الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قال:
(النسخ:
الإزالة، نسخت الشمس الظل.
والنقل: نسخت الكتاب، ونسخت النحل، ومنه المناسخات.
فقيل: مشترك، وقيل: للأول، وقيل: للثاني.
وفي الاصطلاح: رفع الحكم الشرعي بدليل شرعي متأخر.
فيخرج: المباح بحكم الأصل، والرفع بالنوم والغفلة، ونحو:«صلّ إلى آخر الشهر» .
ونعني بالحكم، ما يحصل على المكلف بعد أن لم يكن، فإن الوجوب المشروط بالعقل لم يكن عند انتفائه قطعًا.
فلا يرد: الحكم قديم فلا يرتفع؛ لأنا لم نعينه، والقطع بأنه إذا ثبت تحريم شيء بعد وجوبه انتفى الوجوب، وهو المعنى بالرفع).
أقول: لما فرغ مما يشترك فيه الكتاب والسنة والإجماع، شرع فيما يشترك فيه الكتاب والسنة دون الإجماع، وهو النسخ.
وهو في اللغة: الإزالة، يقال: نسخت الشمس الظل إذا أزالته.
والنقل أيضًا، وهو تحويل الشيء من حالة إلى حالة مع بقائه في نفسه، ومنه: نسخت النحل إذا حولتها من خلية إلى خلية.
ومنه: المناسخات في المواريث، بانتقالها من قوم إلى قوم.
ومنه: نسخ الكتاب، لما فيه من مشابهة النقل لتحصيل مثل ذلك في الآخر، وإلا فما في الكتاب لم ينقل حقيقة.
واختلف في استعماله فيهما، أهو بطريق الاشتراك، وإليه ذهب القاضي والغزالي، أو هو حقيقة في الأول مجاز في الثاني، إطلاقًا لاسم اللازم على الملوم، وإليه ذهب أبو الحسين.
وعكس القفال: إطلاق اسم الملزوم على اللازم، وهو بحث لفظي.
وأما في الاصطلاح: فهو رفع الحكم الشرعي بدليل شرعي متأخر.
فقوله: (رفع الحكم) جنس، و (الشرعي) فصل يخرج المباح بحكم الأصل، فإن رفعه بدليل شرعي متأخر لا يسمى نسخًا، وقوله:(بدليل شرعي) يخرج رفعه بالنوم والغفلة والجنون والموت، وقوله:(متأخر) ليخرج نحو: «صلّ عند كل زوال إلى آخر الشهر» ، وكذا الشرط والاستثناء والمستقل المتصل، مثل:«اقتلوا المشركين ولا تقتلوا النساء» ، وإن كان يمكن أن يقال فيه: لا رفع؛ لأن الحكم لم يثبت بأول الكلام؛ لأن الكلام بالتمام فيكف يرفع؟ .
لكن التصريح ودفع التوهم مما يقصد في الحدود.
قيل: الاحتراز عن النوم والغفلة لا يصح؛ لأن الرفع بهما بدليل شرعي وهو قوله عليه السلام: «رفع القلم عن ثلاث» ، فالواجب أن يقال:
احترازًا عن الرفع بالموت.
وردّ: بأن الرفع بالحقيقة هو إرادة الشارع، فكما صح أن يقال: رفع الحكم الشرعي بدليل شرعي» مع أنه ليس ذلك الدليل برافع، وإنما دلّ على الرافع.
قال بعض فضلاء الشراح: رفع حكم الخطاب إنما يكون بعد ثبوته ولم يثبت في قوله: «صلّ كل زوال إلى آخر الشهر» إلا بعد تمام الكلام، ثم قال: والعجب من المصنف سلّم ورود هذا على الغزالي، وغفل عن وروده عليه.
قلت: إنما سلّم وروده على الغزالي؛ لأن قوله: «الخطاب الدال على ارتفاع الحكم الثابت بالخطاب المتقدم» ، يغني عن قوله:«مع تراخيه عنه» ؛ لأن لفظ المتقدم يُشعر بأنه غير مقارن، فأتى المصنف بلفظ «متأخر» إذ لم يتقدم له ما يغني عنه.
