الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مواقف
. .!
قبل كل شيء، ولكى أكون واضحا؛ وحتى لا يختلط الأمر على قارئ، أحب أن أقص القصة على وجهها. كنا في ذوات الثلاثين، نكتب معا في مجلة الرسالة في أول عهدها، فنشأت بيننا مودة ومحبة، ومضت الأيام، وهجر صاحبي الأدب؛ وانصرف إلى دراسة الفلسفة وتدريسها والكتابة فيها، فلم أنقطع عن متابعة ما يكتب، كان له في الأدب طريق متميز، وصار له في الفلسفة أيضًا طريق متميز؛ ولم يفتنى فيما يكتب إلا القليل فيما أظن. وتطاولت الأيام، حتَّى قرأت لأخي وصديقي الدكتور زكي نجيب محمود مقالة في مجلة "العربي". وكان يومئذ في الكويت، فلم أصبر حتَّى كتبت إليه رسالة أسأله فيها عما أراد بما كتب؟ كانت مقالة غربية على، لأنى وجدتها غامضة الأسلوب غامضة المعاني، وعهدى به كان أبدا واضح الأسلوب واضح المعاني، في الأدب وفي الفلسفة معا. فتفضل الصديق الكريم، ورد على برسالة يقول فيها:"ما دمت أنت قد رأيت المقالة غامضة غير مفهومة، فهي إذن غامضة غير مفهومة" أو كلاما هذا معناه؛ فعجبت لقوله، وساءني، فآثرت أن أسكت عنه! ومضت الأيام؛ وهيأ الله لي أن أزور الكويت، وهو مقيم يومئذ، وقبل أن ألقى الصديق الكريم، وقع في يدي كتابه "تجديد الفكر العربي"، فأخذت أقرؤه حتَّى فرغت منه، وتعجبت ما شاء الله أن أتعجب، فهو بهذا الكتاب قد ردنى إلى زمان قديم جدا؛ أبي زمان المراهقة الفكرية، أيام كنا نقرأ ونفكر بلا مبالاة. عجبت له كيف استطاع أن يعود القهقرى إلى صدر الشباب، بعد هذا الزمان الطويل من مفارقة الصبا! ثم سعيت إلى لقاء الصديق القديم؛ فلما لقيته كدت أسأله عن سر ذلك، ولكني طويت فجأة كل ما قام في نفسي، كما طويت ذلك الكتاب منذ ساعات، وقنعت بلذة المودة واللقاء بعد دهر طويل من الفراق.
ومنذ أيام، أخذت كتابه الجديد "المعقول واللا معقول في تراثنا الفكري"؛
(*) مجلة الكاتب، السنة الخامسة، العدد 170، مايو 1975 - ص 22 - 36.
وقرأته، فازددت تعجبا، لأنى رأيته يزداد مع الأيام بعدا عن وضوح الأسلوب ووضوح المعاني، في مواضع كثيرة. ولكن لم تكد تمضي أيام، حتَّى جاء الدكتور زكي يفسر لي، وللناس، سر هذا الغموض في الأسلوب والمعاني، فإنه نشر في صحيفة "الأهرام" (الجمعة 7 مارس 1975) مقالة عنوانها:"نريدها ثورة فكرية"، يدعو فيها الدولة (فيما أظن؛ أو فيما فهمت) الى إحداث هذه الثورة الفكرية ويختمها بقوله:
"شيء في مناخنا الفكرى؛ يردنا عن إحداث هذه الثورة. فما زالت الكلمة المسموعة هي لغير الراغبين في ثورة فكرية كالتي أتصورها، فعليهم أن يراوغوا في التعبير عما يريدون، اجتنابا منهم لوجع الدماغ، تاركين لقرائهم أن ينزعوا المعاني من بين السطور".
وهذا بيان كاف! وإذن فبُعْدُ الدكتور زكي، في هذه الأيام، عن وضوح الأسلوب ووضوح المعاني؛ مرده الى هذه "المراوغة في التعبير عما يريد"، اجتنابا لوجع الرأس والدماغ! وهذا موقف غير مفهوم في الحقيقة، وهو أيضًا موقف غير لائق به. غير مفهوم، لأنه منذ سنوات يقف على منبر لا يزاحمه فيه أحد في صحيفة "الأهرام"، لا، بل يقف هو ومعه آخرون على هذا المنبر غير مزاحمين، بلا حرج عليهم أن يعلنوا رأيهم في صراحة وعلانية. وغير لائق، لأن أسوأ ما تصاب به أمة، أن يكون كتابها وأدباؤها ومفكروها على مثل هذا المذهب البغيض:"أن يراوغوا في التعبير عما يريدون، تاركين لقرائهم أن ينزعوا المعاني من بين السطور"! ! هذا إهدار لكرامة القراء، وإهدار لشجاعة العقل، وإهدار لأمانة القلم. وأي ثورة هذه التي يدعو إليها، إذا كان الداعى نفسه لا يملك إلا المراوغة في التعبير عما يريد! ثم لا يستنكف أن يعلن أن ما يكتبه إنما هو "مراوغة في التعبير". هذا أعجب العجب! هذا موقف غير مقبول من رجل حرفته، كما يقول هو:"هي الأستاذية في الفلسفة؛ التي تقتضيه ألا يرسل القول إرسالا مهملا بغير تحديد"(المعقول واللامعقول ص: 30).
وأنا بطبيعتى أكره هذا الطريق. لا من حيث أنا إنسان عاقل مفكر حر
وحسب، بل أيضًا لأنى منذ آمنت بأن الله وحده لا شريك له، وأنه أرسل إلى الناس رسولا يبين لهم طريق الهدى من طريق الضلال، علمت أن هذا البلاغ الَّذي هو القرآن، وهو الحق، لم يكره أحدا على الإيمان؛ لأن الإكراه والسيطرة خليقة أن تدعو الناس إلى المراوغة، والمراوغة مفسدة للحياة البشرية؛ ومتلفة للعقل الإنساني -ومن أجل ذلك نهى الله نبيه صلى الله عليه وسلم عن ارتكاب طريق الإكراه والسيطرة، فقال له:{فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ (21) لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ} ، وقال له، {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} ، ثم زاد فأمره أن يدع الناس أحرارا في اختيار طريق الإيمان وطريق الكفر فقال:{وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} ، كل ذلك كان طريقا مستقيما ومنهجا متبعا، لأن سلامة الحياة الإنسانية، وسلامة العقل؛ وسلامة النفس؛ لا تنال ولا تدرك إلا بالوضوح: وضوح اللفظ، ووضوح الرؤية، ووضوح التعبير، ووضوح المعاني، ووضوح الطريق، وبهذا وحده فارقت حضارة أهل الإسلام سائر الحضارات؛ ما سبق منها وما أتى بعدها. ومن أجل ذلك كان الأسلوب الَّذي أبان عنه الدكتور زكي كريها إلى نفسي. وكنت أتمنى، بعد هذا العمر الطويل، أن يكون كريها أيضًا إلى نفس صديقي الدكتور زكي، مهما لقى في سبيل ذلك من عنت، ومن وجع الرأس والدماغ. وعلى كل، فهذا موقف لا أحبه له ولا أرضاه.
