الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الدرس العاشر بعد الثلاثمائة
[سورة الفيل]
مكية، وهي خمس آيات
بسم الله الرحمن الرحيم
* * *
عن ابن مسعود في قوله: {طَيْراً أَبَابِيلَ} قال: فرق. وقال ابن عباس: هي التي يتبع بعضها بعضًا. وقال قتادة: الأبابيل: الكثيرة.
قال ابن عباس: وكانت طيرًا لها خراطيم الطير، وأكفّ كأكفّ الكلاب. وقال عبد بن عمير: هي طير سود بحرية، في أظافرها ومناقرها الحجارة.
قال ابن إسحاق: ثم إن أبرهة بنى القُلَّيْس بصنعاء، فبنى كنيسة لم ير مثلها في زمانها بشيء من الأرض، ثم كتب إلى النجاشيّ: إني قد بنيت لك أيها الملك كنيسة لم يبن مثلها لملك كان قبلك، ولست بمُنتهٍ حتى أصرف إليها حجّ العرب،
فلما تحدّثت العرب بذلك غضب رجل من النسأة الذين كانوا ينسأون الشهور على العرب في الجاهلية، فخرج حتى أتى القُليس، فقعد فيها -، يعني: أحدث - ثم خرج فلحق بأرضه، فأخبر بذلك أبرهة، قال: من صنع هذا؟ فيقل له: صنع هذا رجل من العرب من أهل هذا البيت الذي تحج العرب إليه بمكّة، لما سمع قولك: أصرف إليها حاج العرب؛ فغضب عند ذلك أبرهة وحلف ليسيرنّ إلى البيت حتى يهدمه.
ثم أمر الحبشة فتهيّأت وتجهّزت، ثم سار وخرج معه بالفيل، وسمعت بذلك العرب فأعظموه وفُظِعوا به، ورأوا جهاده حقًّا عليهم، حين سمعوا بأنه يريد هدم الكعبة بيت الله الحرام، فخرج إليه رجل من أشراف أهل اليمن وملوكهم، يقال له: ذو نَفْر، دعا قومه ومن أجابه من سائر العرب إلى حرب أبرهة، وجهاده، فأجابه إلى ذلك من أجابه ثم عرض
له، فقاتله، فهزم ذو نَفْر وأصحابه وأخذ فأتي به أسيرًا، فلما أراد قتله قال له ذو نَفْر: أيها الملك لا تقتلني، فإنه عسى أن يكون بقائي معك خيرًا لك من قتلي، فتركه من القتل وحبسه عنده في وثاق، وكان أبرهة رجلاً حليمًا.
ثم مضى أبرهة على وجهه ذلك يريد ما خرج له، حتى إذا كان بأرض خثعم، عرض له نفيل بن حبيب في قبيلتي خثعم شهران وناهس ومن تبعه من قبائل العرب، فقاتله فهزمه أبرهة وأخذ نفيل أسيرًا، فأتي به فلما همّ بقتله قال له نفيل: أيها الملك لا تقتلني فإني دليلك بأرض العرب، وهاتان يداي لك على قبيلتي خثعم وناهس بالسمع والطاعة ; فخلَّى سبيله وخرج به معه يدلّه، حتى إذا مرّ بالطائف خرج إليه مسعود بن معتب في رجال ثقيف فقالوا له: أيها الملك إنما نحن عبيدك سامعون لك مطيعون، ليس عندنا لك خلاف، وليس بيننا هذا بالبيت الذي تريد - يعنون اللات - إنما تريد البيت الذي بمكّة، ونحن نبعث معك من يدلك عليه، فتجاوز عنهم، فبعثوا معهم أبا رغال يدلّه على الطريق إلى مكة؛ فخرج معه حتى أنزله المغمس، فلما أنزله به مات أبو رغال هنالك، فرجمت قبره العرب.
