المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌كانت الجامعة. . . هي طه حسين - جمهرة مقالات محمود شاكر - جـ ٢

[محمود شاكر، أبو فهر]

فهرس الكتاب

- ‌الناسخون الماسخون

- ‌إكمال ثلاثة خروم من كتاب التنبيه على أوهام أبي علي في أماليه

- ‌من خط البغدادي *

- ‌مقاليد الكتب

- ‌أدب الجاحظ

- ‌الصاحب بن عباد

- ‌أبو نواس

- ‌ضحى الإسلام

- ‌الشريف الكتانى

- ‌نابغة بني شيبان

- ‌مقاليد الكتب

- ‌1 - كتاب "حافظ وشوقي

- ‌2 - كتاب الرثاء

- ‌3 - كتاب الخط الكوفي *

- ‌4 - صلاح الدين وشوقي *

- ‌5 - كتاب الشخصية *

- ‌6 - كتاب أمير الشعراء شوقي *

- ‌مقاليد الكتب

- ‌حاضر العالم الإسلامي

- ‌ذكرى الشاعرين

- ‌ماضي الحجاز وحاضره

- ‌الوحي المحمدي

- ‌مقاليد الكتب

- ‌1 - ملوك المسلمين المعاصرون ودولهم

- ‌2 - ابن عبد ربه وعقده

- ‌3 - رحلة إلى بلاد المجد المفقود

- ‌4 - تنبيهات اليازجي على محيط البستاني جمعها وحل رموزها

- ‌مقاليد الكتب

- ‌1 - أنتم الشعراء

- ‌2 - تاريخ مصر الإسلامية

- ‌3 - آلاء الرحمن في تفسير القرآن

- ‌مقاليد الكتب

- ‌1 - ابن خلدون: حياته وتراثه الفكرى

- ‌2 - قلب جزيرة العرب

- ‌الينبوع

- ‌النثر الفني في القرن الرابع

- ‌مقاليد الكتب

- ‌1 - ديوان عبد المطلب

- ‌2 - مرشد المتعلم

- ‌3 - مواقف حاسمة في تاريخ الإسلام

- ‌ ملوك الطوائف، ونظرات في تاريخ الإسلام

- ‌الإسلام والحضارة العربية

- ‌وَحْيُ القلم

- ‌علم معاني أصوات الحروف سر من أسرار العربية نرجو أن نصل إلى حقيقته في السليقة العربية (1)

- ‌علم معاني أصوات الحروف سر من أسرار العربية نرجو أن نصل إلى حقيقته في السليقة العربية (2)

- ‌علم معاني أصوات الحروف سر من أسرار العربية نرجو أن نصل إلى حقيقته في السليقة العربية (3)

- ‌عبقرية عمر

- ‌شاعر الحب والفلوات ذو الرُّمَّة- 1

- ‌شاعر الحب والفلوات ذو الرُّمَّة- 2

- ‌شاعر الحب والفلوات ذو الرُّمَّة- 3

- ‌ جمعية الشبان المسلمين

- ‌ تاريخ اليوم الأول

- ‌ دعوة الشباب إلى الجمعية

- ‌ الاجتماع الأول

- ‌ الاجتماع الثاني والثالث

- ‌ انتخاب مجلس الإدارة

- ‌في حلبة الأدب

- ‌كتاب تطور الأساليب النثرية في الأدب العربي

- ‌ عن كتاب تطور الأساليب النثرية" رد على مؤلفه

- ‌ترجمة القرآن وكتاب البخاري

- ‌ترجمة القرآن في صحيح البخاري

- ‌من أين؟ وإلى أين

- ‌لماذا، لماذا

- ‌تهيئة الشرق لوراثة الحضارات والمدنيات

- ‌شكر

- ‌أنا وحدى

- ‌الطريق إلى الأدب- 1

- ‌الطريق إلى الأدب- 2

- ‌فوضى الأدب وأدب الفوضى

- ‌الأدب والحرب

- ‌إلى على ماهر باشا

- ‌لا تبكوا. .! لا تنوحوا

- ‌تجديد التاريخ المصري ساعة واحدة

- ‌أحلام مبعثرة

- ‌أهوال النفس

- ‌وقاحة الأدب أدباء الطابور الخامس

- ‌قلوب جديدة

- ‌القلم المعطَّل

- ‌اللغة والمجتمع

- ‌أوطانَ

- ‌(حول قصيدة القوس العذراء)

