الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الدرس الرابع والثمانون بعد المائتين
[سورة الطلاق]
مدنية، وهي اثنتا عشرة آية
بسم الله الرحمن الرحيم
{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاء فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِن بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْراً (1) فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِّنكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَن كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً (3) وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِن نِّسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُوْلَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً (4) ذَلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنزَلَهُ إِلَيْكُمْ وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً (5) أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنتُم مِّن وُجْدِكُمْ وَلَا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِن كُنَّ
أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُم بِمَعْرُوفٍ وَإِن تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى (6) لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن سَعَتِهِ وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا
آتَاهُ اللَّهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً (7) وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَاباً شَدِيداً وَعَذَّبْنَاهَا عَذَاباً نُّكْراً (8) فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْراً (9) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَاباً شَدِيداً فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُوْلِي الْأَلْبَابِ الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً (10) رَّسُولاً يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ لِّيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحاً يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقاً (11) اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً (12) } .
* * *
قال ابن كثير: خوطب النبيّ صلى الله عليه وسلم أوّلاً تشريفًا وتكريمًا، ثم خاطب الأمة تبعًا فقال تعالى:{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} . وقال ابن مسعود: الطلاق للعدّة طاهرًا من غير جماع. وعن مجاهد: أن رجلاً سأل ابن عباس فقال له أنه طلّق امرأته مائة، فقال: عصيت ربك وبانت منك امرأتك، ولم تتّق الله فيجعل لك مخرجًا وقرأ هذه الآية:{وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً} وقال: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاء فَطَلِّقُوهُنَّ} من قبل عدّتهنّ.
وعن الحسن في قوله: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} ، قال: طاهرًا من غير حيض، أو حاملاً قد استبان حملها. وعن مجاهد في قول الله عز وجل:{فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} ، قال: لطهرهنّ. وعن الضحاك في قول الله: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاء فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} قال: العدّة القرء،
والقرء: الحيض، والطاهر: الطاهر من
غير جماع، ثم تستقبل ثلاث حيضات. وعن قتادة: قوله: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاء فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} والعدّة أن يطلّقها طاهرًا من غير جماع. وقال طاووس: إذا أردت الطلاق فطلّقها حين تطهر قبل أن تمسّها تطليقة واحدة، لا ينبغي لك أن تزيد عليها، حتى تخلو ثلاثة قروء فإن واحدة تبينها. وقال ابن زيد في قوله:{فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} ، قال: إذا طلّقها للعدّة كان ملكها بيدك، من طلّق للعدّة جعل الله له في ذلك فسحة، وجعل له ملكًا إن أراد أن يرجع قبل أن تنقضي العدّة ارتجع. وعن السدي في قوله:{إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاء فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} ، قال: طاهرًا في غير جماع، فإن كانت لا تحيض، فعند غرّة كلّ هلال. وعن ابن عمر قال: طلَّقت امرأتي وهي حائض، فأتى عمر رسول الله صلى الله عليه وسلم يخبره بذلك فقال:«مره فليراجعها حتى تطهر، ثم تحيض ثم تطهر، ثم إن شاء طلّقها قبل أن يجامعها، وإن شاء أمسكها، فإنها العّدة التي قال الله عز وجل» . رواه ابن جرير وغيره. وعن ابن عباس في قوله: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} يقول: لا يطلّقها وهي حائض، ولا في طهر قد جامعها فيه، ولكن يتركها حتى إذا حاضت وطهرت طلّقها تطليقة، فإن كانت تحيض فعدّتها ثلاث حيضات، وإن كانت لا تحيض فعدّتها ثلاث أشهر، وإن كانت حاملاً فعدّتها أن تضع حملها.
وعن السدي: قوله: {وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ} ، قال: احفظوا العدّة، {وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِن بُيُوتِهِنَّ} حتى تنقضي عدّتهن.
وقال ابن جريج: قال عطاء إن أذن لها أن تعتدّ في غير بيته فتعتدّ في بيت أهلها فقد شاركها إذًا في الإثم، ثم تلا:{لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِن بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ} ، قلت: هذه الآية في هذه؟ قال: نعم. وقال الضحاك: ليس لها أن تخرج إلا بإذنه، وليس للزوج أن يخرجها ما كانت في العدّة، فإن خرجت فلا سكنى لها ولا نفقة. وعن قتادة:{لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِن بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ} وذلك إن طلّقها واحدة أو اثنتين،
لها العدّة والنفقة والسكنى، ما لم يطلقها ثلاثًا. وعن ابن عباس قال الله:{لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِن بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ} ، قال: الفاحشة المبيّنة أن تبذوا على أهلها. وفي رواية: الفاحشة هي: المعصية. قال ابن جرير: فالزنا من ذلك، والسرق والبذاء على الأحماء، وخروجها متحوّلة عن منزلها الذي يلزمها أن تعتدّ فيه منه، فأيّ ذلك فعلت وهي في عدّتها فلزوجها إخراجها من بيتها، ذلك لإِتيانها بالفاحشة التي ركبتها.