* * *
موقف ثان، فيه نفس السمات؛ سمات الإبهام والغموض؛ بلا داع يدعو إلى ذلك، فأنا حين قرأت كتابه الأول "تجديد الفكر العربي" وفرغت منه، أحسست، (ولا أدري كيف! ) أنَّه كتبه وفي نفسه مرارة مؤذية من شيء لقيه في حياته. وبهذه المرارة أطلق أحكاما قاطعة على "أسلاف" هذه الأمة، فهو يقول مثلا (التجديد ص: 59 وما بعدها): "إني إذ أقرن ما أطالعه من حكايات الخرافة الساذجة عند أسلافنا، وخصوصا في عصور ضعفهم، بما أسمعه بأذنى من حكايات الخرافة يرويها بعض رجال العلم فينا اليوم؛ تأخذنى الدهشة العميقة:
هل زاد هؤلاء الرجال الذين ظفروا في ميادين العلوم الطبيعية والرياضية بأعلى الدرجات العلمية، على أولئك الأسلاف السذج شيئًا في درجة التصديق؟ هل زاد هؤلاء على أولئك شيئًا إلا صفحات من علوم "حفظوها" ليلقنوها لطلابهم تلقينا، لقاء الرواتب التي ينفقونها على مظاهر الحياة، فيبدون للأعين وكأنهم اختلفوا عن سائر العامة العوام في نظرتهم اللاعلمية إلى تسلسل الأحداث. . . فهل أقول إننا في حياتنا الثقافية ما زلنا في مرحلة السحر التي تعالج الأمور بغير أسبابها الطبيعية وإننا لولا علم الغرب وعلماؤه، لتعرت حياتنا الفكرية على حقيقتها، فإذا هي حياة لا تختلف كثيرا عن حياة الإنسان البدائى في بعض مراحلها الأولى". وبهذه المرارة أيضًا يصف جماهير الأمة العربية قديما بأنهم "دراويش بالوراثة"، ليسقط هذه الصفة على "جماهيرنا اليوم"، مشيرا إلى محنة يعيشها اليوم في حياتنا الثقافية والفكرية، بلا إبانة عما يقصد بذلك كله (التجديد ص: 163 وما بعدها).
وتنتقل هذه السمة من الكتاب الأول إلى الكتاب الثاني (المعقول واللامعقول ص: 185 - 187)، فإذا هو يتناول هؤلاء أنفسهم بالرمز الغامض، وذلك في الفصل الَّذي كتبه عن "إخوان الصفا"، يقول:"نمضى مع إخوان الصفا في حديثهم الممتع، الَّذي هو جدير بأن يذكر لمعاصرينا -لا أقول من عامة الناس- بل لمعاصرينا الأجلاء أساتذة الفلسفة في الجامعات، الذين شالوا الدنيا وحطوها من الغضب، حين ساير كاتب هذه الصفحات شعبة من الفلسفة المعاصرة. . . هكذا ربما صاح في وجهي أنصار "الجوانية" من أساتذة الفلسفة المعاصرين لنا في مصر بالذات. . . فإذا رأينا هذا، عجبنا أشد العجب من نفر من الزملاء؛ سواء منهم من جعل تدريس الفلسفة في الجامعات العربية حرفته؛ أو من اكتفى بثقافة عامة، سمعوا من مؤلف هذا الكتاب دفاعا عن موقف كهذا، فاتهمه بالكفر من اتهم، وبالجهل آخرون. .". كلام مر متفجر.
وكنت أتمنى ألا تكون المرارة التي يجدها صديقي الكريم، مدعاة إلى مثل هذا الغموض في التعبير وفي الإشارة لأنى أرى البيان أولى بالعلماء من الكناية.
وأنا أخشى أن يكون صديقي إنما كتب هذين الكتابين بمرارة: للرد على هؤلاء الذين آذوه، لا للبحث الصادق عن طريق لتجديد الفكر العربي، وللبيان عن الجزء المعقول واللامعقول في تراثنا الفكرى، فهذا أيضًا موقف لا أحبه، لأنه عندي غير معقول! وكان أولى به عندي أن يصرح. ولقد أحس هو نفسه، بأن هذا الغموض مرغوب عنه، فإن حديثه الجميل عن "عبد القاهر الجرجانى"، أنَّه كان قد أبدى رأيا في النقد الأدبي، فهاجمه من هاجمه؛ قال:"فما هو إلا أن مرت على ذلك بضعة أعوام، واذا بعجيبة من عجائب الحياة الثقافية المعاصرة في مصر؛ تظهر في الأفق بلا حياء، وهي أن نسبت هذه الفكرة عينها، للرجل عينه الَّذي كان قد تصدى لكاتب هذه الصفحات أول الأمر بالمعارضة والمجادلة"، وهذا شيء قبيح بلا ريب وظلم مفزع ثم أدرك الدكتور زكي أن هذا الغموض في الإشارة لا داعى له، فلجأ إلى التصريح فقال:"ولماذا أخفي الأسماء؟ أنَّه الدكتور محمد مندور، ومات الدكتور مندور، ونهض له مناصرون يبرزون أهم ما استحدثه في النقد الأدبى، فإذا بينه فكرة "القراءتين" هذه: قراءة أولى للتذوق، وقراءة ثانية للتحليل والتعليل! ! "؛ ثم عقب على هذا بكلمات حزينة مؤلمة قال: "لكن ما فائدة الندم على لبن مسكوب! لنمض في طريقنا، طاوين الصدر على ضروب من العنت والإهمال لقيناها، ولم يعد لنا في هذه المرحلة من العمر أن نرد ونعترك؛ وإنما هي ذكرى أليمة تنزو". أي مرارة من الظلم أو أي حيف لقى في حياته! ومع ذلك كله فقد أحب له أن تكون مواقفه كلها كهذا الموقف من التصريح والإبانة عن مواطن الفساد في حياتنا الأدبية، بلا غموض وبلا رموز.
