم الإتيان به ترك الحركة، ولو سلم فالجواب ما تقدم من رجوع النزاع لفظيًا، على ما صرح به في المنتهى.

قال: (التضمن: أمر الإيجاب طلب فعل يذم على تركه اتفاقًا، ولا يذم إلا على فعل وهو الكف، أو الضد، فيستلزم النهي.

وأجيب: بأنه مبني على أنه من معقوله، لا بدليل خارجي، ولو سلم فالذم على أنه لم يفعل، لا على فعل، وإن سلم فالنهي طلب كف عن فعل لا عن كف، وإلا أدى إلى وجوب تصور الكف عن الكف لكل أمر وهو باطل قطعًا.

قالوا: لا يتم الواجب إلا بترك ضده، وهو الكف عن ضده أو نفيه فيكون مطلوبًا، وهو معنى النهي، وقد تقدم).

أقول: احتج القائلون بأن الأمر الشيء يتضمن النهي عن ضده بحجتين:

تقرير الأولى: أن أمر الإيجاب طلب فعل يستحق الذم على تركه

ص: 45

اتفاقًا لا أنه يذم، لجواز العفو كما تقدم له، ولا ذم إلا على فعل لأنه المقدور، وليس هذا إلا الكف عن الفعل، أو فعل ضد المأمور به، وكلاهما ضد، فستلزم أمر الإيجاب النهي عن الكف، أو عن فعل الضد؛ إذ لا ذم على ما لم ينه عنه.

الجواب أولًا: أن الدليل أخص من الدعوى.

وثانيًا: أنه إنما يلزم من يقول: إن الذم على الترك من معقول الأمر، لا أنه إنما يعلم بدليل خارجي وهو ممنوع؛ إذ الذم على ترك من دليل خارجي شرعي؛ ولذلك جوز قوم الوجوب بدون الذم على ما سبق في حدّ الواجب وجوزه قوم من غير خطور الذم على الترك بالبال، وإن لزم في الواقع، ولو كان الذم من معقوله لما تمكنوا من تجويزه.

سلمنا أن أمر الإيجاب يدل على الذم على الترك عقلًا، لكن لا نسلم أنه لا يذم إلا على فعل، بل يذم على أنه لم يفعل ما أمر به.

قوله: العدم غير مقدور.

ص: 46

قلنا: ممنوع، وهو أحد قولي القاضي.

سلمنا أن الذم لا يكون إلا على فعل، لكن لا يكون الكف منهيًا عنه؛ إذ النهي طلب كف عن فعل لا عن كف، كما أن الأمر طلب فعل غير كف، إذ لو كان منهيًا عنه لأدى إلى طلب الكف عن الكف، لأنه مطلوبه النهي هنا، وذلك يستلزم وجوب تصور الكف عن الكف لكل أمر، وهو باطل قطعًا؛ لأن الآمر بالشيء قد لا يخطر بباله الكف عن الكف أصلًا.

وفي الأجوبة الثلاثة نظر.

أما الأول: فلأن الوجوب يستلزم استحقاق الذم على الترك؛ لأنه إما جزؤه أو لازمه البين؛ لأنه أخذه المصنف في تعريف / الوجوب.

وقد يجاب عنه: بأن الكلام فيما هو أعم من الأمر الشرعي، ويحققه قوله: لكل أمر.

وأما الثاني: فسلمنا أنه مختار المصنف، حيث قال:(لا تكليف إلا بفعل).

وقد يجاب عنه: بأنه ذكره على سبيل الإلزام للقاضي.

وأما الثالث: فلأنه لا يلزم من كون الكف غير منهي عنه إبطال دليله؛ لجواز كون الضد العام منهيًا عنه.

وقد قال: [وهو الكف] أو الضد.

ص: 47

قالوا ثانيًا: ما لا يتم الواجب - وهو فعل المأمور به - إلا بترك ضده وهو إما الكف عن ضده أو نفي ضده على الرأيين، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، فالكف عن الضد أو نفي الضد واجب، فيكون ضد المأمور به منهيًا عنه؛ لأن معنى النهي: طلب الكف عن الضد أو طلب نفيه، فيكون الأمر بالشيء مستلزمًا للنهي عن ضده.