وعن الضحاك في قول الله: {وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ} ، يقول: تلك طاعة الله فلا تعتدوها يقول: من كان على غير هذه فقد ظلم نفسه. عن الزهريّ: (أن فاطمة بنت قيس كانت تحت أبي حفص المخزومي، وكان النبي صلى الله عليه وسلم أمّر عليًّا على بعض اليمن، فخرج معه فبعث إليها بتطليقة كانت بقيت لها، وأمر عيّاش بن أبي ربيعة المخزوميّ والحارث بن هشام أن ينفقا عليها، فقالا: لا والله ما لها علينا نفقة إلا أن نتكون حاملاً، فأتت النبيّ صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له، فلم يجعل لها نفقة إلا أن تكون حاملاً
واستأذنته في الانتقال فقالت: أين أنتقل يا رسول الله؟ قال: «عند ابن أمّ مكتوم» . وكان أعمى تضع ثيابها عنده ولا يبصرها، فلم تزل هناك حتى أنكحها النبيّ صلى الله عليه وسلم أسامة بن زيد حين مضت عدّتها، فأرسل إليها مروان بن الحكم يسألها عن هذا الحديث فأخبرته، فقال مروان: لم نسمع هذا الحديث إلا من امرأة وسنأخذ بالعصمة التي وجدنا الناس عليها، فقالت فاطمة: بيني وبينكم الكتاب قال الله جلّ ثناؤه:
…
{فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} حتى بلغ: {لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْراً} ، قالت: فأيّ أمر يحدث بعد الثلاث؟ وإنما هو في مراجعة الرجل امرأته) . رواه ابن جرير. وعن قتادة: {لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْراً} أي: مراجعة. وقال ابن زيد: لعلّ الله يحدث في قلبك تراجع زوجتك.
وعن الضحاك: قوله: {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ} ، يقول: إذا انقضت عدّتها قبل أن تغتسل من الحيضة الثالثة، أو ثلاثة أشهر إن لم تكن تحيض يقول: فراجع إن كنت تريد المراجعة قبل أن تنقضي العدّة بإمساك بمعروف، والمعروف: أن تحسن صحبتها، أو تسريح بإحسان، والتسريح بإحسان: أن تدعها حتى تمضي عدّتها ويعطيها مهرًا إن كان لها عليه إذا طلّقها، فذلك التسريح بإحسان، والمتعة على قدر الميسرة. وقال ابن عباس: إن أراد مراجعتها قبل أن تنقضي عدّتها أشهد رجلين كما قال الله: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} عند الطلاق وعند المراجعة، فإن راجعها فهي عنده على تطليقتين، وإن لم يراجعها فإذا
انقضت عدّتها فقد بانت منه بواحدة، وهي أملك بنفسها، ثم تتزوّج من شاءت، هو أو غيره. وعن السدي في قوله:{وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ} قال: اشهدوا على الحقّ، {ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَن كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً} ، قال عكرمة: من طلّق كما أمره الله يجعل له مخرجًا.
وعن ابن عباس: قوله: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} يقول سبحانه: من كلّ كرب في الدنيا والآخرة، {وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ} ، قال مسروق: من حيث لا يدري. وعن الضحاك في قوله: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} ، {وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً} ، قال: يعني بالمخرج واليسر إذا طلّق واحدة ثم سكت عنها، فإن شاء راجعها بشهادة رجلين عدلين، فذلك اليسر الذي قال الله، وإن مضت عدّتها ولم يراجعها، كان خاطبًا من الخطّاب، وهذا الذي أمر الله به وهكذا طلاق السنَّة؛ فأما من طلّق عند كلّ حيضة فقد أخطأ السنّة، وعصى الربّ وأخذ العسر. وعن سالم بن أبي الجعد في قوله:{وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً} ، قال: نزلت في رجل من أشجع أصابه الجهد فأتى النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال له: «اتّق الله وأصبر» . فرجع فوجد ابنًا له كان أسيرًا قد فقد من أيديهم وأصاب أعنزًا، فجاء فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: هل تطيب لي يا رسول الله؟ قال:
«نعم» . وعن الربيع بن خيثم: {يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً} ، قال: من كل شيء ضاق على الناس. وعن قتادة: {يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً} ، قال من
شبهات الأمور، والكرب عند الموت {وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ} من حيث لا يأمل ولا يرجو، {وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} ، قال البغوي: يتّق الله فيما نابه كفاه ما أهمّه. وروينا أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «لو أنكم تتوكّلون على الله حقّ توكّله، لرزقكم كما يرزق الطير تغدوا خِماصًا وتروح بِطانًا» . {إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ} ، أي: منفّذ أمره مُمْضٍ في خلقه قضاءه. {قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً} ، أي: جعل الله لكلّ شيء من الشدّة والرخاء أجلاً ينتهي إليه. وفي حديث ابن عباس: «واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن ينفعوك لم ينفعوك إلا بشيء كتبه الله لك» . الحديث.