فلما نزل أبرهة المغمّس بعث رجلاً من الحبشة على خيل له حتى انتهى إلى مكّة، فساق إليه أموال أهل تهامة من قريش وغيرهم، وأصاب فيها مائتي بعير لعبد المطلب بن هاشم - وهو يومئذٍ كبير قريش وسيّدها - فهمّت قريش وكنانة وهذيل ومن كان بذلك الحرم بقتاله، ثم عرفوا
أنهم لا طاقة لهم به فتركوا ذلك، وبعث أبرهة حناطة الحميريّ إلى مكّة وقال له: سل عن سيّد أهل هذا البلد وشريفها ثم قل له: إن الملك يقول لك: إني لم آت لحربكم، إنما جئت لهدم هذا البيت، فإن لم ترضوا دونه بحرب فلا حاجة لي بدمائكم، فإن هو لم يرد حربي فأتني به. فلما دخل حناطة مكّة، سأل عن سيّد قريش وشريفها فقيل له: عبد المطلب بن هاشم، فجاءه فقال له ما أمره به أبرهة، فقال له عبد المطلب: والله ما نريد حربه وما لنا بذلك من طاقة، هذا بيت الله الحرام، وبيت خليله إبراهيم عليه السلام فإن يمنعه منه فهو بيته وحرمه، وإن يخلّ بينه وبينه فوالله ما عندنا دفع عنه. فقال حناطة: فانطلق معي إليه فإنه قد أمرني أن آتيه بك.
فانطلق معه عبد المطلب ومعه بعض بنيه، حتى أتى العسكر، فسأل عن ذي نفر - وكان له صديقًا - حتى دخل عليه وهو في محبسه فقال له: يا ذا نفر هل عندك من غناء فيما نزل بنا؟ فقال له ذو نفر: وما غناء رجل أسير بيدي ملك ينتظر أن يقتله غدوًّا أو عشيًّا؟ ما عندنا غناء في شيء مما نزل بك، إلا أن أنيسًا سائس الفيل صديق لي، وسأرسل إليه فأوصيه بك وأعظم عليه حقّك، وأساله أن يستأذن لك على الملك، فتكلّمه بما بدا لك، ويشفع لك عنده بخير، إن قدر على ذلك. فقال: حسبي، فبعث ذو نفر إلى أنيس فقال له: إن عبد المطلب سيّد قريش وصاحب عير مكّة، يطعم الناس بالسهل والوحوش في رؤوس الجبال،
وقد أصاب له الملك مائتي بعير، فاستأذن له عليه، وانفعه عنده بما استطعت. فقال: أفعل.
فكلّم أنيس أبرهة فأذن له، وكان عبد المطلب أوسم الناس وأجملهم
وأعظمهم، فلما رآه أبرهة أجلّه وأكرمه عن أن يجلسه تحته، وكره أن تراه الحبشة يجلس معه على سرير ملكه، فنزل أبرهة عن سريره فجلس على بساطه وأجلسه معه عليه إلى جنبه، ثم قال لترجمانه: قل له ما حاجتك؟ فقال: حاجتي أن يردّ عليّ الملك مائتي بعير أصابها لي. فلما قال له ذلك. قال أبرهة لترجمانه: قل له: قد كنت أعجبتني حين رأيتك، ثم قد زهدت فيك حين كلَّمتني، أتكلّمني في مائتي بعير أصبتها لك، وتترك بيتًا هو دينك ودين آبائك قد جئت لهدمه لا تكلّمني فيه؟ قال له عبد المطلب: إني أنا ربّ الإِبل، وإن للبيت ربًّا سيمنعه. قال: ما كان لمتنع منّي، قال: أنت وذاك. فردّ أبرهة على عبد المطّلب الإِبل التي أصاب له.
فلما انصرف عبد المطلب إلى قريش أخبرهم الخبر، وأمرهم بالخروج من مكة، والتحرزّ في شعف الجبال والشعاب، تخوّفًا عليهم من معرّة الجيش، ثم قام عبد المطّلب فأخذ بحلقة باب الكعبة، وقام معه نفر من قريش يدعون الله، ويستنصرونه على أبرهة وجنده، فقال عبد المطلب وهو آخذ بحلقة باب الكعبة:
لاهمّ إن العبد يمنع
…
رحله فامنع حلالك
لا يغلبن صليبهم
…
ومحالهم أبدًا محالك
إن كنت تاركهم وقبلتنا
…
فأمر ما بدالك
ثم أرسل عبد المطّلب حلقة باب الكعبة، وانطلق هو ومن معه من قريش إلى شعف الجبال، فتحرّزوا فيها ينتظرون ما أبرهة فاعل بمكّة إذا دخلها ; فلما أصبح أبرهة تهيّأ لدخول مكّة وهيّأ فيله وعبّأ جيشه - وكان اسم الفيل محمودًا -، وأبرهة مجمع لهدم البيت، ثم الانصراف إلى اليمن. فلما وجّهوا الفيل إلى مكّة أقبل نفيل بن حبيب حتى قام إلى جنب الفيل، ثم أخذ بأذنه فقال: أبرك محمود وارجع راشدًا فإنك في بلد الله الحرام. ثم أرسل أذنه فبرك الفيل وخرج نفيل بن حبيب يشتدّ حتى أصعد في الجبل. وضربوا الفيل ليقوم فأبى، فضربوا رأسه بالطبرزين ليقوم فأبى، فأدخلوا محاجن لهم في مراقه فنزعوه بها ليقوم فأبى، فوجّهوه
