الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ورده الغزالي وقال: اللام لا تتعين للتمليك، والواو لا تتعين للتشريك، قال: لأن سياق الآية يدل على ذلك، كأنه قال: ليس لهؤلاء تُصرف الصدقة، وإنما تُصرف لهؤلاء، فاللفظ ليس بظاهر فيما ادعوه حتى يمتنع صرف اللفظ إلى ما ذكر، بل هذه الجهة يعينها السياق.
قال المصنف: سياق الآية، وهو الرد على لمزهم ورضاهم عن المعطين إذا أعطوهم وسخطهم عليهم إذا منعوهم، اقتضى بيان المصرف، لئلا يتوهم في المعطين أنهم مختارون في الإعطاء والمنع.
قال:
(المفهوم والمنطوق:
ما دلّ عليه اللفظ في محل النطق، والمفهوم بخلافه، أي لا في محل النطق.
والأول صريح، وهو ما وضع اللفظ له.
وغير الصريح بخلافه، وهو ما يلزم عنه، فإن قصد وتوقف الصدق أو الصحة العقلية أو الشرعية بدلالة اقتضاء، مثل:«رفع عن أمتي الخطأ والنسيان» ، و {اسأل القرية} ، و «أعتق عبدك عني على ألف» ، لاستدعائه تقدم الملك، لتوقف العتق عليه.
وإن لم يتوقف واقترن بحكم لو لم يكن لتعليله لكان بعيدًا، فتنبيه وإيماء كما سيأتي.
وإن لي يقصد، فدلالة إشارة، مثل: «النساء ناقصات عقل ودين،
قال: وما نقصان دينهنّ؟ قال: تمكث إحداهنّ شطر دهرها لا تصلي».
فليس المقصود بيان أكثر الحيض وأقل الطهر، ولكنه لزم من أن المبالغة تقتضي ذكر ذلك.
وكذلك: {أحل لكم ليلة الصيام الرفث} ، يلزم منه جواز الإصباح جُنُبًا، ومثله:{فالآن باشروهن} إلى {حتى يتبين لكم} ).
أقول: لما فرغ مما دلّ بمنطوقه، شرع الآن فيما دلّ لا بمنطوقه.
قال الآمدي: اللفظ إذا اعتبر بحسب دلالته، فقد تكون دلالته بصريح صيغته ووضعه وهو المنطوق، وقد تكون دلالته لا بصريح صيغته ووضعه وهو غير المنطوق.
وهو أربعة أقسام: لأنه إما أن يكون مدلوله مقصودًا أو لا، والثاني / دلالة الإشارة، والأول إما أن يتوقف الصدق أو الصحة عليه أو لا، والأول دلالة الاقتضاء، والثاني إما أن يكون مفهومًا في محل تناوله اللفظ نطقًا أو لا، والأول دلالة التنبيه والإيماء، والثاني دلالة المفهوم.
وعرّف المصنف هنا المنطوق وإن كان إنما صدّر بالمفهوم، للعلة التي ذكر الآمدي من أن المفهوم مقابل للمنطوق والمنطوق أصل للمفهوم، فلابد من تعريف المنطوق أولًا.
وعرّفه المصنف بأنه: ما دلّ عليه اللفظ في محل النطق، وأراد بمحل النطق مورد الكلام، أعني ما أُورد الكلام لأجله، كما تقول: محل كلامك
كذا، وعلى هذا ففي تناوله لدلالة الإشارة نظر.
قال الآمدي: قال بعضهم: المنطوق ما فهم من اللفظ في محل النطق، وليس بصحيح، فإن الأحكام المضمرة في دلالة الاقتضاء مفهومة من اللفظ في محل النطق، ولا يقال لشيء من ذلك منطوق اللفظ.
فالواجب أن يقال: المنطوق ما فهم من دلالة اللفظ نطقًا في محل النطق، كوجوب الزكاة المفهوم من قوله:«في الغنم السائمة الزكاة» ، وتحريم التأفيف من قوله تعالى:{فلا تقل لهما أف} .
فغير الصريح - عند المصنف - من المنطوق، وليس منه عند الآمدي.
ثم قال: (المفهوم بخلافه) أي ما دلّ عليه اللفظ في غير محل النطق، خلافًا لقوله أول الكتاب:(وغير اللفظية التزام).
قال الآمدي: والمنطوق وإن كان مفهومًا من اللفظ، غير أنه لما كان مفهومًا من دلالة اللفظ نطقًا، خُصّ باسم المنطوق، وبقي ما ورآءه معرفًا بالمعنى العام المشترك، تمييزًا بين الأمرين.
ثم المنطوق ينقسم إلى: صريح، وغير صريح.
فالصريح ما وضع له اللفظ، فيدل عليه بالمطابقة أو بالتضمن.
وغير الصريح بخلافه، وهو دلالة اللفظ على ما يلزم عن ما وضع له - يعني في محل النطق - ليتميز عن المفهوم فإنه أيضًا دلالة اللفظ على ما يلزم عما وضع له ولكن [لا] في محل النطق، والدلالة فيهما معًا التزام.
قيل: لا حاجة إليه لأن «ما» في قوله: «ما يلزم» كناية عن المنطوق.
ولا يصح؛ لأن المنطوق غير الصريح مأخوذ في المحدود لا في الحدّ، نعم تركه لظهوره.
ثم غير الصريح، وهو عند الإمام فخر الدين من قبيل المفهوم، ينقسم إلى ثلاثة أقسام، لأنه إما أن يكون مقصودًا للمتكلم أو لا، والأول بحكم الاستقراء قسمان:
أحدهما: أن يتوقف الصدق أو صحة الملفوظ العقلية أو الشرعية عليه، ويُسمَّى دلالة الاقتضاء، أما توقف الصدق نحو:«رفع عن أمتي الخطأ والنسيان» ، لو لم يقدر المؤاخذة ونحوها كان كذبًا، لأنهما لم يرفعا.
وأما الصحة العقلية فنحو: {واسأل القرية} ، إذ لو لم يُقدّر لم يصح عقلًا، لأن سؤال القرية لا يصح عقلًا.
وأما الصحة الشرعية فنحو قول السائل: «أعتق عبدك عني على ألف» ، لأنه يستدعي تقدير الملك، أي مملكًا على ألف، لأن العتق بدون الملك لا يصح شرعًا.
وثانيهما: أن يقترن المقصود اللازم عما وضع اللفظ له بحكم، لو لم يكن اللازم لتعليل الحكم كان الإتيان بالحكم مقترنًا به بعيدًا من الشارع، فيهم منه التعليل وإن لم يصرح به، ويُسمَّى تنبيهًا وإيماءً، كقول الأعرابي:«واقعت أهلي في نهار رمضان، فقال عليه السلام: «أعتق رقبة» ، فإن السؤال مقدر في الجواب، وسيأتي بأقسامه.
وظاهر كلامه عدم انحصار غير الصريح في الثلاثة؛ لأن الذي لا يتوقف عليه لا يقترن بحكم كذلك، وهو مقصود يخرج عن التنبيه ولا يدخل تحت شيء من الأقسام الثلاثة، وعند الآمدي وفي المنتهى: أن المفهوم من المقصود ولم يتعرض له هنا.
أما لو لم يكن مقصودًا للمتكلم، فهو المسمى بدلالة الإشارة، وضرب له أمثلة منها: قوله عليه السلام في النساء: «ناقصات عقل ودين» ، فقيل: يا رسول الله! فما نقصان دينهن؟ فقال: «تمكث إحداهن شطر دهرها لا تصلي» دلّ على أن أكثر الحيض خمسة عشر يومًا، وبيان ذلك غير
مقصود، ولكن لزم من حيث إنه قصد به المبالغة في نقصان دينهن، والمبالغة تقتضي ذكر أكثر ما يتعلق به الغرض، فلو كان زمان ترك الصلاة - أي وقت الحيض - أكثر من ذلك لذكره.
والحديث لم يرد بهذا اللفظ، ولفظه عند مسلم:«تمكث الليالي ما تصلي» ، فلا يكون مثالًا لدلالة الإشارة.
ومنها قوله تعالى: {وحمله وفصاله ثلاثون شهرًا} ، مع قوله:{وفصاله في عامين} ، يعلم منهما أن أقل مدة الحمل ستة أشهر، وليس بيان ذلك بمقصود في شيء من الآيتين، إذ المقصود في الأولى بيان حق الوالدة وما تعانيه من المشقة في الحمل والفصال، وفي الثانية بيان مدة أكثر الفصال، ولكن لزم منه ذلك.
ومنها: قوله تعالى: {أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم} يلزم منه جواز الإصباح جُنُبًا، وهو غير مقصود الآية، ولكن لزم منه استغراق الليل بالرفث، ومثله:{فالآن باشروهن} إلى {حتى يتبين لكم} ، يلزم منه جواز الإصباح جُنُبًا قطعًا.
