الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الدرس السابع والستون بعد المائتين
[سورة ق]
مكية، وهي خمس وأربعون آية
قال ابن كثير: هذه السورة هي أول الحزب المفصل على الصحيح وروى أبو داود وغيره عن أوس الثقفي قال: (سألت أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف يحزبون القرآن؟ فقالوا: ثلاث، وخمس، وسبع، وتسع، وإحدى عشرة، وثلاث عشرة، وحزب المفصل وحده) . وروى مسلم وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم (كان يقرأ في العيد بـ (ق) و (اقتربت)، وكان يخطب (بقاف) كل جمعة) . قال ابن كثير: والقصد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرأ بهذه السورة في المجامع مع الكبار كالعيد والجمع، لاشتمالها على ابتداء الخلق، والبعث والنشور، والمعاد والقيام، والحساب والجنة والنار، والثواب والعقاب، والترغيب والترهيب. والله أعلم.
بسم الله الرحمن الرحيم
{ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ (1) بَلْ عَجِبُوا أَن جَاءهُمْ مُنذِرٌ مِّنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ (2) أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ (3) قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِندَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ (4) بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَّرِيجٍ (5) أَفَلَمْ يَنظُرُوا إِلَى السَّمَاء فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِن فُرُوجٍ (6) وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (7) تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُّنِيبٍ (8) وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُّبَارَكاً فَأَنبَتْنَا بِهِ
جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ (9) وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَّهَا طَلْعٌ نَّضِيدٌ (10) رِزْقاً لِّلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَّيْتاً كَذَلِكَ الْخُرُوجُ (11) كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ (12) وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوَانُ لُوطٍ (13) وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ (14) أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِّنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ (15) وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (16) إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ (17) مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ (18) وَجَاءتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ (19) وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ (20) وَجَاءتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ (21) لَقَدْ كُنتَ فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ (22) وَقَالَ قَرِينُهُ هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ (23) أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ (24) مَّنَّاعٍ لِّلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُّرِيبٍ (25) الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَأَلْقِيَاهُ فِي الْعَذَابِ الشَّدِيدِ (26) قَالَ قَرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ وَلَكِن كَانَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ (27) قَالَ لَا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُم بِالْوَعِيدِ (28) مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ (29) يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِن مَّزِيدٍ (30) وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ (31) هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ (32) مَنْ خَشِيَ
الرَّحْمَن بِالْغَيْبِ وَجَاء بِقَلْبٍ مُّنِيبٍ (33) ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ (34) لَهُم مَّا يَشَاؤُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ (35) وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُم مِّن قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ
مِنْهُم بَطْشاً فَنَقَّبُوا فِي الْبِلَادِ هَلْ مِن مَّحِيصٍ (36) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ (37) وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِن لُّغُوبٍ (38) فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ (39) وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ (40) وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ مِن مَّكَانٍ قَرِيبٍ (41) يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ (42) إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ (43) يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعاً ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ (44) نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَن يَخَافُ وَعِيدِ (45) } .
* * *
عن سعيد بن جبير: {ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ} ، يقول: والقرآن الكريم، {بَلْ عَجِبُوا أَن جَاءهُمْ مُنذِرٌ مِّنْهُمْ} ، قال البغوي: يعرفون نسبه وصدقه وأمانته، {فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ} غريب، {أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ} ، قال الضحاك: قالوا: كيف يحيينا الله وقد صرنا عظامًا ورفاتًا وضللنا في الأرض؟ وعن ابن عباس قوله: {قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ} ، يقول: ما تأكل الأرض من لحومهم وأبصارهم وعظامهم وأشعارهم، {وَعِندَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ} قال البغوي: وهو اللوح المحفوظ. وقال ابن كثير: {وَعِندَنَا كِتَابٌ
حَفِيظٌ} وحافظ لذلك، فالعلم
شامل والكتاب أيضًا فيه كل الأشياء مضبوطة. وعن قتادة: {بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءهُمْ} ، أي: كذبوا بالقرآن، {فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَّرِيجٍ} ، يقول: فهم في أمر مختلط عليهم ملتبس، لا يعرفون حقه من باطله، {أَفَلَمْ يَنظُرُوا إِلَى السَّمَاء فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِن فُرُوجٍ} ، أي: ليس فيها شقوق، كقوله تعالى:{فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِن فُطُورٍ} . {وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا} أي: بسطناها {وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ} قال قتادة: والرواسي الجبال {وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ} أي: من كل نوع حسن.
