الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المراد من كونه بمعناه، إفادته الإيجاب لا على وجه لا يحتمل الصدق والكذب وإلا لخرج من كونه خبرًا، وهذا القدر يحصل المطلوب، لأنا نجوّز نسخ الخبر إذا كان كذلك، ولا حاجة إلى اتحادهما حتى يُمنع.
قال المصنف: (واستدلالهم - يعني المجوزين - بمثل: أنتم مأمورون بكذا ثم ينسخ برفع الخلاف) ، لأن المانعين يجوزنه محتجين بأنه في معنى الأمر، فجاز نسخه كالأمر.
قال:
(مسألة: يجوز نسخ القرآن بالقرآن
كالعدتين، والمتواتر بالمتواتر، والآحاد بالآحاد.
وأما المتواتر بالآحاد، فنفاه الأكثرون، بخلاف تخصيص العام.
لنا: قاطع فلا يقابله مظنون.
قالوا: وقع، فإن أهل قباء سمعوا مناديه عليه السلام:«ألا إن القبلة قد حولت» ، فاستداروا ولم ينكر عليهم.
أجيب: علموه بالقرآن لما ذكرناه.
قالوا: كان يرسل الآحاد لتبليغ الأحكام مبتدأة وناسخة.
أجيب: إلا أن تكون مما ذكرنا، فتعلم بالقرآن لما ذكرنا.
قالوا: {قل لا أجد} ، نسخ بنهيه عن أكل كل ذي ناب من السباغ، فالخبر أرشد.
وأجيب: إما بمنعه، وإما بأن المعنى: لا أجد الآن، وتحريم حلال الأصل ليس نسخًا).
أقول: اتفق القائلون بالنسخ على جواز نسخ القرآن بالقرآن، كآية الاعتداد بالحول، بآية الاعتداد بأربعة أشهر وعشرا، وكذا نسخ الخبر المتواتر بالخبر المتواتر، وكذا نسخ خبر الآحاد بخبر الآحاد، كنهيه عن ادّخار لحوم الأضاحي، ونُسِخَ بقوله:«فكلوا وادخروا» ، ونسخ الآحاد بالمتواتر أجدر.
وأما نسخ المتواتر بالآحاد، فاتفقوا على جوازه عقلًا، واختلفوا في وقوعه. فنفاه الأكثرون، وأثبته بعض الظاهرية، والباجي منا، بخلاف تخصيص المتواتر بالآحاد، جوزه الأكثرون، والفرق بينهما: أن التخصيص فيه بيان وجمع بين الدليلين، والنسخ إبطال.
لنا: أن المتواتر قاطع والآحاد مظنون، والقاطع لا يقابله المظنون.
قيل: يجوز أن يكون المتواتر ظني الدلالة، والآحاد قطعي الدلالة فيتقابلان وينسخه الآحاد المتأخر.
ردّ بأنه حينئذ يتعين أن يكون الآحاد مخصصًا لأن الجمع أولى من النسخ.
قيل: إنما يتعين التخصيص إذا ورد قبل العمل بالعام، وأما بعده فيكون ناسخًا.
قلت: إذا عمل بالعام، فالعام قد ت بين أنه على عمومه ومراد جميع أفراده فهو قطعي المتن، وعلم إرادة جميع أفراده، فصار قطعي الدلالة بما انضم إليه، فلا يرفع حينئذ بما هو مظنون المتن.
احتج الأقلون بوجوه ثلاثة:
قالوا: وقع في الصحيح: «بينما الناس بقباء في صلاة الصبح، إذ جاءهم آتٍ فقال: إن النبي عليه السلام قد أنزل عليه الليلة قرآن، وقد أمر أن يستقبل القبلة فاستقبلوها، وكانت وجوههم إلى الشام، فاستداروا إلى الكعبة» ، وبلغ ذلك النبي عليه السلام ولم ينكر، وكان التوجيه إلى بيت المقدس عندهم مقطوعًا به.
الجواب: نمنع أنهم رجعوا إلى قوله، بل رجعوا إلى الآيات التي تلا عليهم، التي فيها ذكر النسخ.
سلمنا، لكن خبر الواحد قد يفيد القطع [بالقرائن المنضمة إليه - وهذا من ذلك القبيل - لأن منادي الرسول بقربه على رؤوس الأشهاد في مثل هذه الواقعة، مع تجويزهم النسخ وانتظارهم ذلك لوعده تعالى بقوله: {فلنولينك قبلة ترضاها} قرينة دالة على صدقه عادة، ويجب الحمل عليه لما ذكرنا من امتناع ترك القاطع] بالمظنون، فلا يرد قولهم: لو فتح هذا الباب لانسد باب التمسك بخبر الواحد؛ لأنه يمكن تقدير قرائن يكون عمل الصحابة بناء عليها، لا على أخبار الآحاد، لأنا إنما قدرنا ذلك هنا للضرورة لئلا يرفع القطع بالظن.
قالوا ثانيًا: تقطع بأنه عليه السلام كان يبعث الآحاد لتبليغ الأحكام مطلقًا مبتدأة وناسخة، والمبعوث إليهم متعبدون بتلك الأحكام، ولم ينقل / فرق يقتضي منع نسخ المتواتر بالآحاد.