وموقف ثالث، أعجبنى من ناحية، ولم يعجبنى من نواح أخرى. أعجبنى لأنه بعد قليل من التأمل يبدو واضحا جدا. لأنه موقف انحياز كامل من جميع نواحيه إلى ما يسميه "ثقافة الغرب"، كقوله آنفا:"لولا علم الغرب وعلماؤه؛ لتعرت حياتنا الفكرية على حقيقتها"، ومواضع أخرى متفرقة، صرح فيها بهذا الانحياز التام. وهذا أمر مريح، ولا غضاضة عليه في التصريح به.
ولكن هذا فيه كل الغضاضة أن يقول في (المعقول واللامعقول: ص: 28): "وأنى لأقرر عن نفسي أنى حين هممت بهذه الرحلة (أي رحلة المسافر الغريب في أرض غريبة، كما يقول في ص: 10، 16) في دنيا تراثنا الفكرى، لم أجعل غايتى تقويم التراث، ومن أكون أنا حتَّى أجيز لنفسي مثل هذا التقويم، لتراث كان بالفعل أساسا لحضارة شهد لها التاريخ؟ لكني جعلت غايتى شيئًا آخر، أظن من حقى إذا أردته، وهو البحث في تراثنا الفكرى عما يجوز لعصرنا الحاضر أن يعيده إلى الحياة، ليكون بين مقومات عيشه، ومكونات وجهة نظره. وبهذا يرتبط الحاضر بذلك الجزء من الماضي الَّذي يصلح للدخول في النسيج الحي لعصرنا الَّذي يحتوينا راضين به أو مرغمين".
ومع كل هذه الصراحة المحمودة، فقارئ الكتابين ينتهي إلى شيء واحد، هو أن كاتبهما لم يفعل شيئًا سوى أن نصب نفسه مقوما لجميع ما سماه "التراث"، رافضا لأكثره، قابلا لشيء قليل جدا منه. فهو يقول مثلا في (تجديد الفكر العربي: 294 - 299):
"إني لأنظر فأرى سلسلة الخصائص التي يراد لها أن تقتلع من جذورها من تربتنا الثقافية، قبل أن يتاح لنا استنبات زرع جديد، إنما تترابط حلقاتها، فإذا سلمت بالأولى، كان لزاما أن تسلم بالثانية فالثالثة فالرابعة. وأولى هذه الحلقات، وأعمقها جذورا، وأكثرها فروعا، هي نظرة العربي إلى العلاقة بين الأرض والسماء، بين المخلوق والخالق؛ لين الواقع والمثال؛ بين الدنيا والآخرة، بين المعقول والمنقول -هذه كلها ظلال من موقف واحد وحقيقة واحدة. ونظرة العربي في صميمها هي أن السماء قد أمرت، وعلى الأرض أن تطيع، وأن الخالق قد خط وخطط، وعلى المخلوق أن يقنع بالقسمة والنصيب، وأن المثال سرمدى ثابت، وعلى الواقع أن يقسر نفسه على بلوغه، وأنه إذا تعارضت الدنيا والآخرة؛ كانت الآخرة أحق بالاختيار؛ وأن المنقول إذا ما تناقض مع المعقول، ضحينا بالمعقول ليسلم المنقول. . . ." ثم يمضي في احتجاجه حتَّى يقول: "جذور ينبغي أن تقتلع من أصولها، إذا أردنا للمواطن العربي أن يولد من جديد، فإذا خلت التربة من هذه الشوائب، بذرنا بذورا أخرى لتُنْبِت نبتا آخر".
وهذا كله كلام محفوف بالغموض، وبالإشارات المبهمة لشيء مبهم، إنه هو نفس الأسلوب الَّذي اختاره الصديق الكريم:"اجتنابا لوجع الرأس والدماغ". وأنا لا أحب أن "أنزع معانيه من بين السطور". كما أمر، ولكن أقل التأمل يدل دلالة واضحة على أنَّه قد قوم "أصل التراث" كله تقويما لا مرية فيه، فوجده غير صالح. بل هو أيضًا مضر بالتربة، فقضى أن يقتلع من جذوره، لأنه "أعمقها جذورا، وأكثرها فروعًا"، وإذن: فما معنى تواضعه الخادع؛ حين استنكر أن يكون قد أجاز لنفسه تقويم التراث؟ هذا طريق محفوف بالخطر، وهو أيضًا موقف غير لائق.
وموقف رابع: ذلك أن الدكتور زكي أستاذ متميز في الفلسفة، والمذهب الذي يتبعه مذهب قائم على تحليل الألفاظ والقضايا، وهو قد لقى العنت والظلم في سبيل مذهبه. وقد كان حريصا في مواضع من كتابه المذكورين أن يحلل بعض الألفاظ ويحددها على الوجه الَّذي يريده. من ذلك لفظ "العقل" (تجديد الفكر العربي: 308 وما بعدها)، فإنه قال:"وأول التوضيح أن نبين في جلاء ماذا نريد بقولنا "عقل"؟ فلا يجدينا شيئًا أن نقذف بهذه الكلمات المحورية قذفا، لنبنى عليها أقوالا على أقوال، كأنما هي من الوضوح بحيث لا يسأل عن تحديدها، مع أنَّه إذا لم تكن أمثال هذه الكلمات غامضة مبهمة، فأين تجد الغموض والإبهام؟ ". فهذا التزام صريح بالمذهب.
بل إنه في الكتاب الثاني (المعقول واللامعقول: 159، 160)، كان أشد التزاما بالمذهب، فإنه تناول الجاحظ في فصل مهم جدا، أحسن في أكثره، فجعل يتنقل بنا من موضع إلى موضع في كتب الجاحظ: حتَّى انتهى إلى رسالته "في الجد والهزل". فاتفق أن جاء في هذه الرسالة معنى كان الدكتور زكي قد استعمل له نفس اللفظ الَّذي استعمله الجاحظ. وذلك أن صديقي الدكتور زكي كان قد شبه بعض الألفاظ التي يتداولها الناس "بالظرف الخالى"؛ وهي ألفاظ يظن الناس أنهم قد فهموا دلالتها، مع أنها إذا حللها الفيلسوف ليرى ما في جوفها، إذا هي فارغة. وكان الجاحظ قد ذكر أمر آدم عليه وعلى نبينا السلام،
وذكر قول الله تعالى: {وَعَلَمَ آدَمَ الأَسْمَاْءَ كُلَّهَا} ، ثم قال الجاحظ في بيان ذلك:"ولا يجوز أن يعلمه الاسم ويدع المعنى، ويعلمه الدلالة ولا يضع له المدلول عليه. والاسم بلا معنى لغو: كالظرف الخالى، والأسماء في معنى الأبدان، والمعاني في معنى الأرواح، اللفظ للمعني بدن، والمعني للفظ روح. ولو أعطاه الأسماء بلا معان، لكان كمن رهب شيئًا جامدا لا حركة فيه، وشيئا لا حِسَّ فيه، وشيئا لا منفعة عنده".
