الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
النثر الفني في القرن الرابع
تأليف الدكتور زكي مبارك: جزآن.
مطبعة دار الكتب المصرية سنة 1352 يطلب من المكتبة التجارية
مما ابتُلى بهِ النُقَّاد في هذا العصر كثرةُ الكتب وضيق الوقت فما أظن أن ناقدًا ينصف نفسه وقرّاءَ كلامهِ يدّعى أنهُ حين يضع بين يديه كتابًا كالنثر الفني الذي نتكلم عنه بعدُ، ويأخذ في قراءَته وتتبُّعه يستطيع أن يكتب عنهُ كلمة وافية في ساعة أو ساعتين أو يوم أو يومين، ثم هو بعد ذلك لا يستطيع أن يجعل كل ما يريد أن يقوله في صفحات ثلاث من مجلة كهذه المجلة، فربما كانت كلمة واحدة مما عرض في الكتاب تستنفد في نقدها أو نقضها كلمات تضيق بها عشر صفحات. هذا ما تردد في نفسي حين حملت القلم لأكتب عن كتاب النثر الفني في القرن الرابع.
ولا يعنيني في هذه الكلمة أن أقول إن في الكتاب كيت وكيت من الأبواب والفصول فإن المطابع قد سهلت على كل أحد أن يطلع على ما شاء من الكتب مبتذلها وعزيزها، وإنما يعنينى أن أقول كلمة عن أهم ما عرض في هذا الكتاب من الآراء التي ينبغي للقارئ أن يمحصها قبل أن يأخذ بها أو يعتقد في نفسه أمرها أو صحتها.
فمن أوَّل ذلك قول المؤلف في ص 33 من الجزء الأول "هل كان للعرب نثر فني في عصور الجاهلية، وهل كانوا يفصحون عن أغراضهم بغير الشعر والخطب والأمثال؟
"لقد اتفق مؤرخو اللغة العربية وآدابها كما اتفق مؤرخو الإسلام على أن العرب لم يكن لهم وجود أدبى ولا سياسي قبل عصر النبوة، وأن الإسلام هو الذي أحياهم بعد موت ونبههم بعد خمول. وهذا الاتفاق يرجع إلى أصلين: فهو
(*) المقتطف، المجلد 84، إبريل 1934، ص: 511 - 514
عند مؤرخى الإسلام والمسلمين تأييد لنزعة دينية يراد بها إثبات أن الإسلام هو الذي خلق العرب خلقًا وأنشأهم إنشاءً، فنقلهم من الظلمات إلى النور، ومن العدم إلى الوجود. وهو عند مؤرخى اللغة العربية، وآدابها يرجع إلى الشك في كثير من النصوص الأدبية التي أُثرت عن العرب قبل الإسلام من خطب وسجع وأمثال".
ولا أريد في هذه الكلمة أن أعترض على صاحب الكتاب في وصفه النثر بقوله (الفني) ولا أن أطالبه بحكمة هذا الوصف وإن كنت قد جهدت أن أجد لها معنى يقوم عذرًا لهُ في وضعها فأعيانى الطلب. والواقع أني قرأت الكتاب فلم أعثر فيهِ على حدٍّ أو تعريف لما سمَّاه النثر الفني، وكلما أردت أن أجمع له حدًّا أو تعريفًا من معنى كلامهِ وجدت في غيره من معاني كلامه ما يتفارط عنده ما جمعت لهُ من الرأي. وكان صواب التأليف غير ذلك، لأنهُ جعل هذه الكلمة (النثر الفني) موضع الجدَل بينه وبين خصومه في الرأي من المستشرقين ومن تابعهم في هذا الشرق العربي. وما يقوم الجدل عليه ويقصد القول فيه، لا يصح أن يكون موضع شك أو غموض أو إبهام أو اضطراب.
