الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قلت: وفيه نظر؛ لأن فيه جمعًا بين الدليلين، كالمفهوم مع العموم
قال في المنتهى: وأما المجمل فواضح، يعني يكون بيان المجمل أقوى دلالة منه؛ لأن المجمل لما كان ما لم يتضح دلالته، كان بيانه وهو ما يعين أحد احتمالاته أقوى منه ضرورة، وهو معنى قول الآمدي: أما المجمل فيكفي في تعين أحد احتمالاته أدنى ما يفيد الترجيح.
قال:
(مسألة: تأخير البيان عن وقت الحاجة ممتنع
، إلا عند من يجوز تكليف ما لا يطاق، وإلى وقت الحاجة يجوز.
والصيرفي والحنابلة: ممتنع.
والكرخي: ممتنع في غير المجمل.
وأبو الحسين: مثله في الإجمالي لا التفصيلي، مثل: هذا العموم مخصوص، والمطلق مقيد، والحكم سينسخ.
والجبائي: ممتنع في غير النسخ.
لنا: {فإن لله خمسة} ، إلى:{ولذي القربى} ، ثم بين أن السلب للقاتل، إما عمومًا وإما برأي الإمام، وأن ذوي القربى بنو هاشم دون بني أمية وبني نوفل، ولم ينقل اقتران إجمالي مع أن الأصل عدمه.
وأيضًا: {أقيموا الصلاة} ثم بين جبريل، وكذلك الزكاة، وكذلك السرقة، ثم بين على تدريج.
وأيضًا: فإن جبريل عليه السلام قال: أقرأ، قال: وما أقرأ، وكرر ثلاثًا، ثم قال:{اقرأ باسم ربك} .
واعترض: بأنه متروك للظاهر؛ لأن الفور لا يمتنع تأخيره، والتراخي يفيد جوازه في الزمن الثاني فيمتنع تأخيره.
وأجيب: بأن الأمر قبل البيان لا يجب به شيء، وذلك كثير).
أقول: تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز إلا عند مجوز تكليف ما لا يطاق، وأما تأخيره عن وقت الخطاب إلى وقت الحاجة.
فالجمهور: جوازه، ومنعه الأبهري من أصحابنا، حكاه القاضي عنه، ومنعه الصيرفي، وأبو إسحاق المروزي من الشافعية،
والظاهرية، وذهب الكرخي وأكثر الحنفية إلى جواز تأخير بيان المجمل دون الظاهر إذا أريد غير ظاهره. وقال أبو الحسين بمثل ما قال الكرخي في المجمل، وأما الظاهر فلا يجوز تأخير بيانه الإجمالي، أما التفصيلي فيجوز تأخيره، فيجب أن يقول: هذا العموم مخصوص، وهذا لمطلق مقيد، وهذا الحكم سينسخ، ولا يجب تفصيل ما خص عنه، وذكر الصفة التي قيد بها، وتعيين وقت النسخ، وذهب الجبائي وعبد الجبار إلى جواز تأخير بيان النسخ دون ما عداه.
لنا: قوله تعالى: {واعلموا أن ما غنمتم من شيء فأن لله خمسه} إلى قوله: {ولذي القربى} ؛ فإنه أثبت خمس الغنيمة للمذكورين، وأثبت لذوي القربى عمومًا نصيبًا، و «ما غنمتم» ، و «ذوي القربى» فما له ظاهر وأريد خلافه من غير ذكر بيان معه، لا إجمالي ولا تفصيلي.
ثم بين بعد ذلك أن السلب للقاتل، إما عمومًا عملًا بقول عليه السلام:
«من قتل قتيلًا فله سلبه» ، كما يقول ابن وهب والشافعي.
وإما برأي الإمام، كما يقول مالك وأبو حنيفة.
وأيضًا: بيّن أن ذوي القربى بنو هاشم وبنو المطلب، دون بني أمية وبني عبد شمس.
فإن قيل: لم لا يجوز أن يكون البيان الإجمالي مقترنًا به، والمتأخر هو التفصيلي؟ .
أجيب: لم ينقل اقتران بيان إجمالي، ولو اقترن به لنقل.
وأيضًا: الأصل عدمه.
ولنا أيضًا: {أقيموا الصلاة} ، والصلاة عند نزول الآية كانت ظاهرة في الدعاء، مع أن المراد ذات الأركان، ولو كانت ظاهرة في الشرعية فالقدر والصفة والشرائط مما بيّن بَعْدُ، ولم يقترن بها بيان إجمالي ولا تفصيلي، ثم بَيَّن جبريل، ثم بَيَّن الرسول بتدريج.
