الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الإسلام والحضارة العربية
تأليف الأستاذ كرد على. لجنة التأليف والترجمة والنشر. مطبعة دار الكتب المصرية سنة 1934 الجزء الأول
اللهم إني أسألك السّداد. . . وبعد فلو ذهبت استقصى للقارئ ما نما بنفسي وأنا أقرأ فصول هذا الكتاب لخرجت بهِ من حدّ عرْض فكرة الكتاب إلى بسط فكرتى عن الإسلام وحضارتهِ والعرب وثقافتهم التي اختبأت في دمائهم وعقولهم وألسنتهم من أقدم عصور التاريخ ثم تنفست بالإسلام كما يتنفّس الفجر ضوءًا وحياةً وهمة وشبابًا وأنا هنا أجمع بين الأمرين على ما يحفُّ بذلك من عنتٍ ومشقة.
والمؤلف الجليل الأستاذ كرد على يقصُّ على القارئ في مقدمته قصص كتابه فيقول "لما قرر المجمع العلمي العربي "يعني بدمشق" انتدابى إلى تمثيله في مؤتمر المشرقيات الذي عقد في مدينة ليدن من بلاد القاع في صيف 1931 رغَّب إليّ أعضاؤه المفكرون أن أُلْقِى فيه جملة أعرض فيها لما لا يزال يسري على أسلات أقلام (1) بعض مؤلفي الغرب، ولاسيما علماء المشرقيات، من أمور نابية عن حد التحقيق والنصفة، كلّما ذكروا الإسلام وأهله والعرب ومَدَنيتهم". ثم يقول.
"وسبيل هذا الموجز الآن، تصحيح هفوات من أساؤا وما برحوا يسيئون للعرب ودينهم ورسولهم ومدنيتهم، وذكر ما أثرته الحضارة العربية في أمم الغرب والشرق، وما مني بهِ الإسلام، لما غيَّر أهلُه ما بأنفسهم، من خصماء غير رحماء، نالوا من روحه وجسمه، فالتاثت أحواله، وتنكرت معالمه، والإلماع إلى ما قام بهِ المسلمون بعد طول الهجعة، يلوبون (2) على استعادة مجد أضاعوه، وعلقوا اليوم يقطعون إليهِ أشواطًا، حتى لم يبق أمامهم غير مراحل لبلوغ الغاية".
(*) المقتطف، المجلد 86، يناير 1935، ص: 109 - 111
(1)
أَسَلات الأقلام: أطرافها.
(2)
لاب (كقال): استدار حول الماء وهو عطشان للوصول إليه، واستعمله هنا على سبيل الاستعارة.
في هذا الكفاية لمن يريد أن يكون رجلًا عربيًّا من نسل ذلك الشعب العجيب الذي بدّد جيوش الأمم الطاغية في أول أمر الإسلام، وأنشأ على أنقاضها اجتماعًا إسلاميًّا عربيًّا كلهُ محبةٌ وعطفٌ وعدلٌ. وفي هذا الكفاية وفوق الكفاية للذين يتولون أمر التعليم في الأمم العربية ليهبّوا من غفلتهم، وينظروا إلى ما يحاط بهِ مجدهم من كيدٍ وقتالٍ.
إن العار أن يقضي الشاب من أول نشأته إلى آخر خروجه من دراسته -أعوامًا طوالًا يدرس في أثنائها تاريخ نابليون وأمته، وفلانًا وفلانًا من أفذاذ الأمم الغربية، وهو لا يعرف من ماضي أمته العربية إلَّا نتفًا تذهب مع الأيام. هذا الماضي الذي يصوره الذين يتعرضون للتاريخ من مستشرقين يقولون غير ما يعلمون أو يقولون فيما لا يعلمون، أو عربٍ قد فسدت قلوبهم على تاريخهم فهم يستقيدون لآراء عن تاريخهم كلها بهتانٌ وتدليس. هذا الماضي الذي يصورون في صورة مسخٍ تاريخى هائل قد خرج على الدنيا كما يخرج الوباء ثم انقشع عنها فأعقبها صحة وعافية أو كما يقولون! !
إلَّا أن الضلالات التي أحاطت بالتاريخ العربي والإسلامي لهي من أسوإ الضلالات وأشدها وأعصاها على العلاج. فإذا لم يتنبه العرب والمسلمون إلى تاريخهم تنبه المريد إلى ما يريد انماثوا في الأمم ذات الهمم كما ينماث الملح في الماء وأضحوْا بددًا لا يجتمع لهم شمل ولا يؤول آخرهم إلى مجد أول يلوذ به أو يستعصم.