يقول صاحب الكتاب "هل كان للعرب نثر فني؟ " ونحن نجيب عن هذا السؤال بما نضمنه ما نوافقه فيه وما نخالفهُ عليهِ. فقد كان العرب أمة أمية لا تقرأ ولا تكتب إلَّا قليلًا من أهل المدن كمكة والمدينة (يثرب قديمًا) وأطراف اليمن ومشارف الشام ونواحي الحيرة، وهؤلاء الكتاب لم يكن لهم تأثير بيّن في الأمة العربية لأن جماعة العرب لم تكن لذلك العهد (قبل الإسلام) تعرف الكتابة والخط ولا كان من همهم ذلك، ولو افترضنا أن هذا العدد القليل الذي وصف بالكتابة كان يكتب وعنينا أنهُ كان يؤلف، بقى الأمر على ما هو عليهِ إذ كانوا -على ذلك- يؤلفون لمن لا يقرأ ولا يكتب. ومع هذا فقد كان العرب يتخذون الكتابة في بعض الأغراض كالعهود والرسائل العظيمة الخطر كالذي يروون مما كتبه لقيط بن يعمر الإيادىّ إلى قومه إِياد بالحيرة يحذرهم كسرى (سابور ذا الأكتاف) وكان قد أجمع على غزو إيادٍ فأرسل لهم لقيط -وكان كاتبًا بديوان كسرى- قصيدتهُ المشهورة التي يقول فيها:
يا قوم لا تأمنوا إن كنتمُ غُيُرًا
…
على نسائكم كسرى وما جمَعا
قوموا قيامًا على أمشاط أرجلكم
…
ثم افزعوا، قد ينال الأَمْنَ مَن فزعا
ويقول في آخرها:
هذا كتابى إليكم والنذير لكم
…
لمن رأى رأيهُ منكم ومن سمعا
وقد ورد في ذكر العهود المكتوبة شعر جاهلى كثير منه قول الحارث بن حِلّزة اليشكرى في الحرب التي كانت بين بكر وتغلب.
واذكروا حلف ذي المَجاز وما قُـ
…
ـدِّم فيه العهود والكفلاءُ
حَذَرَ الجور والتعدى وهل ينقُـ
…
ـضُ ما في المَهارق الأهواءُ
ويعني بالمهارق كتب العهود والمواثيق التي كانت بين بكر وتغلب أيام الهدنة والصلح.
فنحن لا نستطيع أن ننكر أن العرب كانوا يكتبون ويتراسلون في بعض الأحايين، ولكننا نستطيع أن ننكر أنهم كانوا يصنفون الكتب ويؤلفون الرسائل في الأغراض الكثيرة. ويجب على المفكر في هذا الأمر أن يعلم أن كلام العرب في محاوراتهم ومجالسهم وخطهم كان هو الكلام المتخذ في الرسائل والعهود وغير ذلك إذ أن هذه اللغة العربية التي بين أيدينا والتي نزل بها القرآن والتي كان يتكلم بها الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته رضي الله عنهم كانت إلى القرن الثاني والثالث من الهجرة تؤخذ من أفواه العرب البداة. فلا يعقل بعد ذلك أن يكون في الجزيرة العربية كُتاب قد تفرغوا للكتابة حتى نسأل هل كان هناك (نثر فني) أو لم يكن فإن هذا السؤال يقتضي أن يكون في الجزيرة فئة قد تجردت للكتابة فعلت على غيرها من عامة الناس في الأسلوب البيانى. هذا والرسول نفسهُ صلى الله عليه وسلم كان أميًّا لا يقرأ ولا يكتب، وكان يعد أفصح العرب، وكان من أصحابهِ من يجيد الكتابة كعُمَر وعلىّ وزيد وعثمان رضي الله عنهم ومن يتدبر هذا يجد أن النثر على المعنى المعروف عندنا لم يكن مما تتطلبهُ العرب وتتفرغ له وتتفوق فيه وإنما كان كلامهم كله مرسلًا على سجية واحدة إلَّا الشعر فإن الذي ميزه هو الوزن والقافية.