فلما وقف صديقي على هذا الَّذي قاله الجاحظ، علق عليه تعليقًا ثائرا مثيرا؛ وملتزما بمذهبه، لأنه وجد ما يؤكده في كلام الجاحظ؛ فقال:
"كان كاتب هذه الصفحات قد أخذته الحماسة المشتعلة ذات حين، معتقدا أن الناس عامة، والأمة العربية خاصة، قد ملأت لغتها بألفاظ لا تدل، وبأسماء لا تسمى، فكانت النتيجة أنهم كتبوا، وقالوا ثم قالوا: لكن حصيلة الفكر أضأل جدا من هذا الدوى الهائل الَّذي أحدثوه. ولقد أورد هذا الكاتب تشبيه "الظرف الخالي" في كتاب صدر له سنة 1953 وعنوانه: "خرافة الميتافيزيقا" فأقامت جماعة من الناس ظنت أن في جماجمها ثقافة، وكتب أحدهم، وقد ظن أن أعواما قضاها في أوربة قد زودته بالسلاح المرهف الَّذي يرد به على "الكفرة"، فكان أن علق هذا الرجل على التشبيه بعينه، ليبين للناس إلى أي حد ذهب الضلال بصاحب "خرافة الميتافيزيقا". . . مسكين أنت يا عثمان (1)، يا ابن بحر، يا جاحظ! لو كان حظك قد شدك من زمنك في القرن التاسع (يعني في القرن الثالث الهجرى) لتعيش مع المعاصرين لنا في القرن العشرين"! ! كلام مرير لاذع.
وهذا؛ وإن كان يدخل في "الموقف الثاني" الَّذي لا يعجبنى، إلا أنَّه يدل على مقدار حرص الدكتور زكي على تحليل الألفاظ وتحديدها، وعلى التزامه بمذهبه الفلسفي، وما لقى في سبيل ذلك من الظلم المبرح. فبأي معنى يكون له
(1) كذا بالأصول، الصواب: يا أبا عثمان.
كل هذا الحرص، وكل هذا الالتزام، ثم يدع قراء كتابيه في حيرة من أمر ألفاظ أخرى "محورية" كما يقول؟ . وهذه الألفاظ "المحورية" كثيرة في الكتابين، ولكن هناك ثلاثة ألفاظ يدور عليها ما في الكتابين جميعا؛ وهي أيضًا من أكثر الألفاظ دورانا على ألسنة الناس في أيامنا هذه، وهي أيضًا ألفاظ محدثة، ينطبق عليها أشد الانطباق، ما قاله الدكتور آنفا "كأنما هي من الوضوح بحيث لا يسأل عن تحديدها، مع أنَّه إذا لم تكن أمثال هذه الكلمات غامضة مبهمة، فأين تجد الغموض والإبهام؟ ". وهذه الألفاظ هي: "التراث" و"الثقافة" و"الحضارة" فلو التزم الدكتور زكي بمذهبه الفلسفي، لكان من حق قرائه عليه أن يعرفوا؛ على الأقل، ماذا يريد هو باستعمالها؟
لم يغب هذا عن الصديق الكريم، ولكنه أتى بشيء عجيب جدا في سبب إغفالها، فإنه أشار في (تجديد الفكر: 66) إلى أن في ذهنه معاني كلية، يريد التحدث عنها، كمعني "الثقافة" ومعني "التراث"، وقال:"فما أسهل أن أسوق ألفاظا كهذه بمعانيها المجردة الخالية من التفصيلات والعناصر" -ومع ذلك فلم يكلف نفسه مشقة تحديدها أو تحليلها، بل العجب العاجب أنَّه لما بلغ (ص: 69) ذكر "الثقافة" ثم قال: "إن سؤالا ليفرض علينا نفسه قبل هذا السؤال، وهو: ماذا تعني بالثقافة؟ ولقد طرح هذا السؤال؛ وتنوعت الإجابات عنه؛ حتَّى أصبح موضوعا تمجه النفس، ولذلك فلست أنوى الوقوف عنده لا طويلا ولا قصيرا، وسأترك للقارئ حرية كاملة في أن يفهم من الكلمة ما يشاء".
كيف يكون هذا؟ وأي معنى إذن لالتزام المرء بمذهب فلسفي يقوم على تحليل الألفاظ والقضايا؟ وهل يصح أن يضرب الفيلسوف عرض الحائط بمذهبه، لأن تنوع الإجابات، جعل اللفظ أو القضية "موضوعا تمجه النفس": هذأ أمر غريب جدا. وهل تحل المشكلة، بأن يبيح الفيلسوف للقارئ أن يكون حرا حرية كاملة في أن يفهم من "الكلمة" ما يشاء؟ هذا هدم لأصول المذهب، وهو حرى أن يوقع القراء في التخبط والخلط؛ ولاسيما إذا كان "اللفظ" هو
المحور الَّذي يدور عليه كل ما في الكتابين. وأنا أنقل إليك مواضع منهما، تغير فيها معنى "الثقافة" تغيرا مبنيا. من ذلك قوله في (تجديد الفكر ص: 71):
"فحياة الناس هي ثقافتهم، وثقافتهم هي حياتهم، لا حين ننسلخ عن الحياة، ليضطلع بها محترفون يطلقون على أنفسهم اسم: المثقفين". هذا معنى مبهم، ثم يقول بعد قليل في الكتاب نفسه (ص: 81).
"لم تكن اللغة في ثقافة العرب، "أداة" للثقافة؛ بل كانت هي الثقافة نفسها"، فهذا معني ثان أشد غموضا وإبهاما من الأول. ثم يقول في الكتاب الثاني (المعقول واللامعقول ص: 105)؛ عند ذكر مقتل أبي مسلم الخراساني، وما أعقب ذلك من أمر بعض الخوارج على الدولة كالراوندية، يقول:
"لا يعقل أن يكون مقتل رجل كأبى مسلم الخراساني، مبررا كافيا لمثل تلك الردة إلى ديانات الفرس فيما قبل الإسلام، وبمثل تلك السرعة وذلك الاتساع (وهذه كلها مبالغات مضنية مع الأسف! ) مما يدل دلالة قوية على أن الإسلام لم يكن عند القوم أكثر من غطاء خارجى، أبعد ما يكون عن ثبات الجذور؛ فكانت تكفيه أقل هبة من هواء ليطير، فتنكشف العقائد الراسخة من تحته (وهذا أوغل في المبالغات المضنية أيضًا)، وإذا قلنا "العقائد"؛ فقد قلنا "الثقافة" أيضًا"، وهذا معنى ثالث غارق في الابهام والغموض. وهي ثلاث صور مختلفات لمعنى "الثقافة"، وفي الكتابين صور أخرى أعجب وأغرب!