الجواب: أنه مسلم في غير المتواتر بالآحاد، وأما فيه فلا، وإن سلّم فيه فبالقرائن الحالية، لما ذكرنا من أن القاطع لا يقابله المظنون.
قالوا ثالثًا: قوله تعالى: {قل لا أجد فيما أوحي إلي محرمًا} ، نسخ بما في الصحيح:«من نهيه عليه السلام عن أكل كل ذي ناب من السباع» وهو خبر آحاد، وإذا جاز نسخ القرآن به فالخبر المتواتر أجدر.
الجواب أولًا: لا يلزم من الجواز الوقوع الذي هو مدعاكم.
وثانيًا: إما بمنع حكم الخبر، فإنه مختلف في أكل لحوم السباع عند المالكية، وإما بأن المعنى: لا أجد الآن، والتحريم في المستقبل لا ينافيه حتى يلزم منه نسخه به، غايته أن عدم التحريم في المستقبل ثابت بالآية ورفع بالخبر، لكن عدم التحريم معناه بقاء الإباحة الأصلية، فالخبر قد حرم حلال الأصل ولم يرفع حكمًا شرعيًا، ومثله ليس نسخًا اتفاقًا.
قيل: معنى أجيب إما بمنعه بأن يقال: لا نسلم أن الآية منسوخة فإنها لا تدل على إباحة الجميع حتى يكون تحريم كل ذي ناب ناسخًا، بل يدل على عدم وجدان المحرم، وعدم وجدان المحرم بالوحي لا يدل على إباحة الجميع.
وإما بأن المعنى: لا أجد الآن محرمًا، فيكون مؤقتًا، والمؤقت لا يكون منسوخًا، ونهيه عن أكل كل ذي ناب راجع إلى مباح الأصل.
قال: (ويتعين الناسخ بعلم تأخره، وبقوله عليه السلام: هذا ناسخ أو ما في معناه، مثل:«كنت نهيتكم» ، أو الإجماع.
ولا يثبت بتعيين الصحابي إذ قد يكون عن اجتهاد، وفي تعيين أحد المتواترين نظر، ولا يثبت بقبليته في المصحف، ولا بحداثة الصحابي، ولا
بتأخر إسلامه، ولا بموافقة الأصل، وإذا لم يعلم ذلك، فالوجه الوقف لا التخيير).
أقول: مما تدعو الحاجة إليه طريق معرفة الناسخ والمنسوخ، فإذا تعارض نصان من كل وجه فإن علم المتأخر فهو ناسخ، ويعلم التأخر بضبط التاريخ، مثل أن يعلم أن هذه نزلت في الخامسة من الهجرة والأخرى في السادسة.
ومنها: أن يقول عليه السلام: هذا ناسخ إما صريحًا، وإما بذكر ما في معناه، مثل:«كنت نهيتكم عن زيارة القبور، فزوروها» ، ومثل:«كنت نهيتكم عن ادّخار لحوم الأضاحي، فكلوا وادخروا» .
ومنه: الإجماع على أن هذا ناسخ لهذا، فلو قال الصحابي: كان الحكم كذا ثم نسخ، لم يكن طريقًا صحيحًا لمعرفة التأخر، إذ قد يكون ذلك منه اجتهد، ولا يجب اتباع المجتهد له فيه، فلو لم يتعرض للنسخ ولكنه عين أحد الدليلين المتقدمين، فإن كانا متواترين، فقال المصنف:«فيه نظر» من حيث إنه نسخ للمتواتر بالآحاد، أو نسخ بالمتواتر والآحاد؛ لأنه وإن لم يقبل / قوله - ابتداء -: هذا ناسخ، فلا يلزم ألا يقبل فيما أدى إليه، كما يثبت
الإحصان بشاهدين - مع أنه يترتب عليه الرجم - الذي لا يثبت ابتداء إلا بأربعة، وكقبول شهادة النساء في الولادة وإن ترتب عليها النسب، قال أبو الحسين البصري:«وهذا يقتضي الجواز العقلي لا الوقوع» .
قيل: وجه النظر أنه يستلزم ألا يثبت التأخر بقول جميع الأمة، لاستلزامه كون الإجماع ناسخًا.
قلت: جزم المصنف بأنه لا يثبت النسخ بقوله، وتردد هل يثبت التأخر بقوله وإن كان ذلك يستلزم النسخ. وظاهر ما اعتلوا به أنه لو عين تأخر أحد الظنيين أو تأخر القطعي قبل منه، وأما قبليته في المصحف، فلا يستلزم قبليته في النزول.
وكذا حداثة سن الصحابي لا تدل على أن ما رواه متأخرًا، إذ قد يكون ما روه متقدم الإسلام متأخرًا، اللهم إلا أن تنقطع صحبة الأول قبل صحبة الثاني. وكذا تأخر إسلام الراوي أيضًا لا يقتضي تأخر ما رواه.