قال: [ثم المفهوم: مفهوم موافقة، ومخالفة.
فالأول: أن يكون المسكوت موافقًا في الحكم، ويسمى فحوى الخطاب، ولحن الخطاب، كتحريم الضرب من قوله تعالى:{فلا تقل لهما أف} ، وكالجزاء بما فوق المثال من قوله:{فمن يعمل مثقال ذرة} ، وكتأدية ما دون القنطار من {يؤده إليك} ، وعدم الأجر من {لا يؤده إليك} .
وهو تنبيه بالأدنى، فلذلك كان في غيره أولى.
ويعرف بمعرفة المعنى، وأنه أشد مناسبة في المسكوت.
ومن ثمة قال قوم: هو قياس جلي.
لنا: القطع بذلك لغة قبل شرع القياس.
وأيضًا: فأصل هذا قد يندرج في الفرع، مثل:«لا تعطيه ذرة» فإنها مندرجة في الذرتين.
قالوا: لولا المعنى لما حكم.
وأجيب: بأنه شرطه لغة.
ومن ثَمّ قال به النافي للقياس].
أقول: ينقسم المفهوم إلى: مفهوم موافقة، ومفهوم مخالفة؛ لأن حكم غير المذكور إما موافق لحكم المذكور نفيًا وإثباتًا أو لا.
والأول: مفهوم الموافقة، وهو أن يكون المسكوت عنه وهو الذي سماه
غير محل النطق، موافقًا في الحكم المذكور وهو ما سماه محل النطق، وهذا يسمى: فحوى الخطاب ولحن الخطاب، أما تسميته بالأول فلأن فحوى الكلام ما يفهم منه على طريق الجزم وهذا كذلك، وأما الثاني فلأن لحن الخطاب عبارة عن معنى الخطاب.
ولما كان هذا النوع من المفهوم مما سبق فهمه إلى الذهن، سمي بهذا الاسم إشعارًا بأنه كان معناه، كقوله تعالى:{فلا تقل لهما أف} ، عُلم من حال التأفيف وهو محل النطق، [حال الضرب وهو غير محل النطق] ، مع الاتفاق وهو إثبات الحرمة فيهما.
ومنها: قوله تعالى: {فمن يعمل مثقال ذرة خيرًا يره، ومن يعمل مثقال ذرة شرًا يره} ، المذكور مثقال ذرة، والمسكوت ما فوقه، والحكم متحد وهو الجزاء بهما، و {يره} كناية عن الجزاء.
ومنها: قوله تعالى: {ومن أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار يؤده إليك} ، يعلم منه تأدية ما دون القنطار، وقوله:{ومنهم من إن تأمنه بدينار لا يؤده إليك} ، يعلم منه عدم تأدية ما فوق الدينار.
ومفهوم الموافقة تنبيه بالأدنى على الأعلى، فلذلك كان الحكم في غير المذكور أولى منه في المذكور، فالجزاء بأكثر من المثقال أشد مناسبة منه
بالمثقال، وتأدية الدينار أشدّ مناسبة من تأدية القنطار، وعدم تأدية القنطار أنسب من عدم تأدية الدينار.
ولا يعرف كون الحكم في غير المذكور أشد مناسبة منه في الحكم المذكور إلا بعد معرفة المعنى المناسب المقصود من الحكم، كالإكرام في منع التأفيف، وعدم تضييع الإحسان والإساءة في الجزاء، والأمانة في أداء القنطار، وعدمها في عدم أداء الدينار.
قال: (وهو تنبيه بالأدنى) وهو الأقل مناسبة، على الأعلى وهو الأكثر مناسبة.
وفي المنتهى: «وهو تنبيه بالأدنى على الأعلى، وبالأعلى على الأدنى» فالأولان والرابع تنبيه بالأدنى، وفي الثالث تنبيه بالأعلى.
ومن أجل توقف معرفة الحكم في المسكوت على معرفة المعنى في محل النطق، وكونه أشدّ مناسبة للحكم المسكوت، قال قوم: هو قياس جلي.
لنا: القطع بإفادة هذه الصيغ لهذه المعاني لغة قبل شرع القياس.
وقد يقال: القياس كان ثابتًا قبل الشرع، وكانوا يسمونه تمثيلًا، فما ثبت بالفحوى وإنما ثبت بقياس، لا فارق.
احتج أيضًا: بأن الأصل في القياس لا يكون مندرجًا في الفرع إجماعًا،
وهنا قد يكون مندرجًا، مثل:«لا تعطه ذرة» يدل على عدم إعطاء الأكثر، والذرة داخلة في الأكثر.
قالوا: لو قطع النظر عن المعنى المشترك المناسب الموجب للحكم وعن كونه آكد في الفرع، لما حكم به، ولا معنى للقياس إلا ذلك.
الجواب: أن ذلك شرط لتناوله لغة، فلا يدل اللفظ / على ذلك إلا إذا اتصف بالشرائط المذكورة، فحينئذ يكون المعنى مدلولًا عليه بالفحوى، والقياس الدلالة فيه على الفرع من حيث المعقول لا من اللفظ وفحوه، فليس المثبت للحكم هو الوصف حتى يكون قياسًا، ولكونه ليس بقياس قال به من لا يقول بالقياس.
وقد يقال: القائل به لم ينكر القياس الجلي، ثم مفهوم الموافقة قد يكون قطعيًا وهو ما لا يتطرق إليه إنكار كالأمثلة المذكورة، لكون المعنى أشد مناسبة في المسكوت قطعًا، وقد يكون ظنيًا كقول الشافعية: قتل الخطأ يوجب الكفارة فالعمد أولى، وإذا كان اليمين غير الغموس يوجب الكفارة فالغموس أولى، وهو ظني لجواز ألا يكون المعنى ثم الزجر الذي هو أشد مناسبة، بل التدارك والتلاقي، فلا يلزم من رفع الكفارة لأدنى الجنايتين رفعهما لأعلاهما.
قلت: والحق أن من أثبت ذلك فبالقياس لا بالفحوى؛ لأنه سبق أن الفحوى ما يفهم من اللفظ على سبيل القطع، وحيث لا قطع فلا فحوى.
وأيضًا استدل المصنف على أن الفحوى ليس بقياس: فإنا نقطع بذلك لغة قبل شرع القياس، فلا ينهض فيما لا قطع فيه أنه ليس قياس.
ففي كلام المصنف وحكمه أنه يكون ظنيًا نظر.
قال: (مفهوم المخالفة: أن يكون المسكوت مخالفًا، ويُسمى دليل الخطاب، وهو أقسام:
مفهوم الصفة.
ومفهوم الشرط، مثل:{وإن كن} .
ومفهوم الغاية، {حتى تنكح} .
والعدد الخاص، مثل:{ثمانين جلدة} .
وشرطه ألا تظهر أولوية ولا مساواة في المسكوت فيكون موافقة، وإلا خرج مخرج الغالب، مثل:{اللاتي في حجوركم} ، {فإن خفتم} ، «أيما امرأة نكحت» ، ولا لسؤال أو حادثة، ولا تقدير جهالة أو خوف، أو غير ذلك مما يقتضي تخصيصه بالذكر).
أقول: لما فرغ من مفهوم الموافقة، شرع في مفهوم المخالفة وهو: ما كان المسكوت عنه مخالفًا للمذكور في الحكم إثباتًا ونفيًا، ويُسمّى دليل الخطاب، وهو أقسام، وذكر المصنف أقواها.
الأول مفهوم الصفة: مثل «في الغنم السائمة زكاة» ، يفهم منه أنه
لا زكاة في المعلوفة.
الثاني مفهوم الشرط: مثل {وإن كن أولات حمل فأنفقوةا عليهن} ، مفهومه لا تجب النفقة على غير الحامل.
الثالث مفهوم الغاية: مثل {فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجًا غيره} ، مفهومه أنها إذا نكحت زوجًا غيره حلّت.
الرابع مفهوم العدد الخاص: مثل {فاجلدوهم ثمانين جلدة} ، يفهم منه أن الزائد غير واجب.
وشرط مفهوم المخالفة بأقسامه، ألا تظهر أولوية المسكوت / عنه، أو [مساواته] فيه، وإلا استلزم ثبوت الحكم في المسكوت عنه كذلك، وكان موافقة لا مخالفة، ويعني موافقة في الحكم.
ففي الأول يكون مفهوم موافقة، وفي الثاني يكون موافقة في الحكم بطريق القياس، وإنما قلنا ذلك لأن مفهوم الموافقة - كما سبق - تنبيه بالأدنى وأنه في غيره أولى، وأنه أشد مناسبة في المسكوت، فلا يكون المساوي مفهوم موافقة.
وشرط مفهوم المخالفة أيضًا: ألا يكون خرج مخرج الغالب المعتاد، مثل {وربائبكم اللاتي في حجوركم} ، فإن الغالب كون الربائب في
الحجور، فقيد به لذلك، لا لأن حكم اللاتي في غير الحجور بخلافه.