وأنا لا أدري لم هان على صديقي الدكتور زكي مذهبه الفلسفي الصارم، في مسألة "الثقافة" و"التراث" و"الحضارة"، على وجه الخصوص؟ ولا أدري ما معنى الحرية التي تركها لقارئه، حتَّى يقع في حيرة مضللة؛ وهو يتحسس المعاني التي يريدها بهذه الألفاظ؟ هذا موقف لا يرضى ولا يليق من رجل "حرفته هي الأستاذية في الفلسفة، والتي تقتضيه ألا يرسل القول إرسالا مهملا بغير تحديد"(المعقول واللامعقول ص: 30).
وموقف خامس: وأنا كما ترى، لا أريد أن أناقش الدكتور زكي فيما قاله،
أو فيما انتهى إليه، في هذين الكتابين، فهو حر في أن يقول ما شاء، وأن يختار مما يسميه هو "ثقافة" أو "تراثا" ما شاء أيضا. ولقد شاء أن يجعل رحلته الأولى في "التراث"، في ميدان المعركة التي نشبت بين أمير المؤمنين علي رضي الله عنه، وبين معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه (المعقول واللامعقول ص: 29 وما بعدها).
وأنا لا أريد هنا أن أصحح له وقائع التاريخ كما رواها في كتابه، ولا أريد أيضا أن أحجر عليه القول فيما اختاره، أو فيما انتهى إليه، أو في الطريقة التي عالج بها هذا المشهد الذي رآه. ولكن الشيء الذي لا أستطيع أن أغفل الإشارة إليه، لأنه واجب كل مفكر، هو الالتزام التام بالتحري والفحص، قبل مشيئة القول ومشيئة الاختيار.
فهو قد اختار كتاب "نهج البلاغة"، ليتخذ ما فيه من الأقوال المنسوبة إلى أمير المؤمنين علي ينبوعا يستخرج منه صورة للإمام على في القرن الأول من الهجرة، يقول:"ولننظر كم اجتمع في هذا الرجل من أدب وحكمة وفروسية وسياسة"(المعقول واللامعقول ص: 30). فإذا كان ذلك كذلك، أفليس من وسائل "العقل" أن يتثبت المرء من أن هذا الكلام المنسوب إلى علي رضي الله عنه هو كلامه، بلا ريب في ذلك؟ هل يختلف في مثل هذا عاقلان؟ لا، بلا ريب، وإذا كان الدكتور زكي، كما وصف نفسه:"بعيدا عن التخصص الدقيق الكامل في تراثنا العربي"(المعقول واللامعقول ص: 115)، ألم يكن أسلم له في طريقه أن يسأل، وأن يحاول أن يفكر على الأقل، حتى يتثبت من صحة نسبة ما في هذا الكتاب من الأقوال إلى علي رضي الله عنه؟ إنه إذا بطل أن يكون هذا الكلام صحيح النسبة إلى عليّ، كان استخراج صورة عليّ منه ضربا من العبث، لا أكثر ولا أقل.
وكتاب "نهج البلاغة"، هو مجموع أقوال وخطب، جمعها الشريف الرضى المولود سنة 359 من الهجرة والمتوفى سنة 406 من الهجرة، أو جمعها أخوه الشريف المرتضى المولود سنة 355 من الهجرة والمتوفى سنة 430 من
الهجرة، ونسب ما فيه إلى أمير المؤمنين علي رضي الله عنه، الذي توفي سنة 40 من الهجرة. ومعنى ذلك أن بين جمع هذه الأقوال وبين وفاة علي رضي الله عنه نحو أربعة قرون. وهذه الأقوال لم يروها الرضى أو أخوه المرتضى بإسناد متصل ينتهي إلى على فكيف نثق بهذه الرواية المرسلة بلا إسناد صحيح، مع هذه الدهور المتطاولة التي تفصل بين علي أمير المؤمنين، وبين جامع هذه الأقوال؟
وأنا أستطيع أن أؤكد لصديقي الكريم أن النظرة الأولى إلى جملة ما في الكتاب من الكلام، تقطع بأن كثرته الكاثرة لم تجر على لسان علي رضي الله عنه قط، وأنه، بعد الفحص الأول المدقق، لا يكاد يسلم منه لعلي رضي الله عنه إلا أقل من العشر. فإذا كانت النسخة التي طبعها الشيخ محمد عبده، تقع في نحو 400 صفحة، فلا يكاد يصح منها إلا أقل من أربعين صفحة. وهذا القدر المنسوب إلى على، يكاد يكون كله في السنوات الأخيرة من حياته، منذ بويع بالخلافة لخمس ليال بقين من ذي الحجة سنة 36 من الهجرة، إلى أن قتل رضي الله عنه لسبع عشرة ليلة خلت من رمضان سنة 40 من الهجرة، أي في أقل من أربع سنوات. وهذا أمر لا يكاد يصدق: أن يكون قيل كله في هذه الفترة القصيرة من الفتنة والاضطراب، وأن يكون الرواة قد استطاعوا أن يجيدوا روايته في هذه الفترة من الفتنة والاضطراب. هذا فضلا عما في الكتاب من أقوال لا يليق صدورها عن رجل مثل عليّ في دينه وعلمه وتقواه.
ودليل آخر، فإن هذا الكتاب "نهج البلاغة"، فيه من غريب ألفاظ اللغة قدر كبير جدا، وقد أفرد علماء الأمة كتبا تسمى "كتب الغريب"، عنيت بتفسير غريب ما في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وغريب ما روى عن كبار الصحابة. فمن ذلك مثلا كتاب "الغريب" لأبي عبيد القاسم بن سلام (توفي سنة 224 من الهجرة)، فإن شرح حديث أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه، يقع في نحو مئتى صفحة من المطبوع، ويقع شرح حديث أمير المؤمنين علي رضي الله عنه في خمسين صفحة من المطبوع، أي أن حديث على فيه ربع حديث عمر، فإن صحت نسبة ما في "نهج البلاغة" إلى على، لكان شرح غريبه من اللغة، يقع في
أضعاف أضعاف ما روى عن عمر، على الأقل. ومعنى ذلك أن علماء الأمة الذين تتبعوا شواهد اللغة، قبل مولد الشريف الرضى أو أخيه المرتضى، لم يقفوا على هذا القدر المفرط الموجود في "نهج البلاغة". ولو كان تحت أيديهم مثل هذا القدر، لما أغفلوه البتة. وهناك أدلة أخرى على بطلان نسبة ما في هذا الكتاب إلى أمير المؤمنين.