وعن قتادة: قوله: {تَبْصِرَةً} نعمة من الله يبصرها العباد،
…
{وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُّنِيبٍ} ، أي: مقبل إلى الله بقلبه، {وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُّبَارَكاً فَأَنبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ} بساتين، {وَحَبَّ الْحَصِيدِ} قال ابن جرير: من البر والشعير وسائر أنواع الحبوب. وعن ابن عباس قوله: {وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ} ، قال: النخل الطوال {لَّهَا طَلْعٌ نَّضِيدٌ} يقول: بعض على بعض، {رِزْقاً لِّلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَّيْتاً كَذَلِكَ الْخُرُوجُ} أي: كما أحيينا الأرض بعد موتها كذلك نحيي الموتى بعد ذهابهم {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ * وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوَانُ لُوطٍ * وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ} قال البغوي: وجب لهم عذابي. ثم أنزل جوابًا لقولهم: {ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ} ، {أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ} يعني: أعجزنا حين خلقناهم
أولاً فنعيا بالإعادة؟ وهذا تقريع لهم لأنهم اعترفوا بالخلق الأول وأنكروا البعث {بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ} ، أي: في شك {مِّنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ} وهو البعث بعد الموت. قال قتادة: فصار الناس فيه رجلين: مكذب ومصدق.
قوله عز وجل: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (16) إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ (17) مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ (18) وَجَاءتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ (19) وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ (20) وَجَاءتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ (21) لَقَدْ كُنتَ فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ (22) وَقَالَ قَرِينُهُ هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ (23) أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ (24) مَّنَّاعٍ لِّلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُّرِيبٍ (25) الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَأَلْقِيَاهُ فِي الْعَذَابِ الشَّدِيدِ (26) قَالَ قَرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ وَلَكِن كَانَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ (27) قَالَ لَا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُم بِالْوَعِيدِ (28) مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ (29) يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِن مَّزِيدٍ (30) وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ (31) هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ (32) مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَن بِالْغَيْبِ وَجَاء بِقَلْبٍ مُّنِيبٍ (33) ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ (34) لَهُم مَّا يَشَاؤُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ (35) وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُم مِّن قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُم بَطْشاً فَنَقَّبُوا فِي الْبِلَادِ هَلْ مِن
مَّحِيصٍ (36) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ (37) } .
قال ابن جرير: يقول تعالى ذكره: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ} ما تحدث به نفسه، فلا يخفى علينا سرائره وضمائر قلبه {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} ، قال مجاهد: هو الذي يكون في الحلق. قال البغوي: لأن أبعاضه وأجزاءه يحجب بعضها بعضًا، ولا يحجب علم الله شيء. {إِذْ يَتَلَقَّى
الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ} ، قال مجاهد: رصيد، عن اليمين الذي يكتب الحسنات، وعن الشمال الذي يكتب السئات. قال سفيان: بلغني أن كاتب الحسنات أمير على كاتب السيئات، فإذا أذنب قال له: لا تعجل لعله يستغفر.
وقال ابن زيد في قوله: {مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} ، قال: جعل معه من يكتب كل ما لفظ به، وهو معه رقيب. قال البغوي: رقيب: حافظ. عتيد: حاضر أينما كان. وعن أبي وائل قال: لما كان أبو بكر رضي الله عنه يقضي قالت عائشة رضي الله عنها: هذا كما قال الشاعر: إذا حشرجت يومًا وضاق بها الصدر. وقال أبو بكر رضي الله عنه: لا تقولي ذلك، ولكنه كما قال عز وجل:{وَجَاءتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ} . وعن عثمان رضي الله عنه أنه خطب فقرأ هذه الآية: {وَجَاءتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ} ، قال: سائق يسوقها إلى الله، وشاهد يشهد عليها بما
عملت. وعن قتادة: قوله: {لَقَدْ كُنتَ فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءكَ} ، قال: عاين الآخرة {فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ} ، قال ابن كثير: أي: قوي، قال الله تعالى:{أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا} ، وقال ابن زيد في قوله:
{وَقَالَ قَرِينُهُ هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ} إلى آخر الآية، قال: هذا سائقه الذي وكل به.
وقال ابن كثير: {هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ} ، أي: معد محضر بلا زيادة ولا نقصان. واختار ابن جرير أن يعم السائق والشهيد. قال مجاهد يقول: هذا الذي وكلتني به من ابن آدم حاضر عندي، وقد أحضرته وأحضرت ديوان أعماله.