وكذلك: {وآتوا الزكاة} ، أوجب الزكاة ثم بَيَّن تفاصيل الجنس والنصاب بتدريج.
وكذلك قال: {والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما} ، فأوجب
حدّ السرقة، ثم بَيَّن اشتراط النصاب والحرز بتدريج، والجميع مما له ظاهر وأريد خلافه.
ولنا أيضًا: ما في الصحيح، أن جبريل عليه السلام في ابتداء الوحي قال للنبي عليه السلام:«اقرأ، فقال عليه السلام: ما أنا بقارئ» ، ثم كرر ثلاثًا والنبي عليه السلام يقول مثل ذلك، ثم قال جبريل:{اقرأ باسم ربك} ، فأخبر بيان ما أمره به أولًا إلى ما بعد الثلاث.
واعترض هذا الدليل الذي ادعيتم تأخير بيانه: فإنه متروك الظاهر، وما كان كذلك لا يصح التمسك به اتفاقًا، أما الصغرى: فلا يلزم لو حمل على ظاهره من تأخير البيان عن وقت الحاجة؛ لأن الأمر إن كان على الفور فلا يجوز تأخيره؛ لأنه تأخير عن وقت الحاجة، وإن كان على التراخي فإن
الوجوب يتراخى دون الجواز؛ إذ جواز الفعل ثابت على الفور، لأنه لم يقل أحد بوجوب التأخير، والجواز أيضًا حكم يحتاج إلى البيان، كما يحتاج إليه الوجوب، فيمتنع تأخيره لأنه تأخير عن وقت الحاجة، فترك الظاهر لازم لنا ولكم، هكذا جعله الآمدي خاصًا بهذا الأخير.
والشراح جعلوه اعتراضًا عليها كلها، ولا يصح؛ لأن الجواب يأبى ذلك، لذكر متعلق الأمر ظاهرًا، فلو لم يرد بعد ذلك اشترط / النصاب والحرز لقطعنا، وكذلك فيما ذكر معه، بخلاف «اقرأ» .
ثم أجاب: بمنع كون الأمر قبل البيان على الفور أو على التراخي، بل هو قبل البيان لا يجب به شيء أصلًا، ثم قال: وذلك كثير، أي الصور التي أخَّر فيها البيان مثل {الزانية والزاني فاجلدوا} ثم بَيَّن أن المحصين يرجم وكذلك قوله تعالى {وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم} ثم نزل المخصص.
قال الآمدي: «إلى غيره من العمومات التي لم يبين تفاصيلها إلا بعد مدة» [لا كما قال الشراح]: الأمر الذي لا يجب به شيء كثير.
قال: (واستدل: بقوله تعالى: {أن تذبحوا بقرة} وكانت معينة، بدليل تعيينها بسؤالهم مؤخرًا، وبدليل أنهم لم يؤمروا بمتجدد، وبدليل المطابقة لما ذبح.
وأجيب: بمعنى التعيين، فلم يتأخر بيان، بدليل: بقرة، وهو ظاهر وبدليل قول ابن عباس: لو ذبحوا بقرة ما لأجزأتهم، وبدليل:{وما كادوا يفعلون} .
واستدل: بقوله تعالى: {إنكم وما تعبدون} ، فقال ابن الزبعري: فقد عبدت الملائكة والمسيح، فنزل:{إن الذين سبقت لهم} .
وأجيب: بأن «ما» لما لا يعقل، ونزول {إن الذين سبقت} زيادة بيان لجهل المعترض، مع كونه خبرًا.
واستدل: لو كان ممتنعًا، لكان لذاته أو لغيره بضرورة أو نظر، وهما منتفيان.
وعورض: لو كان جائزًا
…
إلى آخره).
أقول: هذه دلائل استدل بها للمذهب المختار، كلها مزيفة عند المصنف.
الأول: احتجوا بقوله تعالى: {إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة} ، وجه التمسك بها أن البقرة المأمور بذبحها بقرة معينة لا أي بقرة كانت كما هو الظاهر، فقد أريد خلاف الظاهر، وإنما قلنا: إنها كانت معينة، لأن عود هذه الكلمات وإجراء تلك الصفات على بقرة يدل على أنها معينة، عينها الله بسؤالهم بعدُ، فقال: {إنها بقرة
…
} إلى آخره، والضمير في
السؤال ضمير المأمور بها، فكذا في الجواب.
ويدل أيضًا على أنها معينة: أنهم لم يؤمروا بمتجدد، ولو كانت بقرةٍ ما لكان الأمر بالمعين أمرًا بمتجدد.