هذا وقد استوقفني من كلام الأستاذ كرد على الذي رويته آنفًا قوله يذكر ". . . ما قام به المسلمون بعد طول الهجعة يلوبون على استعادة مجد أضاعوه، وعلقوا اليوم يقطعون إليه أشواطًا حتى لم يبق أمامهم غير مراحل لبلوغ الغاية"! !
إني لأقرأ هذه الكلمات فتتمثل لعيني (خريطة) العالم العربي الإسلامي من أقصى الشمال إلى أدنى الجنوب ومن مشرق الشمس إلى مغربها، وأعرض قول الأستاذ على أمةٍ أمةٍ من بلادنا فلا أجد قوله يرتاح إلى واحدة منهنَّ. هذه هي السلاسل وهذه هي القيود، وهذه بعض الأمم تمرح في طول من سلاسل الحديد
طرفها بيد المستعمر فيخيل إلى الناظر أن ما بهذه الأمم من المرح والنشاط هو انحلال من السلسلة وما هو به إن هو إلَّا بعض الغفلة التي نحن فيها إلى الأذقان مقحمون. إن الأشواط التي قطعتها هذه الأمم فيما يسمى حضارة أو ثقافة هي غير الأشواط التي يجب أن نقطعها إلى الحضارة والثقافة، وإن السبيل التي مضينا فيها غير السبيل التي فرض علينا سلوكها إن أردنا أن نبلغ غاية يقال لها "لم يبق أمامنا غير مراحل".
أين الأمة الإسلامية العربية التي يريدها الأستاذ على ما فهمنا من فحوى كلامه. . .؟ أين الرجل العربي المسلم الذي يرتفع في الجو كما ترتفع الطائرة التي تحمل أسباب الموت ودلائل الحياة ثم ينقضُ كما تنقضُّ القذيفة من عليائها فلا تذر من شيء إلا أتت عليه فجعلتهُ هشيمًا تذروه الرياح.
إن أمامنا مراحل أولها مهد الطفل العربي الرضيع. وآخرها هذا القبر فاغرًا فاه يلتقم ما تمضغه الحياة من الأبدان العربية ذات السيادة والحضارة والإخلاص والعدل.
فانظر إلى هذا المهد الذي لا يخرج منهُ إلَّا الضعيف والمهزول والأعزل الذي لا سلاح لهُ في الحياة، وهذا الذي ينام على هدَّاتِ الجبال وقصف الرعود وخواطف البروق، وهذا الذي يمشي حيران ليس لهُ هادٍ ولا دليل، وهذا العود الخرِع الجميل الذي يتثنى ويتبرج "تبرُّج الأنثى تصدَّت للذَّكَر"(1) كما يقول ابن الرومى.
ثم انظر إلى هذه المدرسة التي لا يخرج منها إلَّا الأدعياءُ وأشباهُ الأدعياء ممن استودعوا جماجمهم عقولًا غير عقولهم، وأذهانًا غير أذهانهم، وصاروا أتباعَ كل ناعق.
ثم انظر إلى هؤلاءِ وقد ساروا في سبيل الحياة والعمل كما يسيرُ ذوو العاهات
(1) هذا صدر البيت، وتمامه:
تَبَرَّجَتْ بَعْدَ حَياءٍ وخَفَرْ
…
تَبَرجَ الأُنْثَى تَصَدَّتْ للذَّكَرْ
فمنهم الأعرج والأكتع ومقطوع الساقين، والأعمى الذي لا يهتدى والفيلسوف الذي لا يعقل. . .! ؟ .
ثم انظر وانظر. . . هل ترى إلّا أقوالًا ملفقة لبست ملابس الفلسفة والعلم والأدب، وتكلمت بها أفواهٌ تتعاقل على الناس وليس لها من ورائها عقل مستوٍ قد قرّر معنى المجد أو الحرية أو الإخلاص أو المعنى الذي يتبع الإنسان أينما سار أو حلّ، ذلك المعنى العظيمُ الذي لا يغفلُ عنهُ إلّا من لا حياة فيه ألا وهو الموت.