وحسبى هنا أن أختم القول في "نهج البلاغة"، بذكر ما قاله الحافظ الذهبى (673 - 748 هـ)، حيث ذكر الشريف المرتضى فقال:"وهو المتهم بوضع كتاب "نهج البلاغة"، وله مشاركة قوية في العلوم، ومن طالع كتابه "نهج البلاغة"، جزم بأنه مكذوب على أمير المؤمنين، ففيه السّب الصراح والحطّ على أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، وفيه من التناقض، ومن الأشياء الركيكة، والعبارات التي من كان له معرفة بنفس القرشيين من الصحابة، وبنفس غيرهم من المتأخرين، جزم بأن أكثره باطل". وهذا أهون ما يقال في هذا الكتاب.
فكتاب كهذا الكتاب، يدل صريح العقل والنظر، وصريح النقل والتثبت، على أنه كتاب قريب النسب، كان غير لائق بالدكتور زكي أن يتسرع إلى التقاطه، دون أن يفحصه، ويتحرى عنه، فيجعل ما فيه من كلام كثير الغثاثة، وقد كتب أكثره بعد دهور متطاولة، ممثلا لعلي بن أبي طالب وممثلا أيضا للقرن الأول من الهجرة، وهو القرن الذي يجمع أجلاء أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم ألوف، وليس على إلا واحدا منهم، وإن فاقهم بما فضله الله به وكرمه، من العلم بكتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. فإغفال تحديد معنى "التراث" عند الدكتور، وترك التثبت من صحة الأقوال والأفعال المنسوبة إلى الرجال، ثم الإقدام مع ذلك على الأحكام القاطعة في المعاني والصور، موقف لا أرضاه لمفكر عريق متميز، كأخي الدكتور زكي، أراد أن يضع لنا منهجا، ويمهد لنا طريقا يفضى إلى الفصل والتمييز بين "المعقول واللامعقول في التراث العربي".
وموقف سادس: وذلك أنى كنت دائم التخوف على أخي الدكتور زكي، وأنا أقرأ كتابيه، من أن تكون له أفكار أعدها إعدادا قبل قراءة "التراث"، وقبل
الغوص في "الثقافة"، فبجانب ما هو معروف به من سلامة النظر، ومن الأستاذية التي لا تنكر في الفلسفة. وهذا الذي خفته هو الذي وقع، ولولا ذلك لما كان معقولا أن يقول في (المعقول واللامعقول ص: 117) إنه يستند فيما يكتب "إلى انطباعات أحسستها، إذ كنت أقلب صفحات التراث، أكثر مما استندت إلى مقدمات موثوق بصحتها، لتنتج نتائج موثوقا بصدقها أيضًا". ولا أدري كيف يغيب عن الدكتور أن مرتكب هذا الطريق يسير على غرر، ويضيع وقته ووقت الناس في كتابة ما يكتب، وأن التزام مثل هذا الطريق يفضى بالكاتب إلى التسرع في فهم الكلام وفي الاستنباط منه، وإلى صرف الكلام عن وجهه الصحيح إلى الوجه الذي أعده إعدادا قبل القراءة، وإلى ترك التثبت من صحة النص الذي بين يديه، مع قدرته، لو تأنى إلى معرفة وجه الخطأ فيه، أو إلى ما دخله من تصحيف أو تحريف.
مثال ذلك أنه يقرر تقريرا لا يشك هو في صحته، وبلا دليل يدل عليه، أن "الثقافة" العربية التي عاش بها العربي، تجعل له موقفا واحدا في الحياة:"وقفة من يجعل الثبات للسماء، والفناء للأرض. ففي السماء الأصول، وعلى الأرض الأشباح والظلال. أنها ثنائية حادة بين الغيب والشهادة، بين الروح والجسد، بين الإنسان والله. . . فإذا كانت هذه هي الصورة الكونية، فلابد أن تكون كذلك هي الصورة لحياة الإنسان في مجتمعه، فلصاحب السلطان أن يريد، وعلى الناس أن يطيعوا. الكلمة عندنا لصاحب القوة، والقول النافذ لصاحب الجاه"(تجديد الفكر ص 294 - 296). وهذه الفكرة التي لا نجد دليلا واحدا يدل عليها، إنما هي فكرة ثابتة سابقة على قراءة "التراث"، وهي أيضا منتشرة في الكتابين جميعا. فلننظر الآن كيف طلب الدليل على صحتها من "التراث" في الكتابين جميعا. قال في (تجديد الفكر ص: 46 - 48).
"لم يكن في ساحة الفكر عند الأسلوب حوار حر إلا في القليل النادر"، لماذا؟ يقول: لأننا "قوم على الفطرة، فأي عجب إذا سلكنا أنفسنا مع الفطرة فيما فطرها عليه فاطر السماء والأرض! ". وكيف كان ذلك؟ يقول: "قد ورد
في التراث أن من الكائنات ما لا يصلح إلا بأمير يؤمر عليه، وتلك هي -كما ورد في العقد الفريد: الناس، والفأر، والغرانيق، والكراكى، والنحل، والحشرات. . . كلها تأبى بحكم فطرتها أن يكون الأمر حوارا بين أفرادها، وتريده أوامر ونواهي وزواجر تهبط من الأعلى ليصدع بها الأسفل، وطوبى لمن كان لهم الأمر، ناسا كانوا أو حشرات". ولماذا كان ذلك كذلك يقول:"لأن الأمر والنهي -كما يقول الجاحظ- لذة أين منها الحواس .. فسرورك إذا كنت صاحب أمر أو نهي، سرور من طراز فريد، حين ينحدر أمر من شفتيك، فإذا هو نافذ، وحين توقع بخاتمك، فإذا الطاعة على الناس قد وجبت، بل، فإذا الحجة "العقلية" قد ألزمت كل ذي حجة. ولا تقل إنْ لم يَكُن في الأمر إلا بصمة الخاتم .. لا تقل ذلك، لأنك إنما تقوله لجهلك باللذة الكبرى .. إذا جلست من الناس مجلس الأمر والنهي، (اقرأ الحيوان للجاحظ 1: 205). إنه إذا نزلت الأوامر والنواهي من أهل الطوابق العليا إلى أهل الطوابق السفلى، ". . فالسعيد من قابل الأخبار بالتصديق والتسليم، والأوامر بالانقياد، والنواهي بالتعظيم (البداية والنهاية لابن كثير 1: 5) "، انتهى باختصار.
