الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الدرس الخامس والثمانون بعد المائتين
[سورة التحريم]
مدنية، وهي اثنتا عشرة آية
بسم الله الرحمن الرحيم
{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (1) قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (2) وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثاً فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَن بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ (3) إِن تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِن تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ (4) عَسَى رَبُّهُ إِن طَلَّقَكُنَّ أَن يُبْدِلَهُ أَزْوَاجاً خَيْراً مِّنكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُّؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَاراً (5) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (6) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (7) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحاً عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُكَفِّرَ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ
يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (8) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ
وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (9) ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَاِمْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ (10) وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِّلَّذِينَ آمَنُوا اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (11) وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ (12) } .
* * *
عن زيد بن أسلم: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أصاب أم إبراهيم في بيت بعض نسائه، قال: فقالت: أي رسول الله في بيتي وعلى فراشي؟ فجعلها عليه حرامًا، فقالت: يا رسول الله كيف تحرّم عليك الحلال؟ فحلف لها بالله لا يصيبها، فأنزل الله عز وجل:{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ} قال زيد: فقوله: «أنت عليّ حرام» لغو. رواه ابن جرير. وعن مسروق قال: آلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وحرّم، فعوتب في التحريم وأُمر بالكفّارة في اليمين. وعن ابن عباس في قوله:{قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} أمر الله النبيّ صلى الله عليه وسلم والمؤمنين إذا حرّموا شيئًا مما أحلّ الله لهم، أن يكفّروا أيمانهم بإطعام عشرة مساكين، أو كسوتهم، أو تحرير رقبة، وليس يدخل ذلك في طلاق. وعن سعيد
بن جبير أن ابن عباس كان يقول: في الحرام يمين يكفّرها، وقال ابن عباس: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ
فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} .
وعن قتادة: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} ؟ الآية قال: (كان حرّم فتاته القبطيّة - أم ولده إبراهيم يقال لها مارية - في يوم حفصة، وأسرّ ذلك إليها، فاطّلعت عليه عائشة، وكانتا تظاهران على نساء النبيّ صلى الله عليه وسلم، فأحلّ الله له ما حرّم على نفسه، فأمر أن يكفّر عن يمينه، عوقب في ذلك فقال: {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} . قال قتادة: وكان الحسن يقول: حرّمها عليه فجعل الله فيها كفارة يمين) .
وعن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: (أتاه رجل فقال: إني جعلت امرأتي عليّ حرامًا، قال: كذبت ليست عليك بحرام، ثم تلا هذه الآية: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} ؟ أغلظ الكفّارات عتق رقبة) . رواه النسائي. وعن مجاهد عن ابن عباس في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} ؟ قال حرّم رسول الله صلى الله عليه وسلم سرّيته.
قال ابن كثير: ومن ها هنا ذهب من ذهب من الفقهاء ممن قال بوجوب الكفّارة على من حرّم جاريته أو زوجته، أو طعامًا أو شرابًا، أو ملبسًا أو شيئًا من المباحات، وهو مذهب الإِمام أحمد وطائفة؛ وذهب الشافعي إلى أنه لا تجب الكفّارة فيما عدا الزوجة والجارية، إذا
حرّم عينيهما أو أطلق التحريم فيهما، في قول؛ فأما إذا نوى بالتحريم طلاق الزوجة أو عتق الأمة، نفذ فيهما. انتهى.
وعن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يمكث عند زينب بنت جَحش، ويشرب عندها عسلاً، فتواطأت أنا وحفصة: أنّ أَيَّتَنَا دخل عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم فلتقل له: إني أجد منك ريح مغافير، أكلت مغافير؟ فدخل على إحداهما فقالت ذلك له
فقال: «لا، بل شربت عسلاً عند زينب بنت جحش ولن أعود له، وقد حلفت لا تخبري بذلك أحدًا» . وفي رواية: فنزلت: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} إلى قوله تعالى: {إِن تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} لعائشة وحفصة.
