الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قالوا خامسًا: إما أن يكون الباري عالمًا باستمراره أبدًا، أو علم استمراره إلى وقت معين، وعلى التقديرين فلا نسخ، أما إذا علم استمراره أبدًا فظاهر وإلا لزم الجهل، وأما على التقدير الثاني؛ فلأن الحكم في علمه تعالى مؤقت فالحكم يكون منتهيًا بنفسه؛ لأن ذلك الوقت غاية له.
الجواب: نختار القسم الثاني، وهو أن الله علم استمراره إلى وقت معين وهو الوقت الذي علم الله أنه ينسخ ذلك الحكم فيه، وعلم الله تعالى بارتفاع الحكم بالنسخ لا يمنع النسخ، فيكون انتهاؤه بالنسخ لا بنفسه.
وأما الحجة على الأصبهاني على كل واحد من النقلين؛ فلأن الوقوع دليل الجواز؛ لأن الأمة أجمعت - قبل ظهور الخلاف - على أن أحكم شريعتنا ناسخة لما يخالفها من الأحكام، ثم نقول له: صحة شريعتنا إن توقفت على النسخ وقد ثبتت شريعتنا، فيكون النسخ ثابتًا، وإن لم تتوقف على النسخ جاز إثبات النسخ بالأدلة الشرعية؛ لأن كل ما لا يتوقف عليه السمع يجوز إثباته به، فيثبت النسخ بالإجماع.
ولنا: التوجه إلى بيت المقدس كان واجبًا إجماعًا، ونسخ بالتوجه إلى القبلة، وأيضًا: الوصية للوالدين والأقربين نسخت بآية المواريث.
وفيه نظر؛ لأنه يقول: خصّ بغير الوارثين.
قال:
(مسألة: المختار جواز النسخ قبل وقت الفعل
، مثل:«حجوا هذه السنة» ، ثم يقول قبله:«لا تحجوا» ، ومنع المعتزلة والصيرفي.
لنا: ثبت التكليف قبل وقت الفعل، فوجب جواز رفعه كالموت.
وأيضًا: فكل نسخ كذلك؛ لأن الفعل بعد الوقت ومعه يمتنع نسخه.
واستدل: بأن إبراهيم عليه السلام أُمر بالذبح، بدليل:{افعل ما تؤمر} ، وبالإقدام، وبترويع الولد، ونسخ قبل التمكن.
واعترض: بجواز أن يكون موسعًا.
وأجيب: بأن ذلك لا يمنع رفع تعلق الوجوب بالمستقبل؛ لأن الأمر باق عليه وهو المانع عندهم؛ ولأنه لو كان موسعًا لقضت العادة بتأخيره رجاء نسخه أو موته لعظمه.
وأما دفعهم بمثل: لم يؤمر وإنما توهم، أو أمر بمقدمات الذبح، فليس بشيء، أو ذبح وكان يلتحم عقبه / أو جعل صفيحة نحاس أو حديد، فلا يسمع، ويكون نسخًا قبل التمكن).
أقول: قال الآمدي: اتفق القائلون بجواز النسخ على جواز نسخ الفعل بعد التمكن من الامتثال، سواء أطاع المكلف أو عصى، وظاهر كلام الإمام فخر الدين خلافه؛ لأنه قال: يجوز النسخ قبل العمل، خلافًا للمعتزلة، وظاهر البرهان مع الآمدي.
واختلفوا في جوازه قبل التمكن من الامتثال، وذلك على وجهين:
أحدهما: أن ينسخ قبل دخول الوقت، كما إذا قال:«حجوا هذه السنة» ، ثم يقول قبل يوم عرفة:«لا تحجوا» .
وثانيهما: أن ينسخ بعد دخول الوقت وقبل انقضاء زمن يسع الفعل، فذهب أصحابنا، وأكثر الشافعية، والحنفية إلى جوازه، ومنعه الصيرفي وبعض الحنابلة، وجمهور المعتزلة.
لنا: أنه ثبت بالدليل في مبادئ الإحكام، أن التكليف ثابت قبل وقت الفعل، فوجب جواز رفعه بالنسخ كما يرفع الموت لأنهما سواء.
قيل: قد يجاب عنه: بأن التكليف مقيد بعدم الموت عقلًا فلا رفع.