ومثل قوله تعالى: {فإن خفتم ألا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به} ، لأن الخلع غالبًا إنما يكون عند الخوف من عدم قيام كل واحد من الزوجين بما أمره الله به، فلا يفهم منه أن عدم الخوف لا يجوز الخلع.
ومثله قوله عليه السلام: «أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها» ، فإن الغالب أن المرأة إنما تباشر نكاح نفسها عند عضل الولي، فلا يفهم منه أنها إذا نكحت نفسها بإذن وليها لم يكن باطلًا.
ويشترط أيضًا: ألا يكون لسؤال سائل عن المذكور، كما لو سأل: هل في الغنم السائمة زكاة؟ فقال عليه السلام: «في الغنم السائمة زكاة» .
وألا يكون هناك تقدير جهالة بحكم المسكوت عنه، وإلا فقد يكون ترك التعرض له لعدم العلم بحاله.
وألا يكون لحادثة، كما لو قيل بحضرته: لفلان غنم سائمة، فقال عليه السلام:«في الغنم السائمة زكاة» .
وألا يكون خوف يمنع من ذكر حال المسكوت عنه، أو غير ذلك مما يقتضي تخصيصه بالذكر، لأن الباعث على التخصيص ثابت، فانتفاء العموم لانتفاء شرطه.
وقيل: المراد في تقدير جهالة أو خوف راجع إلى المخاطب، بألا يعلم وجوب الزكاة مثلًا في السائمة، ويكون عالمًا بوجوبها في المعلوفة، فيقول عليه السلام:«في الغنم السائمة زكاة» ، وكذلك إذا كان المقيد بالوصف يخاف منه، فذكر له ذلك الموصوف ونفى عنه الخوف بسببه، فلا يدل على أن ما عداه ليس كذلك.
قال: (فأما مفهوم الصفة، فقال به الشافعي، وأحمد، والإمام، وكثير. ونفاه أبو حنيفة، والقاضي، والغزالي، والمعتزلة.
البصري: إن كان لبيان كالسائمة، أو لتعليم كالتحالف، أو كان ما عدا الصفة داخلًا تحتها كالحكم بالشاهدين، وإلا فلا).
أقول: أما مفهوم الصفة، فقال به مالك، والشافعي، وأحمد، والأشعري.
ونفاه أبو حنيفة، والقاضي منا، وابن سريج / وإمام الحرمين على ما حكاه الإمام فخر الدين، ونفاه الغزالي، والمعتزلة.
والمصنف حكى عن الإمام أمنه يقول به، فإن أراد بالإمام فخر الدين صح النقلان، على أنه إذا أطلق الإمام لا يريد إلا إمام الحرمين.
والأظهر ما حكاه المصنف، وهو ظاهر البرهان، وقد أورد له دليلًا حيث قال الإمام:«لو لم يفد الحصر» .
وفصل أبو عبد الله البصري فقال: إن كان للبيان كقوله تعالى: {وآتوا الزكاة} ثم يقول عليه السلام بيانًا له: «في الغنم السائمة زكاة» . أو كان للتعليم وتمهيد القاعدة، كخبر التحالف وهو قوله عليه السلام:«إذا اختلف المتبايعان والسلعة قائمة تحالفا وترادا» ، فإنه بمعنى: إذا اختلف متبايعا سلعة قائمة تحالفا.
أو يكون ما عدا الصفة داخلًا تحتها كالحكم بالشاهدين، فإنه يدل على
نفيه عن الشاهد الواحد لدخوله في الشاهدين، ولا يدل على النفي فيما عدا هذه الصور الثلاثة.
قال: (المثبتون: قال أبو عبيد في «لي الواجد يحل عقوبته وعرضه» : يدل على أن ليّ من ليس بواجد لا يحل عقوبته وعرضه.
وفي «مطل الغني ظلم» ، مثله.
وقيل له في قوله «لأن يمتلئ جوف أحدكم نارًا خير له من أن يمتلئ شعرًا» : المراد الهجاء، أو هجاء الرسول عليه السلام؟ .
فقال: لو كان كذلك لم يكن لذكر الامتلاء معنى؛ لأن قليله كذلك فالتزم من تقديره الصفة المفهوم.
وقال الشافعي: هما عالمان بلغة العرب، فالظاهر فهمهما ذلك لغة.
قالوا: بنيا على اجتهادهما.
أجيب: بأن اللغة تثبت بقول الأئمة من أهل اللغة، ولا يقدح فيها التجويز.
وعورض: بمذهب الأخفش.
وأجيب: بأنه لم يثبت كذلك، ولم سلّم فمن ذكرناه أرجح، ولو سلّم فالمثبت أولى.
وأيضًا: لو لم يدل على المخالفة، لم يكن لتخصيص محل النطق بالذكر فائدة، وتخصيص آحاد البلغاء بغير فائدة ممتنع، فالشارع أجدر.
اعترض: لا يثبت الوضع بما فيه من الفائدة.
أجيب: بأنه يعلم بالاستقراء، إذ لم يكن للفظ فائدة سوى واحدة
تعينت.
وأيضًا: تثبت دلالة التنبيه بالاستبعاد اتفاقًا، فهو أولى.
واعترض: بمفهوم اللقب.
وأجيب: بأنه لو سقط لاختل الكلام، فلا مقتضى للمفهوم فيه.
واعترض: بأن فائدته تقوية الدلالة حتى لا يتوهم تخصيصه.
وأجيب: بأن ذلك فرع العموم، ولا قائل به، وإن سلّم في بعضها خرج، فإن الفرض أنه لا شيء يقتضي تخصيصه سوى المخالفة.
واعترض: بأن فائدته ثواب الاجتهاد بالقياس / فيه.
وأجيب: بتقدير المساواة يخرج، وإلا اندرج فيه).
أقول: احتج المثبت: بأن أهل اللغة فهموا ذلك؛ لأن أبا عبيد لما سمع قوله عليه السلام: «ليّ الواجد يحل عقوبته وعرضه» قال: «هذا يدل على أن ليّ غير الواجد لا يحل عقوبته وعرضه، والليّ: المطل، والواجد: الغني، والعقوبة: الحبس، وحلّ العرض: أن يقول له ظلمتني» .
وقال وكيع: «عرضه شكايته» ، وهذا الحديث خرّجه أبو داود، وفي البخاري في باب لصاحب الحق مقال، قال: يذكر عن النبي صلى الله عليه وسلم «ليّ الواجد يحل عقوبته وعرضه» ، وفي الصحيحين:«مطل الغني ظلم» ، قال أبو عبيد أيضًا:«يدل على أن مطل غير الغني ليس بظلم» .
وقيل في قوله عليه السلام «لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحًا خير له من أن يمتلئ شعرًا» : المراد بالشعر الهجاء مطلقًا، أو هجاء الرسول عليه السلام فسمع ذلك أبو عبيد فقال:«لو كان كذلك لم يكن لذكر الامتلاء معنى؛ لأن قليله وكثيره سواء فيه» ، فجعل الامتلاء من الهجو في قوة الهجو الكثير يوجب ذلك، ففهم منه أن غير الكثير ليس كذلك، فاحتج به، فقد ألزم من تقدير الصفة المفهوم، فكيف من التصريح بها؟ والحديث في الصحيح، وهذا كله حكاه الإمام في البرهان عن أبي عبيدة معمر بن المثنى،
وقال: هو إمام غير مدافع، وإذا ساغ الاحتجاج بقول أعرابي جلف، فالاحتجاج بقول أبي عبيدة أولى.
والآمدي نقل ذلك عن أبي عبيد القاسم بن سلام.
وذكر السهيلي في الروض الأنف: أن عائشة أم المؤمنين تأولت قوله عليه السلام: «لأن يمتلئ جوف أحدكم» ، على الأشعار التي هجي بها عليه السلام، وأنكرت حمله على العموم.
قال: وأنكر أبو عبيد هذا التأويل، وقال: رواية نصف بيت من ذلك حرام، قال السهيلي: وعائشة أعلم بإن البيت والبيتين من تلك الأِشعار على طريق الحكاية بمنزلة الكلام المنثور الذي ذموا فيه رسول الله، بخلاف تتبعها والخوض فيها، قال: ذكر ذلك عن عائشة ابن وهب في جامعه.
فالسهيلي وافق الآمدي.
وقال الشافعي بمفهوم الصفة، وهو وأبو عبيد عالمان بلغة العرب، فالظاهر فهمهما ذلك لغة، ولو لم يفده لغة لما فهماه منه، فظهر إفادته لغة وهو المطلوب.