قيل: الحكم كلام الله تعالى وهو قديم، وما ثبت قدمه امتنع عدمه، فلا يتصور رفعه ولا تأخره عن غيره.
وأجاب المصنف: بأنا نريد بالحكم ما ثبت على المكلف بعد أن لم يكن ثابتًا، فإن نقطع بأن وجوب المشروط بالعقل لم يكن قبل العقل، ثم ثبت بعده، وذلك ليس بقديم / حتى يمتنع انتفاؤه وتأخره.
ثم إنا نعلم قطعًا أنه إذا ثبت تحريم شيء بعد وجوبه، فقد انتفى الوجوب لانتفاء التعلق الخارجي الذي هو جزء مفهوم الوجوب، وانتفاء التعلق الخارجي هو المعنى بالرفع، وإذا تصورنا الحكم والرفع لذلك، كان إمكان رفعه ضروريًا، وكذا تأخره.
وفي الحقيقة، المرتفع التعلق، وفي صدر الكتاب الإشارة إلى أن الحكم كما يطلق على خطاب الله تعالى المتعلق بأفعال المكلفين تعلقًا علميًا، فإنه يطلق أيضًا على خطاب الله تعالى المتعلق بأفعال المكلفين تعلقًا خارجيًا، وهو بالمعنى الثاني حادث؛ لأن التعلق الخارجي مشروط بالعقل، لانتفاء التكليف الخارجي عند انتفائه، والمشروط بالحادث حادث.
وعرف من الحدّ الناسخ والمنسوخ.
قال: (الإمام: اللفظ الدال على ظهور انتفاء شرط دوام الحكم الأول.
فيرد: أن اللفظ دليل النسخ، ولا يطرد، فإن لفظ العدل:«نسخ حكم كذا» ليس بنسخ، ولا ينعكس لأنه قد يكون فعله عليه السلام، ثم حاصله اللفظ الدال على النسخ؛ لأنه فسّر الشرط بانتفاء النسخ، وانتفاء انتفائه حصوله).
أقول أورد للنسخ حدودًا أربعة غير مرضية عنده:
فمنها: ما ذكر الإمام وهو: اللفظ الدال على ظهور انتفاء شرط دوام
الحكم الأول، ومعناه: أن الحكم كان دائمًا في علم الله تعالى دوامًا مشروطًا بشرط لا يعلمه إلا هو، وأجل الدوام أن يظهر انتفاء ذلك الشرط للمكلف فينقطع الحكم ويبطل دوامه، وما ذاك إلا بتوقيفه تعالى، فإذا قال قولًا دالًا عليه، فذلك هو النسخ.
واعترض من وجوه:
منها: أنه فسّر النسخ باللفظ، وهو دليل النسخ لا هو، ولذلك يقال: نسخ الحكم بالآية.
ومنها: عدم الطرد، لدخول قول العدل: نسخ حكم كذا.
ومنها: أنه غير منعكس، لخروج ما نسخ بفعله عليه السلام، وليس بلفظ.
ومنها: أنه تعريف للشيء بنفسه؛ لأنه فسّر شرط دوام الحكم الأول بانتفاء النسخ، فيكون المعنى انتفاء انتفاء النسخ هو حصول النسخ، فانحل إلى أنه اللفظ الدال على حصول النسخ.
قيل في دفع الأول: النسخ يستدعي ناسخًا - أي رافعًا هو الفاعل، وهو الله تعالى -، ومنسوخًا أي مرفوعًا وهو الحكم، والرافع والمرفوع يستدعيان رفعًا وارتفاعًا، فالرفع صفة الفاعل، والارتفاع صفة المفعول، فالنسخ قول الشارع:«نسخت» .
وردّ: بأن ذلك دليل عليه، إذ اللفظ لا يكون صفة له تعالى.
قيل: قد علم أن الحكم / يدوم بدوام شرط دوامه وليس شرطه، وإلا
عدم قول الله الدال على انتفائه، فقاطع الدوام هو ذلك القول وهو النسخ، كما أن الحكم ليس إلا قوله:«افعل» ، كذلك النسخ ليس إلا ذلك القول.