قلنا: كذا في زمانه عليه السلام التكليف مقيد بعدم وصول الناسخ إلى المكلف، فلا فرق، وأيضًا: كل نسخ قبل وقت الفعل - وقد اعترفتم بجوازه - فيلزم جوازه قبل الفعل؛ لأن التكليف بالفعل بعد وقته محال؛ لأنه إن فعل أطاع وإن ترك عصى، فلا نسخ، وكذلك في وقت فعله؛ لأنه فعل وأطاع به وانقطع التكليف، ولاستحالة توارد النفي والإثبات.
وقد يقال: الكلام فيمن لي يفعل شيئًا من الأفراد التي تناولها التكليف، وليس كل ناسخ كذلك.
واستدل أيضًا: بقضية إبراهيم عليه السلام، فإنه أُمر بذبح ولده إسماعيل ونسخ عنه قبل التمكن.
أما الأولى: فلقول إسماعيل: {افعل ما تؤمر} ، وغير الذبح غير مذكور.
وفيه نظر؛ لأنه لم يقل: افعل ما أمرت، ولا ما رأيت، بل قال:{ما تؤمر} ، فقد يريد: افعل ما يتحقق من الأمر في المستقبل.
وثانيًا: أنه أقدم على الذبح وترويع الولد، ولو لم يكن مأمورًا به لكان ممتنعًا شرعًا وعادة.
وأما الثانية: فلأنه لم يفعل، ولو كان بعد التمكن لكان عاصيًا.
واعترض: بأنا لا نسلم أنه لو لم يفعل بعد التمكن يكون عاصيًا، لم لا يجوز أن يكون موسعًا، فيحصل التمكن ويعصي بالتأخير، ثم ينسخ؟ .
وأجيب بجوابين:
الأول: لو كان موسعًا لكان الوجوب متعلقًا بالمستقبل؛ لأن الأمر باق عليه قطعًا، فإذا نسخ عنه فقد نسخ تعلق الوجوب بالمستقبل، وهو المانع عندهم من النسخ، فيتوارد النفي والإثبات ويلزم العبث.
أيضًا - وهذا بناء على شبههم لا على مذهبهم -: لأنهم يجوزون النسخ قبل الفعل وبعد التمكن.
وأيضًا: لو كان موسعًا لأخر الفعل ولم يقدم على الذبح وترويع الولد / عادة، إما رجاء أن ينسخ، وإما رجاء أن يموت أحدهما فيسقط عنه، لعظم
الأمر، ومثله مما يؤخر عادة.
وفيه نظر؛ لأن الأنبياء شأنهم المبادرة إلى الامتثال، ولعله آخر إلى آخر الوقت، والمصنف استضعفه وما ذكر ردّه، فقد يكون إشارة إلى ما ذكرنا.
وقد دفع بعضهم هذا الاستدلال بوجوه أخر لم يرضها المصنف.
منها: أن إبراهيم لم يؤمر وإنما توهم، ولو سلّم فإنما أمر بمقدمات الذبح لا به، وقد أتى بها.
قال المصنف: (ليس بشيء)؛ لأن الله تعالى يقول: {إن هذا لهو البلاء المبين وفديناه بذبح عظيم} ، ولو لم يكن مأمورًا لما كان بلاء مبينًا، ولو كان بالمقدمات وقد وأتى بها لم يكن في حقه بلاء مبينًا، لكونه علم سلامة العاقبة، ولما احتاج إلى الفداء لفعله المأمور به، وعلى أصلهم هو توريط لإبراهيم في الجهل بما يظهر له أنه أمر وليس بأمر، ومما دفعوه به: أنه لا نسلم أنه لم يذبح، بل ذبح وكان يلتحم عقب الذبح، كلما قطع شيئًا التحم، وأن الله تعالى جعل على صفيحة نحاس أو حديد تمنع الذبح.
وهذا لا يسمع؛ لأنه لو ذبح لما احتاج إلى الفداء، ولو منع الذبح بالصفيحة مع الأمر به، لكان تكليف ما لا يطاق، وهم لا يجوزنه، ثم قد نسخ عنه، وإلا لأثم بتركه، فيكون ناسخًا قبل التمكن.
قال: (قالوا: إن كان مأمورًا به ذلك الوقت، توارد النفي والإثبات وإن لم يكن فلا نسخ.
وأجيب: بل لم يكن، بل قبله وانقطع التكليف به كالموت).