اعترض: بأنا لا نسلم أنهما فهما النفي عن غيره من اللفظ لغة، لجواز أن يكون عن نظر واستنباط؛ لأن العالم قد يحكم على اللسان عن نظر
واستنباط، وهو في مسلكه - في محل النزاع - مطالب بالدليل، بخلاف الأعرابي منطقه طبعه فيتمسك به، وهذا ذكره الإمام في البرهان تضعيفًا لهذا المسلك.
الجواب: أن أكثر اللغة إنما يثبت بقول الأئمة: معنى كذا كذا، وهذا التجويز قائم فيه، مع أنه لا يقدح / في إفادته الظن، ولو كان قادحًا لم يثبت مفهوم لأكثر الموضوعات.
قيل: هذا الجواب مع كونه على [المسند] ضعيف؛ لأن اللغة إنما تثبت بما نقلا، وليس في كلامهما ما يدل على أنهما نقلا.
قلت: الظاهر أن ذلك عن نقل، والمستند إذا انحصر فيما جعل مستندًا كان ملزومًا مساويًا للمنع، فإذا اندفع اندفع اللازم، وهو هنا كذلك.
وعورض هذا الدليل أيضًا: بمذهب الأخفش، فإنه نفاه مع كونه من علماء العربية، فدل على أنه غير مفهوم من اللغة.
الجواب: أنه لم يثبت ذلك عن الأخفش، كما تكرر وشاع نفي ذلك عن الآخرين، وسلّم، فمن ذكرناه أرجح، لأنهما اثنان وهو واحد، وهما - أيضًا - أعلم، ولو سلّم، فهما مثبتان وهو نافي والمثبت مقدم؛ لأن
النافي إنما ينفي لعدم الوجدان، ولا يدل على عدم الوجود إلا ظنًا، والمثبت يثبت الوجدان وهو يدل على الوجود قطعًا.
ولنا أيضًا: لو لم يدل على أن المراد مخالفة المسكوت للمذكور في الحكم، لم يمكن لتخصيص المذكور بالذكر فائدة؛ لأن الفرض ألا فائدة سواه، واللازم باطل، إذ لا يستقيم تخصيص آحاد البلغاء لغير فائدة، فالشارع أجدر.
واعترض هذا الدليل: [بأنه] إثبات لوضع التخصيص لنفي الحكم عن المسكوت عنه بما فيه من الفائدة، ولا يثبت الوضع بغير النقل.
الجواب: أنه إثبات للوضع بالاستقراء؛ لأنا استقرينا كلام العرب فوجدنا كل ما ظن ألا فائدة للفظ سوى واحدة تعينت لأن تكون مرادة للواضع لأنه حكيم، وهو كذلك، فاندرج في القاعدة الكلية الاستقرائية فكان إثباتًا بالاستقراء لا بالفائدة، وأنه يفيد الظهور فيه فيكتفى به.
سلمنا أنه إثبات للوضع بما فيه من الفائدة، ولا نسلم بطلانه؛ لأنا جميعًا أثبتنا دلالة الإيماء حذرًا من لزوم البعد، فلأن يثبت المفهوم حذرًا من عدم الفائدة أولى.
اعترضوا ثانيًا على المذكور بنقض إجمالي تقريره: لو صح ما ذكرتم وهو أنه لو لم يدل على نفي الحكم عن المسكوت لم يكن مفيدًا، لزم أن يعتبر مفهوم اللقب بعين ما ذكرتم، ولا يعتبر بما سلمتم.
الجواب: أن اللقب لو أسقط لاختل الكلام، فذكر لعدم الاختلال وهو
أعظم فائدة، فلم يصدق: لو لم يثبت المفهوم لم يكن ذكره مفيدًا، وهو المقتضى لإثبات المفهوم، فتنتفي دلالته على المفهوم لانتفاء تعين الفائدة.
ويلزم على هذا الجواب لو ذكرت الصفة دون الموصوف، كما لو قال:«في السائمة زكاة» ألا يدل على النفي عن المعلوفة، لكن خلفه أمر آخر وهو أن الوصف مشعر بالعلية، بخلاف اللقب.
اعترضوا ثالثًا على الدليل المذكور: بمنع الملازمة، وهو أنا لا نسلم أنه لو لم يدل تخصيص محل النطق بالذكر على المخالفة، لم يكن لذكر الوصف فائدة، ومن فوائده تقوية الدلالة على محل الوصف، حتى لا يتوهم خروج السائمة بالتخصيص، فإنه لو قال:«في الغنم زكاة» ، جاز أن يكون المراد المعلوفة فقط تخصيصًا، فلما ذكر السائمة زال الوهم.
الجواب وإن كان على المستند أن نقول: دفع التوهم يستلزم أن لفظ الغنم باق على عمومه حالة التقييد بالصفة، فيكون معناه: في الغنم سيما السائمة زكاة، لأنه إذا كان لفظ السائمة لتقوية دلالة لفظ الغنم على السائمة حتى لا تخرج بالتخصيص، فلفظ الغنم باق على عمومه، إلا أن دلالته على بعض الأفراد وهي الموصوفة أقوى، وذلك مما لم يقل به أحد، لأن المسكوت إما مخالف أو غير متعرض له.
ولو سلّم تناوله للمسكوت في بعض الصور، قال الآمدي: كما لو قال: «ضحوا بشاة» ، فإنه يتوهم أنه لا تجزئ العوراء، فلو قال بعد ذلك:«ضحوا بشاة عوراء» ، فإنه على التضحية بغير العوراء بطريق الأولى، لكن
يخرج عن محل النزاع؛ لأن النزاع فيما ليس فيه ما يقتضي التخصيص سوى مخالفة المسكوت عنه للمذكور، [وليس في] دفع توهم التخصيص فائدة سواها.
وأيضًا: من شرطه ألا يظهر أولوية ولا مساواة، على أن هذا المثال الذي اعتمدوا عليه عندنا مما خرج مخرج الغالب.
اعترضوا رابعًا: بمنع الملازمة أيضًا، أي لا نسلم أنه لو لم يدل على التخصيص لم يكن له فائدة، بل له فائدة وهو ثواب الاجتهاد بالقياس، وهو إلحاق المسكوت بالمذكور بمعنى جامع، وهي فائدة، فلا تتعين فائدة التخصيص.
الجواب: أنه بتقدير المساواة في المعنى المقتضي للحكم يخرج عن محل النزاع، إذ شرطنا ألا تظهر أولوية ولا مساواة، وإن لم تكن مساواة اندرج فيما لا فائدة فيه سوى التخصيص، لاستحالة القياس حينئذٍ.
قال: (واستدل: لو لم يكن للحصر لزم الاشتراك إذ لا واسطة، وليس للاشتراك باتفاق.
وأجيب: إن عنى السائمة فليس محل نزاع، وإن عنى إيجاب الزكاة فيها، فلا دلالة على واحد منهما.
الإمام: لو لم يفد الحصر لم يفد الاختصاص بما دون غيره لأنه معناه.
والثانية معلومة وهو مثل ما تقدم، فإنه إن عنى لفظة السائمة فليس محل النزاع، وإن عنى الحكم المتعلق بها، فلا دلالة له على الحصر،
ويجريان معًا في اللقب، وهو باطل.
واستدل: بأنه لو قيل: الفقهاء الحنفية أئمة فضلاء، لنفرت الشافعية ولولا ذلك ما نفرت.
وأجيب: من تركهم على الاحتمال، كما تنفر من التقديم، أو لتوهم المعتقدين ذلك.
واستدل: بقوله تعالى: {إن تستغفر لهم سبعين مرة} ، قال:«لأزيدن على السبعين» ، ففهم أن ما زاد بخلافه، والحديث صحيح.
وأجيب: [لهم ذلك] ، لأنها مبالغة / فتساويا، أو لعله باق على أصله في الجواز، فلم يفهم منه.
واستدل: بقول يعلى بن أمية لعمر: ما بالنا نقصر وقد أمنَّا؟ ، وقد قال تعالى:{فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم} ، فقال عمر: تعجبت مما تعجبت منه، فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال:«إنما هي صدقة تصدق الله بها عليكم، فاقبلوا صدقته» ، ففهما نفي القصر حال عدم الخوف، وأقرّ الرسول عليه السلام.
وأجيب: بجواز أنهما اصطحبا وجوب الإتمام، فلا يتعين.
واستدل بأن فائدته أكثر فكان أولى تكثيرًا للفائدة، وإنما يلزم من [جمع] تكثير الفائدة يدل على الوضع، وما قيل من أنه دور لأن دلالته تتوقف على تكثير الفائدة، وبالعكس يلزمهم في كل موضع.
وجوابه: أن دلالته تتوقف على تعقل تكثير الفائدة عندها، لا على حصول الفائدة.
واستدل: لو لم يكن مخالفًا لم يكن السبع في قوله: «طهور إناء أحدكم إذا ولغ الكلب فيه أن يغسله سبعًا» مطهره؛ لأن تحصيل الحاصل محال، وكذلك:«خمس رضعات يحرمن» ).