قلت: وفيه نظر؛ لأنا لا نسلم أنه ليس شرطه إلا عدم قول الله، بل شرط دوامه عدم إرادة الله عدم دوامه، والقول دليل عدم إرادة الله دوامه.
سلمنا، لكن قوله:«فقاطع الدوام هو ذلك القول» يقتضي أنه ناسخ لا أنه نسخ، وقوله:«الحكم ليس إلا قوله افعل» لا نسلم بل هو دليل الحكم.
قيل في عدم الطرد: إن قول العدل يدل على القول الدال بالذات على النسخ، والمراد إنما هو الدال بالذات، وفي دفع العكس: أن الفعل يدل على قول ناسخ، إذ النبي عليه السلام مُبلغ، وفي دفع الدوران: ما ذكر لا يتوقف فهمه على فهم النسخ، وإن كان في الخارج هو النسخ، وكذلك كل حدّ ومحدود يتحدان ذاتًا ويتغايران مفهومًا.
قلت: وهذا الأخير - وإن كان كما قال - لكنه تعريف للشيء بمساويه في الخفاء.
قيل في دفع الدور: لا نسلم أن دوام الحكم الأول هو انتفاء النسخ، غاية ما في الباب أنه يلزمه، ولا يلزم من تفسير الشرط بدوام الحكم الأول تفسيره بانتفاء النسخ، وإن كان شرطًا لهما لتلازمهما.
سلمناه، لكن التعرض لقوله:«وانتفاء انتفائه حصوله» - مع أنه متجوز فيه لأنه ليس عينه بل لازمه - ضائع، لحصول الدور بقوله:«لأنه فسر الشرط بانتفاء النسخ» .
قلت: ولا يخفى عدم اتجاه هذا الكلام؛ لأنه لم يقل: إن دوام الحكم
الأول هو انتفاء النسخ، [وإنما قال: شرط دوام الحكم الأول هو انتفاء النسخ] ، على ما فسَّر به الإمام الشرط.
وقوله: «ولا يلزم من تفسير الشرط بدوام الحكم الأول تفسيره بانتفاء النسخ، وإن كان شرطًا لهما لتلازمهما» فاسد أيضًا؛ لأن المفسر شرط دوام الحكم الأول، والمفسر به انتفاء النسخ، لا أن المفسر نفس الشرط، والمفسر به دوام الحكم الأول.
قال: (وقال الغزالي: الخطاب الدال على ارتفاع الحكم الثابت بالخطاب المتقدم على وجه لولاه لكان ثابتًا، مع تراخيه عنه.
وأُورد: الثلاثة الأول، وأن قوله: على وجه
…
إلى آخره زيادة.
وقال الفقهاء: النصُّ الدال على انتهاء أمد الحكم الشرعي مع التأخير عن مورده.
وأورد: الثلاثة الأول، فإن فرّوا من الرفع لكون الحكم قديمًا والتعلق قديمًا، فانتهاء أمد الوجوب ينافي بقاؤه عليه، وهو معنى الرفع.
وإن فروا لأنه لا يرتفع تعلق المستقبل، لزمهم منع النسخ قبل الفعل كالمعتزلة.
وإن كان لأنه بيان أمد التعلق بالمستقبل المظنون استمراره، فلابد من زواله.
المعتزلة: اللفظ الدال على أن مثل الحكم الثابت بالنص المتقدم زائل على وجه لولاه لكان ثابتًا.
فيرد: ما على الغزالي، والمقيد بالمرة بفعل).
أقول: ومن الحدود المزيفة ما عرّفه به القاضي وارتضاه الغزالي.
فقوله: (الخطاب الدال على ارتفاع الحكم الثابت) هو الجنس، واختار الخطاب على النص، ليشمل اللفظ والفحوى والمفهوم، لجواز النسخ بالجميع، وفيه الاحتراز عن الموت والغفلة ونحوهما، وقوله:(بالخطاب المتقدم) احتراز عن رفع مباح الأصل، وقوله:(لولاه لكان ثابتًا) لأن حقيقة النسخ الرفع، وهو إنما يكون رافعًا لو كان المتقدم بحيث لولا طريان هذا لبقي، وقوله:(مع تراخيه عنه) لأنه لو اتصل به لكان بيانًا كالشرط والغاية، والاستثناء.