…
{وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثاً} لقوله: «بل شربت
…
عسلاً» . رواه البخاري.
وقال ابن زيد في قوله: {وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثاً} قوله لها: «لا تذكريه» . {فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَن بَعْضٍ} وكان كريمًا صلى الله عليه وسلم {فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنبَأَكَ هَذَا} ؟ ولم تشكّ أن صاحبتها أخبرت عنها، {قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ} . وعن ابن عباس قوله:{إِن تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} يقول: زاغت قلوبكما، يقول: قد أثمت قلوبكما وعن قتادة: {فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} أي: مالت قلوبكما. قال في جامع البيان: أي: إن تتوبا فقد حقّ لكما ذلك، فإنه قد عدلت عن الحقّ قلوبكما وصدر منكما ما يوجب التوبة. {وَإِن تَظَاهَرَا عَلَيْهِ} بما
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (ولم أزل حريصًا على أن أسأل عمر عن المرأتين من أزواج النبيّ صلى الله عليه وسلم اللتين قال الله تعالى: {إِن تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} حتى يحجّ عمر وحججت معه، فلما كان ببعض الطريق عدل عمر وعدلت معه بالإِداوة، فتبرّز ثم أتاني فسكبت على يديه فتوضّأ، فقلت: يا أمير المؤمنين من المرأتان من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم اللتان قال الله تعالى: {إِن تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} ؟ فقال عمر: واعجبًا لك يا ابن عباس - قال الزهريّ كره والله ما سأله عنه ولم يكتمه، قال: - هي عائشة وحفصة. قال: ثم أخذ يسوق الحديث، قال: كنا معشر قرش قومًا تغلب النساء، فلما قدمنا المدينة وجدنا قومًا تغلبهم نساؤهم، فطفق نساؤنا يتعلّمن من نسائهم، قال: وكان منزلي في دار
أمية بن زيد بالعوالي، قال: فغضبت يومًا على امرأتي فإذا هي تراجعني فأنكرت أن تراجعني، فقالت: ما تنكر أن أراجعك؟ فوالله إن أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم ليراجعنه، وتهجره إحداهنّ اليوم إلى الليل، قال: فانطلقت فدخلت على حفصة فقلت: أتراجعين رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالت: نعم. قلت: وتهجره إحداكنّ اليوم إلى الليل؟ قالت: نعم. قلت: قد خاب من فعل ذلك منكنّ وخسر، أفتأمن إحداكنّ أن يغضب الله عليها لغضب رسوله فإذا هي قد هلكت؟ لا تراجعي رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا تسأليه شيئًا وسليني من مالي ما بدا لك، ولا يغرّنّك أن كانت
جارتك هي أوسم وأحبّ إلى رسول الله منك - يريد عائشة - قال: وكان لي جار من الأنصار وكنا نتناوب النزول إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ينزل يومًا وأنزل يومًا، فيأتيني بخبر الوحي وغيره وآتيه بمثل ذلك، وكنا نتحدث أن غسان تنعل الخيل لتغزونا، فنزل صاحبي يومًا ثم أتى عِشاء فضرب بابي ثم ناداني فخرجت إليه، فقال: حدث أمر عظيم، فقلت: وما ذاك؟ جاءت غسان؟ قال: لا، بل أعظم من ذلك وأطول، طلّق رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءه، فقلت: قد خابت حفصة وخسرت، قد كنت أظنّ هذا كائنًا؛ حتى إذا صلّيت الصبح شددت عليّ ثيابي، ثم نزلت فدخلت على حفصة وهي تبكي فقلت: أطلّقكنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقالت: لا أدري، هو هذا معتزل في هذه المشربة، فأتيت غلامًا له أسود فقلت: استأذن لعمّه، فدخل الغلام ثم خرج إليّ فقال: ذكرتك له فصمت، فانطلقت حتى أتيت المنبر، فإذا عنده رهط جلوس يبكي بعضهم، فجلست عنده قليلاً ثم غلبني ما أجد فأتيت الغلام فقلت: استأذن لعمر، فدخل ثم خرج إليّ فقال: قد ذكرتك له فصمت، فخرجت فجلست إلى المنبر ثم غلبني ما أجد فأتيت الغلام فقلت: استأذن لعمر، فدخل ثم خرج إليّ فقال: قد ذكرتك له فصمت، فولّيت مدبرًا فإذا الغلام يدعوني فقال: ادخل قد أذن لك، فدخلت فسلّمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذ هو متّكئ على رمل حصير - وفي رواية رمال حصير - قد أثّر في جنبه، فقلت: أطلّقت يا رسول الله نساءك؟ فرفع رأسه