أقول: استدل للمختار بوجوه ضعيفة:
الأول: لو لم يكن المقيد بصفة ظاهر في الحصر، وهو ثبوت الحكم للمذكور ونفيه عما عداه، لزم اشتراك أفراد المنطوق وهي السائمة، وأفراد المسكوت وهي المعلوفة في الحكم والتالي باطل، أما الملازمة؛ فلعدم الواسطة بين الحصر والاشتراك، فإذا انتفى الأول ثبت الثاني، لكنه ليس للاشتراك اتفاقًا، غايته أنه محتمل.
الجواب: إن عنى بالحصر أن السائمة انتفى عن المعلوفة فمُسَلَّم، لكنه غير محل النزاع، وإن عنى أن إيجاب الزكاة انتفى عن المعلوفة، فلا نسلم أن اللفظ لو لم يدل عليه لتعين ثبوت الاشتراك.
قوله: (لا واسطة) نمنعه، إذ لا يلزم من عدم الدلالة على النفي دلالته على الاشتراك، لجواز ألا يدل على حصر ولا اشتراك.
احتج الإمام بما هو قريب مما تقدم، فقال: لو لم يفد الحصر لم يفد
الاختصاص به دون غيره، أما الملازمة؛ فلأنه لا معنى للحصر إلا الاختصاص دون غيره، وأما انتفاء التالي؛ فلأنه يفيد اختصاص الحكم بالمذكور قطعًا.
والجواب أيضًا: إن عنى أن لفظ (السائمة) منتف عن المعلوفة سلمنا، وليس محل النزاع، وإن عنى أن ما يتعلق بالسائمة من الحكم منتف عن المعلوفة فممنوع، بل لا دلالة للفظ عليه إثباتًا ولا نفيًا، ولا يلزم من عدم الحكم فيه الحكم بالعدم فيه، فلا يلزم من دلالته على وجوب الزكاة في السائمة، عدم دلالته على وجوب الزكاة فيما عداه - الذي هو معنى الاختصاص - دلالته على ثبوت الحكم في المذكور ونفيه عما عداه - الذي هو معنى الحصر.
ثم دليل الإمام والذي قبله منقوضان بمفهوم اللقب؛ لأنهما يجريان فيه مع أنه باطل اتفاقًا، بأن يقال في اللقب: لو لم يكن للحصر لكان للاشتراك، ولو لم يفد الحصر لم يفد الاختصاص.
واستدل أيضًا: بأنه لو قيل: الفقهاء الحنفية فضلاء، ولا شيء يقتضي التخصيص مما تقدم، نفر الشافعية، ولولا فهمهم نفي الفضل عن غير المذكور لما نفروا.
الجواب: منع الملازمة، والنفرة إما للتصريح بغيرهم وتركهم على الاحتمال، كما تنفر من التقديم في الذكر لاحتمال أن يكون للتفضيل، وإن
جاز أن يكون لغيره، وإما لتوهم المعتقدين لمفهوم الصفة قصد ذلك في الصورة المذكورة، فينفروا من ذكر عبارة يتوهم منها بعض الناس نفي الفضل عنهم، أو النفرة للمعتقدين من الشافعية المفهوم بحسب اعتقادهم، وهو توهم.
واستدل أيضًا، وهو من قبيل مفهوم العدد: بأن عبد الله بن عبد الله بن أبي بن سلول سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يستغفر لأبيه، فقيل للنبي عليه السلام: قد نهيت عن الاستغفار، فقال:«إنما خيرني ربي فقال {استغفر لهم أو لا تستغفر لهم} ، وسأزيده على السبعين» .
ووجه الاحتجاج: أنه لو لم يدل التقييد على المخالفة، لما فهم النبي عليه السلام ذلك.
الجواب: منع فهمه ذلك؛ لأن السبعين للمبالغة، فما زاد عليها فهو مثلها في الحكم، لا سيما وآخر الآية:{ذلك بأنهم كفروا} .
قال الزمخشري: خيل بما قال إظهارًا لغاية رحمته ورأفته بمن بعث لأمته ودعا لأمته إلى ترحم بعضهم على بعض.
سلمنا فهمه ذلك، لكن لا نسلم أنه فهمه من تخصيص السبعين بالذكر ولعله باق على أصله؛ لأن الأصل جواز الاستغفار للرسول وكونه مظنة الإجابة، ففهم من حيث إنه الأصل؛ لأنه لما أخرج السبعين بقي ما زاد على الأصل.
واعلم أن فهم المبالغة من الفهم من البقاء على الأصل متنافيان، ولذلك أتى بأو دون الواو، ولما كان كل من قال بمفهوم العدد قال بمفهوم الصفة، حسن إيراده، أو لأن العدد وصف للمعدود.
واستدل أيضًا: بما في الصحيح من قول يعلى بن أمية لعمر: ما بالنا نقصر وقد أمِنّا؟ وقد قال تعالى: {فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم} ، فقال عمر: عجبتُ مما عجبتَ منه، فسألتُ
رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال:«صدقة تصدق الله بها عليكم» .
ووجه الاستدلال: أنهما فهما من تقييد قصر الصلاة بحال الخوف، عدم قصرها عند عدم الخوف، وأقرّ الرسول صلى الله عليه وسلم، ولولا إفادته له لغة لما فهماه، ولما أقرّ الرسول عليه السلام.
الجواب: لا نسلم أنهما فهما ذلك منه، لجواز أنهما حكما بذلك باستصحاب الحال في وجوب إتمام الصلاة، وذلك لأن الأصل الإتمام، وخولف في الخوف بالآية بخلاف غيرها، فلا يعدل عنه إلا بدليل، وإذا جاز ذلك لم يتعين أن يكون المفهوم منه على أنه مفهوم شرط، إلا أن يكون الغرض به إلزام من لا يفرق بينهما.
واستدل أيضًا: بأن إفادته للتخصيص يفضي إلى تكثير الفائدة، فإن إثبات المذكور ونفيه عما عداه أكثر فائدة من إثبات المذكور وحده، وكثرة فائدته ترجح المصير إليه، لأنه ملائم لغرض العقلاء.
وهذا الدليل إنما ينهض على من جعل تكثير الفائدة دالًا على الوضع، ونحن لا نقول به، فلا ينهض علينا.
وقد اعترض هذا الدليل: باستلزامه الدور؛ لأن دلالة التقييد [بالوصف على النفي على الغير] يتوقف على الوضع المتوقف على تكثير الفائدة، إذ
به تثبت، وإنما يحصل تكثير الفائدة بدلالته على النفي عن الغير فهو دور.
ثم أجاب عن الدور بنقض إجمالي وتفصيلي.
أما الإجمالي: فلأن ما ذكرتم يجري في كل موضع يثبت الشيء لفائدة، سواء كان حكمًا أو وضعًا شرعيًا، فيجب ألا يثبت الشيء لفائدته أصلًا، فتنتفي المقاصد والحكم، وأنه باطل.
وأما التفصيلي فهو: أن الذي تتوقف عليه دلالة اللفظ تعقل تكثير الفائدة، والمتوقف على الدلالة هو حصول تكثير الفائدة، فالعلة [الغائبة] تعقل الفائدة عند الدلالة، أي تقدير الدلالة.
واستدل أيضًا: لو لم يكن المسكوت مخالفًا، يلزم ألا يكون السبع مطهرة في نحو قوله عليه السلام:«طهور إناء أحدكم إذا ولغ الكلب فيه أن يغسله سبع مرات» ؛ لأن الطهارة إذا حصلت بدون السبع، فلا تحصل بالسبع؛ لأن تحصيل الحاصل محال، ذلك كقوله عليه السلام:«خمس رضعات معلومات يحرمنّ» ، لأن الحرمة إذا حصلت بدون الخمس فلا تحصل بالخمس، والحديثان في الصحيح.
وإنما ترك المصنف جواب هذين الشبهتين لظهورهما، إذ لا يلزم من عدم دلالة السبع على نفي الطهارة عما دونها، أن يكون / ما دون السبع مطهرًا لجواز ألا يدل على حكم ما دون السبع لا بتطهير ولا بغيره، وكذا بالجواب عن الآخر، وهما من مفهوم العدد.
قال: (النافي: لو ثبت لثبت بدليل - وهو عقلي ونقلي - إلى آخره.
وأجيب: بمنع اشتراط التواتر، والقطع بقبول الآحاد، كالأصمعي، والخليل، وأبي عبيدة، وسيبويه.
قالوا: لو ثبت لثبت في الخبر وهو باطل؛ لأن من قال: «في الشام الغنم السائمة» لم يدل على خلافه قطعًا.
وأجيب: بالتزامه، وبأنه قياس، ولا يستقيمان.
والحق: الفرق بأن الخبر وإن دلّ على أن المسكوت عنه غير مخبر به فلا يلزم ألا يكون حاصلًا، بخلاف الحكم، إذ لا خارجي له فيجري فيه ذلك.
