الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قوله عز وجل: {فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ (75) وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (76) إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (77) فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ (78) لَّا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ (79) تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ (80) أَفَبِهَذَا الْحَدِيثِ أَنتُم مُّدْهِنُونَ (81) وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ
…
(82) } .
قال جمهور المفسرين: هذا قسم من الله تعالى يقسم بما شاء من خلقه و (لا) مزيدة لتأكيد القسم. وعن مجاهد: قوله: {بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ} ، قال: في السماء؛ وهذه الآية كقوله: {فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ * الْجَوَارِ الْكُنَّسِ} . وعن ابن عباس قال: نزل القرآن في ليلة القدر من السماء العليا إلى السماء الدنيا جملة واحدة، ثم فرق في السنين بعد، وتلا هذه الآية:{فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ} ، قال: نزل متفرّقًا. وقال الحسن: أراد انكدار النجوم وانتثارها يوم القيامة.
وقال ابن كثير: وقوله: {وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ} ، أي: وإن هذا القسم الذي أقسمت به {لَقَسَمٌ} عظيم {لَّوْ تَعْلَمُونَ} عظمته لعظّمتم المقسم به عليه {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ} . قال البغوي:
…
{إِنَّهُ} يعني: هذا الكتاب، وهو موضع القسم {لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ} عزيز مكرّم لأنه كلام الله؛ قال بعض أهل المعاني: الكريم الذي من شأنه أن يعطي الخير الكثير. {فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ} مصون عند الله في اللوح المحفوظ. وعن ابن عباس قال: إذا أراد الله أن ينزل كتابًا نسخته السفرة فـ {لَّا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} يعني: الملائكة. وعن قتادة: قوله:
{لَّا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} ذاكم عند ربّ العالمين، فأما عندكم فيمسّه المشرك النجس والمنافق
الرجس. وفي الموطّأ أن في الكتاب الذي كتبه رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمرو بن حزم: «أن لا يمسّ القرآن إلا طاهر» .
وعن جابر بن زيد في قوله: {تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ} ، قال: القرآن ينزل من ذلك الكتاب. وقال الضحاك: زعموا أن الشياطين تنزّلت به على محمد، فأخبرهم الله أنها لا تقدر على ذلك وما تستطيعه، وما ينبغي لهم أن ينزلوا بهذا وهو محجوب عنهم، وقرأ قول الله:{وَمَا يَنبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ} .
قلت: وهذا كقوله تعالى: {فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ * وَمَا لَا تُبْصِرُونَ * إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلاً مَا تُؤْمِنُونَ * وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ * تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ} . وعن ابن عباس: قوله: {أَفَبِهَذَا الْحَدِيثِ أَنتُم مُّدْهِنُونَ} ، يقول: مكذّبون غير مصدّقين {وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ} ، يقول: شكركم {أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ} ، وقال الحسن في هذه الآية: خسر عبد لا يكون حظّه من كتاب الله إلا التكذيب. وعن ابن عباس أنه كان يقرأ: {وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ} ، ثم قال: ما مطر الناس ليلة قطّ إلا أصبح بعض الناس مشركين يقولون: مُطِرْنَا بِنَوْءِ كذا وكذا. وفي الصحيحين عن زيد بن خالد الجهني قال: صلّى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الصبح بالحديبية على إثر سماء كانت من الليل، فلما انصرف أقبل على الناس فقال:«هل تدرون ماذا قال ربكم» ؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: «أصبح من
عبادي مؤمن بي وكافر، فأما من قال: مُطِرْنا بفضل الله ورحمته فذلك مؤمن بي كافر بالكوكب، وأما من قال: مُطِرْنَا بَنَوْءِ كذا وكذا فذلك كافر بي مؤمن بالكوكب» .