- ‌صَدَى النقد طبقات فحول الشعراء رد على نقد

- ‌[الاستعمار البريطاني لمصر]

- ‌المتنبي

- ‌حديث رمضان. عبادة الأحرار

- ‌مع الشيطان الأخرس

- ‌ يحيى حقي صديق الحياة الذي افتقدته

- ‌لا تنسوا

- ‌عدوى وعدوكم واحد

- ‌أندية لا ناد واحد

- ‌لا تخدعونا

- ‌احذروا أعداءكم

- ‌في خدمة الاستعمار

- ‌حكم بلا بينة

- ‌تاريخ بلا إيمان

- ‌المسلمون

- ‌ لا تسبُوا أصحَابي

- ‌طلب الدراهم من الحجارة

- ‌ألسنَةُ المفترين

- ‌جرأة العلماء

- ‌أحمد محمد شاكر إمام المحدّثين

- ‌ قُرَىَ عَرَبِيَّةَ

- ‌كانت الجامعة. . . هي طه حسين

- ‌مواقف

- ‌في الطريق إلى حضارتنا

- ‌الأندلس تاريخ اسم وتطوره

- ‌المتنبي ليتني ما عرفته- 1

- ‌المتنبي ليتني ما عرفته- 2

- ‌القول في "تذوق الشعر

- ‌القول في "الشعر

- ‌القول في "التذوق

- ‌المتنبي ليتني ما عرفته- 3

- ‌تتمة القول في التذوق

- ‌قضية "التذوق" عندي

- ‌تاريخ "التذوق" عندي

- ‌من هؤلاء

- ‌قضية اللغة العربية

- ‌في زمان الغفلة

- ‌هؤلاء الخمسة

- ‌الفقيه الجليل ورموز التكنولوجيا

- ‌النكبات الثلاث

- ‌الجبرتى الكبير

- ‌الألفاظ المكشوفة في هذا الكتاب طبيعية وينبغي ألا يجهلها البشر

- ‌ذكريات مع محبى المخطوطات

- ‌[تعقيب]

- ‌كلام منقول بنصه

- ‌في الطبعة الجديدة "للمتنبى

- ‌ الجيل المفرغ

- ‌كتاب الشعر الجاهلي

- ‌هل يبقى الاتهام

- ‌تهمة أكبر

- ‌ليس شكا أزهريا

الفصل: ‌كانت الجامعة. . . هي طه حسين

‌كانت الجامعة. . . هي طه حسين

ما هو دور طه حسين في رأيك (1)؟

سؤال ضخم الإجابة عنه في أسطر قلائل، تكليف بما لا يطاق. ومع ذلك فسأحاول أن أقول لك شيئًا أتمم به ما تناثر في بعض ما كتبت، حين كانت الضرورة تدعونى إلى التحدث عن الدكتور طه حسين وآرائه في الأدب.

كان رحمه الله ينشر "حديث الأربعاء" في صحيفة السياسة، وذلك في حدود سنة 1923، وكنت يومئذ فتى صغيرا في المدارس الثانوية، فكنت أقرأ ما يكتب وأتتبعه. وكنت قبيل ذلك أيضًا أقرأ كتاب "الكامل" للمبرد وكتاب "الحماسة" لأبى تمام على شيخى وأستاذى رحمه الله إمام العربية في زمانها "سيد ابن علي المرصفي" في بيته، وكان الشيخ لا يكاد يقرأ الصحف، ففي بعض حديثي معه ذكرت له ما كان يكتبه الدكتور طه حسين. فعرفت يومئذ منه أن الدكتور طه حسين قرأ عليه أيضًا ما شاء الله أن يقرأ من كتاب الكامل للمبرد. فحفزنى ذلك على أن أسعى إلى لقاء الدكتور طه حسين وإلى السماع منه. فمن يومئذ عرفته معرفة عن قرب. عرفته محبا لعربيته حبا شديدا، حريصا على سلامتها، متذوقا لشعرها ونثرها أحسن التذوق، وعلمت أن هذا الحرص وهذا التذوق كان ثمرة من ثمار قراءته على المرصفي. فإني لم أر أحدا كان يحب العربية ويحرص على سلامتها، ويتذوق بيانها، كشيخنا المرصفي رحمة الله عليه، ولم أر لأحد تأثيرا في سامعه كتأثير الشيخ في سامعه.