قالوا: لو صح لما صح: «أدَّ زكاة السائمة والمعلوفة» ، كما «لا تقول له أفّ واضربه» ، لعدم الفائدة والتناقض.
وأجيب: بأن الفائدة عدم تخصيصه، ولا تناقض في الظواهر.
قالوا: لو كانت لما ثبت خلافه للتعارض، والأصل عدمه، وقد ثبت في نحو:{لا تأكلوا الربا أضعافًا مضعفة} .
وأجيب: بأن القاطع عارض الظاهر، فلم يقو، ويجب مخالفة الأصل بالدليل).
أقول: احتج النافي لمفهوم الصفة: بأنه لو ثبت بدليل، إذ الحكم بثبوت شيء - وليس بضروري - بلا دليل باطل اتفاقًا، لكن لا دليل لأنه إما عقلي، ولا تثبت اللغة بمجرد العقل، وإما نقلي، فإما متواتر وكان يجب ألا يختلف فيه، وإما آحاد ولا يفيد في إثبات أصل من الأصول.
الجواب: منع اشتراط التواتر، ومنع عدم إفادة الآحاد في مثله، وإلا امتنع العمل بأكثر أدلة الأحكام، لعدم التواتر في ألفاظها.
وأيضًا: القطع بأن العلماء في كل عصر في سائر الأمصار كانوا يكتفون في فهم معاني الألفاظ بالآحاد، كنقلهم عن الخليل، والأصمعي، وأبي عبيدة، وسيبويه.
قالوا ثانيًا: لو ثبت المفهوم في الحكم لثبت في الخبر، أما الملازمة؛ فلأن موجب إثباته في الحكم الحذر عن عدم الفائدة، وهو قائم في الخبر، وأما بطلان التالي؛ فلأنه لو قال:«في الشام الغنم السائمة» ، لم يدل على عدم المعلوفة في الشام، وذلك معلوم لغة وعرفًا قطعًا.
وقد أجيب عنه بجوابين:
أحدهما: منع بطلان التالي، وسنده ما سبق من نفرة الشافعية إذا قيل: الفقهاء الحنفية فضلاء.
الثاني: أنه قياس في اللغة، وقد علمت أن القياس في اللغة لا يصح.
والجوابان لا يستقيمان؛ لأن الأول مكابرة، وأيضًا: لم يلتزمه أحد منهم. وأما الثاني؛ فلأنه على ذلك التقدير استقرائي، لا أنه قياس في اللغة.
قال المصنف: والحق في الجواب الفرق.
قال الآمدي: إذا قال: «رطبًا جنيا» إنما يخبر عما شاهده، ولا يلزم ألا يكون شاهد ما ليس على هذه الصفة، وإذا قال لعبده:«اشتر رطبًا جنيًا» بعد علمه أن الرطب البايت مما يباع في السوق، فقوله ذلك إنما قصد بن تبيين ما يشتري مما لا يشتري، فكان النفي ملازمًا للإثبات، بخلاف الخبر.
وتقرير ما قال المصنف: [أن الخبر في قوله: «في الشام الغنم السائمة» ، وإن لم يدل على أن المعلوفة مخبر عنه - كما قال المصنف -] وإن دلّ على أن المسكوت عنه غير مخبر به، وإلا لدلّ ما لا يتناهى لأنه مسكوت عنه.
فصوابه: وإن لم يدل على أن المعلوفة مخبر عنه، فلا يلزم ألا يحصل العلم به؛ لأن الخبر له خارجي وهو متعلقه، فيجوز ثبوته مع عدم الإخبار عنه، وعدمه مع الإخبار به، بخلاف الحكم الخارجي له كذلك حتى يجري فيه ما جرى في الخبر؛ لأن متعلق حكم الشارع يتوقف ثبوته ونفيه على الشارع، لأنه لا يعلم إلا منه، فاستلزم الإثبات النفي.
وحاصل الجواب: لا نسلم أنه لو ثبت في الحكم لثبت في الخبر؛ لأن العلة في الحكم التقييد بالصفة مع عدم أمر خارجي، وهذا المعنى غير موجود في الخبر، فلا يلزم من الدلالة في الحكم الدلالة في الخبر.
قال في المنتهى - وهو دقيق نفيس -: قال بعض فضلا الشراح: وهو كما قال، لا كما قال بعض الشراح: وأنه رجوع إلى نفي المفهوم.
قالوا ثالثًا: لو صح القول بمفهوم المخالفة، لما صح أن يقال:«أدَّ زكاة الغنم السائمة والمعلوفة» ، بيان اللزوم: إن وازناه في منافاة مفهوم كل لمنطوق الآخر كقولك: «لا تقل له أفّ واضربه» ، ولا شك أنه غير جائز، فكذلك هذا، وإنما لم يجز لعدم فائدة التقييد، لأنه يستغني بقوله:«أدَّ زكاة الغنم» .
وأيضًا: لا يجوز للتناقض لأن مفهوم كل منهما مناقض لمنطوق الآخر.
الجواب أولًا: أنا إنما نقول به عند التخصيص بالذكر، فلا يلزم فيما ذكرتم مما لا تخصيص فيه، بل عطف عليه.
ولا نسلم أنه كمفهوم الموافقة، لقطعية ذلك وظنية هذا، والفائدة في ذكر النوعين عدم تخصيص أحدهما عن العام، لذكرهما بالنصوصية عليهما بخلاف «أدَّ زكاة الغنم» ، ولا تناقض بين الظواهر، ولذلك يصح تقابلها وتعادلها دون القواطع، هذا مع إمكان صرفها عن ظواهرها بالدليل، ودفع التناقض أقوى دليل عليه.
قالوا رابعًا: لو دلّ تقييد الحكم بالصفة على النفي عند عدمها، لما ثبت خلافه، وهو ثبوت الحكم عند عدم الصفة، أما الملازمة، فللزوم التعارض بين المفهوم وبين الدليل المثبت للحكم عند عدم الصفة، والتعارض خلاف
الأصل؛ لأنه يؤدي إلى إهمال الدليل، والأصل إعماله.
وأما انتفاء التالي؛ فلأنه ثبت في قوله تعالى: {لا تأكلوا الربا أضعافًا مضاعفة} ، مفهوم عدم النهي فيما ليس كذلك، والنهي ثابت / في القليل والكثير.
الجواب: منع الملازمة، والتعارض منتف، لأن القاطع - وهو الإجماع - لا يقوي الظاهر لمعارضته.
سلمنا، لكن التعارض وإن كان خلاف الأصل، يجب المصير إليه عند قيام الدليل، كما أن الأصل البراءة.
وتُخَالف الدليل، فلو أورده النافي هكذا: لو كان المفهوم ثابتًا لزم التعارض عند المخالفة وهو خلاف الأصل، وإذا لم يثبت لم يلزم، وما يفضي إلى خلاف الأصل مرجوح إلا لدليل، فحينئذ لا يرفعه ما ذكر المصنف.
وجوابه على هذا إجمالًا وتفصيلًا:
أما الإجمالي: فللزومه في الألفاظ التي لم يترتب عليها مدلولها، فقال: لو كان العام يتناول جميع الأفراد، لما ثبت خلافه للتعارض.
وثانيًا: أن ما ذكرتم خرج مخرج الغالب، فكل ما وجد شرط ما ثبت خلافه.
قال: (فأما مفهوم الشرط، فقال به بعض من لا يقول بالصفة.
والقاضي، وعبد الجبار، والبصري على المنع.
القائل به: ما تقدم.
وأيضًا: يلزم من انتفاء الشرط انتفاء المشروط.
اعترض: قد يكون سببًا.
قلنا: أجدر إن قيل بالاتحاد، والأصل عدم إن قيل بالتعدد.
وأورد: {إن أردن} .
وأجيب: بأن الأغلب، أو معارضة الإجماع).
أقول: أما مفهوم الشرط فحجة عندنا، وقال به بعض من لا يقول بمفهوم الصفة، كابن سريج، وأبي الحسين البصري.
ومنعه القاضي أبو بكر منّا، وعبد الجبار من المعتزلة، كما منعا مفهوم الصفة.
وفصّل البصري هناك، ومنع هنا مطلقًا.
احتج القائل به: بما تقدم في مفهوم الصفة من مقبول ومزيف، فينقل إلى هنا بعينه؛ لأن مرجع الشرط أنه وصف، واختص بدليل آخر وهو: أنه إذا ثبت أنه شرط، يلزم من انتفاء الشرط انتفاء المشروط؛ إذ لا معنى للشرط
إلا ذلك، ولذلك فهم ذلك يعلى بن أمية كما سبق.
قيل: هو شرط لإيقاع الحكم لا لثبوته، وليس النزاع في مفهوم ما هو شرط في الواقع - أعني الشرط المصطلح - بل في مفهوم ما دخل عليه حرف الشرط.
