الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الدرس السابع والثمانون بعد المائتين
[سورة نون]
مكية، وهي اثنتان وخمسون آية
بسم الله الرحمن الرحيم
{ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ (1) مَا أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ (2) وَإِنَّ لَكَ لَأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ (3) وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4) فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ (5) بِأَييِّكُمُ الْمَفْتُونُ (6) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (7) فَلَا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ (8) وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ (9) وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَّهِينٍ (10) هَمَّازٍ مَّشَّاء بِنَمِيمٍ (11) مَنَّاعٍ لِّلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12) عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ (13) أَن كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ (14) إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (15) سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ (16) إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ (17) وَلَا يَسْتَثْنُونَ (18) فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِّن رَّبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ (19) فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ (20) فَتَنَادَوا مُصْبِحِينَ (21) أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ إِن كُنتُمْ صَارِمِينَ (22) فَانطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ (23) أَن لَّا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُم مِّسْكِينٌ (24) وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ (25) فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ (26) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (27) قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ لَوْلَا تُسَبِّحُونَ (28) قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (29) فَأَقْبَلَ
بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلَاوَمُونَ (30) قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ (31) عَسَى رَبُّنَا أَن يُبْدِلَنَا خَيْراً مِّنْهَا
إِنَّا إِلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ (32) كَذَلِكَ الْعَذَابُ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (33) إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (34) أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (35) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (36) أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ (37) إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَمَا تَخَيَّرُونَ (38) أَمْ لَكُمْ أَيْمَانٌ عَلَيْنَا بَالِغَةٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ (39) سَلْهُم أَيُّهُم بِذَلِكَ زَعِيمٌ (40) أَمْ لَهُمْ شُرَكَاء فَلْيَأْتُوا بِشُرَكَائِهِمْ إِن كَانُوا صَادِقِينَ (41) يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ (42) خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ (43) فَذَرْنِي وَمَن يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ (44) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (45) أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْراً فَهُم مِّن مَّغْرَمٍ مُّثْقَلُونَ (46) أَمْ عِندَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (47) فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تَكُن كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ (48) لَوْلَا أَن تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِّن رَّبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرَاء وَهُوَ مَذْمُومٌ (49) فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (50) وَإِن يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ (51) وَمَا هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ (52) } .
* * *
عن ابن عباس: قال: (أول ما خلق الله من شيء القلم، فجرى بما هو كائن، ثم رفع بخار الماء، فخلقت منه السماوات، ثم خلق النون فبسطت الأرض على ظهر النون، فتحرّكت الأرض فمادت، فأثبتت بالجبال، فإن الجبال لتفخر على الأرض، وقرأ: {ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ} ) . وعن مجاهد قال: كان يقال: النون الحوت الذي تحت الأرض السابعة.
وقال ابن زيد في قول الله: {ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ} قال: هذا قسم أقسم الله به {وَمَا يَسْطُرُونَ} وما يكتبون.
قال ابن القيم: (أقسم بالكتاب وآلته وهو القلم، والأقلام متفاوتة في الرتب، فأعلاها وأجلّها قدرًا: قلم القدر السابق الذي كتب الله به مقادير الخلائق. الثاني: قلم الوحي هو: الذي يكتب به وحي الله إلى أنبيائه. الثالث: قلم التوقيع عن الله ورسوله، وهو: قلم الفقهاء
والمفتين. الرابع: قلم طبّ الأبدان. الخامس: قلم التوقيع عن الملوك أو نوّابهم. السادس: قلم الحساب. السابع: قلم الحكم الذي تثبت به الحقوق. الثامن: قلم الشهادة. التاسع: قلم التعبير. العاشر: قلم تواريخ العالم. الحادي عشر: قلم اللغة. الثاني عشر: القلم الجامع، وهو قلم الردّ على المبطلين ورفع سنّة المحقّين) . انتهى ملخصًا.
{مَا أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ} ، قال البغوي: هذا جواب لقولهم: {يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ} .