قال ابن كثير: يقول تعالى: {فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ} الروح {الْحُلْقُومَ} أي: الحلق {وَأَنتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ} أي: إلى المحتضَر وما يكابده من سكرات الموت {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنكُمْ} أي: بملائكتنا {وَلَكِن لَّا تُبْصِرُونَ} أي: ولكن لا ترونهم، كما قال تعالى:{وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُم حَفَظَةً حَتَّىَ إِذَا جَاء أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ * ثُمَّ رُدُّواْ إِلَى اللهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ أَلَا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ} . وعن ابن عباس قوله: {فَلَوْلَا إِن كُنتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ} يقول: غير محاسَبين. وقال ابن زيد في قوله: {تَرْجِعُونَهَا} قال: لتلك النفس {إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} قال البغوي: أي: تردّون نفس هذا
الميت إلى جسده بعدما بلغت الحلقوم، فأجاب عن قوله:
…
{فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ} وعن قوله: {فَلَوْلَا إِن كُنتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ} بجواب واحد معناه: إن كان الأمر كما تقولون: أنه لا بعث ولا حساب ولا إله يجازي، فهلا تردّون نفس من يعزّ عليكم إذا بلغت الحلقوم؟ وإذا لم يمكنكم ذلك فاعلموا أن الأمر إلى غيركم، وهو الله عز وجل فآمِنوا به. ثم ذكر طبقات الخلق عند الموت وبيّن درجاتهم فقال: {فَأَمَّا إِن
كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ * فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ * وَأَمَّا إِن كَانَ مِنَ أَصْحَابِ الْيَمِينِ * فَسَلَامٌ لَّكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ * وَأَمَّا إِن كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ * فَنُزُلٌ مِّنْ حَمِيمٍ * وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ} .
وعن سعيد بن جبير في قوله: {فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ} ، قال: الروح: الفرح. والريحان: الرزق؛ قال قتادة: يتلقّى به عند الموت. {وَأَمَّا إِن كَانَ مِنَ أَصْحَابِ الْيَمِينِ * فَسَلَامٌ لَّكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ} ، قال: سلام من عند الله، سلّمت عليه ملائكة الله. وقال ابن زيد: سَلِمَ مما يكون. وقال مقاتل: هو أن الله تعالى يتجاوز عن سيِّئاتهم ويقبل حسناتهم. وعن البراء بن عازب قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في جنازة رجل من الأنصار فانتهينا إلى القبر ولما يلحد فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم وجلسنا حوله كأنّ على رؤوسنا الطير، وفي يده عود ينكت به الأرض فرفع رأسه فقال: «استعيذوا بالله من عذاب القبر - مرتين أو ثلاثًا ثم قال -: إن العبد المؤمن إذا كان في انقطاع من الدنيا وإقبال من الآخرة، نزلت إليه ملائكة من السماء بيض الوجوه كأن وجوههم الشمس،
معهم كفن من أكفان الجنة، وحنوط من حنوط الجنة، حتى يجلسوا منه مدّ البصر، ثم يجيء ملك الموت حتى يجلس عند رأسه فيقول: أيتها النفس المطمئنة اخرجي إلى مغفرة من الله ورضوان - قال -: فتخرج تسيل كما تسيل القطرة من فيّ السقاء، فيأخذها فإذا أخذها لم يدعوها في يده طرفة عين حتى يأخذوها فيجعلوها في ذلك الكفن وفي ذلك الحنوط، ويخرج منها كأطيب نفحة مسك وجدت على وجه الأرض، فيصعدون بها فلا يمرّون بها - يعني: على ملأ من الملائكة - إلا قالوا: ما هذه الروح الطيّبة؟ فيقولون: فلان بن فلان بأحسن أسمائه التي كانوا يسمّونه بها في الدنيا، حتى ينتهوا به إلى السماء الدنيا، فيستفتحون له فيفتح له فيشيّعه من كلِّ سماء مقرّبوها إلى السماء التي تليها، حتى يُنتهى به إلى السماء السابعة فيقول الله: اكتبوا كتاب عبدي في علّيّين وأعيدوه إلى الأرض، فإني منها خلقتهم وفيها أعيدهم ومنها أخرجهم تارة أخرى
- قال -: فتعاد روحه في جسده فيأتيه ملكان فيجلسانه فيقولان له: من ربك؟ فيقول: ربي الله، فيقولان له: ما دينك؟ فيقول: ديني الإسلام، فيقولان له: ما هذا الرجل الذي بعث فيكم؟ فيقول: هو رسول الله، فيقولان له: وما علمك؟ فيقول: قرأت كتاب الله فآمنت به وصدّقت، فينادي منادٍ من السماء: أن صدق عبدي فأفرشوه من الجنة، وألبسوه من الجنة، وافتحوا له بابًا إلى الجنة، قال: فيأتيه من روحها وطيبها ويفسح له في قبره مدّ بصره، ويأتيه رجل حسن الوجه وحسن الثياب طيّب الريح، فيقول: أبشر بالذي يسرّك، هذا يومك
الذي كنت توعد، فيقول له: من أنت؟ فوجهك الوجه الذي يأتي بالخير، فيقول: أنا عملك الصالح، فيقول: ربِّ أقم الساعة، ربِّ أقم الساعة حتى أرجع إلى أهلي ومالي.