واعترض هذا الدليل: بأنه لا يتعين أن يكون شرطًا، لجواز استعمال «أن» في السببية، بل غلبتها فيها كما تقدم، ولا يلزم من انتفاء السبب انتفاء المسبب، لجواز تعدد السبب.
الجواب: لا يضر ذلك، سواء قلنا: يجب اتحاد السبب، أو قلنا: يجوز تعدده.
أما إذا قلنا بالاتحاد فلانتفاء المسبب عند انتفاء سببه، فهو أجدر بالانتفاء عند الانتفاء من الشرط، للتلازم في الوجود والعدم، بخلاف الشرط.
وأما إن قلنا بجواز التعدد، فلأن الأصل عدم غيره وإن جاز، فإذا نتفى فقد انتفى السبب مطلقًا، فينتفي المسبب.
واعترض الدليل المذكور بإيراد نقض عليه وهو: لو ثبت مفهوم الشرط لثبت / جواز إكراه الفتيات على البغاء عند عدم إرادة التحصن، عملًا بقوله تعالى:{ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء} ، ولكن الإكراه عليه لا يجوز بحال إجماعًا.
الجواب أولًا: أنه انتفى المفهوم لانتفاء شرطه، وشرطه ألا يكون خرج مخرج الغالب، والغالب أن الإكراه إنما يكون عند إرادة التحصن.
وثانيًا: أن المفهوم اقتضى ذلك، لكنه ظاهر، والقاطع - وهو الإجماع - عارضه، فاندفع الظاهر للمعارض الأقوى.
وأيضًا: إنما يدل على عدم الحرمة عند عدم الإرادة وأنه ثابت، إذا لا إكراه حينئذ؛ لأنهن إذا لم يردن التحصن لم يكرهن البغاء، إذا الإكراه إلزام فعل مكروه، وإذا لم يمكن لم يتعلق به التحريم لأن شرط التكليف الإمكان.
قال: (مفهوم الغاية، قال به بعض من لا يقول بالشرط، كالقاضي وعبد الجبار.
القائل به: ما تقدم، وبأن معنى «صوموا إلى أن تغيب الشمس»: آخره غيبوبة الشمس، فلو قدر وجوب بعده لم يكن آخرًا).
أقول: أما مفهوم الغاية، فقال به بعض من لا يقول بالشرط والصفة، فهو أقوى منهما، كالقاضي منا، وعبد الجبار من المعتزلة.
احتج القائل به: بما تقدم في الصفة وبدليل يخصه وهو: أن قول القائل: «صوموا إلى أن تغيب الشمس» معناه: آخر وجوب الصوم غيبوبة الشمس، فلو قدرنا ثبوت الوجوب بعد أن غابت الشمس، لم تكن الغيبوبة آخرًا، وهو خلاف المنطوق.
قيل: الكلام في الآخر نفسه لا في ما بعد الآخر، ففي قوله تعالى {إلى المرافق} المرافق آخر، وليس النزاع في دخول ما بعد المرافق.
قلت: النزاع فيما بعد الغاية، هل هو مسكوت عنه أو متعرض له؟ . ولم يختلفوا في حرمتها حين العقد في:{حتى تنكح زوجًا غيره} . قال: (وأما مفهوم اللقب [فقال] وبعض الحنابلة، وقد تقدم.
وأيضًا: كان يلزم من «محمد رسول» ، و «زيد موجود» وشبهه، ظهور الكفر.
واستدل: بأنه يلزم منه إبطال القياس، لظهور الأصل في المخالفة.
وأجيب: بأن القياس يستلزم التساوي في المتفق عليه فلا مفهوم، فكيف به هنا؟ .
قالوا: لو قال لمن يخاصمه: «ليست أمي بزانية ولا أختي» ، تبادر نسبة الزنا إلى أم خصمه، ووجب الحدّ عند مالك وأحمد.
قلنا: من القرائن، لا مما نحن فيه).
أقول: أما مفهوم اللقب، فأنكره الجمهور، وقال به الدقاق وبعض الحنابلة، وهو نفي الحكم عما يتناوله الاسم، كما لو قال:«في الغنم زكاة» ، فتنتفي عنده عن غير الغنم ظاهرًا، وقد تقدم أن المفهوم إنما يعتبر حذرًا عن عدم فائدة القيد، واللقب قد انتفي فيه المقتضى للمفهوم، إذ لو
طرح / لاختل الكلام.
وأيضًا: كان يلزم من: «محمد رسول الله» نفي رسالة غيره من الأنبياء، ومن:«زيد موجود» نفي الوجود عند الله تعالى.
وإنما قال: (ظهور الكفر)، ولم يقل: يلزم الكفر؛ لأنه إنما يلزم لو كان منتبهًا لدلالة لفظه، ومريدًا بلفظه ما دلّ عليه بمفهومه، مع أن دلالة المفهوم لم يقل أحد إنها بطريق القطع.
واستدل أيضًا: بأن القول بمفهوم اللقب يلزم منه إبطال القياس، والقياس حق، والمؤدي إلى إبطال ما هو حق فهو الباطل.
أما الملازمة؛ فلأنه إذا كان تعليق الحكم بالاسم دالًا على نفيه عما عداه يكون الأصل المعين عليه ظاهرًا في مخالفة الفرع له في الحكم؛ لأن النص أو الإجماع الدال على الحكم في الأصل المقيس عليه يكون دالًا على نفي الحكم عن الفرع بحسب الظاهر، فلو عمل بالقياس يلزم مخالفة ظاهر النص أو الإجماع.
الجواب: أن القياس يستدعي مساواة الفرع للأصل في المعنى الذي شرع الحكم لأجله، فإذا حصل ذلك، دلّ على حكم الفرع وبطل مفهوم المخالفة هذا في الشرط والصفة، فكيف بمفهوم اللقب الذي هو أضعف؟ .
والحاصل: أن محل القياس لا يثبت فيه مفهوم اللقب اتفاقًا، فإذا لم يجتمعا في محل، فكيف يدفع القياس؟ .
قالوا: لو قال لمن يخاصمه: «ليست أمي بزانية ولا أختي» ، تبادر منه
نسبة الزنا إلى أم الخصم وأخته، ولذلك وجب الحدّ عند مالك، وأحمد ولولا مفهوم اللقب لما تبادر.
الجواب: أن فهم ذلك من القرائن الحالية وهي الخصام، وإرادة الإيذاء والتقبيح، وليس مما نحن فيه من المفهوم الذي كون اللفظ ظاهرًا فيه لغة.
قال: (وأما الحصر بإنما، فقيل: لا يفيد، وقيل: منطوق، وقيل: مفهوم.
الأول: إنما زيد قائم، بمعنى: إن زيدًا، والزائد كالعدم.
الثاني: {إنما إلهكم الله} بمعنى: ما إلهكم إلا الله، وهو المدعى.
وأما مثل: «إنما الأعمال بالنيات» ، و «إنما الولاء» فضعيف؛ لأن العموم فيه بغيره، فلا يستقيم لغير المعتق، ولا ظاهرًا).
أقول: اختلفوا في تقييد الحكم بإنما، فذهب القاضي، والغزالي إلى أنه ظاهر في الحصر.
وذهب الحنفية، وبعض من أنكر دليل الخطاب إلى أنها تفيد الحصر.
وقال قوم: يفيد الحصر مفهومًا لا منطوقًا.
احتج القائل بأنه لا يفيده: بأنه لا فرق بين: «إن زيدًا قائم» ، وبين:«إنما زيد قائم» فما زائدة، والزائد كالعدم في إفادة الحصر، فكما لا يفيد الأول الحصر، فكذا الثاني.
احتج المثبت: بأن معنى {إنما إلهكم الله} : ما إلهكم إلا الله، والثاني يفيد الحصر فكذا الأول، وكلاهما تقرير للدعوى عريًا عن الاستدلال.
واحتج بعضهم في إفادتهم الحصر بمثل: «إنما الأعمال بالنيات» ، «إنما الولاء لمن أعتق» ، إذ يتبادر منه عدم صحة العمل بغير نية، وعدم الولاء لغير المعتق.
والجواب: أن العموم مستفاد من الألف واللام، فكل عمل بنية، وكل ولاء للمتعق، فينتفي مقابله - وهو الجزئي السالب - وهو: ليس كل عمل بنية، وليس بعض الولاء للمتعق.
فإن قيل: يحتمل الولاء للمعتق ولغيره، إذ لا منافاة بينهما، بل هو ظاهر في نفي الولاء عن غيره؛ لأن قوله:«للمعتق» ظاهر في الاستقلال، هذا ظاهر المنتهى، وقرر أيضًا من جانب القائل لا تفيد الحصر: أي لو أفادت الحصر لما صح عمل بغير نية، ولا ولاء لغير معتق، والتالي باطل؛ لصحة العمل بغير نية، وثبوت الولاء لغير المعتق.