وقوله تعالى: {وَإِنَّ لَكَ لَأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ} ، قال ابن جرير: غير منقوص ولا مقطوع؛ {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} ، قال ابن عباس: يقول: إنك على دين عظيم وهو الإسلام. وقالت عائشة: كان خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم القرآن. وقال ابن زيد في قوله: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} قال: أدب القرآن. قال ابن كثير: ومعنى هذا أنه عليه الصلاة والسلام صار امتثال القرآن أمرًا ونهيًا سجيّة له، وخلقًا تطبّعه وترك طبعه الجبليّ، فمهما أمره القرآن فعله، ومهما نهاه عنه تركه، هذا مع ما جبله الله عليه من الخلق العظيم، من الحياء والكرم والشجاعة والصفح والحلم، وكلّ خلق جميل. وفي الصحيحين عن أنس قال: (خدمت رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر سنين فما
قال لي: أفّ قطّ، ولا قال لشيء فعلته: لِمَ فعلتَه؟ ولا لشيء لم أفعله: ألا فعلتَه) .
وعن الضحاك في قوله: {فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ} يقول: ترى ويرون {بِأَييِّكُمُ الْمَفْتُونُ} يقول: إنكم أولى بالشيطان {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ
بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ * فَلَا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ * وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ} قال مجاهد: ودّوا لو تركن إلى آلهتهم وتترك ما أنت عليه من الحقّ فيما يسألونك. وعن ابن عباس: {وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَّهِينٍ} ، والمهين: الكذّاب، {هَمَّازٍ} ، يعني: الاغتياب؛ وقال قتادة: يأكل لحوم المسلمين، {مَّشَّاء بِنَمِيمٍ} ينقل الأحاديث من بعض الناس إلى بعض، {مَنَّاعٍ لِّلْخَيْرِ} ، قال ابن جرير: يقول تعالى ذكره: بخيل بالمال ضنين به عن الحقوق {مُعْتَدٍ} ، قال قتادة: معتد في عمله، {أَثِيمٍ} بربّه {عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ} ، قال الحسن: فاحش الخلق لئيم الضريبة. وروى ابن جرير عن زيد بن أسلم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تبكي السماء من عبد أصحّ الله جسمه، وأرحب جوفه، وأعطاه من الدنيا معصمًا، فكان للناس ظلومًا، فذلك العتلّ الزنيم» . قال ابن جرير: ومعنى (بعد) في هذا الموضوع معنى (مع)، أي: مع العتلّ زنيم. وقال سعيد بن جبير: الزنيم: الذي يُعرف بالشّر كما تُعرف الشاة بزنمتها الملصق. وقال سعيد بن المسيّب: هو الملصق على القوم ليس منهم. وقال الكلبيّ: هو الأخنس بن شريق، وأصله من ثقيف وعداده في بني زهرة. وقال أبو رزين: الزنيم الفاجر. وفي الصحيحين عن حارثة بن وهب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ألا أنبئكم بأهل الجنة؟ كل ضعيف متضعّف؛ ألا أنبئكم بأهل النار؟ كلّ عتلّ جوّاظ مستكبر» . قال أهل اللغة: الجوّاظ الجموع المنوع.
وقوله تعالى: {أَن كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ * إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} ، قال ابن كثير: يقول تعالى: هذا مقابلة ما أنعم الله عليه من المال والبنين، كفر بآيات الله عز وجل وأعرض عنها، وزعم أنها كذب. وعن قتادة:{سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ} ، قال: سنسمه على أنفه. وعن عبد الله بن عمرو عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن العبد يكتب مؤمنًا أحقابًا ثم أحقابًا ثم يموت والله عليه ساخط، وإن العبد يكتب كافرًا أحقابًا ثم أحقابًا ثم يموت والله عليه راض، ومن مات همّازًا لمّازًا ملقّبًا للناس كان علامته يوم القيامة أن يسمه الله على الخرطوم من كلا الشفتين» . رواه ابن أبي حاتم.
