الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الدرس الثامن والسبعون بعد المائتين
[سورة الحشر]
مدنية، وهي أربع وعشرون آية
بسم الله الرحمن الرحيم
{سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِن دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنتُمْ أَن يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُم مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مِّنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُم بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ (2) وَلَوْلَا أَن كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلَاء لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ (3) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَن يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (4) مَا قَطَعْتُم مِّن لِّينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ (5) وَمَا أَفَاء اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (6) مَّا أَفَاء اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاء مِنكُمْ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (7) لِلْفُقَرَاء الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن
دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (8) وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ
مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (9) وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ (10) أَلَمْ تَر إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً أَبَداً وَإِن قُوتِلْتُمْ لَنَنصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (11) لَئِنْ أُخْرِجُوا لَا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِن قُوتِلُوا لَا يَنصُرُونَهُمْ وَلَئِن نَّصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنصَرُونَ (12) لَأَنتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِم مِّنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَّا يَفْقَهُونَ (13) لَا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً إِلَّا فِي قُرًى مُّحَصَّنَةٍ أَوْ مِن وَرَاء جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَّا يَعْقِلُونَ (14) كَمَثَلِ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ قَرِيباً ذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (15) كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِّنكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ (16) فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِي النَّارِ خَالِدَيْنِ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاء الظَّالِمِينَ (17) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (18) وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ أُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (19) لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ (20) لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُّتَصَدِّعاً مِّنْ خَشْيَةِ
اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ
يَتَفَكَّرُونَ (21) هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ (22) هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (23) هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاء الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (24) } .
* * *
عن سعيد بن جبير قال: قلت لابن عباس: سورة الحشر؟ قال: سورة النضير. وقال البغوي: قال المفسرون: نزلت هذه السورة في بني النضير وذلك أن النّبي صلى الله عليه وسلم دخل المدينة، فصالحته بنو النضير على أن لا يقاتلوه ولا يقاتلوا معه، فقبل ذلك رسول الله منهم، فلما غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم بدرًا وظهر على المشركين قالت بنو النضير: والله إنه النبيّ وجدنا نعته في التوراة، لا نردّ له رأيه، فلما غزا أحدًا وهزم المسلمون ارتابوا وأظهروا العداوة لرسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين، ونقضوا العهد الذي كان بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم، وركب كعب بن الأشرف في أربعين راكبًا من اليهود إلى مكة، فأتوا قريشًا فحالفوهم وعاقدوهم على أن تكون
كلمتهم واحدة على محمد، ودخل أبو سفيان في أربعين، وكعب في أربعين من اليهود المسجد الحرام، وأخذ بعضهم على بعض الميثاق بين الأمتار والكعبة، ثم رجع كعب وأصحابه إلى المدينة، ونزل جبريل فأخبر النبيّ صلى الله عليه وسلم بما تعاقد عليه كعب، وأبو سفيان، فأمر النبيّ صلى الله عليه وسلم بقتل كعب بن الأشرف فقتله محمد بن مسلمة، وكان النبيّ صلى الله عليه وسلم اطّلع منهم على خيانة، حين أتاهم يستعينهم في دية المسلمين الذين قتلهما عمرو بن أمية الضمريّ في منصرفه من بئر معونة، فهمّوا بطرح حجر عليه من فوق الحصن، فعصمه الله وأخبره بذلك، فلما قتل كعب بن الأشرف أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمر الناس بالمسير إلى بني النضير، وكانوا بقرية يقال لها: زهرة.
فلما سار إليهم النبي صلى الله عليه وسلم وجدهم ينوحون على كعب بن الأشرف، فقالوا: يا محمد داهية على إثر داهية، وباكية على إثر باكية؟ قال:
…
«نعم» قالوا: ذرنا نبكي شجونًا ثم ائتمر بأمرك، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم:
…