قوله عز وجل: {وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِن نِّسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُوْلَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً (4) ذَلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنزَلَهُ إِلَيْكُمْ وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً (5) أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنتُم مِّن وُجْدِكُمْ وَلَا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِن كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ
أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُم بِمَعْرُوفٍ وَإِن تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى (6) لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن سَعَتِهِ وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً (7) } .
عن الزهري: {إِنِ ارْتَبْتُمْ} ، قال: في كِبَرِها أن يكون ذلك من الكِبَر، فإنها تعتدّ حين ترتاب ثلاثة أشهر، فأما إذا ارتفعت حيضة المرأة وهي شابّة، فإنه يتأنّى بها حتى ينظر حامل هي أم غير حامل، فإن استبان حملها فأجلها أن تضع حملها، فإن لم يستبن حملها فحتى يستبين بها وأقصى ذلك سنة. وعن أبيّ بن كعب أنه قال: يا رسول الله إن عددًا من عدد النساء لم تُذكر في الكتاب: الصغار، والكبار، وأولات الأحمال، فأنزل الله:{وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِن نِّسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُوْلَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} ؛ وفي رواية: لما نزلت هذه الآية: {وَأُوْلَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} قلت: يا رسول الله المتوفّى عنها زوجها، والمطلّقة؟ قال:«نعم» . رواه ابن جرير. وعن عكرمة قال: إن من الريبة المرأة المستحاضة والتي لا يستقيم لها الحيض، تحيض في الشهر مرارًا وفي الأشهر مرة، فعدّتها ثلاثة أشهر.
{وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً} ، قال البغوي: يسهّل عليه أمر الدنيا والآخرة، {ذَلِكَ} ، يعني: ما ذكر من الأحكام، {أَمْرُ اللَّهِ أَنزَلَهُ إِلَيْكُمْ وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً} . وعن السدي في قوله:{أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنتُم مِّن وُجْدِكُمْ} ، قال: المرأة يطلّقها، فعليه أن يسكنها، وينفق عليها. وعن
مجاهد في قوله: {مِّن وُجْدِكُمْ} قال: من سعتكم. وعن سعيد قوله: {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنتُم مِّن وُجْدِكُمْ وَلَا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ} فإن لم
تجد إلا ناحية بيتك فأسكنها فيه. وعن مجاهد: {وَلَا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ} ، قال: في المسكن.
وعن ابن عباس في قوله: {وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} فهذه المرأة يطلّقها زوجها، فيبتّ طلاقها وهي حامل، فيأمره الله أن يسكنها، وينفق عليها حتى تضع، وإن أرضعت حتى تفطم، وإن أبان طلاقها وليس بها حمل، فلها السكنى حتى تنقضي عدّتها ولا نفقة. وكذلك المرأة يموت عنها زوجها فإن كانت حاملاً أنفق عليها من نصيب ذي بطنها إذا كان ميراث، وإن لم يكن ميراث أنفق عليها الوارث حتى تضع وتفطم ولدها، كما قال الله عز وجل:
…
{وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِك} فإن لم تكن حاملاً فإن نفقتها كانت من مالها.
وعن قتادة: قوله: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} هي أحقّ بولدها أن تأخذه بما كنت مسترضعًا به غيرها. وعن الضحاك أنه قال في الرضاع: إذا قام على شيء فأمّ الصبيّ أحقّ به، فإن شاءت أرضعته وإن شاءت تركته، إلا أن لا يقبل من غيرها، فإذا كان كذلك أجبرت على رضاعه. وعن السدي في قوله:{وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُم بِمَعْرُوفٍ} ، قال: اصنعوا المعروف فيما بينكم {وَإِن تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى} قال: إن أبت الأم أن ترضع ولدها إذا طلّقها أبوه، التمس له مرضعة أخرى؛ الأم أحقّ إذا رضيت من أجر الرضاع بما يرضى به غيرها، فلا ينبغي لها أن يُنتزع منها. وقال سفيان: إن هي أبت أن ترضعه ولم
تُوَاتِكَ فيما بينها وبينك، عاسرتك في الأجر فاسترضع له أخرى. وقال ابن زيد في قول الله:{وَإِن تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى * لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن سَعَتِهِ وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ} قال: فرض لها من قدر ما يجد، فقالت: لا أرضى هذا، قال: وهذا بعد الفراق، فأما وهي زوجته فإنها ترضع له طائعة ومكرهة إن شاءت وإن أبت، فقال لها: ليس
لي زيادة على هذا إن أحببت أن ترضعي بهذا فأرضعي، وإن كرهت استرضعت ولدي، فهذا قوله:{وَإِن تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى} . وعن السدي: {لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن سَعَتِهِ} ، قال: من سعة موجده، {وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ} ، قال: من قتر عليه رزقه {فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ} قال ابن زيد: فرض لها من قدر ما يجد.