ولأنى لم أنصب نفسي لمناقشة قضايا الكتابين، فإني سأصرف النظر عن موضوع "الفطرة"، وعن استدلاله بما جاء في "العقد الفريد": وعن الأسلوب الذي ساق فيه حكما غريبا عن "الأسلاف" وجعله شيئا مقررا مفروغا من صحته وسلامته. وإنما عملى هنا أن أنظر فيما نسبه إلى الجاحظ وإلى الحافظ ابن كثير، والكلام السالف الذي نقله عن الجاحظ، إنما هو استخراج وتأويل للفظ كلامه، جعله حجة مؤيدة للفكرة السابقة التي اعتقدها، وفسر كلامه على مقتضاها. ولكنه أتى بنص كلام الجاحظ في الكتاب الثاني (المعقول واللامعقول ص: 168)، قال:
"أأقول إنه خلق عربي متأصل -لا فرق بين أقدمين ومحدثين .. أن يتحكم بعضنا في رقاب بعض؟ .. إننا نسأل ههنا عن "العلة"، لأنه هو الوضع الشاذ الذي يتطلب التعليل، يقول الجاحظ: "أين تقع لذة درك الحواس، الذي هو
ملاقاة المطعم والمشرب، وملاقاة الصوت المطرب، واللون المونق، والملمسة اللينة، من السرور بنفاذ الأمر، وبجواز التوقيع، وبما يوجب الخاتم من الطاعة، ويلزم من الحجة" (الحيوان 1: 205)، وأرجو أن يلاحظ القارئ معنى الجملة الأخيرة من هذه العبارة، جملة:". . يلزم من الحجة" أن الحجة تكون ملزمة إذا وقعها صاحب الأمر والنهي فينا، وختم عليها بخاتمه، وليذهب إلى جهنم عقل يقيس إلزام الحجة بمقاييس منطقه، ليرى أين تكون المقدمات العقلية التي تلزم بالنتيجة"، انتهى، مع بعض الاختصار.
ومرة أخرى أقول: إني لست بصدد المطالبة بالدليل على صحة ما جعله "خلقا عربيا متأصلا"، من تراث العرب وثقافتهم، ولكني أحب أن ألفت النظر إلى هذا الأسلوب المتوهج الثائر الفرح بما ظفر به في كلام الجاحظ، مما ظن أنه يؤيد فكرته السابقة عن "التراث العربي"، وإلى تكرار ما ظفر به في الكتابين جميعا. والسؤال الآن هو: هل أراد الجاحظ هذا المعنى الذي فهمه من عبارته؟ هل يصح في سياق نص كلام الجاحظ: أن الحجة العقلية في تراثنا تكون ملزمة للعقلاء من الناس، إذا وقعها صاحب السلطان، وختمها بخاتمه؟ هل هذا صحيح أن يكون الجاحظ قال ذلك أو عناه؟
وهذه الجملة التي قالها الجاحظ، مأخوذة من "كتاب الحيوان". في هذا الكتاب نشره وحققه الأستاذ عبد السلام هارون، وبذل فيه من الجهد قدرًا بالغًا. ومع ذلك فقد قال في مقدمة الكتاب ما نصه:"ليس يوجد في عصرنا من يستطيع أن يخرج هذا الكتاب مبرأ من العيب، سليما من التحريف"، وصدق فيما قال. ومن أجل ذلك تجده قد ألحق بكل جزء من أجزاء الكتاب، استدراكًا لما فاته، مما تجاوزه النظر، أو غمض الطريق إلى تصحيحه. وهذه الجملة التي نقلها الدكتور زكي، هي مما وقع فيه التحريف والتصحيف، بدلالة العقل، ثم بدلالة السياق، ثم بدلالة تاريخ هذه الأمة العربية، ومعلوم أن الجاحظ لم يكن ممن يلقى القول على عواهنه. فهو يتحدث عن كل صاحب سلطان في هذه الدنيا، في كل ملة من الملل، وفي كل زمان ومكان، وفي كل طائفة أو أمة،
وفي القديم والحديث، وفي الشرق والغرب، وعما يجده صاحب كل سلطان من لذة خفية بنفاذ أمره في الناس -ويقول إن كل من ولى أمرًا من أمور الناس، فبحق هذه الولاية يأمر وينهى، (بلا غضاضة في ذلك على عربي أو أعجمي أو أوربى! ). وصار بهذه الولاية مستوجبا أن يطاع في الأمر والنهي، وإلا بطلت الولاية ولم يكن لها معنى، ولم يكن للناس حاجة إلى حاكم أو وال أو رئيس أو وزير. وبهذا الحق المفروغ من التسليم به في جميع أمم الدنيا منذ كانت إلى أن تنقضى مدتها، وجب على كل مرءوس أن يطيع رئيسه في الأمر والنهي، فلفظ "الطاعة". عند الجاحظ لا يزيد على هذا: أن ينفذ أمر الرئيس، وأمر الرئيس لا يكون صحيحا موجبا للطاعة إلا بتوقيعه على الأمر، وعبر الجاحظ عن ذلك فقال:"بما يوجب الخاتم من الطاعة". ويبقى الجزء الآخر بعد صدور الأمر والتوقيع، وهو "التنفيذ"، كما نقول اليوم. وهذا "التنفيذ" هو الذي عبر عنه بقوله:"ويلزم من الحجة"، كما جاءت في نسخ كتاب الحيوان، ولكن كلمة "الحجة" وقع فيها تحريف النساخ، لأن صوابها هو "الخدمة"، وصواب العبارة كلها إذا هو:
"من السرور بنفاذ الأمر، وبجواز التوقيع، وبما يوجب الخاتم من الطاعة، ويلزم من الخدمة".
ولفظ "الخدمة"، بمعنى السعي في إنفاذ ما أمر به السلطان، أو صاحب الولاية، لفظ دائر في جميع كتب "التراث"، كما يسمونها، وهو يأتي في كل كتاب مقرونا بلفظ "الطاعة"، والجاحظ، والأمر لله وحده، جزء من "التراث"، يجرى كلامه على عادة أهل هذه اللغة، وعلى ما ألفته الأمة التي هو منها. والجاحظ أحرص من أن يقول أن "خاتم الولاة" يلزم الرعية التسليم لهم فيما سماه الدكتور "الحجة العقلية"، ولولا أن الدكتور زكي كان قد اعتقد في نفسه هذا الاعتقاد، بأن الأمة العربية يمكن أن توصف بأنها تسلم لولاة الأمر ما قالوا وأن أمرهم يصبح بتوقيع خاتمهم "حجة عقلية" يلزم الناس التسليم لها، ولو ناقض الأمر حجة العقل -لولا ذلك، لكان الدكتور خليقا أن ينتبه إلى موطن
التصحيف والتحريف في هذه الكلمة. والدليل على أنه يقرأ ما يقرأ، وهو قادر على النظر في وجوه التصحيف والتحريف في الكلام أنه نقل نصا عن كتاب "الخصائص" لابن جنى (1: 215)، وذلك في (المعقول واللامعقول ص: 236)، يقول فيه:"ألا ترى أن الشاعر قد يكون راعيا جلفا، أو عبدا عسيفا، تنبو صورته، وتمج جملته" فتوقف عند قوله "جملته"، وكتب معلقا عليها:[ربما كان الصواب: خلقته]، ومع الأسف، فإني أقول أن الذي في "الخصائص" هو الصواب المحض، وأن التغيير الذي اقترحه لتصويب عبارة ابن جنى لا محل له. ولو لم يكن الدكتور قادرًا على النظر في النصوص وتصويبها، وأنه شديد العناية بالألفاظ الدالة على المعاني، لما كتب هذا التصويب. فكيف حرص على تصويب ما لا خطر له في بحثه، وكيف فاته ما كان خليقا أن يحرص على تصحيحه؟ لا شيء، إلا أنه فرح بكلمة تؤيد رأيه السابق فصرفه الفرح عن التأمل وتصحيح ما هو خطأ محض.
