الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الدرس السابع والتسعون بعد المائتين
[سورة النبأ]
مكية، وهي أربعون آية
بسم الله الرحمن الرحيم
{عَمَّ يَتَسَاءلُونَ (1) عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ (2) الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ (3) كَلَّا سَيَعْلَمُونَ (4) ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ (5) أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَاداً (6) وَالْجِبَالَ أَوْتَاداً (7) وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجاً (8) وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتاً (9) وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاساً (10) وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشاً (11) وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِدَاداً (12) وَجَعَلْنَا سِرَاجاً وَهَّاجاً (13) وَأَنزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاء ثَجَّاجاً (14) لِنُخْرِجَ بِهِ حَبّاً وَنَبَاتاً (15) وَجَنَّاتٍ أَلْفَافاً (16) إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتاً (17) يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجاً (18) وَفُتِحَتِ السَّمَاء فَكَانَتْ أَبْوَاباً (19) وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَاباً (20) إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَاداً (21) لِلْطَّاغِينَ مَآباً (22) لَابِثِينَ فِيهَا أَحْقَاباً (23) لَّا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْداً وَلَا شَرَاباً (24) إِلَّا حَمِيماً وَغَسَّاقاً (25) جَزَاء وِفَاقاً (26) إِنَّهُمْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ حِسَاباً (27) وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كِذَّاباً (28) وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَاباً (29) فَذُوقُوا فَلَن نَّزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَاباً (30) إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازاً (31) حَدَائِقَ وَأَعْنَاباً (32) وَكَوَاعِبَ أَتْرَاباً (33) وَكَأْساً دِهَاقاً (34) لَّا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً وَلَا كِذَّاباً (35) جَزَاء مِّن رَّبِّكَ عَطَاء
حِسَاباً (36) رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الرحْمَنِ لَا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَاباً (37)
يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفّاً لَّا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرحْمَنُ وَقَالَ صَوَاباً (38) ذَلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ فَمَن شَاء اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مَآباً (39) إِنَّا أَنذَرْنَاكُمْ عَذَاباً قَرِيباً يَوْمَ يَنظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَاباً (40) } .
* * *
قال الحسن: (لما بعث النبي صلى الله عليه وسلم جعلوا يتساءلون بينهم، فأنزل الله: {عَمَّ يَتَسَاءلُونَ * عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ} يعني: الخبر العظيم) . قال قتادة: وهو البعث بعد الموت. وقال ابن زيد في قوله: {عَمَّ يَتَسَاءلُونَ * عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ * الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ} ، قال: يوم القيامة؛ قال قالوا: هذا اليوم الذي تزعمون أنا نحيا فيه وآباؤنا؟ قال: فهم فيه مختلفون لا يؤمنون به، فقال الله:{قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ * أَنتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ} يوم القيامة لا يؤمنون به. قال قتادة: فصار الناس فيه فريقين: مصدق، ومكذب، فأما الموت فقد أقروا به لمعاينتهم إياه، واختلفوا في البعث بعد الموت.
{كَلَّا سَيَعْلَمُونَ * ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ} ، قال البغوي:{كَلَّا} نفي، يقول: هم سيعلمون عاقبة تكذيبهم حين تكشف الأمور، {ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ} وعيد على أثر وعيد. وقال في جامع البيان:{كَلَّا}
ردع عن هذا التساؤل والاختلاف، {سَيَعْلَمُونَ * ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ} تكرير للمبالغة و {ثُمَّ} للإشعار بأن الوعيد الثاني أشد.
قال ابن كثير: ثم شرع تبارك وتعالى يبين قدرته العظيمة على خلق الأشياء الغريبة والأمور العجيبة الدالة على قدرته على ما يشاء من أمر المعاد وغيره فقال: {أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَاداً} ، أي: ممهدة للخلائق ذلولاً لهم قارة ساكنة ثابتة، {وَالْجِبَالَ أَوْتَاداً} ، أي: جعلها لها أوتادًا أرساها بها وثبتها وقررها حتى سكنت ولم تضطرب بمن عليها، ثم قال:{وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجاً} ، يعني: ذكرًا وأنثى يتمتع كل منهما بالآخر ويحصل التناسل، كقوله تعالى:{وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً} .