وأيضًا: لما ذُبح ذلك العين، طابق الأمر بذبح المعين، ويُعلم قطعًا أنه لو ذبح غيره لما كان مطابقًا للأمر، فعلم أن المأمور بها معينة.
الجواب: منع كونها معينة بل بقرةٍ ما، فلا يحتاج إلى بيان، بدليل:{يأمركم أن تذبحوا بقرة} وهو ظاهر في بقرة غير معينة، وبدليل قول ابن عباس:«لو ذبحوا بقرة ما لأجزأتهم، ولكن شددوا فشدد الله عليهم» وبدليل: {وما كادوا يفعلون} دلّ على أنهم كانوا قدرين على الفعل وأن السؤال عن التعيين كان تعنتًا، فلو كانت معينة ما عنفهم.
والحق: أن هذه الأجوبة ضعيفة.
قوله: (بدليل بقرة) هو كما قال ظاهر في أي بقرة كانت لكن أريد خلافه، بدليل تعيينه بسؤالهم، وإلا لزم النسخ قبل التمكن، فإن التعيين إبطال للتخيير / الثابت تعيينها بسؤالهم، وإلا لزم النسخ قبل التمكن، فإن التعيين إبطال للتخيير / الثابت بالنص، وهو إن كان جائزًا عندنا لكن محذوره أشد من محذور تأخير البيان إلى وقت الحاجة، وأما الذم فقد يكون للتواني بعد البيان، وقول ابن عباس لا يكون حجة في مثله.
الثاني: استدل أيضًا بقوله تعالى: {إنكم وما تعبدون من دون الله
حصب جهنم} ، وهو عام أريد به الخصوص وتأخر البيان؛ لأنها لما نزلت، قال عبد الله بن الزبعري:«فقد عبدت الملائكة والمسيح» ، فنزل:{إن الذين سبقت لهم منا الحسنى} .
الجواب: أن «ما» لما لا يعقل، ونزول {إن الذين} زيادة بيان، وإلا فقد ظهر عدم تناوله للملائكة والمسيح، أو مخصوص بدليل العقل، واحتيج إلى زيادة البيان لجهل المعترض.
لا يقال: «ما» تستعمل لما يعقل والمختلط بمن يعقل.
لأنا نقول: لا نزاع في الاستعمال، إنما النزاع في الظهور، وهي ظاهرة فيما لا يعقل وإلا لزم الاشتراك، قال المصنف:«هذا مع كونه خبرًا» .
قال البيضاوي: {إن الذين} خبر مستأنف لا إشعار فيه أنه مخصص.
وقال بعض الشراح: النزاع في التكاليف التي يحتاج إلى معرفتها للعمل بها، ولذلك عقدنا المسألة في تأخير البيان إلى وقت الحاجة، والآية خبر.
وفيه نظر؛ لأن جماعة جوزوا تأخير بيان الأمر دون الخبر، ولا نعرف من عكس.
وقال معظم الشراح: المراد أنه خبر آحاد، فلا يعول عليه في المسألة العلمية، هذا بعد صحته.
واستدل أيضًا: لو كان تأخير البيان عن وقت الخطاب ممتنعًا، لكان امتناعه لذاته أو لغيره، ولو كان أحدهما لعرف بالضرورة أو بالنظر وهما منتفيان، أما الضرورة فبالضرورة، ولأنه لا تسمع دعوى الضرورة في محال الخلاف، وأما بالنظر؛ فلأنه لو امتنع لامتنع لجهل مراد المتكلم من كلامه، لعلمنا أنه لا يحصل بالبيان إلا ارتفاع ذلك، وأنه لا يصلح مانعًا.
الجواب: المعارضة بالمثل، أي لو كان جائزًا لعرف جوازه ضرورة أو نظرًا وكلاهما منتف، أما الضرورة فللخلاف فيه، وأما النظر؛ فلو جاز فلعدم المانع ولا جزم به، غايته عدم الوجدان.
قال: (المانع بيان الظاهر: لو جاز لكان إلى مدة معينة، وهو تحكم ولم يقل به.
أو إلى الأبد، فيلزم المحذور.
وأجيب: إلى معينة عند الله، وهو وقت التكليف.
قالوا: لو جاز لكان مفهمًا؛ لأنه مخاطب فتلزمه.
وظاهره جهالة، والباطن متعذر.
وأجيب: بجريه في النسخ، لظهوره في الدوام.
وبأنه يفهم الظاهر مع تجويزه التخصيص عند الحاجة، فلا جهالة ولا إحالة.
