الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مع الشيطان الأخرس
قرأت الكلمة التي كتبها صديقنا الدكتور زكي نجيب محمود في الأهرام الخميس 4/ 3/ 1976، ولا أقول أنها ساءتنى، لأن الذي يسوء كثر وتفاقم حتى تبلد الإحساس به. وأحب أن أجعل الأمر واضحا كل الوضوح. فالذي يسوء مما يكتبه من يدعى الالتزام بما كان عليه السلف، كثير جدًّا أو فوق الكثير، والذي يسوء مما يكتبه الداعون إلى طرح العودة إلى ما كان عليه السلف، كثير أيضا وفوق الكثير. فمن أجل هذا تعجبت من قول الدكتور زكي "أنه يجد موجة تطغى على حياتنا الفكرية والشعورية طغيانا يزداد كل يوم قوة وصرامة، حتى ليخشى أن يقول عنه أنه طغيان يبلغ حد الإرهاب الفكري الذي لا يدع مجال الحرية في التعبير عن الرأي مفتوحا للجميع على حد سواء، فهو مفتوح على مصاريعه لأصحاب جانب واحد من جوانب القول، مغلق بالضبة والمفتاح أمام الجوانب الأخرى أو قل إنه يكاد". وهذا عجيب جدا. أوشكت أن أقول إن الدكتور زكي قد مل قراءة الصحف والمجلات، حتى صحيفة الأهرام التي يكتب فيها. فمن أجل ذلك صار لا يرى الأمر بوضوح كاف مع خبرتى القديمة بوضوح رؤيته لما يحيط به، وصدق تعبيره عما يرى. وأستطيع أن أشهد صادقا أنى أرى الأمر على غير ما يرى، فإن الجوانب الأخرى، تمارس ضروبا من الإرهاب الفكري، وضروبا أخرى من العبث بعقول الناس، وضروبا ثالثة من الحجر "الصحي"! ! لا يكاد يقارن بها ما يمارس الجانب الذي كره هو ما رآه من إرهابه الفكري.
وأنا لا أحب أن أناقش صديقي الدكتور زكي فيما يثير كراهيته لما يسميه "العودة إلى السلف في رسم الطريق الذي يراد لنا أن نسلكه في أكثر جوانب حياتنا حيوية وأهمية"، وهذا لفظه -لا أريد أن أشرحه ولا أن أحلله في هذا
(*) جريدة الأهرام: 12/ 3/ 1976
الموضع وإن كنت قد تناولت مثله قديما في مكان آخر (1). ولكني أريد أن أنبه الصديق الكريم أن الموضوع الذي تناوله للبيان عن هذا الإرهاب هو موضوع "قطع يد السارق" وموضوع "تحريم الخمر"، قد تناوله بمجلة لا تليق به ولا بأدبه الذي أعرفه، وكنت أحب أيضا أن لا يورط نفسه في مثله وبمثل هذه السخرية الخفية المبنية على قصة هو مسئول عن صحة روايتها عن الشيخ حافظ وهبة، فإن كان الشيخ حافظ قالها كما رواها الدكتور، فهو مسئ فارق الأدب في الحديث عن حد من حدود الله سبحانه. وأما قصة واصل بن عطاء والخوارج التي أدهشت الدكتور زكي، فهي لا تدل على ضيق الأفق كما قال، بل تدل على أن الذين لا يفهمون ما أنزل عليهم من القرآن على الوجه الذي أنزل عليه، ويتلعبون بأحكام الله في كتابه، قوم بلا عقول. وواصل بن عطاء، الذي زعم له الدكتور مكانة دينية وفكرية، هو نفسه ممن أخطأوا الطريق إلى فهم ما نزله الله من القرآن وبلغ هو وأصحابه وشيعته مبلغا من الإرهاب والقسوة والفجور في الحكم، حين صارت إليهم مقاليد الحكم في خلافة المأمون.
أما الفقرة الثانية الخاصة بالمرأة، وقول من قال أنها "سهم من سهام إبليس"، فإن كان قائلها قد أساء من وجه في لفظه، فأغرب من إساءته: ما انتهى إليه الدكتور زكي في تعقيبه بقوله: "أيكون البشر على هذه الصورة الشيطانية الرهيبة؟ ألا نتقى الله في كرامة الإنسان، إذا كنا لم يكن بنا رغبة في أن نتقيه في القيم الحضارية كلها"، فهذا تعقيب في غاية الغلو، وإدراجه تحت "الإرهاب الفكري" مسألة أعجب وليس بى حاجة إلى دلالة الدكتور على أن فتنة الرجال بالنساء، مسألة لا تحتاج إلى إيضاح، وأن قائل تلك العبارة، إن كان قد أساء، فإنه لم يبلغ المبلغ الذي ظنه الدكتور في كلامه، بل وضع لفظا في غير موضعه لا أكثر ولا أقل، لا يعني به أما ولا أختا ولا زوجة ولا كريمات النساء وحرائرهن في أمتنا وفي غيرنا من الأمم.
(1) وذلك في مقاله "مواقف"، يأتي ص: 1051 - 1070
وأما الفقرة الثالثة، التي علق فيها على خبر في تقرير صحفي نشرته الأهرام عن مؤتمر الاقتصاد الإسلامي، وما قاله أحد من سماهم "أئمة الدين":"أن رجال الشريعة، قادرون على أن يقولوا كلمتهم في كل شيء"، فأقصى ما كان ينبغي أن يقال فيها إنها عبارة سيئة أيضا عن معنى صحيح، وهو أن كتاب الله وسنة نبيه، فيهما أصول جامعة، ليستنبط منها علماء الأمة المسلمة في كل زمان طريقا صحيحا للعمل ما استطاعوا. ولا يكون عالما من علماء الأمة من يتكلم في شيء يجهله من شئون زمانه كالذي نراه اليوم ممن يتكلم في الأدب، وهو لا يحسن شيئًا منه، وفي الاقتصاد، وهو يجهل أصوله ولم يتعلمها تعلما كافيا، وفي الفلسفة وهو لا يحسن إلا ما يعرف من قشورها، والدكتور زكي أخبر بهؤلاء وقد تناولهم في بعض ما كتب، مع أنهم يتولون تعليم الفلسفة في الجامعات، كما قال.
وإذن، فالسيل قد أغرق الزُّبى، لا بهذا الذي ذكره في الفقرات الثلاث التي ظن أنها عودة إلى السلف، بل هو قد أغرق الزبى، وغطى قمم الجبال بعبث آخر يجرى في حياتنا الفكرية والعقلية على يد من يكرهون العودة إلى السلف، وعلى كل حال، فأنا سلكت نفس الطريق الذي سلكه أخي الدكتور زكي، في ترك المواجهة بالألفاظ الصريحة الدالة على المعاني الواضحة، وتحيتى إلى الصديق الكريم.