الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الدرس الثامن والثمانون بعد المائتين
[سورة الحاقة]
مكية، وهي اثنتان وخمسون آية
بسم الله الرحمن الرحيم
{الْحَاقَّةُ (1) مَا الْحَاقَّةُ (2) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ (3) كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بِالْقَارِعَةِ (4) فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ (5) وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ (6) سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ (7) فَهَلْ تَرَى لَهُم مِّن بَاقِيَةٍ (8) وَجَاء فِرْعَوْنُ وَمَن قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكَاتُ بِالْخَاطِئَةِ (9) فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رَّابِيَةً (10) إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاء حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ (11) لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ (12) فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ (13) وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً (14) فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ (15) وَانشَقَّتِ السَّمَاء فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ (16) وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ (17) يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنكُمْ خَافِيَةٌ (18) فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَؤُوا كِتَابِيهْ (19) إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيهْ (20) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ (21) فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ (22) قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ (23) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ
الْخَالِيَةِ (24) وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيهْ (25) وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيهْ (26) يَا لَيْتَهَا كَانَتِ
الْقَاضِيَةَ (27) مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيهْ (28) هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيهْ (29) خُذُوهُ فَغُلُّوهُ (30) ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ (31) ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعاً فَاسْلُكُوهُ (32) إِنَّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ (33) وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (34) فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ (35) وَلَا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ (36) لَا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخَاطِؤُونَ (37) فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ (38) وَمَا لَا تُبْصِرُونَ (39) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (40) وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلاً مَا تُؤْمِنُونَ (41) وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ (42) تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ (43) وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ (44) لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (45) ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ (46) فَمَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ (47) وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ (48) وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنكُم مُّكَذِّبِينَ (49) وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكَافِرِينَ (50) وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ (51) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (52) } .
* * *
قال ابن عباس: {الْحَاقَّةُ} ، من أسماء يوم القيامة عظّمه الله وحذّره عباده. وقال قتادة:{الْحَاقَّةُ} يعني: الساعة أحقّت لكل عامل عمله. وقال البغوي: سميت حاقّة لأنها حُقّت فلا كاذبة لها {مَا الْحَاقَّةُ} هذا استفهام معناه التفخيم لشأنها {وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ} ، قال سفيان: ما في القرآن {وَمَا يُدْرِيكَ} فلم يخبره، وما كان {وَمَا أَدْرَاكَ} فقد أخبره. {كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بِالْقَارِعَةِ} قال قتادة: أي: بالساعة {فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ} قال: بعث الله عليهم صيحة فأهمدتهم {وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ} قال ابن عباس: يقول: بريح مهلكة باردة، عتت عليهم بغير رحمة ولا بركة، دائمة لا تفتر؛ وقال: ما أرسل الله من ريح قطّ إلا بمكيال، ولا أنزل قطرة قطّ إلا بمثقال، إلا يوم نوح ويوم عاد، فإن الماء يوم نوح طغى على خزانه فلم يكن لهم عليه سبيل، ثم قرأ: {إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاء
حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ} وإن الريح عتت على خزانها فلم يكن لهم عليها سبيل، ثم قرأ:{بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ * سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً} ،
يقول: تباعًا، {فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ} . وفي الصحيحين:«نُصرت بالصّبا، وأهلكت عاد بالدبور» .
{فَهَلْ تَرَى لَهُم مِّن بَاقِيَةٍ} ؟ قال ابن كثير: أي: هلّ تحسّ منهم من أحد من بقاياهم أو من ينتسب إليهم؟ بل بادوا عن آخرهم، ولم يجعل الله لهم خلفًا. وعن قتادة: قوله: {وَجَاء فِرْعَوْنُ وَمَن قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكَاتُ} قرية قوم لوط {بِالْخَاطِئَةِ} قال مجاهد: الخطايا
…
{فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ} قال ابن كثير: أي: كلّ كذّب رسولّ الله إليهم، {فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رَّابِيَةً} قال ابن عباس: يعني: أخذة شديدة. وعن قتادة: قوله: {إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاء حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ} ذاكم زمن نوح طغى الماء على كلّ شيء خمس عشرة ذراعًا بقدر كلّ شيء. قال ابن زيد: والجارية سفينة نوح التي حملهم فيها {لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً} قال قتادة: فأبقاها الله تذكرة وعبرة وآية حتى نظرت إليها أوائل هذه الأمة وكم من سفينة قد كانت بعد سفينة نوح قد صارت رمادًا {وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ} إن غفلت عن الله فانتفعت بما سمعت من كتاب الله.