إليّ وقال: «لا» . فقلت: الله أكبر، لو رأيتنا يا رسول الله، وكنا معشر
قريش قومًا نغلب النساء، فلما قدمنا المدينة وجدنا قومًا تغلبهم نساؤهم فطفق نساؤنا يتعلّمن من نسائهم، فغضبت على امرأتي يومًا فإذا هي تراجعني، فأنكرت أن تراجعني فقالت: ما تنكر أن أراجعك؟ فوالله إن أزواج النبيّ صلى الله عليه وسلم ليراجعنه، وتهجره إحداهنّ اليوم إلى الليل، فقلت: قد خاب من فعل ذلك منكنّ وخسرت، أفتأمن إحداكنّ أن يغضب الله عليها لغضب رسوله فإذا هي قد هلكت؟ فتبسّم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله قد دخلت على حفصة فقلت: لا يغرّنّك أن كانت جارتك هي أوسم وأحبّ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم منك، فتبسّم أخرى، فقلت: أستأنس يا رسول الله؟ قال: «نعم» . فجلست فرفعت رأسي في البيت، فوالله ما رأيت في البيت شيئًا يرد البصر إلا أهبة مقامه فقلت: ادع الله يا رسول الله أن يوسّع على أمتك، فقد وسّع على فارس والروم وهم لا يعبدون الله، فاستوى جالسًا وقال:«أفي شكّ أنت يا ابن الخطاب؟ أولئك قوم عجلت لهم طيباتهم في الحياة الدنيا» . فقلت: استغفر لي يا رسول الله. وكان أقسم أن لا يدخل عليهنّ شهرًا من شدّة موجدته عليهنّ، حتى عاتبه الله عز وجل . متفق عليه. واللفظ لأحمد.
وفي رواية لمسلم: (لما اعتزل نبيّ الله صلى الله عليه وسلم نساءه دخلت المسجد، فإذا الناس ينكتون بالحصى ويقولون: طلّق رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءه، وذلك قبل أن يؤمر بالحجاب، فقلت: لأعلمّن ذلك اليوم. فذكر الحديث في دخوله على عائشة وحفصة ووعظه إياهما، إلى أن قال فقالت: يا رسول
الله ما يشقّ عليك من أمر النساء؟ فإن كنت طلّقتهنّ فإن الله معك وملائكته وجبريل وميكاييل، وأنا وأبو بكر والمؤمنون معك، وقلّما تكلّمت - وأحمد الله - بكلام إلا رجوت أن يكون الله يصدّق قولي، فنزلت هذه الآية: آية التخيير {عَسَى رَبُّهُ إِن طَلَّقَكُنَّ أَن يُبْدِلَهُ
أَزْوَاجاً خَيْراً مِّنكُنَّ} ، {وَإِن تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ} فقلت: أطلّقتهنّ؟ قال: «لا» . فقمت على باب المسجد فناديت بأعلى صوتي: لم يطلّق نساءه، ونزلت هذه الآية:{وَإِذَا جَاءهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُواْ بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ} فكنت أنا استنبطت ذلك الأمر. وعند البخاري عن أنس قال: قال عمر: اجتمع نساء النبيّ صلى الله عليه وسلم في الغيرة عليه فقلت لهن: {عَسَى رَبُّهُ إِن طَلَّقَكُنَّ أَن يُبْدِلَهُ أَزْوَاجاً خَيْراً مِّنكُنَّ} فنزلت هذه الآية. وعند أبي حاتم قال عمر بن الخطاب: بلغني شيء كان بين أمهات المؤمنين وبين النبيّ صلى الله عليه وسلم، فاستقريتهنّ أقول: لتكفّنّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أو ليبدلنّه الله أزواجًا خيرًا منكنّ، حتى أتيت على آخر أمهات المؤمنين -، يعني: أم سلمة - فقالت: يا عمر أما في رسول الله ما يعظ نساءه حتى تعظهنّ؟ فأمسكت، فأنزل الله عز وجل:{عَسَى رَبُّهُ إِن طَلَّقَكُنَّ أَن يُبْدِلَهُ أَزْوَاجاً خَيْراً مِّنكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُّؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَاراً} .