وعن مجاهد: {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ} قال: على المطلّقة إذا أرضعت له. وعن السدي في قوله: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا مَا آتَاهَا} قال يقول: لا يكلّف الفقير مثل ما يكلف الغنيّ. وعن سفيان:
…
{سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً} بعد الشدّة الرخاء. وعن أبي سنان قال: سأل عمر بن الخطاب عن أبي عبيدة فقيل له: (إنه يلبس الغليظ من الثياب ويأكل أخشن الطعام. فبعث إليه بألف دينار، وقال للرسول: انظر ما يصنع إذا هو أخذها؛ فما لبث أن لبس ألين الثياب، وأكل أطيب الطعام فجاء الرسول فأخبره فقال: رحمه الله تأوّل هذه الآية: {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ} .
عن السدي في قوله: {وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ} قال: غيّرت وعصت. وعن ابن عباس: قوله: {فَحَاسَبْنَاهَا حِسَاباً شَدِيداً} يقول: لم
نرحم، {وَعَذَّبْنَاهَا عَذَاباً نُّكْراً * فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا} قال السدي: عقوبة أمرها. وقال ابن زيد: ذاقت عاقبة ما عملت من الشرّ {وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْراً} قال مجاهد: جزاء أمرها {أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَاباً شَدِيداً فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُوْلِي الْأَلْبَابِ} قال السدي: ذوي العقول {الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً} قال ابن كثير: يعني: القرآن كقوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} .
وقوله تعالى: {رَّسُولاً يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ} ، قال بعضهم:{رَّسُولاً} منصوب على أنه بدل اشتمال وملابسة، لأن
الرسول هو الذي بلّغ الذكر؛ وقال ابن جرير: الصواب أن الرسول ترجمة عن الذكر، يعني: تفسيرًا له، ولهذا قال تعالى:{رَّسُولاً يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ} ، أي: في حالة كونها بيّنة واضحة جليّة، {لِّيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} ، وقال تعالى:{اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُواْ يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّوُرِ} أي: من ظلمات الكفر والجهل إلى نور الإِيمان والعلم، {وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحاً يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقاً} ، قال البغويّ: يعني: الجنة التي لا ينقطع نعيمها؛ {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ} ، قال ابن جرير: يقول تعالى: ذلك الله الذي خلق سبع سماوات لا ما تعبده المشركون من الآلهة والأوثان التي لا تقدر على خلق شيء. وعن ابن مسعود قال: (خلق الله سبع سماوات غلظ، كلّ واحدة مسيرة خمسمائة عام، وبين
كلّ واحدة منهنّ خمسمائة عام، وفوق السبع السماوات الماء والله جلّ ثناؤه فوق الماء، لا يخفى عليه شيء من أعمال بني آدم، والأرض سبع وبين كلّ أرض خمسمائة عام) ، وغلظ كلّ أرض خمسمائة عام. وعن مجاهد قوله:{يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ} ، قال: بين الأرض السابعة إلى السماء السابعة.
قال ابن كثير: وقوله تعالى: {وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ} أي: سبعًا أيضًا، كما ثبت في الصحيحين:«من ظلم قيد شبر من الأرض طوّقه من سبع أرضين» . وفي صحيح البخاري: «خسف به إلى سبع
أرضين» . ومن حمل ذلك على سبعة أقاليم، فقد أبعد النجعة، وأغرق في النزع وخالف القرآن والحديث.
قال البغوي: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ} في العدد، {يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ} بالوحي من السماء السابعة إلى الأرض السفلى. قال أهل المعاني: هو ما يدبّر فيهنّ من عجيب تدبيره، فينزل المطر، ويخرج النبات، ويأتي بالليل والنهار، والصيف والشتاء، ويخلق الحيوان على اختلاف هيئاتها وينقلها من حال إلى حال. وقال قتادة: في كلّ أرض من أرضه وسماء من سمائه خلق من خلقه، وأمر من أمره، وقضاء من قضائه. {لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا} فلا يخفى عليه شيء.
* * *