وقوله تعالى: {وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتاً} أي: قطعًا للحركة لتحصل الراحة من كثرة الترداد والسعي في المعايش في عرض النهار {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاساً} أي: يغشى الناس ظلامه وسواده، {وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشاً} أي: جعلناه مشرقًا نيرًا مضيئًا، ليتمكن الناس من التصرف فيه والذهاب والمجيء للمعاش والتكسب.
وقوله تعالى: {وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِدَاداً} يعني: السموات السبع في اتساعها وارتفاعها، وإحكامها وإتقانها، وتزينها بالكواكب الثوابت والسيارات، ولهذا قال تعالى:{وَجَعَلْنَا سِرَاجاً وَهَّاجاً} يعني: الشمس المنيرة على جميع العالم، التي يتوهج ضوؤها لأهل الأرض كلها.
وقوله تعالى: {وَأَنزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ} أي: السحاب، كما قال تعالى:{اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَاباً فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاء كَيْفَ يَشَاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ} . وقوله جل وعلا: {مَاء ثَجَّاجاً} قال مجاهد: منصبًّا.
وقوله تعالى: {لِنُخْرِجَ بِهِ حَبّاً وَنَبَاتاً * وَجَنَّاتٍ أَلْفَافاً} ، أي: لنخرج بهذا الماء الكثير الطيب النافع المبارك حبًا يدخر للأناسي والأنعام {وَنَبَاتاً} ، أي: خضرًا يؤكل
رطبًا {وَجَنَّاتٍ} ، أي: بساتين وحدائق من ثمرات متنوعة وألوان مختلفة وطعوم وروائح متفاوتة، وإن كان ذلك في بقعة واحدة من الأرض مجتمعًا، ولهذا قال:{وَجَنَّاتٍ أَلْفَافاً} ، قال ابن عباس وغيره:{أَلْفَافاً} مجتمعة، وهذه كقوله تعالى:{وَفِي الأَرْضِ قِطَعٌ مُّتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِّنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاء وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} .
عن قتادة: قوله: {إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتاً} وهو يوم عظمه الله يفصل الله فيه بين الأولين والآخرين بأعمالهم، {يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجاً} ، قال مجاهد: زمرًا زمرًا، {وَفُتِحَتِ السَّمَاء فَكَانَتْ أَبْوَاباً} ، قال ابن كثير: أي: طرقًا ومسالك لنزول الملائكة، {وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَاباً} ، أي: يخيل إلى الناظر أنها شيء وليست بشيء. وكان الحسن إذا تلا هذه الآية: {إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَاداً} ، قال: ألا إن على الباب الرصد، فمن جاء بجواز جاز، ومن لم يجيء بجواز احتبس. وقال قتادة: يعلمنا أنه لا سبيل إلى الجنة حتى يقطع النار. {لِلْطَّاغِينَ مَآباً} ، أي: نزلاً ومأوى، {لَابِثِينَ فِيهَا أَحْقَاباً} وهو مالا انقطاع له، كلما مضى
حقب جاء حقب بعده، وذكر لنا أن الحقب ثمانون سنة من سني الآخرة. وعن الربيع:{لَّا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْداً وَلَا شَرَاباً * إِلَّا حَمِيماً وَغَسَّاقاً} فاستثنى من الشراب: الحميم، ومن البرد: الغساق. وقال مجاهد: هو الذي لا يستطيعون أن يذوقوه من برده وعن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لو أن دلوًا من غساق يهراق إلى الدنيا لأنتن أهل الدنيا» . رواه ابن جرير.