الجواب: ما تقدم أول الكتاب، أن ما لا يتم الواجب إلا به - من عقلي أو عادي - فليس بواجب.

قال: (الطاردون: متمسكا القاضي المتقدمان.

وأيضًا: النهي طلب ترك فعل الضد، فيكون أمرًا بالضد.

قلنا: فيكون كالزنا واجبًا من حيث هو ترك اللواط وبالعكس، وبأن لا مباح، وبأن النهي طلب الكف لا الضد المراد.

فإن قلتم: فالكف فعل فيكون أمرًا، رجع النزاع لفظيًا، ولزم أن يكون النهي نوعًا من الأمر.

ومن ثم قيل: الأمر طلب فعل لا كف).

ص: 48

أقول: الطاردون للحكم في النهي بأنه أمر بالضد، احتجوا بثلاثة أوجه، منها متمسكا القاضي المتقدمان، وهما:

لو لم يكن إياه لكان مثلًا، أو ضدًا، أو خلافًا.

وأيضًا: ترك السكون هو فعل الحركة، فطلبه طلبها.

والجواب: الجواب الثالث، وهو في الحقيقة عين الثاني بتغيير العبارة: النهي طلب ترك الفعل، والترك فعل؛ لأن العدم غير مقدور، وليس غير فعل الضد، وإلا لم يكن تركًا له، فهو أحد الأضداد فيكون مطلوبًا، وهو معنى الأمر به.

الجواب أولًا: النقض وهو: لو صح لزم أن يكون الزنا واجبًا من حيث هو ترك اللواط لأنه ضده، وأن يكون اللواط واجبًا من حيث هو ترك الزنا، فيحصل الثواب بهما بقصده أداء الواجب بهما، وهو معلوم البطلان.

وأيضًا: يلزم نفي المباح، إذ ما مباح إلا وهو ترك حرام.

وأيضًا: المطلوب في النهي هو الكف لا للأضداد الجزئية، وإلا لما صح الطلب مع الذهول / عنها والنزاع فيها.

فإن قلتم: فالكف فعل فيكون ضدًا وقد طلب، فتحقق الأمر بالضد.

قلنا: رجع النزاع حينئذ لفظيًا في تسمية الكف فعلًا، ثم في تسمية طلبه أمرًا كما تقدم.

ويلزم أن يكون النهي نوعًا من الأمر؛ لأن الأمر على ما فسرتم هو طلب

ص: 49

الفعل فقط، ثم ذلك الفعل إن كان كفًا، سُمّي نهيًا أيضًا، لكنه ليس نوعًا له، أما عندنا؛ فلأنه مباين له، وأما عندكم؛ فلأنه عينه أو لازمه.

فإن قالوا: لا يلزم من كون النهي الخاص ليس نوعًا من الأمر الخاص، ألا يكون نوعًا من الأمر العام - الذي هو طلب الفعل فقط - أعم من كونه كفًا أم لا، وهو اللازم لمذهبهم.

قلنا: رجع النزاع حينئذ إلى تعريف الأمر، فعلى تعريفنا لا يكون نوعًا منه، وعلى تعريفكم يكون نوعًا منه فرجع النزاع إلى الاصطلاح، ومن أجل ألا يصير النهي نوعًا من الأمر، قيل في حدّ الأمر: هو طلب فعل غير كف. وفي الإلزامين نظر؛ إذ الواجب الضد العام، ومرادهم أن النهي عن الشيء أمر بأحد أضداده التي لم ينه عنها، وكذا الأمر نهي عن جميع أضداده التي لم يؤمر بها، فلا معنى لإلزامهم إياه.

ثم من جوَّز كون الشيء الواحد واجبًا حرامًا من وجهين يلتزم هذا.

قال: (الطاردون في التضمن: لا يتم المطلوب بالنهي إلا بأحد أضداده كالأمر.