وأجاب: بأنه إنما ثبت عموم الولاء للمعتق وغيره، وعموم صحة العمل بنية وبغير نية لغير الحديث كالإجماع مثلًا، والحديث يدل بحسب الظاهر أن لا يستقيم الولاء لغير المعتق، ويجوز العدول عن الظاهر بدليل قطعي.
قال: (وأما مفهوم الحصر، مثل:«صديقي زيد» ، و «العالم زيد» ولا قرينة عهد.
فقيل: لا تفيد، وقيل: منطوق، وقيل: مفهوم.
الأول: لو أفاد لأفاد العكس؛ لأنه فيهما لا يصلح للجنس، ولا للمعهود معين لعدم القرينة، وهو دليلهم.
وأيضًا: لو كان، لكان التقديم بغير مدلول الكلمة.
القائل به: لو لم يفده، لأخبر عن الأعم بالأخص، لتعذر الجنس والعهد، فوجب جعله لمعود ذهني بمعنى الكامل والمنتهي.
وأجيب: بل جعله بمعهود ذهني، مثل:«أكلت الخبز» هو المعروف.
ولو سلّم، فاللام للمبالغة، فأن الحصر؟ .
ويلزمه: «زيد العالم» بعين ما ذكرتم، وهو الذي نص عليه سيبويه في:
«زيد الرجل» ، فأن زعم أنه مخبر بالأعم فغلط؛ لأن شرطه التنكير.
فإن زعم أن اللام لزيد فغلط، لوجوب استقلاله بالتعريف منقطعًا عن «زيد» كالموصول).
أقول: إذا قدم الوصف على الموصوف في القضية المهملة التي محمولها شخصي، مثل:«صديقي زيد» ، و «العالم زيد» ، ولا قرينة تفيد العهد.
قال الحنفية والقاضي: مثل هذا التركيب لا يفيد الحصر.
وقال الغزالي، وكثير من الفقهاء: يفيد الحصر؛ لأن الوصف لما قُدّم على الموصوف - والترتيب الطبيعي يقتضي خلافه - فهم من العدول إليه قصد النفي عن غيره.
ثم اختلف هؤلاء، فقال بعضهم: يفيده بمنطوقه، وقال بعضهم: بل بمفهومه.
احتج الأولون: بأنه لو أفاد: «العالم زيد» ، و «صديقي زيد» الحصر، لأفاده:«زيد العالم» ، و «زيد صديقي» .
بيان اللزوم؛ أن دليلهم في «العالم زيد» هو أن العالم لا يصلح للجنس، لأن الإخبار عن الكلي بأنه زيد - الجزئي - كاذب، ولا يصلح للعهد؛ لأن الفرض ألا قرينة تصرفه إلى العهد، فكان لما يصدق عليه الجنس، وهو الماهية
فيفيد أن الذي صدق عليه العالم «زيد» وهو معنى الحصر، وهذا الدليل بعينه يجري في قولنا:«زيد العالم» ، والاشتراك في الدليل يوجب الاشتراك في الحكم.
قالوا: وأيضًا لو كان «العالم زيد» يفيد الحصر دون العكس؛ لكان التقديم مغيرًا لمدلول الكلمة؛ لأنه لو اتحد مفهوم العالم متقدمًا ومتأخرًا - وكلا التركيبين يفيد بين زيد والعالم الاتحاد فهو هو - لزم إما شمول الحصر، وإما شمول عدمه، وأما بطلان التالي؛ فلأن التقديم والتأخير إنما يغير الهيئة التركيبية، لا مدلول المفردات.
قيل: لا امتناع في تغيير التقديم، فإن نسبة الشيء إلى غيره بالموضوعية تغاير نسبة ذلك الغير بالمحمولية، ولذلك قد تصدق القضية ولا يصدق عكسها.
وردّ: بأن التقديم وإن غير نسبة الموضوعية والمحمولية، لكن لم يغير نفس مدلول الموضوع والمحمول.
وردّ الرّد: بأن قوله: «لا امتناع» مُنِع، وما ذكر سند له، وما تطرق إلى السند لا يقدح في المنع، مع أن قوله:«لم يغير نفس مدلول المحمول والموضوع» ممنوع؛ لأن محمول العكس وصف لموضوع الأصل، لا عين موضوع الأصل.
وأصل الحديث للإمام فخر الدين، قال: إذا قلنا: «المنطق زيد» ، فالمنطلق دال على معنى نسبي، فهو في نفسه متعين للخبرية، وزيد دال على
الذات، فهو في نفسه متعين للمبتدأية، تقدم أو تأخر.
قال السكاكي: لا معرج على هذا؛ لأن «المنطلق» لا يجعل مبتدأ إلا بمعنى الشخص الذي له الانطلاق، وأنه بهذا المعنى لا يجب كونه خبرًا، إذ لم يبق نسبيًا، وزيد لا يوقع خبرًا إلا بمعنى صاحب اسم زيد، فيكون المراد من قولنا في المنطلق زيد: الشخص الذي له لانطلاق صاحب اسم زيد، فقد غير التقديم مدلول الكلمة؛ لأن الوصف إذا وقع مسندًا إليه قصد به الذات الموصوفة به، وإذا وقع مسندًا قصد به كونه ذاتًا موصوفة.
صوابه: كون الذات موصوفة وهو عارض للأول فاندفع السؤالان، فإن أراد بتغير المفهوم هذا القدر منعنا بطلانه، وإن أراد غير منعنا الملازمة، وليس الحصر مدلول الكلمة، وإنما هو من الأمور الحاصلة من التركيب وتختلف بالتقديم والتأخير، بدليل «ما ضرب زيد إلا عمرًا» ، و «ما ضرب عمرًا إلا زيد» .
احتج القائل بأنه يفيد الحصر: بأنه لو لم يفده لأدى إلى الإخبار عن العام بالخاص، أما الملازمة؛ فلأنه لا قرينة عهد وليس للجنس، بل لما صدق عليه العالم، فلو فرض غير زيد وهو عمرو مثلًا أنه يصدق عليه العالم، لكان العالم أعم من زيد وعمرو، وقد أخبرت عنه بزيد.
وأما بطلان التالي؛ فلأن الخبر الثابت للعام ثابت لجزئياته، فيلزم ثبوت زيد لعمرو، فبطل للجنس ولما صدق عليه مطلقًا، فوجب جعله لما صدق عليه بعد تخصيصه بما يصلح أن يحمل عليه زيد من معين، وما ذاك إلا بأن
يجعل / لمعهود ذهني، وهو شخص كامل أو منتهي في العلم قد تصوره المخاطب أو توهمه، وأنت تعلم ذلك فتخبر عن ذلك الشخص المتصور بأنه زيد.
ورده الآخرون: بأنا نختار أنه لما صدق عليه مطلقًا ولا محذورًا؛ لأن القضية مهملة فهي في قوة الجزئية، فكان بمعنى: بعض العلماء زيد، وبعض أصدقائي زيد.
سلمنا أنه لمعهود ذهني، لكن لا على الوجه الذي ذهبتم إليه، بل لمعهود ذهني غير مقيد بصفة، مثل:«أكلت الخبز، وشربت الماء» .
سلمنا، ولا ينتج مطلوبكم؛ لأنه لم يحصل حصر العالم في زيد، بل الحاصل كون زيد كاملًا أو منتهيًا في العلم فقط، فحاصله أن اللام للمبالغة في علمه، لا لحصر العلم فيه.
وأيضًا: يلزم في «زيد العالم» - بعين ما ذكرتم - أن يكون لمعهود ذهني بمعنى الكامل والمنتهي، وهم لا يقولون به ويفرقون بينهما، مع أن سيبويه نص في «زيد الرجل» على أن اللام للبالغة.
فإن قالوا: لا يلزم الفرق، فإن الإخبار عن الأعم بالأخص غير جائز، بخلاف العكس.
قلنا: إنما يخبر عن الأخص بالأعم إذا كان الأعم نكرة يدل على كون الأخص شائعًا فيه، لا في الحمل، فهو هو، والخاص لا يكون غير العام، وهو هنا معرفة.
فإن قيل: الفرق أن اللام في «العالم» إذا تأخر كان لزيد، بخلاف ما إذا
لم يتقدم ما يصلح له فيصدق، ثم [الأعهد] وهو إحدى مقدمات الدليل ولا يصدق هنا.
قلنا: العالم في «زيد العالم» ينبغي أن يكون منقطعًا عن زيد مستقلًا بإفادة معناه الإفرادي كالموصولات، فإنك إذا قلت:«زيد هو الذي علم» ، كان «الذي علم» مستقلًا عند إفراده، ولم يمكن إشارة إلى زيد، وإنما يتعلق به ويصير هو إياه بعد الإسناد الحاصل بالتركيب، فكذا «اللام» التي هي بمعناه.