الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الدرس الثاني والتسعون بعد المائتين
[سورة المزمل]
مكية، وهي عشرون آية
بسم الله الرحمن الرحيم
{يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1) قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلاً (2) نِصْفَهُ أَوِ انقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً (3) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً (4) إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً (5) إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْءاً وَأَقْوَمُ قِيلاً (6) إِنَّ لَكَ فِي اَلنَّهَارِ سَبْحاً طَوِيلاً (7) وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً (8) رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً (9) وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً (10) وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلاً (11) إِنَّ لَدَيْنَا أَنكَالاً وَجَحِيماً (12) وَطَعَاماً ذَا غُصَّةٍ وَعَذَاباً أَلِيماً (13) يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيباً مَّهِيلاً (14) إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولاً شَاهِداً عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولاً (15) فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذاً وَبِيلاً (16) فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِن كَفَرْتُمْ يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيباً (17) السَّمَاء مُنفَطِرٌ بِهِ كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولاً (18) إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَن شَاء اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً (19) إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِن ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِّنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَن لَّن تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَؤُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَن سَيَكُونُ مِنكُم مَّرْضَى
وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِن
فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَؤُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللَّهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ
…
(20) } .
* * *
عن قتادة: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ} ، أي: المتزمّل في ثيابه. وعن ابن عباس: قوله: {قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلاً * نِصْفَهُ أَوِ انقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً * أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً} ، فأمر الله نبيّه والمؤمنين بقيام الليل إلا قليل، فشقّ ذلك على المؤمنين، ثم خفّف عنهم فرحمهم، وأنزل الله بعد هذا:{عَلِمَ أَن سَيَكُونُ مِنكُم مَّرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِن فَضْلِ اللَّهِ} إلى قوله: {فَاقْرَؤُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ} فوسّع الله - وله الحمد - ولم يضيّق. وعن عكرمة عن ابن عباس قال: (لما نزلت أول المزمّل كانوا يقومون نحوًا من قيامهم في شهر رمضان، وكان بين أوّلها وآخرها نحوًا من سنة) .
وعن مجاهد في قول الله: {وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً} ، قال: ترسّل فيه ترسّلاً. وقال ابن عباس: بيّنه بيانًا. وعن الحسن في قوله: {إِنَّا سَنُلْقِي
عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً} ، قال: العمل به. وقال قتادة: ثقيلٌ واللهِ، فرائضُه وحدودُه. وعن هشام ابن عروة عن أبيه: (أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان إذا أوحي إليه وهو على ناقته، وضعت جرانها فما
تستطيع أن تحرّك حتى يسرّى عنه) . وقال ابن زيد: هو واللهِ ثقيلٌ مبارَكٌ القرآن، كما ثَقُلَ في الدنيا ثقل في الموازين يوم القيامة.
وعن مجاهد: {إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ} ، قال: إذا قمت من الليل فهو ناشئة. وقال قتادة: ما كان بعد العشاء فهو ناشئة، وقالت عائشة: القيام بعد النوم. وقال ابن زيد في قوله: {إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْءاً} ، قال: إن مصلّي الليل القائم بالليل {أَشَدُّ وَطْءاً} طمأنينة، أفرغ له قلبًا {وَأَقْوَمُ قِيلاً} ، قال: أقوم قراءة لفراغه من الدنيا.
{إِنَّ لَكَ فِي النَّهَارِ سَبْحاً طَوِيلاً} ، قال: لحوائجك {وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً} ، قال ابن عباس: أخلص له إخلاصًا. وقال قتادة: أخلص له العبادة والدعوة. وقال الحسن: ابتل نفسك واجتهد. {رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً} ، قال البغوي: قيّمًا بأمورك ففوّضها إليه، {وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً} ، قال ابن كثير: يقول تعالى آمرًا رسوله بالصبر على ما يقوله من كذّبه من سفهاء قومه، وأن يهجرهم {هَجْراً جَمِيلاً} وهو الذي لا عتاب معه. ثم قال متوعّدًا لهم:{وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلاً} أي: دعني والمكذّبين المترفين أصحاب الأموال، فإنهم على الطاعة أقدر من غيرهم، وهم يطالبون من الحقوق بما ليس
عند غيرهم. {وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلاً} أي: رويدًا كما قال تعالى: {نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلاً ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ} .
وعن قتادة: {إِنَّ لَدَيْنَا أَنكَالاً} أي: قيودًا {وَجَحِيماً * وَطَعَاماً ذَا غُصَّةٍ} ، قال ابن عباس: شرك يأخذ بالحلق فلا يدخل ولا يخرج. {وَعَذَاباً أَلِيماً} .
{يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيباً مَّهِيلاً} ، قال ابن عباس: الكثيب المهيل: الرمل السائل؛ قال ابن كثير:، أي: تصير ككثبان الرمل بعدما كانت حجارة صمّاء، ثم إنها تنسف نسفًا فلا يبقى منها شيء إلا ذهب، حتى تصير الأرض {قَاعاً صَفْصَفاً * لَا تَرَى فِيهَا عِوَجاً وَلَا أَمْتاً} .