قال البغوي: {إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ} ، يعني: اختبرنا أهل مكة بالقحط والجوع، {كَمَا بَلَوْنَا} ، ابتلينا، {أَصْحَابَ الْجَنَّةِ} . وقال قتادة: كانت الجنة لشيخ وكان
يتصدّق، فكان بنوه ينهونه عن الصدقة، وكان يمسك قوت سنة وينفق ويتصدّق بالفضل، فلما مات أبوهم غدوا عليها فقالوا:{لَّا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُم مِّسْكِينٌ} . وقال سعيد بن جبير: هي أرض باليمن يقال لها: خضروان من صنعاء على ستة أميال.
وعن ابن عباس في قوله: {فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ} ، قال: الصريم: الليل؛ وفي رواية كالرماد الأسود. وعن قتادة: قوله: {فَتَنَادَوا مُصْبِحِينَ * أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ إِن كُنتُمْ صَارِمِينَ * فَانطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ} ، يقول: يسرّون، {أَن لَّا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُم مِّسْكِينٌ * وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ} ، قال مجاهد: على جدّ قادرين في أنفسهم. وقال سفيان: على حنق. {فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ} ، قال قتادة: أي: أضللنا الطريق، {بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ} ، بل جوزينا فحُرمنا. {قَالَ أَوْسَطُهُمْ} ، قال ابن عباس: أَعْدَلُهُمْ، {أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ لَوْلَا تُسَبِّحُونَ} ، قال مجاهد: يقول: تستثنون، فكان التسبيح فيهم الاستنثاء.
قال ابن جرير: هو قول القائل: إن شاء الله. قال ابن كثير: وقيل معناه، أي: هلا تسبحون الله وتشكرونه على ما أعطاكم وأنعم به عليكم؟ {قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ} ، أتوا بالطاعة حيث لا تنفع. {فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلَاوَمُونَ * قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا
طَاغِينَ * عَسَى رَبُّنَا أَن يُبْدِلَنَا خَيْراً مِّنْهَا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ} ، قال ابن كثير: قيل: رغبوا في بدلها لهم في الدنيا. وقيل: احتبسوا ثوابها في الدار الآخرة. وقال البغوي: قال عبد الله بن مسعود: بلغني أن القوم أخلصوا وعرف الله منهم الصدق، فأبدلهم بها جنة يقال لها: الحيوان، فيها عنب يحمل البغل منه عنقودًا واحدًا. قال الله تعالى:{كَذَلِكَ الْعَذَابُ} أي: كفعلنا
بهم نفعل بمن تعدّى حدودنا وخالف أمرنا
…
{وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} . قال ابن كثير: أي: هذه عقوبة الدنيا كما سمعتم، وعذاب الآخرة أشقّ. وقال ابن جرير: وقوله: {لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} ، يقول: لو كان هؤلاء المشركون يعلمون أن عقوبة الله لأهل الشرك به أكبر من عقوبته لهم في الدنيا لارتدعوا وتابوا وأنابوا، ولكنهم بذلك جهّال لا يعلمون.
قال البغوي: ثم أخبر بما أعدّه للمتقين فقال: {إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ} ، فقال المشركون: إنا نعطى في الآخرة أفضل مما تعطون، فقال الله تكذيبًا لهم، {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ * مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ * أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ} نزل من عند الله {فِيهِ تَدْرُسُونَ} تقرؤون {إِنَّ لَكُمْ فِيهِ} في ذلك الكتاب {لَمَا تَخَيَّرُونَ} تختارون وتشتهون {أَمْ لَكُمْ أَيْمَانٌ} عهود ومواثيق {عَلَيْنَا بَالِغَةٌ} مؤكّدة عاهدناكم عليها فاستوثقتم بها منا فلا تنقطع إلى يوم القيامة {إِنَّ
…
لَكُمْ} كَسَرَ (إنّ) لدخول اللام في الخير في ذلك العهد {لَمَا تَحْكُمُونَ} لأنفسكم من الخير والكرامة.