واعترض: بالثلاثة الأول وهي: أن الخطاب دليل النسخ، ويدخل فيه قول العدل، إذ المراد لولاه لكان ثابتًا عندنا لا في نفس الأمر، وإلا لم يرد.
ويخرج النسخ بفعل الرسول، ونسخ ما ثبت بفعل الرسول ويختص بسؤال، وهو أن قوله:(على وجه لولاه لكان ثابتًا) مع [تراخيه عند - زيادة - أما لولاه لكان ثابتًا] ، فإنه لا يكون الرفع إلا كذلك، وأما مع تراخيه عنه، فإنه لولاه لم يتقرر الحكم الأول، فكان دفعًا لا رفعًا.
ومنها ما عرّفه به الفقهاء فقالوا: النص الدال
…
إلى آخره.
وأورد عليه: الثلاثة الأول الواردة على الإمام.
وفي ورود عدم الطرد نظر مع أنه لا معنى لفرارهم من الرفع إلى الانتهاء.
أما أولًا: فلأنه الحكم لما كان خطاب الله، لم يتصور فيه انتهاء.
وأما ثانيًا: فلأن ذلك يحتمل أمورًا ثلاثة، اثنان فاسدان، وواحد نزاع لفظي.
فإنهم إن فرّوا من الرفع لكون الحكم قديمًا والتعلق قديمًا فلا يتصور رفع شيء منهما ففاسد، فإن انتهاء أمر الوجوب لا يتصور مع دوام الوجوب وعدم دوامه هو الرفع، فقد قالوا بالرفع معنى وأنكروه لفظًا، فقد ناقضوا.
وإن كان فرارهم من الرفع لكون التعلق بالفعل المستقبل لا يمكن رفعه فإذا نسخ علم أنه لم يكن متعلقًا به ففاسد؛ لأنه يلزم منه امتناع النسخ قبل الفعل، لأنه إذا صدق: أن ما نسخ لم يتناوله الخطاب، صدق بعكس النقيض: ما تناوله الخطاب لم ينسخ.
وإن كان فرارهم لأنهم يرون النسخ بيان أمد التعلق بالمستقبل المظنون استمراره قبل سماع الناسخ، مع أنه لم يكن مستمرًا في نفس الأمر، فبسماع الناسخ زال ذلك الظن، وزال التعلق المظنون قطعًا.
وهذا ليس خلافًا في المعنى / لأنه يستلزم زوال التعلق المظنون قطعًا، وهو مرادنا بالرفع، ومرادكم بالانتهاء، فصار النزاع لفظيًا.
ومنها: ما عرّفه به المعتزلة وهو: اللفظ الدال على أن مثل الحكم الثابت بالنص المتقدم زائل على وجه لولاه لكان ثابتًا.
فورد عليه: ما ورد على الغزالي، واختص حدّهم بأنه يرد عليه عدم
الطرد، بالمقيد بمرة يفعل، كما إذا قال:«حجوا» ، ثم قال:«أوجبت عليكم الحج في جميع السنين مرة واحدة» ، فمرة واحدة لفظ دال على أن مثل الحكم الثابت بقوله:«حجوا» زائل على وجه لولا «مرة واحدة» لكان ثابتًا «أوجبت عليكم الحج في جميع السنين» .
قال: (والإجماع على الجواز، والوقوع.
وخالفت اليهود في الجواز، وأبو مسلم الأصفهاني في الوقوع.
لنا: القطع بالجواز، وإن اعتبرت المصالح، فالقطع أن المصلحة تختلف باختلاف الأوقات، وفي التوراة: أن آدم كان يزوج بناته بنيه، وقد حرم ذلك باتفاق.
واستدل: بإباحة السبت ثم تحريمه، وبجواز الختان ثم إيجابه يوم الولادة عندهم، وبجواز الأختين ثم التحريم.
وأجيب: بأن رفع مباح الأصل ليس بنسخ).
أقول: اتفقت الشرائع على جواز النسخ، وخالف بعض اليهود كالشمعنية، ومنهم من جوزه عقلًا ومنعه سمعًا كالعنانية منهم.
ومنهم من جوزه عقلًا وسمعًا كالعيسوية.