ولا يثبت التأخر أيضًا بكونه موافقًا للبراءة الأصلية، مستروحًا أنه لو تقدم لم يفد إلا علم بالأصل، فيكون عريًا عن فائدة جديدة، وإذا تأخر أفاد الأول رفع حكم الأصل، والآخر رفع الحكم الشرعي.
وإذ لم يعلم الناسخ معينًا بطريقه، فإن كانا قطعيين وجب الوقف عن العمل، أو التخيير، واختار المصنف الوقف.
والأظهر الوقف إذا كانا قطعيين، وإن كانا ظنيين فالتخيير، ولو كان
بينهما عموم وخصوص من وجه، فهما كما إذا تنافيا من كل وجه.
قال: (مسألة: الجمهور على جواز نسخ السنة بالقرآن، وللشافعي قولان.
لنا: لو امتنع لكان بغيره، والأصل عدمه.
وأيضًا: التوجه إلى بيت المقدس بالسنة ونسخ بالقرآن، والمباشرة بالليل كذلك، وصوم عاشوراء.
وأجيب: بجواز نسخه بالسنة، ووافق القرآن.
وأجيب: بأن ذلك يمنع تعين ناسخ أبدًا.
قالوا: تبيين، والنسخ رفع لا بيان.
قلنا: المعنى لتبلغ، ولو سلّم فالنسخ أيضًا بيان، ولو سلمّ فأين نفي النسخ؟ .
قالوا: منفر.
قلنا: إذا علم أنه مبلغ فلا نفرة).
أقول: يجوز نسخ السنة بالقرآن، وعن الشافعي أنه غير جائز.
لنا: لو امتنع لكان امتناعه لغيره؛ لأنه بالنظر إلى ذاته لو فرض لم يلزم منه محال، وأما انتفاء اللازم؛ فلأن الأصل عدم غيره.
وأيضًا: لو لم يجز لم يقع، وقد وقع، فإن التوجه إلى بيت المقدس بالسنة إذ ليس في الآية ما يدل عليه، ونسخ القرآن.
وأيضًا: حرمة المباشرة بعد الفطر ثبت بالسنة ونسخ بالقرآن.
ووجوب صوم عاشوراء بالسنة ونسخ القرآن.
واعترض: بأنا لا نسلم أن النسخ فيما ذكرتم من الصوم بالقرآن، ولم لا يجوز أن يكون بالسنة، ونزل الكتاب على وفقها، أو ثبت أولًا بقرآن ثم نسخت تلاوته وحكمه، أو بقوله تعالى:{فأينما تولوا فثم وجه الله} / أو أنه بيان لأقيموا الصلاة المجمل وفسّر بأمور، منها التوجه إلى بيت المقدس فيكون داخلًا في الأمر.
الجواب عن الأولين: أن ذلك لو صح لمنع تعيين ناسخ أبدًا، لتطرق ذلك الاحتمال إليه، وهو خلاف الإجماع.
قلت: ولا يلزم ذلك فيما علم بقوله عليه السلام هذا ناسخ، ولا فيما علم بالإجماع، نعم ينفى بالأصل إذ الأصل عدمه.
وعن الثالث: أن الآية لا تقتضي بيت المقدس عينًا، الذي هو الواجب المنسوخ.
وعن الرابع: أنا لا نسلم أن الداخل في البيان كالملفوظ به في جميع أحكامه، حتى ينسخ دون المبين.
قالوا: قال تعالى: {لتبين للناس ما نزل إليهم} ، يدل على أن الرسول مبين للقرآن بالسنة، فلو نسخت به لم يكن بيانًا له، لأن النسخ رفع المنسوخ بالناسخ وليس بيانًا للناسخ بالمنسوخ، والمرفوع لا يكون بيانًا لرافعه.
الجواب: أن المعني بالبيان في الآية تبليغه إليهم لأنه أظهر، تفاديًا عن الإجمال والتخصيص؛ لأن الإبلاغ عام فيه، بخلاف البيان لاختصاصه ببعضه كالعام والمجمل والمطلق والمنسوخ.
سلمنا أن المراد تبيين المجمل والعام والمطلق والمنسوخ، ولا نسلم أن النسخ ليس ببيان، بل هو مع كونه رافعًا للسنة بيان لها، ولا يمنع كونها مبينة له أن تكون مرفوعة به، فإن القرآن بيان لقوله تعالى:{تبيانًا لكل شيء} ، مع أنه ينسخ بالقرآن، مع أن الآية إنما دلت على أنه المبيّن، فيبين تارة بالكتاب، وتارة بالسنة، فيرجع قوله:(النسخ أيضًا بيان) إلى المعارضة؛ لأن معنى «أيضًا» في قوله: فالنسخ أيضًا بيان، أنه لا تختص السنة بذلك، فلو صح ما ذكرتم لزم ألا ينسخ بعض القرآن بعضًا.
سلمنا أنه ليس ببيان، فمن أين ثبت نفي نسخ السنة بالقرآن؟ والآية لا تدل على أن كل سنة بيان للقرآن، غايته أنها تدل على أن القرآن لا ينسخ من السنة ما كان منها بيانًا له، فالسنة مبينة لغير ما هو ناسخ لها، والناسخ لها مبين لها.