إني لأبكي. . . وآسى. . . و. . . إلخ حين أذكرُ هذا، واعلمُ أني أتكلم بمثل هذا عن أمةٍ أنا منها وهي مني، وإني ليحزننى أن لا أجدَ مندوحة عن القول، ثم لا أجدُ معدًى عن استقصاء التصريح في هذا القول. فإن الدنيا كلها تسيرُ وتعدُّ من أسباب القوة والجبروت ونحن لا نجد لدينا من أسباب ذلك إلّا ألسنة. . .! ! وما تنفع الألسنة في زمن ألسنته غير هذه التي خلقها الله وسوّاها من لحمٍ ودَمٍ.
إذا أردنا أن نكتب هذه الكلمة التي كتبها الأستاذ فنقول "قد قطعنا أشواطًا ونحن إلى الغاية ولم تبق إلّا مراحل" فإن أمامنا أهوالًا وأهوالًا لابدّ من ملاقاتها والتمرس بها تمرُّس المصارع المفتول الساعدين بالأسد الهصور الجائع الذي يريدان يملأَ معدتهُ ليتضلع من طعامهِ ويبسط إهابهُ العضل في ضحى الشمس تمامًا لمتاعهِ ولذتهِ.
البيتُ العربيُّ الإسلاميُّ الذي يخرج رجلًا يقفُ في مهبّ الريح يملأُ رئتيهِ من الهواءِ النقي استعدادًا لطلب العيش الذي هو المجد.
والمدرسة العربية الإسلامية التي تخرج رجلًا كالأسطول المدرع بالعلم والفلسفة والخُلُق والقوة البدنية والمكتسبة والتي هي الحرية.
والاجتماع العربي الإسلامي الذي يفرضُ على كل رجل أن يعمل ثم يعمل في غير وهن ولا ضعف باذلًا روحهُ الفردة في غير شح ولا بخل لتنالَ الأرواحُ جميعها الحياة المتوَّجة بالمجد والمحفوفة بالحرية والتي هي السيادة.
إن لكل أمة تطلب مجدها وحريتها وسيادتها أسلوبًا متبعًا وسبيلًا مقررة
لا عوَجَ فيها ولا أمْت (1)، فلنطلب لأنفسنا أسلوبًا وسبيلًا ولننشيء بيوتنا ومدارسنا واجتماعنا نشأة أُخرى غير هذه التي نحن عليها من التقليد المريض الذي ذهب بشبابنا واستهلك مادة الحياة فينا.
هذا التاريخ الذي يصححهُ الأستاذ كرد على في كتابه هو أولُ ما يجبُ على البيت والمدرسة والصحافة والاجتماع أن تصححهُ في أذهان الأطفال والشبان والمثقفين من الرجال والنساء. وهذا الأسلوب الاجتماعي الذي نعيش فيه يجب أن يغير من أوله إلى آخره حتى يصبح رجولةً عارفةً متثبته لا تهزل ولا تغفل. وهذا الموج الزاحف علينا من أقطار الأرض بالفتن والبدع لابد من تقديم الحيطة له في العقول والأبدان. وإلّا فنحن إلى هلاك لا إلى غاية لم يبق منها إلّا مراحل.
إني لأرى في هذا الكتاب الذي بين يدي أنواعًا من الفكر وألوانًا من القول كلها يؤدى إلى مثل الذي نقول به ونعمل له، وهو دليل نافع لكل من يريد أن يقف على حقيقة ما يحيط بأمته من الكيد والطمع. . . ولا أرى لعربي فضلًا عن متعلم فضلًا عن مثقف وفضلًا عن رجل يطلب المجد والحرية مندوحة عن الاستفادة منهُ مع التاريخ الذي يرِدُ شرعته من أصوله وكتبه.
إن أمامنا المراحل كلها إلى غاية المجد فلنبدأ بتكوين ما يؤدى إليها وإن في حقائق ما يحيط بنا لحافزًا إلى العمل والإخلاص والنهوض والمبادرة إلى ما ليس منهُ بُدٌّ. وإن في التاريخ العربي لعبرة وإن فيه لأمثالًا من المجد والعدل، وإن فيه لصورًا من الحرية يجب أن يتمثلها كل عربي -مادام حيًّا- بين عينيه أنى سار وحيثما نزل وفي هذا الكتاب أطرافٌ من كل ذلك. فلعل الله يحدث لنا من بعد هذا ذكرًا في العالمين.
(1) العوج والأمت بمعنى.