وعن ابن عباس: قوله: {جَزَاء وِفَاقاً} يقول: وافق أعمالهم. قال قتادة وافق الجزاء أعمال القوم أعمال السوء {إِنَّهُمْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ حِسَاباً} قال ابن زيد: لا يؤمنون بالبعث ولا بالحساب. وقال قتادة: لا يخافون حسابًا {وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كِذَّاباً} قال البغوي: {وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا} أي: بما جاء به الأنبياء {كِذَّاباً} يعني: تكذيبًا. {وَكُلَّ
شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَاباً} أي: وكل شيء من الأعمال بيناه في اللوح المحفوظ. وقال ابن كثير: أي: وقد علمنا أعمال العباد وكتبناها عليهم وسنجزيهم على ذلك إن خيرًا فخير، وإن شرًا فشر. وعن قتادة:
…
{فَذُوقُوا فَلَن نَّزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَاباً} ذكر لنا أن عبد الله بن عمرو كان يقول: ما نزلت على أهل النار آية أشد منها: {فَذُوقُوا فَلَن نَّزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَاباً} فهم في مزيد من عذاب الله أبدًا.
قوله عز وجل: {إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازاً (31) حَدَائِقَ وَأَعْنَاباً (32) وَكَوَاعِبَ أَتْرَاباً (33) وَكَأْساً دِهَاقاً (34) لَّا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً وَلَا كِذَّاباً (35) جَزَاء مِّن رَّبِّكَ عَطَاء حِسَاباً (36) رَبِّ
السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الرحْمَنِ لَا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَاباً (37) يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفّاً لَّا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرحْمَنُ وَقَالَ صَوَاباً (38) ذَلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ فَمَن شَاء اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مَآباً (39) إِنَّا أَنذَرْنَاكُمْ عَذَاباً قَرِيباً يَوْمَ يَنظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَاباً (40) } .
عن قتادة: {إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازاً} ، أي: والله مفازًا من النار إلى الجنة، ومن عذاب الله إلى رحمته {حَدَائِقَ وَأَعْنَاباً * وَكَوَاعِبَ أَتْرَاباً} يعني: بذلك النساء أترابًا لسن واحدة. وقال ابن جريج: الكواعب: النواهد. وقال ابن زيد: هي التي قد نهدت وكعب ثديها {وَكَأْساً دِهَاقاً} ، قال: الدهاق المملوءة. وقال ابن عباس: الملأى المتتابعة. وعن قتادة {لَّا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً وَلَا كِذَّاباً} قال: باطلاً وإثمًا
{جَزَاء مِّن رَّبِّكَ عَطَاء حِسَاباً} أي: عطاء كثيرًا، فجزاهم بالعمل اليسير الخير الجسيم الذي لا انقطاع له.
{رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الرحْمَنِ لَا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَاباً} أي: كلامًا. قال مقاتل: لا يقدر الخلق على أن يكلموا الرب إلا بإذنه. {يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ} ، أي: جبريل عليه السلام، {وَالْمَلَائِكَةُ صَفّاً لَّا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرحْمَنُ وَقَالَ صَوَاباً} ، قال ابن عباس يقول: إلا من أذن له الرب بشهادة أن لا إله إلا الله، وهي منتهي الصواب. وعن مجاهد:{وَقَالَ صَوَاباً} ، قال: حقًا في الدنيا وعمل به.
{ذَلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ فَمَن شَاء اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مَآباً} ، قال البغوي:{ذَلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ} الكائن الواقع، يعني: يوم القيامة، {فَمَن شَاء اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مَآباً} مرجعًا وسبيلاً بطاعته، أي: فمن شاء رجع إلى الله بطاعته. {إِنَّا أَنذَرْنَاكُمْ عَذَاباً قَرِيباً} ، يعني: العذاب في الآخرة، وكل ما هو آت قريب، {يَوْمَ يَنظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ}
أي كل امرئ يرى في ذلك اليوم ما قدم من العمل مثبتًا في صحيفته، {وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَاباً} ، قال عبد الله بن عمرو:(إذا كان يوم القيامة مدت الأرض مد الأديم، وحشرت الدواب والبهائم والوحوش، ثم يجعل القصاص بين البهائم حتى يقتص للشاة الجلحاء من الشاة القرناء تنطحها، فإذا فرغ من القصاص قيل لها: كوني ترابًا، فعند ذلك يقول الكافر: {يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَاباً} ) .