واختلف النقل عن الأصبهاني، فحكى الإمام عنه أنه منع جوازه في القرآن، وحكى الآمدي عنه أنه جوزه عقلًا لا سمعًا، وظاهر كلام المصنف أنه جوزه سمعًا وعقلًا، ولكن ما وقع.
وقول المصنف: (الإجماع على الجواز) واضح، وعلى الوقوع: إما إجماع سابق، أو إجماع لا يكون قطعيًا، كما تقدم في لو ندر المخالف.
لنا على اليهود: أنا نقطع بجوازه عقلًا، وأنه لو فرض لم يلزم منه محال لذاته، سواء اعتبرت المصالح أو لا.
أما إذا قلنا بعدم اعتبار المصالح، فلأنه - تعالى - يفعل ما يشاء.
وأما إذا اعتبرت، فلأنا نقطع بأن المصلحة تختلف باختلاف الأوقات، كشرت دواء في وقت دون وقت، فلا بُعْد في أن تكون المصلحة في وقت تقتضي شرع ذلك الحكم، وفي وقت تقتضي رفعه.
ولنا عليهم أيضًا: الوقوع، فإنه جاء في التوراة أن آدم أُمر، تزويج بناته من بنيه، والآن ذلك حرام بالاتفاق، وهذا هو النسخ.
وفي هذا التمسك نظر؛ لأنه أمر بتزويج بناته لصلبه من بنيه لصلبه، وهو البنون حقيقة، فما بعد ذلك إنما يكون رفع مباح الأصل.
سلمنا أنه / مأمور بتزويج ما صدق عليه أنها بنت، لكن يجوز أن يكون مقيدًا بظهور شرع بعده.
سلمنا، لكن الأمر له لا يكون أمرًا لمن بعده.
وقد استدل عليهم: بأن العمل يوم السبت كان قبل موسى مباحًا ثم حرم، وكان الختان جائزًا بعد الكبر ثم أوجب [بعد] الولادة عندهم، والجمع بين الأختين كان جائزًا ثم حرم عندهم، وكذلك نسخ، والوقوع دليل الجواز.
الجواب: منع كون ذلك نسخًا، بل هو رفع لمباح الأصل، فلا يكون نسخًا.
قال: (قالوا: لو نسخت شريعة موسى، لبطل قول موسى المتواتر: هذه شريعة مؤبدة.
قلنا: مختلق.
قيل: من ابن الراوندي، والقطع أنه لو ذلك كان عندهم صحيحًا لقضت العادة بقوله صلى الله عليه وسلم.
قالوا: إن نسخ لحكمة ظهرت له لم تكن ظاهرة، فهو البداء، وإلا فعبث.
وأجيب - بعد اعتبار المصالح -: أنها تختلف باختلاف الأوقات والأحوال، كمنفعة شرب دواء في وقت أو حال وضرره في آخر، فما تجدد ظهور ما لم يكن.
قالوا: إن كان مقيدًا فليس بنسخ، وإن دلّ على التأبيد لم يقبل للتناقض بأنه مؤبد ليس بمؤبد، ولأنه يؤدي إلى تعذر الإخبار بالتأبيد،
وإلى نفي الوثوق بتأبيد حكم ما، وإلى جواز نسخ شريعتكم.
أجيب: بأن تقييد الفعل الواجب بالتأبيد لا يمنع النسخ، كما لو كان معينًا، مثل:«صم رمضان أبدًا» ثم نسخ قبله، فهذا أجدر، و «صم رمضان أبدًا» بالنص يوجب أن الجميع متعلق الوجوب، ولا يلزم الاستمرار، فلا تناقض كالموت، وإنما الممتنع أن يخبر بأن الوجوب باق أبدًا ثم ينسخ).
أقول: تمسك مانعو النسخ من اليهود بخمس شبه:
قالوا أولًا: لو نسخت شريعة موسى لبطل قول موسى المتواتر: «هذه شريعة مؤبدة ما دامت السماوات والأرض» ، والتالي باطل لكونه متواترًا، فلا يبطل متنًا، وقول رسول الله فلا يمكن بطلانه معنى.