وقال ابن زيد في قول الله: {قَانِتَاتٍ} ، قال: مطيعات. وعن ابن عباس في قوله: {سَائِحَاتٍ} قال: صائمات. قال ابن كثير: وقوله تعالى: {ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَاراً} أي: منهن ثيّبات وأبكارًا، ليكون ذلك أشهى إلى النفس، فإن التنوّع يبسط النفس، ولهذا قال:{ثَيِّبَاتٍ} ومنهن {وَأَبْكَاراً} .
قوله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (6) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (7)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحاً عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُكَفِّرَ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (8) } .
عن عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه في قوله: {قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} ، قال: علّموهم وأدّبوهم. وقال ابن عباس: اعملوا بطاعة الله، واتقوا معاصي الله، ومروا أهليكم بالذكر ينجّيكم الله من النار. وقال قتادة: مروهم بطاعة الله، وانهوهم عن معصية الله. وعن قتادة:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحاً} ، قال: هي الصادقة الناصحة. وقال عمر بن الخطاب: هو العبد يتوب من الذنب ثم لا يعود فيه أبدًا. وقال مجاهد: يستغفرون ثم لا
يعودون. وعن أبيّ بن كعب قال: (قيل لنا أشياء تكون في آخر هذه الأمة عند اقتراب الساعة منها: نكاح الرجل امرأته أو أمته في دبرها، وذلك مما حرّم الله ورسوله ويمقت الله عليه ورسوله، ومنها نكاح المرأة المرأة، وذلك مما حرّم الله ورسوله ويمقت الله عليه ورسوله، وليس لهؤلاء صلاة ما أقاموا على هذا حتى يتوبوا إلى الله توبة نصوحًا) . قال زرّ فقلت لأبيّ بن كعب: فما التوبة النصوح؟ فقال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال: «هو الندم على الذنب حين يفرط منك، فتستغفر الله بندامتك منه عند الحاضر، ثم لا تعود إليه أبدًا» . رواه ابن أبي حاتم. قال العلماء: التوبة النصوح: أن يقلع عن الذنب في الحاضر، ويندم على ما سلف منه في الماضي، ويعزم على أن لا يفعل في المستقبل؛ ثم إن كان الحقّ لآدمي ردّه إليه بطريقة. {عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُكَفِّرَ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ
جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ} قال البغوي: أي: لا يعذّبهم الله بدخول النار، {نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ} على الصراط {يَقُولُونَ} إذا طفئ نور المنافقين {رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} .
قوله عز وجل: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (9) ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَاِمْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ
(10)
وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِّلَّذِينَ آمَنُوا اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (11) وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ
…
(12) } .
