الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تهيئة الشرق لوراثة الحضارات والمدنيات
لبثت في أسر "الوظيفة الحكومية" عشر سنوات متواليات أعمل فيها ولها، ثم تنزل القدر فعافتنى وعفتها، وانطلقت أطوى الأرض. . .، أنظر بعينيَّ إلى آفاق تترامى على مطرح البصر، وكأنى آبد قد حطَّم القيود وانفلت من بين أعواد الحديد التي كانت تمسكه من ورائها، وملأت رئتىَّ من الهواء الحر، يارب، أين كنتُ؟ إن طبيعتى التي فُطِرْتُ عليها تأبي أن تألف هذه الأنفاس المقتّرة المعطاة على المنة لصدور تنطوى على قلوب حية تنبض وتتحرك وتسمو بآمالها إلى الخير النبيل. وبقيت أياما، هي من حياتى كأنها ذكرى فرحة قديمة انبعثت على حين غفلة من كهوف النفس المهجورة التي يختبئ في ظلماتها ما يمضي من أفراح الحياة.
وتوالت الأيام تتسحب على ظلال العمر، وتجلت الأحلام العزيزة التي لا تفني وسكنت النفس إلى حريتها، وبدأت أبحث عن واجبي في الحياة، فمكثت على لُبث أتأمل وأفكر، والروح في فترة من هدوء ورضًا، حتى اهتديت بحمد الله إلى الطريق والغاية.
نحن شعوب متخاذلة قد غفلت عن حقيقة الحياة، فواجبنا أن نعمل على إيقاظ هذه الشعوب من سنة النوم التي طالت بها، وقتلت فيها مادة النشاط التي تدفعها إلى تحقيق الأغراض النبيلة التي خلق من أجلها الإنسان على الأرض. أجل .. ، وهذه الشعوب نفسها، هذا الشرق، قد أثبت في التاريخ مرات أنه قادر على صناعة الحضارة والمدنية، يتقنها ويستجيدها ويطهرها من أدران البلاء التي تعصف بإنسانية الإِنسان كما تعصف الريح بأوراق الشجر. فلم لا يثبت الشرق مرة أخرى في التاريخ الحديث أنه لم ينس هذه الصناعة؟ وأن أنامله الرفيقة لا تزال قادرة على نسج الثياب الرفيعة التي تلبسها الإنسانية لتزهى بها، وتبدو في زينتها؟
(*) العصور العدد الثاني، 9 ديسمبر 1938، ص 37 - 39
هذه المدنية الأوربية المحدثة من أمامنا قد عملت عملها، وأتمت ما وجدت له على طريقتها ومذهبها، وجعلتنا ننظر إليها ذاهلين كأنما نرى معجزة تحققها أيدى مردة من الجن ليسوا من الإِنس في أصل ولا نسب. إن هذا الوهم الكبير هو الذي أعجز الشرق عن العمل، ورماه في براثن الأمم المستأسدة الضارية، وجعله كالفريسة تنتفض تحت أقدامه عجزًا وهلعًا واستكانة.
ولكن الحين قد حان، وآن للشرق أن ينظر إلى الحقائق الواقعة ليعرف كيف يعمل. إن أوروبا، التي هي مصدر المدنية الحديثة، تقف على هذه الأرض موقفًا ظاهرًا لمن يتأمل. هذه دول الحضارة الحديثة من أمامنا قد هبت كلها في جنبات الأرض تملأها حديدًا ونارًا وضجيجًا في الأرض وصخبًا طائرًا في السماء. والرجال على الأرض كأنهم قنابل معدة مهيأة لتنفجر، وفي كل ناحية أمة مُقْعِيَة (1) متربصة تكاد تثب، والحياة تتدافع بهذا وذاك وهؤلاء، فلا تلبث أن تصطدم هذه الأمم بعضها ببعض، ويومئذ لن تثبت الأرض ولن تسكن السماء، وتتطاير أشلاء الحضارة الحديثة إلى أعلى لتسقط على أهل هذه الحضارة، وتطويهم في أكفانها، وتدفنهم في قبورها.
إن المدنية الأوربية المحدثة، في هذا العصر، تحمل في داخلها كل عناصر التهدم، وكل أسباب الفناء والبلى، وأهم هذه العناصر والأسباب، هذه الحالة الحربية التي شملت كل دولة أوربية، ودفعتها إلى زيادة التسلّح بكل أدوات الدمار والهلاك، والسرعة الجامحة التي تعمل بها هذه الأمم في كل ما يمس الاستعداد الحربي، ولا شك في أن هذه الإِرادة وحدها مع الإِسراع في تنفيذها، سوف تؤدى حتما إلى اختلال التوازن في القوى المتساندة، وسينتهي هذا الاختلال باصطدام قوى الشر جملة واحدة، وسيعقب هذا الاصطدام انفجار هائل يشوه وجه الإِنسانية الباغية أبد الدهر، ويتركها مثلا في العالمين.
ولو أن هذا الاستعداد الحربى العظيم، كان نتيجةً للدفاع عن مبادئ
(1) أَقْعَى الكلبُ: جلس على مؤخرته مُفْتَرِشا رجليْه وناصِبا يديه.