الجواب: منع كونه قول موسى، ومنع تواتره، بل هو من اختلاقات ابن الراوندي، والقطع دال على أنه مختلق على موسى؛ لأنه لو كان عندهم صحيحًا - مع حرصهم على دفع نبوته ومعارضته - لقضت العادة بأن يقولوا له ذلك، ويحتجوا عليه به، ولكنهم لم يقولوه، وإلا لنقل واشتهر عادة.
ولنا أيضًا على مانعي الجواز العقلي: الاستفسار في الملزوم.
فإن قالوا: لو جاز نسخ شريعة موسى بطل قول موسى، منعنا الملازمة.
وإن قالوا: لو وقع لبطل قول موسى، لم يلزم نفي الجواز، على أن التأبيد في الشريعة قد يريد به التوحيد، أو المراد بالتأبيد المبالغة، أو ما لم تظهر شريعة، مع أنهم في بعض الأزمنة أقل من عدد التواتر.
قالوا ثنايًا: لو جاز / النسخ لجاز على الله تعالى البداء أو العبث، والتالي باطل، بيان اللزوم، أن النسخ إن كان لحكمة ظهرت لله لم تكن ظاهرة له قبل النسخ، يلزم البداء، وهو ظهور ما لم يكن ظاهرًا، وإن لم يكن لحكمة فهو العبث، وكلاهما محال، لاستحالة البداء - الذي هو الظهور بعد الخفاء - عمن لا يعزب عن علمه شيء في الأرض ولا في السماء، واستحالة العبث على الحكيم.
الجواب أولًا: إنما يرد ذلك لو وجب اعتبار المصالح في أفعاله تعالى، وهو غير لازم، لابتنائه على التحسين والتقبيح العقليين، وقد مرّ بطلانه.
سلمنا أن أفعاله تتبع المصالح، لكن المصلحة تختلف باختلاف الأزمان والأحوال، كمنفعة شرب الدواء في زمان أو حال، ومضرته في زمان أو حال، فقد تتجدد مصلحة لم تكن موجودة؛ لا أنه تجدد ظهور حكمة لم تكن ظاهرة، فلم يلزم بداء.
والحاصل: أنهم إن عنوا بظهور الحكمة تجددها، اخترنا الإثبات ولا بداء، وإن عنوا تجدد العلم بها، اخترنا النفي ولا عبث.
قالوا ثالثًا: الحكم الأول الذي ادعيتم نسخه، إما أن يكون مقيدًا بغاية أو مؤدبًا، وأيًّا ما كان لا نسخ.
أما إذا كان مقيدًا بغاية؛ فلأن الحكم بخلافه بعد تلك الغاية لا يكون نسخًا؛ لأن الحكم انتهى بنفسه، كما لو قال:«صم إلى يوم العيد» ، ثم يقول:«في العيد لا تصم» ، إذ لا رفع قطعًا.
وأما إذا كان مؤبدًا، فلأنه لا يقبل النسخ لوجوه أربعة:
الأول: لزوم التناقض، إذ حاصله الإخبار بأنه مؤبد وأنه غير مؤبد.
الثاني: أنه يؤدي إلى تعذر الإخبار عن التأبيد بوجه من الوجوه، إذ ما من [عبادة] تذكر إلا وتقبل النسخ، لأن الإخبار بالتأبيد لكي يعرف المخاطب التأبيد، ولا طريق له إلى معرفته لجواز النسخ، وذلك يؤدي إلى عجز الله عن إعلامنا بالتأبيد، ونحن نعلم بالضرورة أن ذلك كسائر المعاني النفسية يمكن التعبير عنه والإخبار به.
والثالث: أنه يؤدي إلى نفي الوثوق بتأبيد حكم ما، وقد ذكرتم أحكامًا مؤبدة كالصلاة والصوم، ولا يبقى وثوق بوعد الله ووعيده، ولا يخفى ما فيه من اختلال الشريعة.
ورابعًا: أنه يؤدي إلى جواز نسخ شريعتكم، وأنتم لا تقولون به.
الجواب: أنا نختار أنه دلّ على التأبيد.