ومضت الأيام منذ سنة 1923 إلى سنة 1925، فيومئذ صدر المرسوم بإنشاء "الجامعة المصرية" مكونة من عدد من الكليات إحداهن "كلية الآداب"

(*) مجلة الكاتب، السنة الخامسة عشرة، العدد 168 - مارس 1975، ص 28 - 35.

(1)

السائل هنا هو الأستاذ سامح كريم في مقابلة أجراها مع الأستاذ شاكر رحمه الله في فبراير 1975، وقد أشار الأستاذ إلى هذه المقابلة في مقاله الأول عن "المتنبي ليتني ما عرفته" انظر 2: 1123

ص: 1044

وصار الدكتور طه حسين أستاذ الأدب العربي في "قسم اللغة العربية" في "كلية الآداب". ولكن لم تكد تمضي سنة على إنشاء الجامعة حتَّى صرنا إلى أمر غريب جدا: لا يكاد يذكر اسم "الجامعة" حتَّى ينصرف ذهن كل سامع إلى "كلية الآداب" وحدها، ثم إلى الدكتور طه حسين وحده، هذا مع أن عدد طلبة "كلية الآداب" كان يومئذ يعد بالعشرات، وكان عدد طلبة "قسم اللغة العربية" من هذه الكلية يكاد يعد على الأصابع. أي أنك تستطيع أن تقول بلا تجوز كثير: أن طه حسين كان عند الناس هو الجامعة، وكان الجامعة عندهم هي طه حسين!

وهكذا أيضًا كنا نراها نحن طلبة كلية الآداب، وقسم اللغة العربية من هذه الكلية خاصة. وبين أن الفضل في ذلك راجع كله إلى الدكتور طه حسين، وإلى ما أثاره يومئذ من صراع عنيف في الحياة الأدبية لذلك العهد. ولا تتوهم أنى أريد بهذا أن أثنى على الدكتور طه حسين، بل أنا شاهد أقرر لك حقيقة كانت مصورة حية في الأذهان منذ خمسين سنة لا أكثر ولا أقل. وهي صورة غريبة قل أن تتكرر. وقد بقيت حية على عنفوانها بضع سنوات، ثم بدأت في الركود شيئًا فشيئا بضع سنوات أخر. حتَّى انسلخت عنه الجامعة واستقلت بصورتها المعروفة اليوم عند الأمة العربية وانسلخ الدكتور طه أيضًا عنها .. وصار هو طه حسين بصورته المعروفة اليوم عند الأمة العربية لا مصر وحدها.

واصبر على قليلا ولا تتعجل. إن هذا السؤال الضخم الَّذي سألتنيه بغتة، كان ينبغي أن أتهيأ للرد عليه أياما طوالا جدا، لأني امرؤ أحب الكلمة المعبرة عن حقيقة المعنى القائم في نفسي، ولكني مع حبى لها أخافها وأتهيبها ويأخذنى عندها من الذعر، ما يأخذ المحمول في يد جبار يريد أن يلقى به في نار متضرمة. ولقد رميتنى أنت في أشد الحرج، لأنى أجد أن هذه الألفاظ القلائل التي حرصت آنفا على أن أؤدى بها شهادة شاهد عيان، لم تبلغ عندي الغاية التي أحسها في قرارة نفسي، وأريد الإبانة عنها.

ويا للعجب! سؤال من سبع كلمات تلقيه علي عفوا، يريد أن يبعث الحياة في صورة غربية مذهلة، مضى عليها خمسون سنة! خمسون سنة بقيظها

ص: 1045

وزمهريرها، وبنورها وظلامها، وبصحوها وغيومها، وبصفاء أيامها وغبارها، لا تمشي على صورة ناضرة حتَّى ترد نضرتها إلى ذبول كئيب وتحيل إشراق لونها إلى شحوب مفزع. ومع ذلك فأنا مطالب اليوم أن أرفع إلى عينيك وإلى أعين الأجيال الحديثة بعد خمسين سنة، صورة كانت على إبانها صورة حية غربية مذهلة! ومن لي بأن أؤدى ما أنا مطالب بأدائه؟ ولكن لا مناص ولا مهرب.