عن قتادة: قوله: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ} ، قال: أمر الله نبيّه عليه السلام أن يجاهد الكفار بالسيف، ويغلظ على المنافقين بالحدود {وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ} ، قال ابن جرير: يقول: واشدد عليهم في ذات الله {وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} . وعن ابن عباس: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَاِمْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا} ، قال: كان خيانتهما أنهما كانتا على غير دينهما، فكانت امرأة نوح تطلع على سرّ نوح، فإذا آمن مع نوح أحد أخبرت الجبابرة من قوم نوح به، فكان ذلك من أمرها؛ وأما امرأة لوط فكانت إذا أضاف لوط أحدًا أخبرت به أهل المدينة ممن يعمل السوء {فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ
شَيْئاً} . وقال عكرمة: كانت خيانتهما أنهما كانتا مشركتين {وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ} ، قال قتادة: لم يغن صلاح هذين عن هاتين شيئًا، وامرأة فرعون لم يضرّها كفر فرعون.
قال في جامع البيان: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَاِمْرَأَةَ لُوطٍ} أي: جعل امرأة نوح وامرأة لوط مثلاً لهم، أو مثّل لهم مثلاً مثل امرأة نوح في أن قرابة أحد وإن كان نبيًّا لا ينفع مع الكفر؛
قيل: هذا تخويف لعائشة وحفصة. انتهى وقال بعضهم: وفي ضمن التمثيلين تعريض بما مرّ في أول السورة من حال عائشة وحفصة وإشارة إلى أن من حقّهما أن يكونا في الإخلاص كهاتين المؤمنتين لا الكافرتين.
وقال البغوي: {فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا} لم يدفعا عنهما مع نبوّتهما عذاب الله، {وَقِيلَ ادْخُلا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ} قطع الله بهذه الآية طمع كلّ من يركب المعصية أن ينفعه صلاح غيره؛ ثم أخبر أن معصية غيره لا تضرّه إذا كان مطيعًا فقال:{وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا لِلَّذِينَ آمَنُوا اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ} ، وهي: آسية بنت مزاحم. قال المفسرون: لما غلب موسى السحرة آمنت امرأة فرعون، فلما تبيّن لفرعون إسلامها أوتد يديها ورجليها بأربعة أوتاد وألقاها في الشمس. قال سلمان:(كانت امرأة فرعون تعذّب بالشمس، فإذا انصرفوا عنها أظلّتها الملائكة {إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ} فكشف الله لها عن بيتها في الجنة حتى رأته) . وفي القصة: أن فرعون أمر بصخرة عظيمة لتلقى عليها، فلما أتوها بالصخرة {قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ} فأبصرت بيتها في الجنّة من درّة وانتزع روحها، فألقيت الصخرة على جسد لا روح فيه ولم تجد ألمًا.
قال ابن كثير: فقولها: {رَبِّ ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ} ، قال العلماء:
اختارت الجار قبل الدار {وَنَجِّنِي مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ} أي: خلّصني منه فإني أبرأ إليك من عمله {وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} . {وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا
وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ} ، قال قتادة: يقول: آمنت بعيسى وهو كلمة الله {وَكُتُبِهِ} يعني: التوراة والإِنجيل {وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ} من المطيعين. وفي الصحيح عن أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «كمل من الرجال كثير، ولم يكمل من النساء إلا: آسية امرأة فرعون، ومريم ابنة عمران، وخديجة بنت خويلد، وإن فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام» . وعن ابن عباس قال: خطّ رسول الله صلى الله عليه وسلم في الأرض أربعة خطوط وقال: «أتدرون ما هذا» ؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أفضل نساء أهل الجنة: خديجة بنت خويلد، وفاطمة بنت محمد، ومريم ابنة عمران، وآسية بنت مزاحم امرأة فرعون» . رواه أحمد. وروى ابن عساكر عن ابن عمر قال: (جاء جبريل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فمرّت خديجة فقال: إن الله يقرئها السلام، ويبشّرها ببيت في الجنة من قصب، بعيد من اللهب، لا نَصَبَ فيه ولا صَخَبَ، من لؤلؤة جوفاء، بين بيت مريم بنت عمران، وبيت آسية بنت مزاحم) . والله أعلم.
* * *