{سَلْهُم أَيُّهُم بِذَلِكَ زَعِيمٌ} قال ابن كثير: أي: قل لهم: من هو المتضمنّ المتكفّل بهذا؟ قال ابن عباس: يقول: أيّهم بذلك كفيل؟ {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاء} أي: من الأصنام والأنداد، {فَلْيَأْتُوا بِشُرَكَائِهِمْ إِن كَانُوا صَادِقِينَ} . {يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ} ، قال ابن عباس:(عن أمر عظيم، يقول: حين يكشف الأمر وتبدو الأعمال، وكشفه دخول الآخرة وكشف الأمر عنه وهي أشدّ ساعة في يوم القيامة) . وعن عبد الله بن مسعود قال: (ينادي مناد يوم القيامة: أليس عدلاً من ربكم أن خلقكم ثم صوّركم ثم رزقكم ثم تولّيتم غيره أن يولي كلّ عبد منكم ما تولّى؟ فيقولون: بلى. قال: فيمثل لكلّ قوم آلهتهم التي كانوا يعبدونها حتى توردهم النار، ويبقى أهل الدعوة فيقول بعضهم لبعض: ماذا تنتظرون؟ ذهب الناس، فيقولون: ننتظر أن ينادي بنا، فيجيء إليهم في صورة، قال: فذكر
منها ما شاء الله، فيكشف عما شاء الله أن يكشف، قال: فيخرّون سجّدًا إلا المنافقين، فإنه يصير فقار أصلابهم عظمًا واحدًا مثل صياصي البقر، فيقال لهم: ارفعوا رؤوسكم إلى نوركم) ؛ ثم ذكر قصة فيها طول. رواه ابن جرير. وفي رواية قال: (يتمثّل الله للخلق يوم القيامة حتى يمرّ المسلمون، فيقول: من تعبدون؟ فيقولون: نعبد الله لا نشرك به شيئًا فينتهرهم مرّتين أو ثلاثًا، فيقول: هل تعرفون ربّكم؟ فيقولون: سبحانه، إذا اعترف إلينا عرفناه، قال: فعند ذلك يكشف عن ساق فلا يبقى مؤمن إلا خرّ لله ساجدًا، ويبقى المنافقون ظهورهم طبق واحد كأنما فيها السفافيد، فيقولون: ربنا، فيقول: قد كنتم تدعون إلى السجود وأنتم سالمون) .
وفي الصحيحين عن أبي سعيد الخدريّ قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «يكشف ربنا عن ساقه فيسجد له كلّ مؤمن ومؤمنة، ويبقى من كان يسجد في الدنيا رياء وسمعة، فيذهب ليسجد فيعود ظهره طبقًا واحدًا» . وعن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «يأخذ الله للمظلوم من الظالم، حتى إذا لم يبق تبعه لأحد عند أحد، جعل الله ملكًا من الملائكة على صورة عزير، فتتبعه اليهود، وجعل الله ملكًا من الملائكة على صورة عيسى فتتبعه النصارى، ثم نادى مناد أَسْمَعَ الخلائق كلّهم، فقال: ألا ليلحق كل قوم بآلهتهم وما كانوا يعبدون من دون الله، فلا يبقى أحد كان يعبد من دون الله شيئًا، إلا مثّل له آلهته بن يديه، ثم قادتهم إلى النار، حتى إذا لم يبق إلا المؤمنون فيهم المنافقون، قال الله جلّ
ثناؤه: أيها الناس ذهب الناس، ذهب الناس، الحقوا بآلهتكم وما كنتم تعبدون، فيقولون: والله مالنا إله إلا الله، وما كنا نعبد إلهًا غيره، وهو الله ثبّتهم، ثم يقول لهم الثانية مثل ذلك: الحقوا بآلهتكم وما كنتم تعبدون، فيقولون: مثل ذلك، فيقال: هل بينكم وبين ربّكم من آية تعرفونها؟ فيقولون: نعم، فيتجلّى لهم من عظمته ما يعرفونه أنه ربّهم فيخرّون له سجّدًا على وجوههم، ويقع كل منافق على قفاه، ويجعل الله أصلابهم كصياصي البقر» . وعن سعيد بن جبير في قوله:{وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ} ، قال: كانوا يسمعون: حيّ على الصلاة حيّ على الفلاح، فلا يجيبوك.