وهل تدري لماذا أقطع حديثي وأقول لك هذه الكلمات؟ لا أظنك تدري، لأنك لم تكن حيا منذ خمسين سنة، ولو كنت حيا يومئذ، ولم تكن قادرا على استيعاب زمانك استيعابَ يقظة، لا استيعاب لجاجة ودعوى وسفسطة لبقيت أيضًا لا تدري شيئًا، وسأحاول أن أقرب لك الأمر ما استطعت حتَّى تعلم لم قلت لك هذه الكلمات.

أن هذه الصورة الغريبة المذهلة، التي توهجت بألوانها في مصر، ثم في أضيق من ذلك:"في كلية الآداب"، ثم في أضيق من ذلك. في "قسم اللغة العربية" من كلية الآداب، ثم في سنوات قلائل: سنة 1925 وما بعدها، لم تكن صورة على رقعة أفردت لها خاصة، بل كانت صورة صغيرة جدا، صغيرة جدًّا لا تكاد ترى من بعد قريب، وهي في حيز رقعة واسعة مترامية الأطراف، ما بين تخوم المغرب الأقصى، إلى النهاية حدود الصين، ومن أعلى حدود تركية إلى أقاصي الأطراف في بلاد أندونسية أي في الرقعة التي يقع عليها اسم "العالم العربي" و"العالم الإسلامي" معا، وليس هذا فحسب، فهناك أبعاد أخرى غير أبعاد المكان وهي أبعاد الزمن أي أقصى تاريخ هذه الرقعة منذ بدأت إلى العصر الجاهلي، إلى عصور الإسلام الَّذي نعيش فيه.

ودعني أسألك كما سألتنى: هل أكون صادقا إذا أنا اقتصرت على أن أرفع لعينيك هذه الصورة الغريبة المذهلة، مقتطعة من جوف هذه الرقعة المترامية الأطراف في الزمان والمكان، لا لشيء إلا لكي أحيي ذكر طه حسين في هذه المناسبة التي حدثتنى عنها، مؤديًا بذلك بعض حقه على؟

وستقول: لا بلا ريب.

ص: 1046

فأقول لك: وإذن فقد شققت عليَّ كل المشقة، ورميت بي في أشد الحرج، حين سألتني عما سميته "دور طه حسين" في حياة هذه الأمة المنساحة في أبعاد الزمان والمكان كما وصفتها لك.

وإذا كان جواب هذا السؤال عسيرا محرجا لي كما ترى، فهل تراه حسنا أن أدفع عن نفسي المشقة والحرج، وأفزع بالهرب منهما إلى ما هو أيسر وأروح، فأتعلق بما انتهى إليه أمر طه حسين من الشهرة في هذا العالم الرحب، فأقول لك كما قال من يحمل العلم: إن ضخامة أثر طه حسين في حياة العالم، خليق أن يجعلنا نسمى الزمن الَّذي عاشه طه حسين بيننا "عصر طه حسين"؟ ليس هذا هزلا محضا! بل هو شر من الهزل المحض؟

ومع ذلك كله فأنا أستعفيك من ركوب هذا المركب الصعب، ولكني لن أخذلك وسأحاول أن أستبقى هذه الصورة الغريبة المذهلة في مكانها، غير مقتطعة من رقعتها المتراحبة، فأبين لك لم توهجت هذه الصورة؟ وكيف كان توهجها في حيزها الصغير جدا؟ ثم أحدثك عن أثر هذا التوهج على الرقعة التي هي جزء منه، ولكني في الحقيقة لا أدري من أين أبدأ، ولكن لا مفر من بدء.

في أعقاب الحرب العالمية الأولى (1914 - 1918) انتفض هذا العالم الرحب الَّذي حدثتك عنه وهو العالم العربي والعالم الإسلامي، وبدأت أول انتفاضة في مصر في مارس 1919، وتتابعت الانتفاضات على درجات مختلفة في جميع بلاد العرب والإسلام، وحدثت الدرجة العظمى، بالحرب التركية في سنة 1922، على عهد مصطفى كمال، ثم زلزل هذا العالم كله، حين ألغى الخلافة الإسلامية في سنة 1924، وبإلغائها صار هذا العالم الَّذي كانت فيه الخلافة تجمعه أو تشده إليها بحبال واهية .. ولكنها حبال على كل حال! صار خلائق مشتتة في يم متلاطم، تمد أيديها إلى شيء تتعلق به طلبا للنجاة وخوفا من الغرق، وكانت مصر خاصة والبلاد العربية عامة، ملتقى أنظار العالم الإسلامي في طلب النجاة والخوف من الغرق، مع أنهم جميعا غرقى في هذا اليم المتلاطم.