استقرت على أصولها في نفوس القائمين بأمرها، لقلنا عسى أن تنتفع الإِنسانيةُ بانهزام الباطل وانتصار الحق، وإن ضَحَّت في سبيل ذلك بالملايين من البشر الذين تأكلهم هذه الحرب الضروس، ولكان ثمَّة أمل في عودة الحضارة إلى منزلة من الإِصلاح تعمل فيها لسعادة الإنسان بعد الشقاء الكبير الذي تعس به. ولكن الواقع غير ذلك.
فإن الحرب الحديثة المقبلة. . .، إنما هي بغْى. لقد بغي بعضهم على بعض في العلم، فضربوا للإنسان أسوأ الأمثلة على أن ضَرَرَ العلم أكبر من نفعه، وأن الشقاء قرينٌ لعلم هذه المدنية الطاغية، وأن الفرد فيها حيوان يستغل، فيا لشناعة هذا الاستغلال الذي هزم العقل والإِرادة، وردهما إلى أدنأ درجة في تاريخ الإنسان على الأرض. . .!
هذه أوربَّا التي نفضتْ على كلمة "الحرية" من تهاويل الخيال، وتخاليف الفن، وتحاسين الإِبداع، وزخارف الحضارة -حتى بدتْ فتنةً يتهاوى في فتونها كل غاو وحليم- تثبتُ للناس أن "الحرية" كلمة ضامرة ضعيفة لا معنى لها، ولا حياة فيها، ولعل التاريخ كله لم يشهدْ عصرًا ضاعت فيه كل معاني هذه الكلمة، مع كثرة دورانها على الألسنة، مثل الذي شهده في هذا العصر. ففي كلّ ناحية في أوربا يضرب الحصار على حرية الأفراد، وحرية الجماعات، وعلى حرية السر وحرية العلن، وعلى حرية الرأي وحرية الضمير. في فرنسا -باعثة هذه الفتنة في أوربا- في إنجلترا، في ألمانيا، في إيطاليا، في روسيا، في كل بلد، يشهد التاريخ أفظع استبداد تستبد به السياسة الدولية، وتتعسف به المعاهدات والمحالفات القائمة على مصالح البغي السياسي والحربى، في إزهاق الروح الحقيقية التي تحملها كلمة "الحرية".
إن كل عمل، بل كل رأي، بل كل فكر، بل كل شيء في أوربا الآن تقتسره السياسة الحربية على صورة تنفعها، فإن لم تكن تنفعها فلا تضرها، حتى صارت العقول الإنسانية آلة في يدها تصرفها كيف تشاء، وفسدت معاني الأشياء، وطغى غرور القوة والاعتداد بها، في العلم والفن والأدب وفي كل
شيء، واختلط الحق بالباطل اختلاطا فاسدًا لا أمل في تطهيره إلا بجهد كبير تبذله نفوس هادئة ساكنة حكيمة تتجرد للعمل، وتعمل للحق، وتختار صالح كل شيء، وتنفي فساده وتحريفه وغلوه وغروره ليكون الانتفاع به أقرب لإِنقاذ الإنسانية من مصير مخيف، يرتد بها إلى وحشية الغرائز الدنيا التي تتحكم في مراشد العقل والقلب بغير حكمة ولا روية.
هذه الصورة الدانيةْ الآن للحالة الظاهرة في أوروبا غير ناظرين إلى الاختلاط الفكري القبيح بين المذاهب المتباينة، ولا إلى الفساد الكبير في المبادئ العقلية التي تبنى عليها سعادة القلب الإِنسانى، ولا إلى تشاجر الأهواء الاجتماعية في حرب الفضيلة والرذيلة؛ والخير والشر، والعدل والبغي، ولا إلى انحلال القوى الاقتصادية وتزعزع الأسس المالية، ولا إلى ما يمد كل هذه بأكبر أسباب الفساد إلّا وهو غرور هذه المدنية بعلمها ورأيها وفهمها؛ وادعائها إدراك سر الحقيقة في كل ما تتناوله بالبحث والتحليل.
أما الشرق. . .، فهو الآن يموج ويهتز ويمتد بآماله، ويطالب بحرياته، فبذلك تهيئه ضرورة الحياة الحاضرة لانتزاع الخير المحض مما يقع إليه من مدنية وحضارة، وتهيئه طبيعته الموروثة للاستفادة من نتاج الحضارات والمدنيات قديمها وحديثها، وتهيئه ما انحدر معه في أعصابه من الحكمة القديمة، والرزانة التقليدية، لتعبئة قواه التاريخية كلها، فيأخذ الحضارة الحديثة فيصهرها ويذيبها ويعيد تكوينها موسومة بسمته: الحرية، العدل، الشرف، الفضيلة، سكينة النفس، التقوى تقوى الله في عمل الدنيا وعمل الآخرة، تلك سمات الشرق التي يسم بها مدنيته الجديدة التي يتهيأ اليوم لوراثتها عن سالف الحضارات والمدنيات.