الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الدرس التاسع والسبعون بعد المائتين
[سورة الممتحنة]
مدنية، وآياتها ثلاث عشرة آية
بسم الله الرحمن الرحيم
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء تُلْقُونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءكُم مِّنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَن تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِن كُنتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَاداً فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاء مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنتُمْ وَمَن يَفْعَلْهُ مِنكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاء السَّبِيلِ (1) إِن يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاء وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُم بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ (2) لَن تَنفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (3) قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَاء مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاء أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن شَيْءٍ رَّبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (4) رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (5) لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَمَن يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (6) عَسَى اللَّهُ أَن يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُم مِّنْهُم مَّوَدَّةً
وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (7) لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ
يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (8) إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (9) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَّهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُم مَّا أَنفَقُوا وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَن تَنكِحُوهُنَّ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ وَاسْأَلُوا مَا أَنفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُوا مَا أَنفَقُوا ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (10) وَإِن فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِّنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعَاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُم مِّثْلَ مَا أَنفَقُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنتُم بِهِ مُؤْمِنُونَ (11) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَن لَّا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئاً وَلَا يَسْرِقْنَ وَلَا يَزْنِينَ وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (12) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ (13) } .
* * *
قال ابن إسحاق: حدّثني محمد بن جعفر بن الزُّبير وغيره من علمائنا قال: (لما أجمع رسول الله صلى الله عليه وسلم المسير إلى مكة، كتب حاطب بن أبي بلتعة كتابًا إلى قريش يخبرهم بالذي أجمع عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأمر في السير إليهم، ثم أعطاه امرأة وجعل لها جعلاً على أن تبلّغه لقريش، فجعلته في رأسها، ثم فتلت عليه قرونها، ثم خرجت به، وأتى رسول الله
صلى الله عليه وسلم الخبر من السماء بما صنع حاطب، فبعث عليّ بن أبي طالب والزُّبير بن العوّام فقال:«أدركا امرأة قد كتب معها حاطب كتابًا إلى قريش، يحذّرهم ما قد أجمعنا له من أمرهم» .
فخرجا حتى أدركاها بالحليفة - حليفة بني أبي أحمد - فاستنزلاها بالحليفة فالتمسا في رحلها فلم يجدا شيئًا، فقال لها عليّ بن أبي طالب: إني أحلف بالله ما كذب رسول الله صلى الله عليه وسلم وما كُذِبْنا، ولتخرجنّ لنا هذا الكتاب، أو لنكشفنّك، فلما رأت الجدّ منه قالت: أعرِض، فأعرّض، فحلّت قرون رأسها فاستخرجت الكتاب منها فدفعته إليه، فأتى به رسول الله صلى الله عليه وسلم فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم حاطبًا، فقال:«يا حاطب ما حملك على هذا» ؟ قال: يا رسول الله، والله إني لمؤمن بالله وبرسوله ما غيّرت ولا بدّلت، ولكني كنت امرءًا ليس لي في القوم من أهل ولا عشيرة، وكان لي بين أظهرهم ولد وأهل، فصانعتهم عليهم. فقال عمر بن الخطاب: يا رسول الله دعني فلأضرب عنقه، فإن الرجل قد نافق. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«وما يدريك يا عمر؟ لعل الله قد اطّلع على أصحاب بدر يوم بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم» ؛ فأنزل الله عز وجل في حاطب: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ} إلى قوله: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَاء مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاء أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} ، إلى آخر القصة.
قال البغوي: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء تُلْقُونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءكُم مِّنَ الْحَقِّ} يعني: القرآن، {يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ} من مكة {أَنْ تُؤْمِنُوا} أي: لأن آمنتم كأنه قال: يفعلون ذلك لإيمانكم بالله ربكم، {إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ} ، هذا شرط. جوابه متقدّم وهو قوله:{لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء تُلْقُونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءكُم مِّنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَن تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِن كُنتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَاداً فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاء مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ} قال مقاتل:
بالنصيحة {وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنتُمْ وَمَن يَفْعَلْهُ مِنكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاء السَّبِيلِ} ، أخطأ طريق الهدى {إِن يَثْقَفُوكُمْ} يظفروا بكم، {يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاء وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ} بالضرب والقتل {وَأَلْسِنَتَهُم بِالسُّوءِ} بالشتم {وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ} ، كما كفروا، يقول: لا تناصحوهم فإنهم لا يناصحونكم ولا يوادّونكم. {لَن تَنفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ} ، الذين عصيتم الله لأجلهم، {يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ} ، فيدخل أهل طاعته الجنة، وأهل معصيته النار، {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} .
{قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ} ، من أهل الإِيمان، {إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ} من المشركين، {إِنَّا بُرَاء مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ} ، جحدنا وأنكرنا دينكم، {وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاء أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} ، يأمر حاطبًا والمؤمنين بالإقتداء بإبراهيم عليه الصلاة والسلام، والذين معه من
المؤمنين في التبرّؤ من المشركين، {إِلا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لأبِيهِ لأسْتَغْفِرَنَّ لَكَ} يعني: لكم أسوة حسنة في إبراهيم وأموره إلا في استغفاره لأبيه المشرك، فإن إبراهيم عليه الصلاة والسلام كان قد قال لأبيه: لأستغفرنّ لك، ثم تبرأ منه، {وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ} ، يقول إبراهيم لأبيه: ما أغني عنك ولا أدفع عنك عذاب الله إن عصيته وأشركت به، {رَّبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا} يقوله إبراهيم ومن معه من المؤمنين:{وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ * رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا} ، قال الزجاج: لا تظهرهم علينا فيظنّوا أنهم على الحقّ فيفتتنوا. وقال مجاهد: لا تعذّبنا بأيديهم ولا بعذاب من عندك فيقولون: لو كان هؤلاء على الحقّ ما أصابهم ذلك، {وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} . {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ} ، أي: في إبراهيم ومن معه، {أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ} ، هذا بدل من قوله:{لَكُمْ} ، وبيان أن هذه الأسوة لمن يخاف الله ويخاف عذاب الآخرة، {وَمَن يَتَوَلَّ} ، يُعرض عن الإِيمان ويوالي الكفار، {فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} عن خلقه، {الْحَمِيدُ} إلى أوليائه وأهل طاعته. أ. هـ. ملخصًا.
قال ابن كثير: وقوله تعالى ومن يتولّ، أي: عما أمره الله به {فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} كقوله تعالى: {إِن تَكْفُرُواْ أَنتُمْ وَمَن فِي الأَرْضِ جَمِيعاً فَإِنَّ اللهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ} . وقال عليّ بن أبي طلحة عن ابن عباس: (الغنيّ الذي قد كمل في غناه وهو الله، هذه صفته لا تنبغي إلا له، ليس له كفؤ وليس كمثله شيء سبحان الله الواحد القهار.
والحميد: المستحمد إلى خلقه، أي: هو المحمود في جميع أقواله وأفعاله لا إله غيره ولا ربّ سواه) .
قال ابن زيد في قوله: {عَسَى اللَّهُ أَن يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُم مِّنْهُم مَّوَدَّةً} ، قال: هؤلاء المشركون وقد فعل، قد أدخلهم الله في السلم وجعل بينهم مودّة حين كان الإِسلام حين الفتح. وقال البغوي: قال مقاتل: فلما أمر الله المؤمنين بعداوة الكفار عادى المؤمنين أقرباؤهم المشركين وأظهروا لهم العدواة والبراءة، فعلم الله شدّة وجد المؤمنين بذلك، فأنزل الله عز وجل:{عَسَى اللَّهُ أَن يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُم مِّنْهُم} أي: من كفار مكة مودّة، ففعل الله ذلك بأن أسلم كثير منهم فصاروا لهم أولياء وإخوانًا وخالطوهم وناكحوهم
…
ثم رخّص الله عز وجل في صلة الذين لم يعادوا المؤمنين ولم يقاتلوهم فقال: {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ} ، أي: لا ينهاكم الله عن برّ الذين لم يقاتلوكم
{وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ} تعدلوا فيهم بالإِحسان والبرّ {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} . قال ابن عباس: نزلت في خزاعة، كانوا قد صالحوا النبيّ صلى الله عليه وسلم على أن لا يقاتلوه ولا يعينوا عليه أحدًا، فرخّص الله في برّهم. وعن مجاهد:{إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ} ، قال: كفار أهل مكة.
عن أبي نضرة الأسدي قال: سُئِلَ ابن عباس: كيف كان امتحان رسول الله صلى الله عليه وسلم النساء؟ قال: (كان يمتحنهنّ بالله ما خرجت من بغض زوج، وبالله ما خرجت رغبة عن أرض إلى أرض، وبالله ما خرجت التماس دنيا، وبالله ما خرجت إلا حبًّا لله ورسوله) . وعن المسور بن مخرمة ومروان [ابن الحكم]- في قصة الحديبية - قالا: (لما كتب سهيل بن عمرو يومئذٍ، كان فيما اشترط سهيل بن عمرو على النبيّ صلى الله عليه وسلم: أنه لا يأتيك منا أحد وإن كان على دينك إلا رددته إلينا وخلّّيت
بيننا وبينه، فكره المؤمنون ذلك وأبى سهيل إلا ذلك، فكاتبه النّبي صلى الله عليه وسلم على ذلك، فردّ النبيّ صلى الله عليه وسلم يومئذٍ أبا جندل إلى أبيه سهيل بن عمرو، ولم يأته أحد
من الرجال إلا ردّه في تلك المدة وإن كان مسلمًا، وجاءت المؤمنات مهاجرات، وكانت أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط ممن خرج إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذٍ مهاجرة وهي عاتق، فجاء أهلها يسألون النبيّ صلى الله عليه وسلم أن يرجعها إليهم فلم يرجعها إليهم لما أنزل الله فيهنّ: {إِذَا جَاءكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَّهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ
…
لَهُنَّ} ) . وعن مجاهد: {وَآتُوهُم مَّا أَنفَقُوا} وآتوا أزواجهنّ صدقاتهنّ.