وفي هذا الذهول الغامر، ما بين سنة 1919 إلى 1924 نزع العالم العربي

ص: 1047

بفطرته السليمة إلى التشبث بالحبال الباقية التي تربط بعضه ببعض، وهي اللسان العربي الممثل في الشعر والنثر، لأنه لا أمة بلا لغة، وصار مفهوما واضحا عند الجماهير، أن إحياء اللغة العربية هو إحياء الأمة العربية، وإحياء اللغة العربية وإحياء الأمة العربية هو إحياء البلاد الإسلامية. كان هذا واضحا جدا لمن يريد أن يبصر.

ولكن ثورة مصر .. انفرط عقدها بصدور تصريح 28 فبراير 1922، ويتولى سعد زعلول الوزارة في سنة 1924، ولكنها لم تخمد بعد، فكان الجيل الَّذي عاش تلك الأيام يتشبث بلغته، ويقاوم عناصر الهدم الخبيثة التي أطلقتها وزارة الاستعمار البريطاني، وهيئات المبشرين (وهما شيء واحد) ويتولى العمل لها رجال من أهل جلدتنا معروفون بأسمائهم. وفي هذا الجو الَّذي أحببت أن أوجزه لك في هذا الحديث الملهوج أنشئت الجامعة المصرية في سنة 1925، وألقى الدكتور طه حسين كلمته "في الشعر الجاهلى" وهاجت الحياة الأدبية كلها في مصر ثم في سائر بلاد العرب والمسلمين. والذي هاج الحياة الأدبية وأثارها هو في الحقيقة ما سماه "المنهج"، والذي ذكر أنَّه أحد مذهبين في البحث بقوله:"نحن بين اثنتين .. أما أن نقبل في الأدب وتاريخه ما قال القدماء .. وأما أن نضع علم المتقدمين كله موضع البحث"، ، ثم يقول هذه الكلمات المفزعة:"والفرق بين المذهبين في البحث عظيم، فهو الفرق بين الإيمان الَّذي يبعث على الإطمئنان والرضى، والشك الَّذي يبعث على القلق والاضطراب وينتهي في كثير من الأحيان، إلى الإنكار والجحود. المذهب الأول يدع كل شيء تركه القدماء لا يناله بتغيير ولا بتبديل، ولا يمسه إلا مسا رفيقا، أما المذهب الثاني فيقلب العلم القديم رأسا على عقب، وأخشى إن لم يمح أكثره، أن يمحو منه شيئًا كثيرًا"، ثم ما انتهى إليه فيما سماه بحثا، إلى أن:"الشعر الجاهلي" أو كثرة هذا الشعر الجاهلى لا تمثل شيئًا، ولا تدل على شيء إلا ما قدمنا من العبث والكذب والانتحال".

هذا نص كلام الدكتور طه حسين بألفاظه، فوضع علم المتقدمين كله موضع

ص: 1048

البحث والإنكار والجحود، وقلب العلم القديم رأسا على عقب، والانتهاء إلى محو أكثر العلم القديم، وبطلان الشعر الجاهلى وهو عماد اللسان العربي كله بعد القرآن والحديث، كل ذلك أفزع القلوب التي كانت تحس وتسمع وترى وتقرأ ما يكتبه أعوان الاستعمار والتبشير يومئذ، فاختلط الأمر، وصار طه حسين عند عامة الناس، واحدا ممن يمثل هذا الاتجاه الَّذي يتولاه فلان وفلان من خبثاء المبشرين الذين يكتبون بالقلم العربي.