وأجيب: بالإلزام الفظيع، وبأن لا مباح.

الفارُّ من الطرد: إما لأن النهي طلب نهي، وإما لأن أمر الإيجاب يستلزم الذم على الترك وهو فعل، فاستلزم كما تقدم، والنهي طلب كف عن فعل يستلزم الأمر؛ لأنه طلب فعل لا كف، وإما لإبطال المباح.

المخصص: الوجوب للأمرين الآخرين).

ص: 50

أقول: احتج القائلون بأن النهي يتضمن الأمر بالضد، كما أن الأمر يتضمن النهي عن الضد لا أنه عينه: بأنه لا يتم المطلوب بالنهي إلا بأحد أضداده، كما لا يتم المطلوب من الأمر إلا بترك جميع أضداده، فيجب [وتقريره].

والجواب: بإلزام كون الزنا واجبًا من حيث هو ترك لواط وبالعكس، وإلزام ألا مباح أيضًا، وقد مرَّ ما فيهما، وأما الذين فروا من طرد الحكم متقصرين عليه في الأمر، إنما يقولون به في النهي لأحد أمور أربعة:

إما لأن مذهبهم أن النهي طلب نفي الفعل - كما يقول أبو هاشم – والعدم لا ضد له؛ إذ الضدان الأمران الوجوديان، فاختص الأمر بانه نهي عن ضده دون النهي، أو لأن العدمي لا يستلزم الوجودي.

وفيهما نظر، أما الأول؛ فلأن مرادهم من الضد ما هو أعم.

وأما الثاني؛ فيبطل بالعكس؛ إذ الوجودي لا يستلزم العدمي، فلا معنى للفرار من الطرد، وأما الإلزام الفظيع وهو كون الزنا واجبًا إذا ترك به اللواط، وألزموا كون الواجب حرامًا؛ لأنه إذا أمر بشيء فقد نهى عن ضده

ص: 51

عندهم، فيكون الواجب الذي هو ضد منهيًا عنه.

وقد يجاب عنه: بأن هذا النهي لزم منه الأمر، وهو لا يستغرق الزمان، بل زمان ذلك الأمر، ولا شك أنه منهي عنه في ذلك الزمان ومأمور به في غيره، بخلاف اللازم من النهي، فإنه يفيد الدوام فتحصل المنافاة، فيكون الزنا مأمورًا به دائمًا، منهيًا عنه دائمًا؛ لأنه ضد اللواط، والزنا في نفسه منهي عنه.

على أن للآخر أن يقول: النهي عن اللواط لا يستلزم الأمر بالزنا عينًا، بل بأحد أضداد اللواط، وقد نهى عن الزنا، فيخرج عن تناول الأمر.

وإما لأن أمر الإيجاب يستلزم الذم على ترك، وهو - أي الترك، أو أمر الإيجاب - فعل، فاستلزم النهي عن فعل ينافي المأمور به، وهو معنى الضد كما تقدم.

وأما النهي، فهو طلب كف عن فعل يذم فاعله، فلم يكن مستلزمًا للأمر؛ لأنه طلب فعل غير كف، وإما للزوم إبطال المباح، وما تقدم يرده، مع أنه لم يستلزم طلب الكف طلب فعل غير كف، فكذا لا يستلزم طلب الفعل غير الكف طلب الكف.

وكل من قال: الأمر بالشيء نفس النهي عن ضده، يلزمه الطرد؛ إذ لا ينفك الشيء عن نفسه.

أما الذين خصصوا الحكم بأمر الإيجاب فللأمرين الآخرين، وهو أن

ص: 52

أمر الوجوب يستلزم الذم على الترك فاستلزم النهي، بخلاف أمر الندب.