«اخرجوا من المدينة» . فقالوا: الموت أقرب إلينا من ذلك، فتنادوا بالحرب وأذّنوا بالقتال، ودسّ المنافقون عبد الله بن أبيّ بن سلول وأصحابه إليهم أن لا يخرجوا من الحصن، فإن قاتلوكم فنحن معكم ولا نخذلكم ولننصركم، ولئن أخرجتم لنخرجنّ معكم، فدربوا على الأزقة وحصّنوها، ثم إنهم أجمعوا على الغدر برسول الله صلى الله عليه وسلم، فأرسلوا إليه: أن اخرج في ثلاثين رجلاً من أصحابك وليخرج منا ثلاثين، حتى نلتقي بمكان نَصَفٍ بيننا وبينك، فيستمعوا منك فإن صدّقوك وآمنوا بك آمنا
كلّنا، فخرج النبيّ صلى الله عليه وسلم في ثلاثين من أصحابه، وخرج إليه ثلاثون حبرًا من اليهود، حتى إذا كانوا في براز من الأرض قال بعض اليهود لبعض: كيف تتخلّصون إليه ومعه ثلاثون رجلاً من أصحابه، كلّهم يحب أن يموت قبله؟ فأرسلوا إليه: كيف نفهم ونحون ستّون رجلاً؟ اخرج في ثلاثة من أصحابك ونخرج إليك في ثلاثة من علمائنا فيستمعوا منك، فإن آمنوا بك آمنا كلّنا بك وصدّقناك، فخرج النبيّ صلى الله عليه وسلم في ثلاثة من أصحابه، وخرج
ثلاثة من اليهود، واشتملوا على الخناجر وأرادوا الفتك برسول الله صلى الله عليه وسلم، فأرسلت امرأة ناصحة من بني النضير إلى أخيها، وهو رجل مسلم من الأنصار، فأخبرته بما أراد بنو النضير من الغدر برسول الله صلى الله عليه وسلم، فأقبل أخوها سريعًا حتى أدرك النبيّ صلى الله عليه وسلم، فسارّه بخبرهم قبل أن يصل إليهم فرجع النبي صلى الله عليه وسلم، فلما كان الغد غدا عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالكتائب فحاصرهم إحدى وعشرين ليلة، فقذف الله في قلوبهم الرعب، وأيسوا من نصر المنافقين، فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم الصلح فأبى عليهم إلا أن يخرجوا من المدينة، فصالحهم على الجلاء وعلى أن لهم ما أقلّت الإِبل من أموالهم إلا الحلقة وهي السلاح، ففعلوا وخرجوا من المدينة إلى الشام إلى أذرعات، وأريحا، إلا أهل بيتين منهم آل الحقيق، وآل حييّ بن أخطب فإنهم لحقوا بخيبر ولحقت طائفة منهم بالحيرة، فذلك قوله عز وجل:{هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِن دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ} . قال ابن عباس: من شكّ أن المحشر بالشام فليقرأ هذه الآية. انتهى ملخصًا.
وعن قتادة: قوله: {يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ} جعلوا يخربونها من أجوافها، وجعل المؤمنون يخربون من ظاهرها. قال الزهري: لما صالحوا النبي صلى الله عليه وسلم كانوا لا يعجبهم خشبة إلا أخذوها. وعن يزيد بن رومان: {وَلَوْلَا أَن كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلَاء} وكان لهم من الله نقمة، {لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا} ، أي: بالسيف، {وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ} مع ذلك. وعن مجاهد في قوله:{مَا قَطَعْتُم مِّن لِّينَةٍ} ، قال: نخلة. قال: نهى بعض المهاجرين بعضًا عن قطع النخل وقالوا: إنما هي مغانم المسلمين، ونزل القرآن بتصديق من نهى عن قطعه، وتحليل من قطعه من الإِثم، وإنما قطعه وتركه بإذنه. وعن قتادة: قوله: {وَمَا أَفَاء اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ} الآية. يقول: ما قطعتم إليها واديًا ولا سرتم إليها سيرًا، وإنما كان حوائط لبني النضير، طعمة أطعمها الله رسوله. وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: (كانت أموال بني النضير مما
أفاء الله على رسوله مما لم يوجف المسلمون عليه بخيل ولا ركاب، فكانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم خالصة، فكان ينفق منها على أهله نفقة سنة، وما بقي جعله في الدراع والسلاح عدّة في سبيل الله عز وجل . متفق عليه.
قوله عز وجل: {مَّا أَفَاء اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاء مِنكُمْ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (7) لِلْفُقَرَاء الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ
أُخْرِجُوا مِن دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (8) وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (9) وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ (10) } .
عن قتادة: قوله: {مَّا أَفَاء اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى} ، بلغني أنها الجزية. والخراج: خَراج أهل القرى. وعن مالك بن أوس بن الحدثان قال: (قرأ عمر بن الخطاب رضي الله عنه: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِينِ} ، حتى بلغ:{عَلِيمٌ حَكِيمٌ} ، ثم قال: هذه لهؤلاء؛ ثم قال: {وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ لِلّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى} الآية. ثم قال: هذه الآية لهؤلاء؛ ثم قرأ: {مَّا أَفَاء اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى} ، حتى بلغ:{لِلْفُقَرَاء} . {وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ} ، {وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ} ثم قال: استوعبت هذه الآية المسلمين عامّة، فليس
أحد إلا له فيها حقّ، ثم قال: لئن عشت ليأتينّ الراعي وهو يسير حمره نصيبه لم يعرق فيها جبينه) .
وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ} ، وهم الأنصار توطّنوا المدينة وآمنوا قبل قدوم المهاجرين
عليهم، {وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً} ، أي: حزازة وغيظًا وحسدًا، {مِّمَّا أُوتُوا} ، أي: مما أعطى المهاجرون دونهم من الفيء، {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} . وعن أنس بن مالك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«بريء من الشح من أدّى الزكاة، وقرى الضيف، وأعطى في النائبة» . رواه ابن جرير. وعن أبي هريرة: (أن رجلاً من الأنصار بات به ضيف فلم يكن عنده إلا قوته وقوت صبيانه، فقال لامرأته: نوّمي الصبية وأطفئي المصباح، وقرّبي للضيف ما عندك. قال: فنزلت هذه الآية) .