أما قول صاحب الكتاب أن مؤرخى الإسلام اتفقوا على أن العرب لم يكن لهم وجود سياسي أو أدبى قبل النبوة فهذا قول مرسل لا حد له، وهو كلام لم يقل بهِ أحد من العلماء وإنما كانوا يعنون بما يصفون بهِ العرب من الجهل والضلال ما يتصل بأمر الدين والتوحيد وإلَّا فإنهم قد استشهدوا في تفسير القرآن نفسه بنوع من كلام العرب وهو الشعر. أما المسألة السياسية والكتلة الدولية فإنهم يعنون بذلك أن لم تكن أمة متآزرة ذات حكم واحد وسيادة متصلة من أعلى الجزيرة إلى أسفلها بل كانت قبائل متنازعة يأكل بعضها بعضا حتى جاء أمر الله ونزل القرآن على محمد صلى الله عليه وسلم ليكون مبشرًا ونذيرًا وهاديًا إلى الله بأمره وسراجًا منيرًا فألّف بين قلوبهم وأصبحوا بنعمته إخوانا وقاتلوا في سبيل الله حتى فتحوا الأرض واستولوا على ملك كسرى وقيصر. وليس في هذا موضع للجدال. . . ولا اتفاق -كما يقول صاحب الكتاب- يرجع إلى أن مؤرخى الإسلام يقولون ذلك تأييدًا لنزعة دينية يراد بها إثبات أن الإسلام هو الذي خلق العرب خلفا وأنشأهم إنشاءً فأخرجهم من الظلمات إلى النور، ومن العدم إلى الوجود. . . هذا على أن القرآن قد أخرج العرب حقيقة من الظلمات إلى النور.
ثم إن المؤلف أراد بعد ذلك أن يجعل القرآن أثرًا جاهليًّا "فإنه -نسأل الله المغفرة- من صور العصر الجاهلى، إذ جاء بلغته وتصوراته وتقاليده وتعابيره" ص 38 فلو كان ذلك كذلك فما فعل القرآن بالعرب حتى أخرجهم من الظلمات إلى النور وكيف يجئ ما هو من عند الله مطابقًا لتصورات العرب وتقاليدهم على ما فيها من الطبيعة البشرية الضعيفة الهالكة الجاهلة. وهذا القرآن الذي يعدهُ صاحب الكتاب أثرًا جاهليًّا هو الكتاب نفسه الذي أعجز عرب الجاهلية جميعًا وتحداهم وطالبهم وسخر منهم ووضع من آلهتهم وحقرها وأثار أحقادهم وأضغانهم. ولو كان هذا القرآن قريبًا من كلامهم أو شبيهًا بهِ لما عجز بعض بلغائهم عن الإتيان بمثل سورة من سورهِ كما طالبهم بذلك وتحداهم. ونحن لا ننكر أن كل ما في القرآن من لفظ إنما هو من ألفاظ العرب كما أن أكثر ألفاظ كتّابنا الآن بل كتّاب القرن الرابع الذي يتكلم عنه صاحبهُ إنما هي ألفاظ عربية،
ونحن لا نعدُّ أسلوبنا أو أسلوب القرن الرابع في النثر مقاربًا أو شبيهًا بالنثر الجاهلى فكذلك القرآن من النثر الجاهلى بهذه المنزلة، فألفاظ القرآن هي الألفاظ العربية ولكن نظمه وسياقه وبلاغته ومواقع كلماته المعجزة لا صلة بينها وبين أي كلام من كلام البشر في جاهلية أو إسلام.
ولماذا يعدُّ صاحب الكتاب هذا القرآن من النثر الجاهلى، ويتخذه دليلًا على وجود النثر في الجاهلية مع أن الحديث النبوي وكلام الصحابة المرويّ بالأسانيد الصحيحة الثابتة هو أقرب في الأدلة وفيهِ بغية صاحب الكتاب. فأنت إذا قرأت السيرة وجدت كثيرًا من كتب الرسول إلى القبائل والأمم ووُلاة جيوشهِ ووجدْت أكثر من ذلك في كلام أبي بكر وعمر وعلي وعثمان وغيرهم من أهل الجاهلية الذي أسلموا واتبعوا الرسول النبيّ الأميّ صلى الله عليه وسلم.
القرآن كتاب الله، فإذا أردنا أن نبحث عن الأدلة عن النثرِ الجاهليّ فهو في كلام الصحابة والرسول نفسه.
هذا ونحن نعتذر إلى القراءِ عن تقصيرنا في الكتابة عن كتاب النثر الفنيّ فإنّ لهذا موضعًا آخر إن شاءَ الله.