وقال ابن كثير: {إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاء حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ} وهي السفينة الجارية على وجه الماء {لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً} عاد الضمير على
الجنس لدلالة المعنى عليه، أي: وأبقينا لكم من جنسها ما تركبون على تيّار الماء في البحار، كما قال تعالى:{وَآيَةٌ لَّهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ * وَخَلَقْنَا لَهُم مِّن مِّثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ} .
قال البغوي: {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ} وهي: النفخة الأولى {وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ} رفعت عن أماكنها {فَدُكَّتَا} كسرتا {دَكَّةً} كسرة {وَاحِدَةً} فصارتا هباء منثورًا {وَانشَقَّتِ السَّمَاء فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ} قال ابن عباس: يعني ضعيفة {وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا} يقول: والملك على حافات السماء حين تشقّق. وعن سعيد بن جبير: {وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا} قال: على ما لم يَهِ منها.
…
{وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ} ، قال ابن إسحاق: بلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «هم اليوم أربعة - يعني: حملة العرش - وإذا كان يوم القيامة أيّدهم الله بأربعة آخرين فكانوا ثمانية، وقد قال الله تعالى: {وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ} » ؛ قال ميسرة: أرجلهم في التخوم لا يستطيعون أن يرفعوا أبصارهم من شعاع النور. وعن جابر ابن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أذن لي أن أحدّث عن
مَلِكٍ من ملائكة الله تعالى من حملة العرش: إن ما بين شحمة أذنه إلى عاتقه مسيرة سبعمائة عام» . رواه أبو داود وغيره.
وقوله تعالى: {يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنكُمْ خَافِيَةٌ} ، قال ابن كثير: أي:
تعرضون على عالم السرّ والنجوى الذي لا يخفى عليه شيء من أموركم، بل هو عالم بالظواهر والسرائر والضمائر، ولهذا قال تعالى:{لَا تَخْفَى مِنكُمْ خَافِيَةٌ} . وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: حاسِبوا أنفسكم قبل أن تحاسَبوا، وزنوها قبل أن توزنوا، فإنه أخفّ عليكم في الحساب غدًا أن تحاسِبوا أنفسكم اليوم وتَزينوا للعرض الأكبر، {يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنكُمْ خَافِيَةٌ} . وروى الإمام أحمد عن أبي موسى قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يعرض الناس يوم القيامة ثلاث عرضات: فأما عرضتان: فجدال ومعاذير، وأما الثالثة: فعند ذلك تطير الصحف في الأيدي، فآخذٌ بيمنه وآخذٌ بشماله» .
قوله عز وجل: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَؤُوا كِتَابِيهْ (19) إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيهْ (20) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ (21) فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ (22) قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ (23) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ (24) وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيهْ (25) وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيهْ (26) يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ (27) مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيهْ (28) هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيهْ (29) خُذُوهُ فَغُلُّوهُ (30) ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ (31) ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعاً فَاسْلُكُوهُ (32) إِنَّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ (33) وَلَا
يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (34) فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ (35) وَلَا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ (36) لَا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخَاطِؤُونَ (37) } .
قال ابن جرير: يقول تعالى ذكره: فأما من أَعطى كتاب أعماله بيمينه
فيقول: تعالوا اقرؤوا كتابيه. وقال ابن كثير: يخبر تعالى عن سعادة من يؤتى كتابه يوم القيامة بيمينه وفرحه بذلك، وأنه من شدّة فرحه يقول لكلّ من لقيه:{هَاؤُمُ اقْرَؤُوا كِتَابِيهْ} ، أي: خذوا اقرؤوا كتابي، لأنه يعلم أن الذي فيه خير؛ قال: ومعنى: {هَاؤُمُ} هاكم. وعن قتادة: {إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيهْ} ظنّ ظنًّا يقينًا فنفعه الله بظنّه، {فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ * فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ * قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ} . قال قتادة: دنت فلا يردّ أيديهم عنها بُعْدٌ ولا شوك. وروى الطبراني عن سلمان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يدخل أحد الجنة إلا بجواز: بسم الله الرحمن الرحيم، هذا كتاب من الله لفلان بن فلان، أدخلوه جنّة عالية قطوفها دانية» .
وقوله تعالى: {كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ} ، قال قتادة: إن أيامكم هذه أيام خالية تؤدّي إلى أيام باقية، فاعملوا في هذه الأيام وقدّموا فيها خيرًا إن استطعتم، ولا قوّة إلا بالله» . وفي الصحيح عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال:«اعملوا وسدّدوا وقاربوا، واعلموا أن أحدًا منكم لن يدخله عمله الجنّة» . قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ ! قال: «ولا أنا، إلا أن يتغمّدني الله برحمة منه وفضل» .
{وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ} ، قال ابن السائب: تلوى يده اليسرى خلف ظهره ثم يعطى كتابه {فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيهْ * وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيهْ * يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ} ، قال البغوي: يقول: يا ليت الموتة التي متّها في الدنيا {كَانَتِ الْقَاضِيَةَ} الفارغة من كلّ ما بعدها، والقاطعة للحياة، فلم أَحْيَ بعدها. قال قتادة: يتمنّى الموت، ولم يكن شيء في الدنيا عنده أكره من الموت. {مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيهْ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيهْ} قال ابن زيد: سلطان الدنيا. وعن مجاهد قوله: {هَلَكَ عَنِّي
سُلْطَانِيهْ} قال: حجّتي. وقال قتادة: أما والله ما كلّ من دخل النار كان أمير قرية يجيبها، ولكن الله خلقهم وسلّطهم على أقرانهم وأمرهم بطاعة الله، ونهاهم عن معصية الله. وقال الفضيل بن عياض: إذا قال الربّ عز وجل: {خُذُوهُ فَغُلُّوهُ} ، ابتدره سبعون ألف ملك أيّهم يجعل الغلّ في عنقه {ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ * ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعاً فَاسْلُكُوهُ} قال ابن عباس: تسلك في دبره حتى تخرج من منخريه حتى لا يقوم على رجليه.
{إِنَّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ * وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ * فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ} ، قال ابن جرير: يعني: في الدار الآخرة، قريب يدفع عنه ويعنه مما هو فيه من البلاء.
قلت: وهذه الآية كقوله تعالى: {مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ} . وعن قتادة: قوله: {وَلَا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ} ، شرّ الطعام وأخبثه وأبشعه. وعن ابن عباس: قوله: {وَلَا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ
غِسْلِينٍ} ، صديد أهل النار، {لَا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخَاطِؤُونَ} ، قال البغوي: أي: الكافرون.
قال ابن زيد في قوله: {فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ * وَمَا لَا تُبْصِرُونَ} ، أقسم بالأشياء حتى أقسم يما تبصرون وما لا تبصرون. قال ابن القيّم:(وهذا أعمّ قسم وقع في القرآن، فإنه يعمّ العلويّات والسفليّات، والدنيا والآخرة) .
{إِنَّهُ} ، قال البغوي: يعني: القرآن. {لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ} ، أي: تلاوة {رَسُولٍ كَرِيمٍ} يعني: محمد صلى الله عليه وسلم. قال ابن كثير: أضافه إليه على معنى التبليغ، لأن الرسول من شأنه أن يبلّغ عن المرسِل، ولهذا أضافه في سورة التكوير إلى الرسول الملكيّ. وعن قتادة:{وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلاً مَا تُؤْمِنُونَ} طهّره الله من ذلك وعصمه.
{وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ} طهّره من الكهانة وعصمه، {تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ * وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ} ، قال ابن كثير: يقول تعالى: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا} ، أي: محمد صلى الله عليه وسلم؛ لو كان كما يزعمون مفتريًا علينا فزاد في الرسالة أو نقص منها، أو قال شيئًا من عنده فنسبه إلينا، وليس كذلك لعاجلناه بالعقوبة. وقال ابن جرير:{وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا} محمد بعض الأقاويل الباطلة، وتكذّب علينا {لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ} يقول: أخذنا منه بالقوّة منا والقدرة {ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ} ، نياط القلب. وعن ابن عباس:{ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ} يقول: عرق القلب. وقال مجاهد: حبل القلب الذي في الظهر {فَمَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ} . وعن قتادة: {وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ} قال: القرآن. {وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنكُم مُّكَذِّبِينَ * وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكَافِرِينَ} قال قتادة: ذاكم يوم القيامة.
{وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ} ، قال ابن كثير: أي: الخبر الصدق الحقّ، الذي لا مرية فيه ولا شكّ ولا ريب، {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} . وروى الإِمام أحمد عن عمر بن الخطاب قال: (خرجت أتعرّض رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن أسلم، فوجدته قد سبقني إلى المسجد، فقمت خلفه فاستفتح سورة الحاقّة، فجعلت أعجب من تأليف القرآن. فقلت: هذا والله شاعر كما قالت قريش، فقرأ:{إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلاً مَا تُؤْمِنُونَ} ، فقلت: كاهن. فقرأ: {وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ * تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ * وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ
الْأَقَاوِيلِ * لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ * فَمَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ} إلى آخر السورة، فوقع الإِسلام في قلبي كلّ موقع) .
* * *