الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الدرس الحادي والتسعون بعد المائتين
[سورة الجن]
مكية، وهي ثمان وعشرون آية
بسم الله الرحمن الرحيم
{قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِّنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَباً (1) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَن نُّشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَداً (2) وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلَا وَلَداً (3) وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَى اللَّهِ شَطَطاً (4) وَأَنَّا ظَنَنَّا أَن لَّن تَقُولَ الْإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِباً (5) وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِّنَ الْإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِّنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقاً (6) وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَمَا ظَنَنتُمْ أَن لَّن يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَداً (7) وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاء فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً (8) وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَن يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَاباً رَّصَداً (9) وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَن فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً (10) وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَداً (11) وَأَنَّا ظَنَنَّا أَن لَّن نُّعجِزَ اللَّهَ فِي الْأَرْضِ وَلَن نُّعْجِزَهُ هَرَباً (12) وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدَى آمَنَّا بِهِ فَمَن يُؤْمِن بِرَبِّهِ فَلَا يَخَافُ بَخْساً وَلَا رَهَقاً (13) وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُوْلَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَداً (14) وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً (15) وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُم مَّاء غَدَقاً (16) لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَمَن يُعْرِضْ عَن ذِكْرِ رَبِّهِ
يَسْلُكْهُ
عَذَاباً صَعَداً (17) وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً (18) وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً (19) قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً (20) قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلَا رَشَداً (21) قُلْ إِنِّي لَن يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَداً (22) إِلَّا بَلَاغاً مِّنَ اللَّهِ وَرِسَالَاتِهِ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً (23) حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ نَاصِراً وَأَقَلُّ عَدَداً (24) قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ مَّا تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَداً (25) عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً (26) إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً (27) لِيَعْلَمَ أَن قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً (28) } .
* * *
قال ابن عباس: (انطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم في نفر من أصحابه عامدين إلى سوق عكاظ، وقد حيل بين الشياطين وبين خبر السماء وأرسلت عليهم الشهب، فقالوا: ما حال بينكم وبين خبر السماء إلا شيء حدث، فانطلقوا فاضربوا مشارق الأرض ومغاربها فانظروا ما هذا الذي حدث. قال: فانطلقوا يضربون مشارق الأرض ومغاربها يبتغون ما هذا الذي حال بينهم وبين خبر السماء؛ فانطلق النفر الذين توجهوا نحو تهامة
إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بنخلة وهو عامد إلى سوق عكاظ، وهو يصلي بأصحابه صلاة الفجر، فلما سمعوا القرآن استمعوا له فقالوا: هذا والله الذي
حال بينكم وبين خبر السماء. قال فهنالك حين رجعوا إلى قومهم قالوا: يا قومنا {إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَباً * يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَن نُّشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَداً} قال: فأنزل الله إلى نبيه صلى الله عليه وسلم: {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِّنَ الْجِنِّ} وإنما أوحي إليه قول الجن. وقال الضحاك في قوله: قال: {أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِّنَ الْجِنِّ} هو قول الله: {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَراً مِّنَ الْجِنِّ} .
وعن ابن عباس في قوله: {وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا} يقول: فعله وأمره وقدرته، وعن مجاهد في قوله:{وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا} قل جلال ربنا، وقال الحسن: غنى ربنا. وعن مجاهد أيضًا: قال: ذكره، وقال سعيد بن جبير: أي: تعالى ربنا. قال البغوي يقال: جد الرجل أي: عظم، ومنه قول أنس: كان الرجل إذا قرأ البقرة، وآل عمران جد فينا، أي: عظم قدره. {وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا} ، قال البغوي جاهلنا {عَلَى اللَّهِ شَطَطاً} كذبًا وعدوانًا، وهو وصفه بالشريك والولد. {وَأَنَّا ظَنَنَّا أَن لَّن تَقُولَ الْإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِباً} ، قال البغوي: أي: ما حسبنا أن الإنس والجن يتمالون على الكذب على الله في نسبة الصاحبة والولد إليه. وعن معمر: قال: تلا قتادة: {وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَى اللَّهِ شَطَطاً * وَأَنَّا ظَنَنَّا أَن لَّن تَقُولَ الْإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِباً} ، فقال: عصاه والله سفيه الجن كما عصاه سفيه الإنس. وعن الحسن في
قوله: {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِّنَ الْإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِّنَ الْجِنِّ} ، قال: كان الرجل منهم إذا نزل الوادي فبات به قال: أعوذ بعزيز هذا الوادي من شر سفهاء قومه. {فَزَادُوهُمْ رَهَقاً} ، قال ابن زيد: خوفًا. وقال قتادة: قال الله: {فَزَادُوهُمْ
رَهَقاً} أي: إثمًا، وازدادت الجن عليهم بذلك جراءة.
{وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَمَا ظَنَنتُمْ أَن لَّن يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَداً} بعد موته. وقال الكلبىّ. ظن كفّار الجنّ كما ظنّ كفرة الإنس: أن لا يبعث الله رسولاً. {وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاء فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً} ، قال سعيد بن جبير:(كانت الجن تستمع، فلما رجموا قالوا: إن هذا الذي حدث في السماء لشيء حدث في الأرض. قال: فذهبوا يطلبون حتى رأوا النبي صلى الله عليه وسلم خارجاً من سوق عكاظ يصلّي بأصحابه الفجر، فذهبوا إلى قومهم منذرين) . وقال ابن زيد في قوله: {وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاء فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً} حتى بلغ: {فَمَن يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَاباً رَّصَداً} فلما وجدوا ذلك رجعوا إلى إبليس فقالوا: منع منا السمع، فقال لهم: بأن السماء لم تحرس قط إلا على أحد أمرين: إما لعذاب يريد الله أن ينزله على أهل الأرض بغتة، وإما نبي مرشد مصلح. قال: فذلك قول الله: {وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَن فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً} .
{وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَداً} قال ابن عباس: أهواء شتى، منا المسلم ومنا المشرك. وقال قتادة: أهواء مختلفة.
{وَأَنَّا ظَنَنَّا أَن لَّن نُّعجِزَ اللَّهَ فِي الْأَرْضِ وَلَن نُّعْجِزَهُ هَرَباً} ، قال البغوي:{وَأَنَّا ظَنَنَّا} علمنا وأيقنا {أَن لَّن نُّعجِزَ اللَّهَ فِي الْأَرْضِ} ، أي: لن نفوته إن أراد بنا أمرًا {وَلَن نُّعْجِزَهُ هَرَباً} إن طلبنا. {وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدَى آمَنَّا بِهِ فَمَن يُؤْمِن بِرَبِّهِ فَلَا يَخَافُ بَخْساً وَلَا رَهَقاً} قال ابن عباس: لا يخاف نقصًا من حسناته، ولا زيادة في سيئاته.
…
{وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ} ، قال: العادلون عن الحق الذين جعلوا لله ندًا. {فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُوْلَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَداً} ، قال البغوي: أي: قصدوا طريق الحق وتوخوه، {وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ} الذين كفروا {فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً} كانوا وقود النار يوم القيامة.
قال البغوي: ثم رجع إلى كفار مكة فقال: {وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ} ، قال مجاهد: طريقة الإسلام {لَأَسْقَيْنَاهُم مَّاء غَدَقاً} ،
قال: نافعًا كثيرًا، لأعطيناهم مالاً كثيرًا، {لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ} قال: لنبتليهم به. وقال عمر رضي الله عنه: أينما كان الماء كان المال، وأينما كان المال كانت الفتنة. {وَمَن يُعْرِضْ عَن ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَاباً صَعَداً} ، قال ابن عباس: شاقًا. وقال قتادة: عذابًا لا راحة فيه. وعن ابن عباس: {عَذَاباً صَعَداً} ، قال: جبل في جهنم. وعن قتادة: قوله: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً} كانت اليهود والنصارى إذا دخلوا كنائسهم وبيعهم أشركوا بالله، فأمر الله نبيه أن يوحد الله وحده. وقال ابن جرير: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِّنَ الْجِنِّ} ، {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا} أيها الناس {مَعَ اللَّهِ أَحَداً} ولا تشركوا به فيها شيئًا، ولكن أفردوا له التوحيد وأخلصوا له العبادة.
وعن قتادة: {وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً} ، قال: تلبدت الإنس والجن على هذا الأمر ليطفئوه، فأبى الله إلا أن ينصره ويمضيه
ويظهره على من ناوأه. وقال الحسن: لما قام رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لاإله إلا الله» ، ويدعو الناس إلى ربهم، كادت العرب تكون عليه جميعًا. وقال ابن عباس:{لِبَداً} أعواقًا. وقال العوفى عن ابن عباس: لما سمعوا النبي صلى الله عليه وسلم يتلو القرآن، كادوا يركبونه من الحرص لما سمعوه يتلو القرآن، ودنوا منه فلم يعلم بهم حتى أتاه الرسول، فجعل يقرئه:{قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِّنَ الْجِنِّ} يستمعون القرآن. {كَادُوا} يعني: الجن {يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً} أي: يؤكب بعضهم
بعضًا ويزدحمون حرصًا على استماع القرآن. قال ابن حجر العسقلاني: (والمعنى أن الجن تزاحموا على النبي صلى الله عليه وسلم لما استمعوا القرآن، وهو المعتمد) . انتهى.
{قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً} ، أي: قال لهم الرسول لما آذوه وخالفوه وكذبوه وتظاهروا عليه، ليبطلوا ما جاء به من الحق، واجتمعوا على عدواته {إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي} ، أي: إنما أعبد ربي وحده لا شريك له، وأستجير به، وأتوكل عليه، {وَلَا أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً} .
وقوله تعالى: {قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلَا رَشَداً} ، أي: إنما أنا بشر مثلكم يوحى إليّ، وعبد من عباد الله ليس لي من الأمر شيء في هدايتكم ولا غوايتكم، بل المرجع في ذلك كلّه إلى الله عز وجل. ثم أخبر عن نفسه أيضًا أنه لن يجيره من الله أحد: أي: لو عصيته فإنه لا يقدر أحد على إنقاذي من عذابه، {وَلَنْ أَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَداً} ، قال مجاهد: ملجأ. وعن قتادة: {إِلَّا بَلَاغاً مِّنَ اللَّهِ وَرِسَالَاتِهِ} فذلك الذي أملك بلاغاً من الله ورسالاته.
{وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً * حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ نَاصِراً وَأَقَلُّ عَدَداً} ، قال ابن كثير: أي: حتى إذا
رأى هؤلاء المشركون من الجنّ والإِنس ما يوعدون يوم القيامة، فسيعلمون يومئذٍ من أضعف ناصرًا وأقلّ عددًا، هم أم المؤمنون الموحّدون لله تعالى، أي: بل المشركون لا ناصر لهم بالكلية وهم أقلّ عددًا من جنود الله عز وجل.
قال ابن كثير: يقول تعالى آمرًا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقول للناس أنه لا علم له بوقت الساعة، ولا يدري أقريب وقتها أم بعيد:{قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ مَّا تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَداً} ، أي: مدّة طويلة، {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً * إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ} ، قال ابن عباس: فأعلم الله سبحانه الرسل من الغيب: الوحي، أظهرهم عليه بما أوحى إليهم من غيبه، وما يحكم الله فإنه لا يعلم ذلك غيره. وقال ابن زيد: ينزل من غيبه ما شاء على الأنبياء، أنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم الغيب: القرآن؛ قال: وحدّثنا فيه بالغيب بما يكون يوم القيامة.
وعن الضحاك: {إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً} ، قال: كان النبيّ صلى الله عليه وسلم إذا بعث إليه الملك بعث ملائكة يحرسونه من بين يديه ومن خلفه، أن يتشبّه الشيطان على صورة الملك. وعن إبراهيم:{مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً} ، قال: ملائكة يحفظونهم من بين أيديهم ومن خلفهم. وقال ابن عباس: هي معقّبات من الملائكة يحفظون النبيّ صلى الله عليه وسلم من الشيطان، حتى يتبيّن الذي أرسل به إليهم وذلك حين يقول: {لِيَعْلَمَ أَن قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ
رَبِّهِمْ} . وعن قتادة: {لِيَعْلَمَ أَن قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ} ، ليعلم نبيّ الله صلى الله عليه وسلم أن الرسل قد أبلغت عن الله، وأن الله حفظها ودفع عنها. وقال
البغوي: أي: ليعلم الرسول أن الملائكة قد أبلغوا رسالات ربهم، {وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ} ، أي: علم الله ما عند الرسل، فلم يَخْفَ عليه شيء.
{وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً} . قال ابن كثير: ويحتمل أن يكون الضمير عائدًا إلى الله عز وجل، وهو قول حكاه ابن الجوزيّ في زاد المسير، ويكون المعنى في ذلك: أنه يحفظ رسله بملائكته ليتمكّنوا من أداء رسالاته، ويحفظ ما ينزله إليهم من الوحي {لِيَعْلَمَ أَن قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ} ، ويكون ذلك كقوله تعالى:{وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلَاّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ} ، وكقوله تعالى:{وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ} ، إلى أمثال ذلك من العلم بأنه تعالى يعلم الأشياء قبل كونها قطعًا لا محالة؛ ولهذا قال بعد هذا:{وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً} ، قال ابن عباس: أحصى ما خلق وعرف عدد ما خلق، فلم يفته علم شيء حتى مثاقيل الذرّ والخردل.
* * *