وعن قتادة: قال: ثم ذكر الله الطائفة الثالثة فقال: {وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا} ، حتى بلغ:{إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ} ، إنما أمروا أن يستغفروا لأصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم، ولم يؤمروا بسبّهم. قال ابن كثير: وما أحسن ما استنبط الإِمام مالك رحمه الله من هذه الآية الكريمة: أن الرافضيّ الذي يسبّ الصحابة ليس له في مال الفيء نصيب.
قوله عز وجل: {أَلَمْ تَر إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً أَبَداً وَإِن قُوتِلْتُمْ لَنَنصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (11) لَئِنْ أُخْرِجُوا لَا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِن قُوتِلُوا لَا يَنصُرُونَهُمْ وَلَئِن نَّصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنصَرُونَ (12) لَأَنتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِم مِّنَ
اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَّا يَفْقَهُونَ (13) لَا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً إِلَّا فِي قُرًى مُّحَصَّنَةٍ أَوْ مِن وَرَاء جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَّا يَعْقِلُونَ (14) كَمَثَلِ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ قَرِيباً ذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (15) كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِّنكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ (16) فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِي النَّارِ خَالِدَيْنِ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاء الظَّالِمِينَ (17) } .
عن قتادة: {بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى} ، قال: تجد أهل الباطل مختلفة شهادتهم، مختلفة أهواؤهم، مختلفة أعمالهم وهم مجتمعون في عداوة أهل الحقّ. وعن ابن عباس قوله:{كَمَثَلِ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ قَرِيباً ذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} ، يعني: بني قينقاع. وعن مجاهد: {كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنسَانِ اكْفُرْ} عامّة الناس. وعن عليّ رضي الله عنه قال: (إن راهبًا تعبّد ستين سنة، وإن الشيطان أراده فأعياه، فعمد إلى امرأة فأجنّها ولها إخوة، فقال لإِخوتها: عليكم بهذا القسّ فيداويها، فجاؤوا بها قال: فداواها وكانت عنده ن فبينما هو يومًا عندها إذ أعجبته، فأتاها فحملت فعمد إليها فقتلها، فجاء إخوتها فقال الشيطان للراهب: أنا صاحبك، إنك أعييتني، أنا صنعت بك هذا فأطعني أنجّك مما صنعتُ بك، اسجد لي سجدة، فسجد له فلما سجد له قال: إني بريء منك إني أخاف الله رب العالمين) .
عن قتادة: قوله: {اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ} ما زال ربّكم يقرّب الساعة حتى جعلها كغد، وغد يوم القيامة. وعن سفيان:{نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ} قال: نسوا حقّ الله {فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ} قال: حظّ أنفسهم. وعن ابن عباس قوله: {لَوْ أَنزلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} ، قال: يقول: لو أنّي أنزلت هذا القرآن على جبل حمّلته إياه، تصدّع وخشع من ثِقله، ومن خشية الله، فأمر الله عز وجل الناس إذا أنزل عليهم القرآن أن يأخذوه بالخشية الشديدة والتخشّع، قال:{وَتِلْكَ الأمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُون} . وقوله تعالى: {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ
الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ} ، قال ابن جرير: يقول تعالى ذكره: هو المعبود الذي لا تصح العبادة إلا له، المَلِكُ الذي لا ملك فوقه ولا
شيء إلا دونه. وقال قتادة: {الْقُدُّوسُ} ، أي: المبارك. وقال وهب بن منبه: أي: الطاهر. وقال ابن جريج: تقدّسه الملائكة. وقال قتادة في قوله:
…
{السَّلَامُ} ، الله السلام. قال ابن كثير:{السَّلَامُ} ، أي: من جميع العيوب والنقائص لكماله في ذاته وصفاته وأفعاله. {الْمُؤْمِنُ} ، قال قتادة: أمن بقوله أنه حق. وقال ابن زيد: {الْمُؤْمِنُ} ، المصدّق الموقن؛ آمن الناس بربهم فسمّاهم مؤمنين، وآمن الربّ الكريم لهم بإيمانهم صدّقهم أن يسمى ذلك الاسم. وعن ابن عباس في قوله:{الْمُهَيْمِنُ} ، قال: الشهيد. وقال قتادة: {الْجَبَّارُ} ، الذي جبر خلقه على ما يشاء. {الْمُتَكَبِّرُ} ، يعني: عن كل سوء. {سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ * هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ
الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ} ، قال ابن كثير: الخَلْقُ التقدير، والبرء هو: الفرى وهو التنفيذ وإبراز ما قدّره وقرّره إلى الوجود. وعن جابر بن زيد قال: إن اسم الله الأعظم هو: (الله) ألم تسمع الله يقول: {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ} . وعن معقل بن يسار عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «من قال حين يصبح ثلاث مرات: أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم، ثم قرأ ثلاث آيات من آخر سورة الحشر، وكلّ الله به سبعين ألف ملك يصلّون عليه حتى
يمسي، وإن مات في ذلك اليوم مات شهيدًا، ومن قالها حين يمسي كان بتلك المنزلة» . رواه أحمد والترمذي. والله أعلم.
* * *