الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الدرس الخامس والسبعون بعد المائتين
[سورة الحديد]
مدنية، وهي تسع وعشرون آية
بسم الله الرحمن الرحيم
{سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (2) هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (3) هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَاء وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (4) لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأمُورُ (5) يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَهُوَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (6) آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَأَنفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ (7) وَمَا لَكُمْ لَا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ (8) هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَكُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ (9) وَمَا لَكُمْ أَلَّا تُنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ الَّذِينَ أَنفَقُوا مِن بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلّاً وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى
وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (10) مَن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً
حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ (11) يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِم بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12) يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ لَّهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِن قِبَلِهِ الْعَذَابُ (13) يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنتُمْ أَنفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّى جَاء أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ (14) فَالْيَوْمَ لَا يُؤْخَذُ مِنكُمْ فِدْيَةٌ وَلَا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلَاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (15) أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ (16) اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (17) إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضَاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ (18) وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاء عِندَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (19) } .
* * *
قوله عز وجل: {سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (2) هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (3) هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَاء وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (4) لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأمُورُ (5) يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَهُوَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ
…
(6) } .
عن أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يدعو عند النوم: «اللهمّ ربّ السماوات السبع وربّ العرش العظيم، ربّنا وربّ كلّ شيء، منزل التوراة والإنجيل والفرقان، فالق الحبّ والنوى، لا إله إلا أنت، أعوذ بك من شرّ كلّ شيء أنت آخذ بناصيته أنت الأوّل فليس قبلك شيء، وأنت الآخر فليس بعدك شيء، وأنت الظاهر فليس فوقك شيء، وأنت الباطن فليس دونك شيء، اقض عنا الدين وأغننا من الفقر» . رواه أحمد وغيره. وعن عكرمة في قوله: {يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ} ، قال: قصر هذا في طول هذا، وطول هذا في قصر هذا. {وَهُوَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} قال ابن كثير: أي: يعلم السرائر إن دقّت وإن خفيت.
قوله عز وجل: {آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَأَنفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ (7) وَمَا لَكُمْ لَا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ (8) هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَى
عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَكُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ (9) وَمَا لَكُمْ أَلَّا تُنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ الَّذِينَ أَنفَقُوا مِن بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلّاً وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (10) } .
قال ابن كثير: أمر تعالى بالإيمان به وبرسوله على الوجه الأكمل، والدوام والثبات على ذلك والاستمرار، وحثّ على الإنفاق، {مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ} أي: مما هو معكم على سبيل العارية، فإنه قد كان في أيدي من قبلكم ثم صار إليكم، وقال: فيه إشارة إلى أنه سيكون مخلفًا عنك؛ وساق حديث عبد الله بن الشّخّير قال: انتهيت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول: « {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ} ، يقول ابن آدم: مالي مالي، وهل لك من مالك إلا ما أكلت فأفنيت، أو لبست فأبليت، أو تصدقت فأمضيت؟ وما سوى ذلك فذاهب وتاركه للناس» . رواه مسلم. وعن مجاهد قوله: {مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} ، قال: من الضلالة إلى الهدى.
وقوله تعالى: {وَمَا لَكُمْ أَلَّا تُنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} قال البغوي: أي: شيء لكم في ترك الإِنفاق في
سبيل الله وبالجهاد فقال: {لَا يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ} ، يعني: فتح مكة في قول أكثر المفسّرين. وقال الشعبي: هو صلح الحديبية. قال ابن كثير: وقد يستدلّ لهذا القول بما روى الإمام أحمد عن أنس قال: كان بين خالد بن الوليد وبين عبد الرحمن بن عوف كلام، فقال خالد لعبد الرحمن: تستطيلون علينا بأيام
سبقتمونا بها، فبلغنا أن ذلك ذكر للنبيّ صلى الله عليه وسلم فقال:«دعوا لي أصحابي، فوالذي نفسي بيده لو أنفقتم مثل أُحُدٍ ذهبًا ما بلغتم أعمالهم» . قال ابن كثير: ومعلوم أن إسلام خالد بن الوليد كان بين صلح الحديبية وفتح مكة. وعن قتادة: {وَكُلّاً وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى} قال: الجنة {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} ، قال ابن كثير: أي: فلخبرته فاوت بين ثوابهم.
قال البغوي: {يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُم} ، يعني: على الصراط، {بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِم} ، يعني: عن أيمانهم؛ قال بعضهم: أراد جميع جوانبهم، فعبر بالبعض عن الكلّ، وذلك دليلهم إلى الجنة. وقال قتادة: ذكر لنا
أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن من المؤمنين من يضيء نوره من المدينة إلى عَدَن أبين وصنعاء ودون ذلك، حتى أن من المؤمنين من لا يضيء نوره إلا موضع قدميه» . وقال ابن مسعود: (يؤتون من نورهم على قدر أعمالهم، فمنهم من يؤتى نوره كالنخلة، ومنهم من يؤتى نوره كالرجل القائم، وأدناهم نورًا مَنْ نوره على إبهامه فيطفأ مرّة ويوقد مرّة) . وقال الضحاك، ومقاتل:{يَسْعَى نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِم} كتبهم، يريد أن كتبهم التي أعطوها بإيمانهم ونورهم بين أيديهم، وتقول لهم الملائكة:{بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} .
{يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ} نستضيء من نوركم، وذلك أن الله تعالى يعطي المؤمنين نورًا على قدر أعمالهم يمشون به على الصراط، ويعطي المنافقين أيضًا نورًا خديعة لهم، وهو قوله عز وجل:{وَهُوَ خَادِعُهُمْ} فبينا هم يمشون إذ بعث الله عليهم ريحًا وظلمة فأطفأت نور المنافقين، فذلك قوله:{يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا} مخافة أن يُسلبوا نورهم كما سُلب نور المنافقين {قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً} فاطلبوا هناك لأنفسكم
نورًا، فإنه لا سبيل لكم إلا الاقتباس من نورنا، فيرجعون في طلب النور فلا يجدون شيئًا فينصرفون إليهم ليلقوهم فيميز بينهم وبين المؤمنين؛ وهو قوله:{فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ} وهو حائط بين الجنة والنار {لَّهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ} ، أي: في باطن ذلك السور الرحمة وهي: الجنة، {وَظَاهِرُهُ مِن قِبَلِهِ الْعَذَابُ} وهو: النار {يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ} في الدنيا نصلّي ونصوم؟ {قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنتُمْ أَنفُسَكُمْ} ، أهلكتموها بالنفاق والكفر، واستعملتموها في المعاصي والشهوات وكلّها فتنة {وَتَرَبَّصْتُمْ} بالإِيمان والتوبة {وَارْتَبْتُمْ} تشكّكتم {وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ} الأباطيل وما كنتم تتمنّون من نزول الدوائر
بالمؤمنين {حَتَّى جَاء أَمْرُ اللَّهِ} ، يعني: الموت، {وَغَرَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ} ، يعني: الشيطان. قال قتادة: ما زالوا على خدعة من الشيطان حتى قذفهم الله في النار {فَالْيَوْمَ لَا يُؤْخَذُ مِنكُمْ فِدْيَةٌ وَلَا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا} ، يعني: المشركين {مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلَاكُمْ} صاحبكم وأولى بكم لما أسلفتم من الذنوب، {وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} . انتهى ملخصًا. والله أعلم.
قوله عز وجل: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ (16) اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (17) إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضَاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ (18) وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ
وَالشُّهَدَاء عِندَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (19) } .
عن قتادة: قوله: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ} الآية، ذكر لنا أن شدّاد بن أوس كان يروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«إن أول ما يرفع من الناس الخشوع» . قال ابن كثير: يقول تعالى: أما آن للمؤمنين: {أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ} أي: تلين عند الذكر والموعظة وسماع القرآن، فتفهمه وتنقاد له وتسمع له وتطيعه؟ {وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ} ، قال ابن عباس: مالوا إلى الدنيا وأعرضوا عن مواعظ الله. قال البغوي: والمعنى: أن الله عز وجل ينهى المؤمنين أن يكونوا في صحبة القرآن كاليهود والذين قست قلوبهم لما طال عليهم الدهر
…
الذين تركوا الإِيمان بعيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام.
وقوله تعالى: {اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} فيه إشارة إلى أن الله تعالى يليّن القلوب بعد قسوتها برحمته كما يحيي الأرض بعد جدبها {إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ} أي: المتصدّقين والمتصدّقات {وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً} بالصدقة والنفقة في سبيل الله عز وجل {يُضَاعَفُ لَهُمْ} ذلك القرض {وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ} ثواب حسن وهو الجنة {وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ} قال مجاهد: كلّ من آمن بالله
ورسله فهو صدّيق، وتلا هذه الآية. وعن ابن عباس في قوله:
…
{وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ} ، قال: هذه مفصولة. قال ابن كثير: وقوله تعالى: {وَالشُّهَدَاء عِندَ رَبِّهِمْ} أي: في جنات النعيم، كما جاء في الصحيحين:«إن أرواح الشهداء في حواصل طير خضر تسرح في الجنة حيث شاءت، ثم تأوي إلى تلك القناديل، فاطلع عليهم ربك إطّلاعه فقال: ماذا تريدون؟ فقالوا: نحبّ أن تردّنا إلى الدار الدنيا فنقاتل فيك فنُقتَل كما قُتلنا أوّل مرّة، فقال: إني قضيت أنهم إليها لا يرجعون» .
وقوله تعالى: {لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ} ، أي: لهم عند الله أجر جزيل ونور عظيم، {يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ} وهم في ذلك يتفاوتون بحسب ما كانوا في الدار الدنيا من الأعمال.
وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} لما ذكر السعداء ومآلهم، عطف بذكر الأشقياء وبيّن حالهم. والله المستعان.
* * *