الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الدرس الخامس والخمسون بعد المائتين
[سورة الدخان]
مكية، وهي تسع وخمسون آية
بسم الله الرحمن الرحيم
{حم (1) وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ (3) فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ (4) أَمْراً مِّنْ عِندِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (5) رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (6) رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِن كُنتُم مُّوقِنِينَ (7) لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (8) بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ (9) فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاء بِدُخَانٍ مُّبِينٍ (10) يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ (11) رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ (12) أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرَى وَقَدْ جَاءهُمْ رَسُولٌ مُّبِينٌ (13) ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقَالُوا مُعَلَّمٌ مَّجْنُونٌ (14) إِنَّا كَاشِفُو الْعَذَابِ قَلِيلاً إِنَّكُمْ عَائِدُونَ (15) يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنتَقِمُونَ (16) وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجَاءهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ (17) أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (18) وَأَنْ لَّا تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ إِنِّي آتِيكُم بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ (19) وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَن تَرْجُمُونِ (20) وَإِنْ لَّمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ (21) فَدَعَا رَبَّهُ أَنَّ هَؤُلَاء قَوْمٌ مُّجْرِمُونَ (22) فَأَسْرِ بِعِبَادِي لَيْلاً إِنَّكُم مُّتَّبَعُونَ (23) وَاتْرُكْ الْبَحْرَ رَهْواً إِنَّهُمْ جُندٌ مُّغْرَقُونَ (24) كَمْ تَرَكُوا
مِن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (25) وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ (26) وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا
فَاكِهِينَ (27) كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْماً آخَرِينَ (28) فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاء وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنظَرِينَ (29) وَلَقَدْ نَجَّيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنَ الْعَذَابِ الْمُهِينِ (30) مِن فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كَانَ عَالِياً مِّنَ الْمُسْرِفِينَ (31) وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ (32) وَآتَيْنَاهُم مِّنَ الْآيَاتِ مَا فِيهِ بَلَاء مُّبِينٌ (33) } .
* * *
عن قتادة: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ} ليلة القدر ونزلت صحف إبراهيم في أول ليلة من رمضان، ونزلت التوراة لست ليال مضت من رمضان، ونزل الإنجيل لثمان عشرة مضت من رمضان، ونزل القرآن لسبع وعشرين مضت من رمضان. وقال ابن زيد: أنزل الله القرآن في ليلة القدر من أم الكتاب إلى السماء الدنيا، ثم نزل به جبريل على النبي صلى الله عليه وسلم نجومًا في عشرين سنة. وقيل للحسن: ليلة القدر في كل رمضان هي؟ قال: إي والله، إنها لفي كل رمضان، وإنها الليلة التي يفرق فيها كل أمر حكيم، فيها يقضي الله كل أجل وأمل ورزق إلى مثلها.
وقال ابن كثير: وقوله: {فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ} ، أي: في ليلة القدر، يفصل من اللوح المحفوظ إلى الكتبة أمر السنة وما يكون فيها {أَمْراً مِّنْ عِندِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ * رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ} قال ابن عباس: رأفة مني بخلقي ونعمة عليهم بما بعثنا إليهم من الرسل. قال ابن جرير: وقوله: {لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} ، يقول: لا معبود لكم أيها الناس غير رب السموات والأرض وما بينهما، فلا تعبدوا غيره، فإنه لا تصلح العبادة لغيره، ولا تنبغي لشيء سواه.
عن قتادة: {فَارْتَقِبْ} ، أي: فانتظر. وعن مسروق قال: دخلنا المسجد فإذا رجل يقص على أصحابه ويقول: {يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاء بِدُخَانٍ مُّبِينٍ} تدرون ما ذلك الدخان؟ ذلك دخان يأتي يوم القيامة فيأخذ أسماع المنافقين وأبصارهم، ويأخذ المؤمنين منه شبه الزكام، قال: فأتينا ابن مسعود فذكرنا له ذلك وكان مضطجعًا ففزع فقعد فقال: (إن الله عز وجل قال لنبيه صلى الله عليه وسلم: {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ} إن من العلم أن يقول الرجل لما لا يعلم: الله أعلم، سأحدثكم عن ذلك: إن قريشًا لما أبطأت عن الإسلام واستعصت على رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا عليهم بسنين كسني يوسف، فأصابهم من الجهد والجوع حتى أكلوا العظام والميتة، وجعلوا يرفعون أبصارهم إلى السماء فلا يرون إلا الدخان، قال الله تبارك وتعالى:{يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاء بِدُخَانٍ مُّبِينٍ * يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ} ، فقالوا:{رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ} ، قال الله جل ثناؤه: {إِنَّا كَاشِفُو الْعَذَابِ قَلِيلاً
إِنَّكُمْ عَائِدُونَ * يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنتَقِمُونَ} ، قال: فعادوا يوم بدر فانتقم الله منهم) .
وعن مجاهد: {يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاء بِدُخَانٍ مُّبِينٍ} ، قال: الجدب، وإمساك المطر عن كفار قريش، إلى قوله:{إِنَّا مُؤْمِنُونَ} وروى مسلم من حديث أبى سريحة حذيفة بن أسيد الغفاري رضي الله عنه قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:
«لا تقوم الساعة حتى تروا عشر آيات: طلوع الشمس من مغربها، والدخان، والدابة، وخروج يأجوج ومأجوج، وخروج عيسى ابن مريم، والدجال، وثلاثة خسوف: خسف بالمشرق، وخسف بالمغرب، وخسف بجزيرة العرب، ونار تخرج من قعر عدن تسوق الناس، تبيت معهم حيث باتوا وتقيل معهم حيث قالوا» . وهذا الحديث لا ينافي وقوع الدخان بكفار قريش، فذلك قد وقع، وهذا منتظر.