وفيه نظر؛ لأن الأمر الندبي يستلزم ترجيح الفعل، فيكون الترك مرجوحًا، وترك الفعل المرجوح لازم لضد المندوب؛ لأنه يلزم من فعل ضد المندوب ترك الفعل، وترك المرجوح مطلوب فيكون منهيًا / عنه نهي كراهة. وإما للزوم إبطال المباح؛ إذ ما من وقت إلا ويندب فيه فعل؛ إذ استغراق الأوقات بالمندوبات مندوب، بخلاف الواجب فإنه لا يستغرق الأوقات، فيكون الفعل في غير وقت أداء الواجب مباحًا، فلا يلزم نفي المباح.

قال: (الإجزاء: الامتثال، فالإتيان بالمأمور به على وجه يحققه اتفاقًا.

وقيل: الإجزاء: إسقاط القضاء، فيستلزمه.

وقال عبد الجبار: لا يستلزمه.

لنا: لو لم يستلزم، لم يعلم امتثال.

وأيضًا: فإن القضاء استدراك لما فات من الأداء، فيكون تحصيلًا للحاصل.

قالوا: لو كان لكان المصلي بظن الطهارة آثمًا، أو ساقطًا عنه القضاء إذا تبين الحدث.

وأجيب: بالسقوط للخلاف، وبأن الواجب مثله بأمر آخر عند التبين، وإتمام الحج الفاسد واضح).

أقول: كون الفعل مجزيًا قد يطلق بمعنى أنه [امتثل به الأمر نحو ما أتى به

ص: 53

على الوجه الذي أُمر به، وقد يطلق بمعنى أنه مسقط للقضاء] ، ولا خلاف أن الإتيان بالمأمور به على الوجه الذي أمر الشارع به يحقق الإجزاء بمعنى الامتثال، أي يدل على أن الفاعل امتثل، وأما بالمعنى الثاني: فالأكثر على أن الإتيان بالمأمور به على وجه يستلزم الإجزاء، بمعنى إسقاط قضاء ذلك الفعل، وقال عبد الجبار في العمد: أنه لا يستلزمه.

لنا: لو لم يستلزم سقوطه لم يعلم امتثال، أما الملازمة؛ فلأنه يجوز أن يأتي بالمأمور به حينئذ ولا يسقط عنه، وكذلك القضاء إذا فعله وهلم جرًا، [ومع احتمال بقاء التكليف لا يعلم امتثال] ، وانتفاء الثاني مقطوع به، وقد يمنع الملازمة من يقول: فاقد الطهرين يصلي ويقضي فإنه تحقق

ص: 54

الامتثال بالفعل مع التكليف بالقضاء، وأيضًا: القضاء استدراك ما فات من مصلحة الأداء، والفرض أنه أتى بالمأمور به على وجه ولم يفت شيء، فلو أتى به استدراكًا لكان تحصيل الحاصل.

قالوا: لو كان مستلزمًا سقوط القضاء لكان المصلي بظن الطهارة إذا تبين كونه محدثًا إما آثمًا، أو ساقطًا عنه القضاء، واللازم بقسيمه باطل.

أما الأولى؛ فلأنه إن أمر بالصلاة بيقين الطهارة فلم يفعل كان آثمًا، وإن أمر بصلاة بظن الطهارة فقد أتى بها على وجهها، والفرض أن الإتيان بالمأمور به على وجهه يسقط القضاء، فيسقط القضاء، والتالي باطل.

الجواب: منع بطلان التالي والتزام سقوط القضاء؛ إذ المسألة مختلف فيها، وأيضًا: المأمور به صلاة بظن الطهارة، وإذا تبين خطؤه وجب مثله بأمر آخر، وتسمية / الثاني قضاءً مجازٌ.

قالوا: لو كان مسقطًا للقضاء لكان إتمام الحج الفاسد مسقطًا للقضاء، واللازم باطل اتفاقًا.

الجواب واضح مما ذكرنا؛ لأن وجوب قضاء ما فسد إتمامه فعل آخر وجب بأمر آخر، والإتمام لم يجب قضاؤه، فالذي فعل سقط قضاؤه، والمقضي ما فعل.

واعلم أنه لا خلاف في جواز ورود الأمر بمثل ما فعل، إنما النزاع في كونه قضاء للأول.

ص: 55