قال ابن كثير: ثم قال تعالى مخاطبًا لكفار مكة، والمراد سائر الناس:{إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولاً شَاهِداً عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولاً * فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذاً وَبِيلاً} ، قال قتادة: شديدًا، {فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِن كَفَرْتُمْ يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيباً} ، يقول: كيف تتّقون يومًا وأنتم قد كفرتم به ولا تصدقون به؟ وقال الضحاك في قوله:
{يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيباً} كان ابن مسعود يقول: (إذا كان يوم القيامة دعا ربُّنا الملِكُ آدَمَ فيقول: يا آدم قم فابعث بعث النار، فيقول آدم: أي ربّ لا علم لي إلا ما علّمتني، فيقول الله له: أخرج من كلّ ألف تسعمائة وتسعة وتسعين، فيساقون إلى النار سودًا مقرّنين زرقًا كالحين، فيشيب هنالك كلّ وليد) .
قال البغوي: ثم وصف هول ذلك اليوم فقال: {السَّمَاء مُنفَطِرٌ بِهِ} متشقّق لنزول الملائكة؛ {بِهِ} ، أي: بذلك المكان. {كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولاً} . {إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَن شَاء اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً} ، قال قتادة: بطاعة الله. وقال البغوي: {إِنَّ هَذِهِ} ، أي: آيات القرآن {تَذْكِرَةٌ} تذكير وموعظة {فَمَن شَاء اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً} بالإِيمان والطاعة.
قال البغوي: {إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى} أقلّ. {مِن ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِّنَ الَّذِينَ مَعَكَ} ، يعني: المؤمنين، وكانوا يقومون معه. {وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ} ، قال عطاء: يريد: لا يفوته علم ما تفعلون، أي: أنه يعلم مقادير الليل والنهار، فيعلم القدر الذي تقومون من الليل. {عَلِمَ أَن لَّن تُحْصُوهُ} ، قال الحسن: قاموا حتى انتفخت أقدامهم فنزل: {عَلِمَ أَن لَّن تُحْصُوهُ} لن تطيقوه.
…
{فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَؤُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ} ، يعني: في الصلاة.
{عَلِمَ أَن سَيَكُونُ مِنكُم مَّرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِن فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} ، قال قتادة: ثم أنبأنا بخصال: {عَلِمَ أَن سَيَكُونُ
مِنكُم مَّرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِن فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَؤُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ} فإن الله افترض القيام في أول هذه السورة، فقام نبيّ الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه حولاً حتى انتفخت أقدامهم، وأمسك الله خاتمتها اثني عشر شهرًا في السماء، ثم أنزل التخفيف في آخرها فصار قيام الليل تطوّعًا بعد فريضة. {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} فهما فريضتان واجبتان لا رخصة لأحد فيهما فأدّوهما إلى الله تعالى ذكره.
{وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً} ، قال ابن زيد: القرض النوافل سوى الزكاة {وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللَّهِ هُوَ خَيْراً} ، قال البغوي: تجدوا ثوابه في الآخرة أفضل مما أعطيتم {وَأَعْظَمَ أَجْراً} من الذي أخذتم ولم تقدّموه. ثم ساق بسنده عن الحارث بن سويد قال:
قال عبد الله: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أيّكم ماله أحبّ إليه من مال وارثه» ؟ قالوا: يا رسول الله ما منّا أحد إلا ماله أحبّ إليه من مال وارثه، قال:«اعلموا ما تقولون» . قالوا: ما نعلم إلا ذلك يا رسول الله، قال:«ما منكم من رجل إلا مال وارثه أحبّ إليه من ماله» ، قالوا: كيف يا رسول الله؟ قال: «إنما مال أحدكم ما قدّم، ومال وارثه ما أخّر» .
وقوله تعالى: {وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ} ، أي: لذنوبكم، {إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} . وفي الصحيحين وغيرهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«ينزل الله تبارك وتعالى في كلّ ليلة إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر فيقول: هل من سائل فأعطيه؟ هل من داع فأستجيب له؟ هل من مستغفر فاغفر له» ؟ . وروى أحمد وغيره عن أبي هريرة قلنا: يا رسول الله إذا رأيناك رقّت قلوبنا وكنا من أهل الآخرة، وإذا فارقناك أعجبتنا الدنيا وشممنا النساء والأولاد، فقال: «لو أنكم تكونون على كلّ
حال على الحال التي كنتم عليها عندي، لصافحنكم الملائكة بأكفّهم، ولزارتكم في بيوتكم، ولو لم تذنبوا لجاء الله بقوم يذنبون كي يغفر
…
لهم» . قلنا: يا رسول الله حدّثنا عن الجنّة ما بناؤها؟ قال: «لَبِنَةُ ذهب ولَبِنَةُ فضّة، وملاطها المسك الأذفر، وحصباؤها اللؤلؤ والياقوت، وترابها الزعفران، من يدخلها ينعم لا يبأس، ويخلد لا يموت، لا تبلى ثيابه ولا يفنى شبابه. ثلاثة لا تردّ دعوتهم: الإمام العادل، والصائم حتى
يفطر، ودعوة المظلوم تحمل على الغمام وتفتح لها أبواب السماء، ويقول لها الربّ عز وجل: وعزّتي وجلالي لأنصرنّك ولو بعد حين» .
* * *