وقال ابن زيد في قوله: {وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَن تَنكِحُوهُنَّ} ولها زوج، ثم لأنه فرّق بينهما الإِسلام، إذا استبرأتم أرحامهنّ {وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ} قال الزهري: فطلق عمر امرأتين كانتا له بمكة. وعن مجاهد في قول الله: {وَاسْأَلُوا مَا أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُوا مَا أَنْفَقُوا} قال: ما ذهب من أزواج أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم إلى الكفار فليعطهم الكفار صدقاتهنّ وليمسكوهنّ، وما ذهب من أزواج الكفار إلى أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم بمثل ذلك في صلح كان بين محمد صلى الله عليه وسلم وبين قريش {ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ} ، قال الزهري: فأمسك رسول الله النساء وردّ الرجال، وسأل الذي أمره الله أن يسأل من صدقات النساء من حبسوا منهنّ، وأن يردّوا عليهم مثل الذي يردّون عليهم إن هم فعلوا، ولولا الذي حكم الله به
من هذا الحكم ردّ رسول الله صلى الله عليه وسلم النساء كما ردّ الرجال، ولولا الهدنة والعهد الذي كان بينه وبين قريش يوم الحديبية أمسك النساء ولم يردد إليهم صداقًا، وكذلك يصنع بمن جاءه من المسلمات قبل العهد. قال الزهري: أما المؤمنون فأقرّوا بحكم الله، وأما المشركون فأبوا أن يقرّوا فأنزل الله عز وجل:{وَإِن فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِّنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعَاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُم مِّثْلَ مَا أَنفَقُوا} ، فأمر الله المؤمنين أن يردّوا الصداق إذا ذهبت امرأة من المسلمين ولها زوج أن يردّ المسلمون إليه صداق امرأته من صداق إن كان في أيديهم مما أمروا أن يردّوا إلى المشركين.
قال مجاهد: {فَعَاقَبْتُمْ} أصبتم غنيمة من قريش أو غيرهم، {فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُم مِّثْلَ مَا أَنفَقُوا} ، يعني: مهر مثلها. قال ابن كثير: وهذا لا ينافي الأول، إن أمكن الأول فهو الأولى، وإلا فمن الغنائم التي تؤخذ من أيدي الكفار.
عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يمتحن من هاجر إليه من المؤمنات بهذه الآية: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ} ، إلى قوله:
{غَفُورٌ رَّحِيمٌ} ، فمن أقرّ بهذا الشرط من المؤمنات قال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم:«قد بايعتك كلامًا» ، ولا والله ما مسّت يده يد امرأة في المبايعة قطّ، ما يبايعهنّ إلا بقوله:«قد بايعتك على ذلك» . رواه البخاري. وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدّه قال: جاءت أميمة بنت رفيعة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تبايعه على الإِسلام فقال: «أبايعك على أن لا تشركي بالله شيئًا، ولا تسرقي، ولا تزني، ولا تقتلي ولدك، ولا تأتي ببهتان تفترينه بين يديك ورجليك، ولا تنوحي، ولا تبرّجي تبرّج الجاهليّة الأولى» . وعن ابن عباس: قوله: {وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ} ، يقول: لا يلحقن بأزواجهنّ غير أولادهم، وقال البغوي: ليس المراد منه نهيهنّ عن
الزنا، لأن النهي عن الزنا قد تقدم ذكره، بل المراد منه أن تلتقط مولودًا وتقول لزوجها: هذا ولدي منك؛ فهو البهتان المفترى بين أيديهنّ وأرجلهنّ، لأن الولد إذا وضعته الأم سقط بين يديها ورجليها.
وعن ابن عباس: قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ} ، يعني: من مات من الذين كفروا فقد يئس الأحياء من الذين كفروا أن يرجعوا إليهم، أو يبعثهم الله. وقال الحسن: الكفار الأحياء قد يئسوا من الأموات. وعن مجاهد في قوله: {قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ} ، قال: من ثواب الآخرة، حين تبيّن لهم عملهم وعاينوا النار. قال ابن كثير: ينهى تبارك وتعالى عن موالاة
الكافرين في آخر هذه السورة كما نهى عنها في أولها فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} ، يعني: اليهود والنصارى وسائر الكفار، ممن غضب الله عليه ولعنه، فكيف توالوا منهم وتتخذونهم أصدقاء وأخلاءً و {قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ} ، أي: من ثواب الآخرة ونعيمها في حكم الله عز وجل.
* * *