وقوله تعالى: {أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ} ، قال الزجاج: هذا أمر للسائق والشهيد. وعن ابن عباس: {قَالَ قَرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ} ، قال: قرينه: شيطانه. قال ابن زيد: تبرأ منه. وعن ابن عباس في قوله: {لَا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ} ، قال: إنهم اعتذروا بغير عذر، فأبطل الله حجتهم ورد عليهم قولهم. وقال أبو عمران في قول الله:{وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُم بِالْوَعِيدِ} ، قال: بالقرآن. وعن مجاهد قوله: {مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ} قد قضيت ما أنا قاض، {وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ} . وعن ابن عباس قوله:{يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِن مَّزِيدٍ} ؟ قال ابن عباس: إن الله الملك تبارك وتعالى قد سبقت كلمته: {لأَمْلأنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} فلما بعث الناس وأحضروا، وسيق أعداء الله إلى النار زمرًا، جعلوا يقتحمون في جهنم فوجًا فوجًا، لا يلقى
في جهنم شيء إلا ذهب فيها، ولا يملأها شيء، قالت: ألست قد أقسمت لتملأني من الجنة والناس أجمعين؟ فوضع قدمه، فقالت حين وضع قدمه فيها: قد قد فإني قد امتلأت فليس لي مزيد؛ ولم يكن يملأها شيء حتى وجدت مس ما وضع عليها، فتضايقت حين جعل عليها ما جعل فامتلأت، فما فيها موضع إبرة. وعن قتادة: قوله: {وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ} يقول: وأدنيت {غَيْرَ بَعِيدٍ} ، {هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ} قال قتادة: أي: مطيع لله كثير الصلاة {حَفِيظٍ} لما استودعه الله من حقه ونعمته. وقال ابن زيد: الأواب: التواب الذي يؤوب إلى طاعة الله ويرجع إليها؛ {مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَن بِالْغَيْبِ وَجَاء
بِقَلْبٍ مُّنِيبٍ} قال قتادة: أي: منيب إلى ربه مقبل {ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ} قال: سلموا من عذاب الله وسلم عليهم. {ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ} خلدوا والله فلا يموتون، وأقاموا فلا يظعنون ونعموا فلا يبأسون؛ {لَهُم مَّا يَشَاؤُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ} ، قال أنس بن مالك: هو النظر إلى وجه الله الكريم.
وقوله تعالى: {وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُم مِّن قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُم بَطْشاً فَنَقَّبُوا فِي الْبِلَادِ} ، قال مجاهد: عملوا. وعن قتادة: قوله: {فَنَقَّبُوا فِي الْبِلَادِ هَلْ مِن مَّحِيصٍ} ، قال: حاص أعداء الله فوجدوا أمر الله لهم مدركًا. {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} ، قال بعض المفسرين: وفي الآية ترتيب حسن، لأنه إن كان ذا
قلب ذكي يستخرج المعاني بتدبره وفكره فذاك، وإلا فلا بد أن يكون مستمعًا مصغيًا إلى كلام المنذر ليحصل له التذكر.
قوله عز وجل: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِن لُّغُوبٍ (38) فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ (39) وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ (40) وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ مِن مَّكَانٍ قَرِيبٍ (41) يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ (42) إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ (43) يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعاً ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا
يَسِيرٌ (44) نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَن يَخَافُ وَعِيدِ (45) } .
عن قتادة: قوله: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} الآية. أكذب الله اليهود والنصارى وأهل الفرى على الله، وذلك أنهم قالوا: أن الله خلق السموات والأرض في ستة أيام ثم استراح يوم السابع، وذلك عندهم يوم السبت وهم يسمونه يوم الراحة، قال: فأكذبهم الله وقال: {وَمَا مَسَّنَا مِن لُّغُوبٍ} ، قال مجاهد: نصب.
وقال ابن زيد: لم يمسنا في ذلك عناء، ذلك اللغوب {فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ} ، قال قتادة: صلاة الفجر، وصلاة العصر. وعن جرير بن عبد الله رضي الله عنهما قال: كنا جلوسًا عند النبي صلى الله عليه وسلم فنظر إلى القمر ليلة البدر فقال: «أما إنكم ستعرضون على ربكم فترونه كما ترون هذا القمر لا تضامون
في رؤيته، فإن استطعتم أن لا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها فافعلوا؛ - ثم قرأ -:{وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ} » . متفق عليه.
وقوله تعالى: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ} أي: صل له {وَأَدْبَارَ السُّجُودِ} قال ابن عباس: هو التسبيح بعد الصلاة. وعن قتادة:
…
{وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ مِن مَّكَانٍ قَرِيبٍ} ، قال: كنا نحدث أنه ينادي من بيت المقدس من الصخرة، وهي أوسط الأرض، قال بريدة: ملك ينادي يقول: يا أيها الناس هلموا إلى الحساب، قال فيقبلون كما قال الله:{كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُّنتَشِرٌ} ، {يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ} قال البغوي: وهي الصيحة الأخيرة، {ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ} من القبور {إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ * يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعاً ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ * نَحْنُ
أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ} فيه تهديد للكفار وتسلية للنبي صلى الله عليه وسلم. وعن قتادة: قوله: {وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِجَبَّارٍ} فإن الله عز وجل كره الجبرية ونهى عنها وقدم فيها. وعن ابن عباس قال قالوا: يا رسول الله لو خوفتنا، فنزلت:{فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَن يَخَافُ وَعِيدِ} ، وكان قتادة يقول: اللهم اجعلنا ممن يخاف وعيدك، ويرجو موعودك يا بر يا رحيم.
* * *