قوله عز وجل: {فَذَرْنِي وَمَن يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ (44) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (45) أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْراً فَهُم مِّن مَّغْرَمٍ مُّثْقَلُونَ (46) أَمْ
عِندَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (47) فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تَكُن كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ (48) لَوْلَا أَن تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِّن رَّبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرَاء وَهُوَ مَذْمُومٌ (49) فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (50) وَإِن يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ (51) وَمَا هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ (52) } .
قال البغوي: {فَذَرْنِي وَمَن يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ} ، أي: فدعني والمكذّبين بالقرآن وخلّ بيني وبينهم. قال الزجاج: معناه لا تشغل قلبك
وَكِلْهُ إليّ فإني أكفيك أمره {سَنَسْتَدْرِجُهُم} سنأخذهم بالعذاب من حيث لا يشعرون.
وقال ابن جرير: يقول تعالى ذكره لنبيّه محمد صلى الله عليه وسلم: كِلْ يا محمد أمر هؤلاء المكذّبين بالقرآن إليّ، وهذا كقول القائل لآخر غيره يتوعّد رجلاً: دعني وإياه، وخلّني وإياه، بمعنى أنه من وراء مساءته.
…
{سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ * وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ} ، قال ابن جرير: قويّ شديد. وفي الصحيحين عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته» ثم قرأ: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} .
قال في جامع البيان: سمّى الاستدراج كيدًا لأنه في صورة الكيد. {أَمْ تَسْأَلُهُمْ} ، يا محمد، {أَجْراً} ، على الهداية، {فَهُم مِّن مَّغْرَمٍ مُّثْقَلُونَ} ، غرامة مثقلون بحملها فلذا يعرضون عنك؛ و (أم) منفصلة والهمز للإنكار {أَمْ عِندَهُمُ الْغَيْبُ} علم الغيب {فَهُمْ يَكْتُبُونَ} ، فلا يحتاجون إليك وإلى علمك. {فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ} ، بإمهالهم، {وَلَا تَكُن كَصَاحِبِ الْحُوتِ} ، يونس عليه السلام في العجلة والضجر، {إِذْ نَادَى} في بطن الحوت، {وَهُوَ مَكْظُومٌ * لَوْلَا أَن تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِّن
رَّبِّهِ} بقبول توبته {لَنُبِذَ بِالْعَرَاء} ، لطرح بالقضاء من بطن الحوت {وَهُوَ مَذْمُومٌ} ، حال كونه مجرمًا ملومًا، يعني: لمّا تداركه برحمته نبذه على حال غير حال الذم واللوم {فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ} اصطفاه {فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ} من الأنبياء.
وعن ابن عباس في قوله: {وَإِن يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ} ، يقول: ينفذونك بأبصارهم من شدّة النظر، وعن ابن مسعود أنه كان يقرأ:(وإن يكاد الذين كفروا ليزهقونك) . وقال الكلبيّ {لَيُزْلِقُونَكَ} ليصرعونك. وعن الضحاك: ينفذونك بأبصارهم من العداوة والبغضاء. وقال ابن كثير: أي: يعينونك بأبصارهم، بمعنى: يحسدونك لبغضهم إياك لولا وقاية الله لك وحمايته إياك منهم؛ وفي هذه الآية دليل على أن العين إصابتها وتأثيرها حقّ بأمر الله عز وجل. وعن ابن عباس عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «العين حقّ ولو كان شيء سابق القدر سبقته العين وإذا استغسلتم فاغسلوا» . رواه مسلم وغيره.
وقوله تعالى: {لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ} أي: أن هذا النظر كان يشتدّ منهم في حال قراءة النبيّ صلى الله عليه وسلم القرآن حسدًا على ما أوتي من النبوّة
…
{وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ} ، تنفيرًا عنه مع علمهم بأنه أعقلهم؛ ثم قال تعالى:{وَمَا هُوَ} ، أي: القرآن، {إِلَّا ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ} ، الجنّ والإنس، فكيف يمكن نسبة من جاء بمثله إلى الجنون؟ والله المستعان.
* * *