وقوله تعالى: {أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرَى} قال البغوي: من أين لهم التذكير والاتعاظ؟ يقول: كيف يتذكرون ويتعظون؟ {وَقَدْ جَاءهُمْ رَسُولٌ مُّبِينٌ} طاهر الصدق، يعني: محمدًا صلى الله عليه وسلم {ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ} ، أعرضوا عنه {وَقَالُوا مُعَلَّمٌ} أي: يعلمه بشر {مَّجْنُونٌ} ، قال الله تعالى:{إِنَّا كَاشِفُو الْعَذَابِ} أي: عذاب الجوع {قَلِيلاً} ، أي: زمانًا يسيرًا، قال مقاتل: إلى يوم بدر {إِنَّكُمْ عَائِدُونَ} إلى كفركم {يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى} وهو يوم بدر {إِنَّا مُنتَقِمُونَ} ، وهذا قول ابن مسعود وأكثر العلماء. وقال الحسن: يوم القيامة. قال ابن
كثير: والظاهر أن ذلك يوم القيامة، وإن كان يوم بدر يوم بطشته أيضًا.
قوله عز وجل: {وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجَاءهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ (17) أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (18) وَأَنْ لَّا تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ إِنِّي آتِيكُم بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ (19) وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَن تَرْجُمُونِ (20) وَإِنْ لَّمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ (21) فَدَعَا رَبَّهُ أَنَّ هَؤُلَاء قَوْمٌ مُّجْرِمُونَ (22) فَأَسْرِ بِعِبَادِي لَيْلاً إِنَّكُم
مُّتَّبَعُونَ (23) وَاتْرُكْ الْبَحْرَ رَهْواً إِنَّهُمْ جُندٌ مُّغْرَقُونَ (24) كَمْ تَرَكُوا مِن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (25) وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ (26) وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ (27) كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْماً آخَرِينَ (28) فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاء وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنظَرِينَ (29) وَلَقَدْ نَجَّيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنَ الْعَذَابِ الْمُهِينِ (30) مِن فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كَانَ عَالِياً مِّنَ الْمُسْرِفِينَ (31) وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ (32) وَآتَيْنَاهُم مِّنَ الْآيَاتِ مَا فِيهِ بَلَاء مُّبِينٌ (33) } .
عن قتادة: قوله: {وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجَاءهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ} ، يعني: موسى عليه السلام، {أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ} ، قال مجاهد: أرسلوا معي بني إسرائيل، {إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ} ، قال البغوي: على الوحي، {وَأَنْ لَّا تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ} لا تتجبروا عليه بترك طاعته {إِنِّي آتِيكُم بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ} ببرهان بين على صدق قولي؛ فلما قال ذلك توعدوه بالقتل فقال: {وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَن
تَرْجُمُونِ} أن تقتلون {وَإِنْ لَّمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ} فاتركون لا معي ولا علي. وقال ابن عباس: فاعتزلوا أذاي باليد واللسان، فلم يؤمنوا، {فَدَعَا رَبَّهُ أَنَّ هَؤُلَاء قَوْمٌ مُّجْرِمُونَ} فأجابه الله وأمره أن يسري فقال:{فَأَسْرِ بِعِبَادِي لَيْلاً} أي: ببني إسرائيل، {إِنَّكُم مُّتَّبَعُونَ} يتبعكم فرعون وقومه، {وَاتْرُكْ الْبَحْرَ} إذا قطعته أنت وأصحابك {رَهْواً} ساكنًا على حالته وهيئته. قال قتادة: لما قطع موسى البحر عطف ليضرب البحر بعصاه ليلتئم، وخاف أن يتبعه فرعون وجنوده، فقيل له: اترك البحر رهواً كما هو إنهم جند مغرقون.
ثم ذكر ما تركوا بمصر فقال: {كَمْ تَرَكُوا} يعني: بعد الغرق
…
{مِن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ} مجلس شريف. قال قتادة: الكريم: الحسن، {وَنَعْمَةٍ} متعة وعيش لين {كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ} ناعمين. وفاكهين: أشرين بطرين، {كَذَلِكَ} ،
قال الكلبي: كذلك أفعل بمن عصاني {وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْماً آخَرِينَ} يعني: بني إسرائيل {فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاء وَالْأَرْضُ} وذلك أن المؤمن إذا مات تبكي عليه السماء والأرض أربعين صباحًا وهؤلاء لم يكن يصعد لهم عمل صالح فتبكي السماء على فقدهم ولا لهم على الأرض عمل صالح فتبكي الأرض عليهم. ثم ساق بسنده عن أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ما من عبد إلا له في السماء بابان: باب يخرج منه رزقه، وباب يدخل فيه عمله، فإذا مات فقداه وبكيا عليه، - ثم تلا -: {فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاء وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنظَرِينَ} » لم ينظروا حين أخذهم
العذاب لتوبة ولا لغيرها {وَلَقَدْ نَجَّيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنَ الْعَذَابِ الْمُهِينِ} قتل الأبناء، واستحياء النساء، والتعب في العمل، {مِن فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كَانَ عَالِياً مِّنَ الْمُسْرِفِينَ * وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ} ، يعني: مؤمني بني إسرائيل {عَلَى عِلْمٍ} ، بهم، {عَلَى الْعَالَمِينَ} على عالمي زمانهم {وَآتَيْنَاهُم مِّنَ الْآيَاتِ مَا فِيهِ بَلَاء مُّبِينٌ} ، قال قتادة: نعمة بينة من فلق البحر وتظليل الغمام وإنزال المن والسلوى والنعم التي أنعمها عليهم. وقال ابن زيد: ابتلاهم بالرخاء والشدة وقرأ: {وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً} . انتهى ملخصًا. والله أعلم.
* * *