لقد لقى طه حسين يومئذ ما لقى، ونسب إليه ما أقطع بأنه برئ منه، والدليل على براءته عندي هو أنَّه منذ عرفته في سنة 1924، إلى أن توفي في 28 أكتوبر 1973، كان كما وصفته في أول حديثي؛ محبا للسانه العربي أشد الحب، حريصا على سلامته أشد الحرص، متذوقا لروائعه أحسن التذوق، فهو لم يكن يريد قط باللسان العربي شرا، بل كان من أكبر المدافعين عنه، المنافحين عن تراثه كله إلى آخر حياته. ومحال أن يحشر من هذه خصاله في زمرة الخبثاء ذوى الأحقاد من ضعاف العقول والنفوس، الذين ظهروا في الحياة العربية لذلك العهد، بظهور سطوة "الاستعمار" وسطوة "التبشير" وهما صنوان لا يفترقان.

ودليل آخر، وذلك أنَّه حين انجلى غبار ما أثاره طه حسين بكتابيه:"في الشعر الجاهلى" في سنة 1926 و"مستقبل الثقافة في مصر" سنة 1939، وهما كتابان لا قيمة لهما من الوجهة العلمية، انجلت بعد ذلك نفسه، وناقض به ما كتبه وما قاله كل ما في هذين الكتابين من فساد. ومرد ذلك إلى هذه الخصال التي كادت تكون في نفسه، وفي حبه للعربية وحرصه على سلامتها، وما هداه الله إليه من حسن التذوق لروائع البيان.

ولهذه الخصال الثلاثة، ولمكانه في "الجامعة"، ولمجيئه في تلك الحقبة من حياة الأمة العربية والإسلامية، وللمخاوف التي أثارها بما قاله في الجامعة، يعود الفضل كله في شهرة طه حسين، وفي ارتباط حياته بحياة هذه الأمة العظيمة من العرب والمسلمين، وفي توهج هذه الصورة الغربية المذهلة التي وصفتها لك.

ص: 1049

ولكن يبقى شيء واحد ينبغي أن أختم به هذا الحديث. وهو هذا التوهج الَّذي كان في تلك الحقبة من الزمان، وأثره على سائر الرقعة التي وقع فيها.

لم تكد تمضي عشر سنوات على ظهور كتاب "في الشعر الجاهلي" أي في سنة 1935 حتَّى أدرك طه حسين إدراكا واضحا جدا أن اللسان العربي قد صار في محنة، لا في نفسه، بل في هذه الأعداد الهائلة من المثقفين الذين رفضوا الأدب العربي كله، ورفضوا القديم كله شعره ونثره، لا في مصر وحدها، بل في كثير من البلاد العربية، وأن أعدادهم إلى تكاثر كلما تقدمت الأيام، فأخذ يعبر عن ذلك بألفاظ محزنة باكية، وحاول أن يتألف هؤلاء النافرين ويردهم إلى الطريق القديم، وإلى أدبهم القديم "لكي يظل قواما للثقافة، وغذاء للعقول، لأنه أساس الثقافة العربية. فهو إذن مقوم لشخصيتنا محقق لقوميتنا، عاصم "لنا من الفناء في الأجنبى، معين لنا على أن نعرف أنفسنا".

هذه بعض كلماته رحمه الله. ومعنى ذلك أن طه حسين في تلك السنوات، قد فزع فزعا شديدا لانصراف الناس عنه وعن عربيته التي يحبها، وعن لغته التي يحرص على سلامتها، وعن بيانها الَّذي يعتز به، ومعنى ذلك أيضًا أن الدكتور طه حسين في سنة 1935، عَلِمَ عِلْمَ اليقين أن الَّذي أثاره بألفاظه المفزعة سنة 1925، قد خرب البنيان الَّذي كان يظن يومئذ أنَّه سوف يبنيه بعد أعوام قلائل، وبلا مجاز ولا تشبيه. أدرك طه حسين أن الَّذي قاله في سنة 1925 مفض إلى ضعف اللغة العربية، وإلى أن تصير الأمة العربية أمة لا لسان لها إلا العامية السوقية، بلا تاريخ، وبلا علم، وبلا ماض.

ثم شهد الدكتور طه حسين بعد ذلك في أواخر أيامه تقوض القديم كله، مع تكاثر أعداد المثقفين، فكان يقول الكلمة بعد الكلمة معبرا عن حزنه وعن لوعته، بل قل مكفّرا عن خطه العظيم، الَّذي قدر الله أن يقوله في ساعة عظيمة من حياة هذه الأمم فكان له أثر عظيم في تدمير أمانيه وأماني كل مخلص لأمته.

ص: 1050