هذه هي القضية في شأن نص الجاحظ -وبقيت القضية الأخرى في شأن نص ابن كثير، وهي قضية غريبة جدا؛ فإن الدكتور زكي نقل جملة من كلام الحافظ ابن كثير في سياق تدليله على أننا، نحن العرب، قوم على الفطرة، وأن الفطرة توجب علينا أن الكائنات كلها لا تصلح إلا بأمير يؤمر عليها، وحكم هذه الفطرة يوجب ألا يكون بيننا حوار، بل تريد أوامر ونواهي تهبط من الأعلى إلى الأسفل ليصدع بها، فإذا نزلت الأوامر من أهل الطوابق العليا إلى أهل الطوابق السفلى" .. فالسعيد من قابل الأخبار بالتصديق والتسليم، والأوامر بالانقياد والنواهي بالتعظيم (البداية والنهاية لابن كثير 1: 5) فجعل الدكتور هذه الجملة حجة لتأييد رأيه في أنه "خلق عربي أصيل -لا فرق بين أقدمين ومحدَثين، أن يتحكم بعضنا في رقاب بعض".
وحقيقة الأمر، هي أن هذه الجملة مقتطعة من مقدمة الحافظ ابن كثير في كتابه "البداية والنهاية" حين ذكر منن الله على عباده، بأن "أرسل رسله إليهم"، وأنزل كتبه عليهم، مبينة حلاله وحرامه، وأخباره وأحكامه، وتفصيل
كل شيء في المبدأ أو المعاد إلى يوم القيامة، فالسعيد من قابل الأخبار بالتصديق والتسليم، والأوامر بالانقياد؛ والنواهي بالتعظيم". وبين أن الحافظ يتحدث عن تصديق أخبار الله تعالى في كتابه، وعن أوامره سبحانه في كتابه؛ وعن نواهيه تعالى جده في كتابه القرآن العظيم. وهذا بمعزل عن توقيع سلطان أو أمير أو حاكم بخاتمه- ولا يمكن أن يقال إن التصديق بأخبار الله تعالى في كتابه، والانقياد والتعظيم لأوامره ونواهيه ينسحب على أوامر خليفة أو أمير أو صاحب سلطان أو عالم أيا كان. فإن في تراثنا أن عدى بن حاتم الطائيّ كان نصرانيا، فوفد على رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: "أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي عنقي صليب من ذهب: فقال: يا عدي، اطرح هذا الوثن عن عنقك! قال عدى: فطرحته، وانتهيت إليه وهو يقرأ في سورة براءة. فقرأ هذه الآية:{اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} ، قال قلت: يا رسول الله، إنا لسنا نعبدهم! فقال: أليس يحرمون ما أحل الله فتحرمونه، ويحلون ما حرم الله فتحلونه؟ قال قلت: بلى! قال: فتلك عبادتهم"، فدل هذا على أن الانقياد والتسليم والتعظيم، إنما هي لله وحده، ولرسوله الذي أرسله بهذا الكتاب مبلغا له، ومبينا عنه، وأنه لا أحد بعد ذلك يجب علينا الانقياد والتسليم لأوامره، حتى يصح أمره "حجة عقلية" ملزمة إذا وقعها وختم عليها بخاتمه.
هذا حق كلمة الحافظ ابن كثير، وهذا هو معناها، فنقل هذه القضية من طاعة الله؛ إلى طاعة البشر؛ أمر لا يعقل ولا يقال: ولا يصح نسبته إلى "التراث". إن صاحب "خرافة الميتافيزيقا"، وصاحب المذهب المعروف بالتدقيق في تحليل الألفاظ والقضايا، كان خليقا ألا ينقل هذه الجملة من معنى بعينه، إلى معنى آخر، لولا أنه فارق طريقه ومذهبه؛ ولجأ إلى الاستناد إلى "الانطباعات"، وإلى "مقدمات غير موثوق بصحتها، تنتج نتائج غير موثوق بصحتها أيضا"؛ كما قال عن نفسه.
هذا موقف غريب جدا، وأغرب منه أن يكون طريقا إلى البحث عن "تجديد الفكر العربي"، وعن "تمييز المعقول واللامعقول في تراث العرب". وهذا هو
ما خفته عليه، وأنا أقرأ الكتابين: أن تكون له أفكار أعدها إعدادا قبل قراءة "التراث" وقبل الغوص في "ثقافة" العرب، فيحمله ذلك على أن يجانب ما هو معروف به من سلامة النظر؛ ودقة التحليل؛ ومن الأستاذية التي لا تنكر في الفلسفة.
وفي الكتابين بعد ذلك مواقف كثيرة جدا، مردها إلى هذه الأفكار السابقة قبل القراءة، التي تلوى النظر عن الصواب، وتفسير النصوص على غير معناها. وقد اقتصرت على "المواقف" دون النظر في صحة قضايا الكتابين، ودون التحليل لهذه القضايا، لأنى أكره أن أناقش قضايا كتبت على أسلوب غامض غير مكشوف، يترك للقارئ أن "ينتزع المعاني من بين السطور"؛ فأنا أحب المكاشفة، ولا أرضى إلا المصارحة بالرأي، والاستقامة في التعبير. هكذا موقفي وموقف تراثى وثقافتى وحضارتى من تراث اليونان والغرب وثقافتهما وحضارتهما. وليس بين الحق والباطل، ولا بين الصدق والكذب، ولا بين العلم والجهل، ولا بين الصواب والخطأ- من حاجز، إلا ترك الاستقامة، وإلا تغليب الهوى على العقل، وإلا مفارقة التثبت، وإلا إيثار السلامة على المعاناة.