قوله: (لا يقبل النسخ للتناقض)، قلنا: تقييد الفعل الواجب بالتأبيد لا يمنع نسخه، كما لو كان الفعل الواجب مقيدًا بوقت معين، مثل:«صم رمضان هذه السنة» ، ثم ينسخه قبل ذلك الوقت / فإن نسخه لا يلزم منه تناقض، فجواز نسخ المقيد بالتأبيد أولى وأجدر بعدم التناقض، لأن تعيين
الوقت نص في طلب الفعل من المكلف في ذلك الوقت، بخلاف التأبيد فإنه يدل على الدوام ظاهرًا لا نصًا، فإنه يستعمل للزمان الطويل، وإذا كان ما دلالته نص لا يؤدي إلى التناقض، فما دلالته ظاهرة أجدر في عدم لزوم التناقض، على هذا يحمل كلامه لا على ظاهره؛ لأنهم يمنعون النسخ فضلًا عن النسخ قبل الفعل.
وتحقيقه: أن قوله: «صم رمضان أبدًا» ، يدل على أن صوم كل شهر من شهور رمضان إلى الأبد واجب في الجملة، غير مقيد للوجوب بالاستمرار إلى الأبد، فلم يكن رفع الوجوب بعدم استمراره مناقضًا له، كما لو قال:«صم كل رمضان» ، فإن جميع الرمضانات داخلة في هذا الخطاب، وإذا مات انقطع الوجوب قطعًا، ولم يكن نفيًا لتعلق الوجوب بشيء من الرمضانات، فالاستمرار إنما هو ما لم يرد ناسخ، كما يستمر ما لم يرد الموت، لأنه ظاهر تبين أنه غير مراد، وإنما الممتنع أن يجعل التأبيد قيدًا للوجوب، بأن يخبر أن الوجوب ثابت أبدًا ثم ينسخ، وما ذكرتم من الوجوه إنما تبطل هذا القسم، فثبت أن زمان الواجب غير زمان الوجوب، فقد يتقيد الأول بالأبد دون الثاني.
قلت: والأولى أن يقرر الجواب هكذا: قولكم إن دلّ على التأبيد لم يقبل، إن أردتم نصًا نمنع الحصر، وإن أردتم ظاهرًا نمنع بطلان اللوازم، إذ لا يناقض الصريح الظاهر، ولا يتعذر الإخبار بالتأبيد لجواز أن يخبر نصًا، ولا ينتفي الوثوق بتأبيد حكم إذا كان التأبيد نصًا، والرابع ملتزم لأن الامتناع شرعي لا عقلي.
قال: (قالوا: لو جاز لكان قبل وجوده، أو بعده، أو معه، وارتفاعه قبل وجوده أو بعده باطل، ومعه أجدر؛ لاستحالة النفي والإثبات.
قلنا: المراد أن التكليف الذي كان زال كالموت؛ لأن الفعل يرتفع.
قالوا: إما أن يكون الباري علم استمراره أبدًا فلا نسخ، أو إلى وقت معين فليس بنسخ.
قلنا: إلى الوقت المعين الذي علم أنه ينسخه فيه، وعلمه بارتفاعه بالنسخ لا يمنع النسخ.
وعلى الأصبهاني: الإجماع على أن شريعتنا ناسخة لما يخالفها، ونسخ التوجه، والوصية للوالدين بالمواريث، وذلك كثير).
أقول: قالوا رابعًا: لو جاز النسخ - وهو رفع الحكم - لكان رفعه قبل وجوده، أو بعده، أو معه، واللازم بأقسامه باطل.
أما قبل الوجود؛ فلأن ما لم يوجد كيف يرتفع؟ والعدم الأصلي ليس ارتفاعًا، وأما بعد وجوده؛ فلأن ما وجد يمتنع أن يرتفع، لأن الواقع لا يرتفع، وأما مع وجوده؛ فلأنه لو ارتفع لزم اجتماع النفي والإثبات، فيوجد حين لا يوجد، وهو محال.
الجواب: أن اللازم أن الفعل لا يرتفع - وهو غير محل النزاع - بل المراد أن التكليف الذي كان متعلقًا بالفعل زال كما يزول بالموت، لأنا نعلم بالضرورة أنه بعد الموت لم يبق مكلفًا، وهو معنى الارتفاع في النسخ؛ لأن الفعل يرتفع.