عبد الجبار: تأخر بيان المجمل يخل بفعل العبادة في وقتها؛ للجهل بصفتها بخلاف النسخ.
وأجيب: بأن وقتها وقت بيانها.
قالوا: لو جاز تأخير بيان المجمل لجاز الخطاب بالمهمل ثم يبين مراده.
وأجيب: بأنه يفيد أنه مخاطب بأحد مدلولاته، فيطيع ويعصي بالعزم بخلاف الآخر.
وقال: تأخير بيان التخصيص يوجب / الشك في كل شخص، بخلاف النسخ.
وأجيب: بأن ذلك على البدل، وفي النسخ يوجب الشك في الجميع فكان أجدر).
أقول: احتج المانعون من جواز تأخير بيان الظاهر: بأنه لو جاز التأخير فإنما إلى مدة معينة أو إلى الأبد، وكلاهما باطل.
أما إلى مدة معينة فلأنه تحكم؛ لأن العام نسبته إلى الأزمنة كلها على السواء، ولأنه لم يقل به أحد.
وأما إلى الأبد؛ فلأنه يلزم المحذور، وهو تأخر البيان عن وقت الحاجة المستلزم تكليف ما يطاق.
الجواب: نختار إلى مدة معينة عند الله تعالى، وهو الوقت الذي يعلم أنه مكلف به فيه، ونسبة البيان إلى وقت التكليف أولى، لاحتياج المكلف في هذا الوقت إلى الامتثال بخلاف غيره فلا تحكم، ونحن قائلون به.
قالوا ثانيًا: لو جاز تأخير بيانه، لكان المتكلم بالعام غير مبين قاصدًا به التفهيم، أما الملازمة؛ فلأنه مخاطب والخطاب يستلزم التفهيم، لأن حقيقته توجب الكلام إلى المخاطب لأجل التفهيم، ولذلك لا يصح خطاب الزنجي بالعربي.
وأما بطلان اللازم؛ فلأنه لو قصد التفهيم، فإما لظاهره وهو غير مراد فيكون فهمه جهالة، ولا يصح مقصود الشارع.
وإما لباطنه وهو متعذر، ويلزم القصد إلى ما يمتنع حصوله.
الجواب أولًا: النقض بالنسخ؛ لأنه ظاهر في الدوام مع أنه غير مراد، فيجيء فيه ما ذكرتم بعينه.
وثانيًا: أنه يقصد تفهيم الظاهر مع تجويز التخصيص عند الحاجة، فلا جهالة، إذ لم يعتقد عدم التخصيص وأن الظاهر مراد قطعًا، ولا إحالة، إذ لم يرد منه فهم التخصيص تفصيلًا.
نعم، لو كان مفهمًا لنفس الظاهر من كلامه فقط، أو لنفس ما هو مراده من كلامه، لزمته الجهالة أو الإحالة.
ثم احتج المصنف للمانع في غير النسخ، ولم يتقدم ذكر عبد الجبار، لكنه
يوافق الجبائي، فأفاد هنا مذهبه وأن هذا الدليل من تصرفه، ولذلك لم يقل:«قالوا» .
ولما شاركهم في الدليل الثاني، قال المصنف:«قالوا» ، ولما اختص بالآخر قال:«قال» .
احتج أولًا على منع تأخير بيان المجمل: بأن تأخير بيانه يوجب الجهل بصفة العبادة، والجهل بصفة الشيء يخل بفعله في وقت فامتنع، بخلاف النسخ فإنه لا يخل بذلك فجاز.
الجواب: وقت العبادة وقت بيان صفتها لا قبل ذلك، فلا يخل التأخير بفعلها في وقتها.
قال هو وأصحابه: لو جاز تأخير بيان المجمل، لجاز الخطاب بالمهمل ثم يبّين مراده، أما الملازمة؛ فلأنه عدم الإفهام لا يصلح مانعًا، وإلا لما جاز بالمجمل.
الجواب: الفرق أن المجمل يعلم أن المراد أحد مدلولاته؛ فيطيع ويعصي بالعزم على فعله إذا تبين، بخلاف المهمل، فإنه لا يفهم منه شيء.
احتج عبد الجبار في المقام الثاني، ولهذا أخَّره المصنف، وفصل بين دليله بالدليل المشترك، قال: تأخير بيان الظاهر سوى النسخ، وفرض الكلام في التخصيص؛ فقال: تأخير بيان التخصيص يوجب الشك في كل واحد من أفراد العام، هل هو مراد للمتكلم أم لا، فلا يعلم منه تكليف أحد