راجعًا إلى اليمن فقام يهرول، ووجّهوه إلى الشام ففعل مثل ذلك، ووجّهوه إلى المشرق ففعل مثل ذلك، ووجّهوه إلى مكّة فبرك؛ فأرسل الله تعالى عليهم طيرًا من البحر، أمثال الخطاطيف والبلسان، مع كلّ طائر منها ثلاثة أحجار يحملها: حجر في منقاره، وحجران في رجليه أمثال الحمص، والعدس، لا تصيب منهم أحدًا إلا هلك، وليس كلّهم أصابت؛ وخرجوا هاربين يتبدرون الطريق الذي منه جاءوا، ويسألون عن نفيل بن حبيب، ليدلّهم على الطريق إلى اليمن، فقال نفيل حين رأى ما أنزل الله بهم من نقمته:
أين المفرّ والإِله الطالب
…
والأشرم المغلوب ليس الغالب
وقال أيضًا:
ألا حُيّيت عنا يا رُدَيْنَا
…
نَعِمْناكُمْ مع الإِصباح عَيْنا
أتانا قابس منكم عشاء
…
فلم يقدر لقابسكم لَدينا
رُدَيْنَةُ لو رأيت ولا تريه
…
لدى جَنْب المحصّب ما رأينا
إذًا لعذرتِني وحمدتِ أمري
…
ولم تأسَيْ على ما فات بينا
حمدتُ الله إذا أبصرت طيرًا
…
وخفت حجارة تلقى علينا
وكلِّ القوم يسأل عن نفيل
…
كأنّ عليّ للحبشان دَيْنا
فخرجوا يتساقطون بكلّ طريق ويهلكون بكل مهلك على كلّ منهل وأصيب أبرهة في جسده وخرجوا به معهم يسقط أنامله أنملة أنملة، كلّما سقطت أنملة أتبعتها منه مدّة تمثّ قيحًا ودمَا، حتى قدموا به صنعاء، وهو مثل فرخ الطائر، فما مات حتى انصدع صدره عن قلبه. فلما بعث الله تعالى محمدًا صلى الله عليه وسلم، كان مما يعدّ الله على قريش من نعمته عليهم وفضله ما ردّ عنهم من أمر الحبشة، فقال الله تبارك وتعالى:{أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ * أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ * وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبَابِيلَ * تَرْمِيهِم بِحِجَارَةٍ مِّن سِجِّيلٍ * فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَّأْكُولٍ} . وقال: {لِإِيلَافِ
قُرَيْشٍ * إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاء وَالصَّيْفِ * فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ * الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ} أي: لئلا يغيّر شيئًا من حالهم التي كانوا عليها، لما أراد الله بهم من الخير لو قبلوه، فلما ردّ الله الحبشة عن مكة وأصابهم بما أصابهم من النقمة،
أعظمت العرب قريشًا وقالوا: هم أهل الله، قاتل الله عنهم وكفاهم مؤونة عدوّهم، فقالوا: في ذلك أشعارًا، فقال عبد الله بن الزبعريّ:
تنكلوا عن بطن مكة إنها
…
كانت قديمًا لا يرام حريمها
لم تخلق الشعرى ليالي حرمت
…
إذ لا عزيز من الأنام يرومها
سائل أمير الجيش عنها ما رأى
…
ولسوف يُنْبي الجاهلين عليمُها
ستون ألفًا لم يؤوبوا أرضهم
…
ولم يعش بعد الإِياب سقيمُها
كانت بها عادٌ وجُرْهُمُ قبلهم
…
والله من فوق العباد يُقيمها
وقال أبو قيس بن الأسلت:
فقوموا فصلّوا ربّكم وتمسّحوا
…
بأركان هذا البيت بين الأخاشب
فعندكم منه بلاء مصدّقٌ
…
غداة أبا يكسوم هادي الكتائب
كتيبة بالسهل تمشي ورجله
…
على القاذفات في رؤوس المناقب
فلما أتاكم نصر ذي العرش ردّهم
…
جنودُ المليك بين سافٍ وحاصِب
فولّوا سراعًا هاربين ولم يؤب
…
إلى أهله ملحبش غير عاصب
[انتهى ملخصًا]
* * *