وإن العبد الكافر إذا كان في انقطاع من الدنيا وإقبال من الآخرة، نزلت إليه ملائكة من السماء سود الوجوه معهم المسوح، فجلسوا منه مدّ البصر، ثم يجيء ملك الموت فيجلس عند رأسه فيقول: أيتها النفس الخبيثة اخرجي إلى سخط من الله وغضب، قال: فتفرق في جسده فينتزعها كما ينتزع السفود من الصوف المبلول، فيأخذها فإذا أخذها لم يدعوها في يده طرفة عين حتى يجعلوها في تلك المسوح، فيخرج منها كأنتن ريح جيفة وجدت على الأرض، فيصعدون بها فلا يمرّون على ملأ من الملائكة إلا قالوا: ما هذه الروح الخبيثة؟ فيقولون: فلان بن فلان بأقبح أسمائه التي كان يسمّى بها في الدنيا، حتى يُنتهى بها إلى السماء الدنيا، فيستفتح له فلا يفتح له - ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم:{لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاء وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ} فيقول الله: اكتبوا كتابه في سجّين في الأرض السفلى، فتطرح روحه طرحًا - ثم قرأ -:{وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاء فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} فتعاد روحه في جسده ويأتيه ملكان فيجلسانه ويقولان له: من ربك؟ فيقول: هاه هاه! لا أدري، فيقولان له: ما دينك؟ فيقول: هاه هاه! لا أدري، فيقولان له: ما
هذا الرجل الذي بعث فيكم؟ فيقول: هاه هاه! لا أدري، فينادي منادٍ
من السماء: أن كذب عبدي فأفرشوه من النار، وافتحوا له بابًا إلى النار فيأتيه من حرّها وسَمومها، ويضيق عليه قبره حتى تختلف فيه أضلاعه، ويأتيه رجل قبيح الوجه قبيح الثياب منتن الريح فيقول: أبشر بالذي يسوءك هذا يومك الذي كنت توعد، فيقول: ومن أنت؟ فوجهك الوجه يجيء بالشرّ! فيقول: أنا عملك الخبيث، فيقول: رب لا تُقِمِ الساعة» . رواه أحمد وغيره. وفي رواية: «ثم يقيّض له أعمى أصمّ أبكم، وفي يده مرزبّة لو ضرب بها جبلاً لكان ترابًا، فيضربه ضربة فيصير ترابًا، ثم يعيده الله عز وجل كما كان، فيضربه ضربة أخرى فيصيح صيحة يسمعها كل شيء إلا الشياطين» .
وله من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الميت تحضره الملائكة، فإذا كان الرجل الصالح قالوا: اخرجي أيتها النفس الطيّبة كانت في الجسد الطيّب، اخرجي حميدة وأبشري بروح وريحان، وربّ غير غضبان، قال: فلا يزال يقال لها ذلك حتى تخرج، ثم يعرج بها إلى السماء فيستفتح لها فيقال: من هذا؟ فيقال: فلان فيقولون: مرحبًا بالروح الطيّبة كانت في الجسد الطيّب، ادخلي حميدة وأبشري بروح وريحان وربّ غير غضبان، قال: فلا يزال يقال لها ذلك حتى يُنتهى بها إلى السماء التي فيها الله عز وجل. وإذا كان الرجل السوء قالوا: اخرجي أيتها النفس الخبيثة كانت في الجسد الخبيث، اخرجي ذميمة وأبشري بحميم وغسّاق، وآخر من شكله أزواج» . الحديث.
وقوله تعالى: {إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ} ، قال البغوي:{إِنَّ هَذَا} يعني: ما ذكر من قصة المحتضرين {لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ} أي: الحقّ اليقين. وقال ابن
كثير: أي: أن هذا الخبر لهو حقّ اليقين الذي لا مرية فيه ولا محيد لأحدّ عنه {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} . وعن عقبة بن عامر الجهني قال: لما نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم: {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} قال: «اجعلوها في ركوعكم» ولما نزلت: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اجعلوها في سجودكم» . رواه أحمد وغيره. وفي الصحيحين عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كلمتان خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان، حبيبتان إلى الرحمن: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم» .
* * *