الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الأدب والحرب
إن روح الأديب الذي أعدته طبيعته للتعبير عن الإحساس الذي يجيش في ضميره تعبيرًا يكفل لنفسه البقاء والخلود في تاريخ الأدب، هي الروح الصحيحة التي يمكن أن يعرف من ناحيتها حقيقة تأثير الحرب في الأدب. وقد قلنا مرارا إن تأثير الحرب في الأدب ليس هو أن ينصب الأدباء أنفسهم لتسجيل أخبار الحرب أو أحداثها أو نتائجها أو غاياتها أو فكاهاتها، وما يكون فيها أو منها مما يمكن أن يتخذ أساسًا للكتابة، وإنما يكون أثر الحرب في أدب الأديب في وحي الفكرة التي يقوم عليها بناء إنشائه البليغ، أو غرضه الذي يتوجه إليه معنى كلامه. وبذلك نعرف أن تأثير الحرب في الأدب يقع في كل إنتاج بيانى صحيح، فالحديث عن المرأة مثلا إذا كان في كلام هذا الأديب يخضع اليوم -أو زمن الحرب- خضوعا تاما من بعض نواحيه للزلازل المرجفة التي يرتج في رجفاتها كيان الأديب المفكر المترفع.
وهذه الحرب الحديثة التي نسمع اليوم هدها ودويها وقعقعتها، وتزأر في نواحي ميادينها والوحوش المجنونة التي تستولغ في الدم، وتصبغ فيه أفكارها وأعمالها وعقائدها، وتنشب مخالبها في الفرائس التي تلاقيها في انقضاضها المخبول حين تنقض بكل غرائزها الدنيئة التي تثور في الإنسان ساعة الغضب وأوان الحقد وعند الحفيظة -نقول هذه الحرب الحديثة ذات الطبيعة الدموية الحمراء، تخالف من كل نواحيها كل ما سبقها من الحروب في تاريخ العالم من لدن آدم إلى يوم الناس هذا.
فلا جرم إذن أن يكون تأثيرها في طبائع البشر تأثيرا مخالفا لما سبق من تأثير الحروب السالفة في توجيه شعور العالم. والأديب -لا شك- أشد الناس تأثرا بهذه الحرب، وأثرها فيه وفي أدبه أشد وضوحا وبيانا من مثل ذلك في سائر
(*) الدستور -السنة الثالثة- العدد 770، الثلاثاء 12 جمادى الأولى سنة 1359 - 18 يونيو سنة 1940، ص 1.
الناس، وبذلك سيكون ثأثير هذه الحرب -على قصرها أو تطاولها- تأثيرا مباينا لكل تأثير سبقه في أدب الأدباء.
فالأديب في حياته الإنسانية والأدبية يعيش على استمداد الطبيعة الأدبية التي تصيد من مادة الحياة التي يعانيها في كل يوم من أيامه، والتي أرصدتها لها طبيعتها لتكون له أبدا صيدا يغذو منه أدبه وفنه، ويربى على دره عبقريته الأدبية، وطريقه إِلى ذلك طريق لا يكاد يختلف. فالحياة الإنسانية اليومية هي المؤثر الأول في حياة الأديب، وهي التي تشكل أعصابه المفكرة بشكل الصورة التي يمكن أن تخضع لها هذه الأعصاب وتخضع فطرتها. وهذه الأعصاب المتصلة بعقل الأديب الحساس المعبر، هي التي تتناول المادة الفكرية لتصوغها صياغة جديدة من البيان. فليس شك إذن في أن الأفكار -أو الإنتاج- نفسه، سيكون مميزًا ببعض المميزات التي كانت نتيجة طبيعية للتأثير الواقع بصورته في أعصاب الأديب وعلى ذلك -فمهما يتناول العقل الأديب من شيء من أشياء الفكر، قدم أو حدث، بَعُدَ أو قرب- ففي هذا الشيء تظهر آثار بينة من ضغط المؤثرات الإنسانية اليومية التي تقع عليه.
والفكرة في البيان الأدبى هي الأصل الذي تدور عليه بلاغة التعبير اللغوى، وذلك أن الألفاظ اللغوية التي يتداولها أهل كل لسان من الألسنة الكثيرة في هذا العالم ليست إلا رموزا محدودة بحروفها، يراد بها وجه من وجوه الدلالة على معان كثيرة، وهذه المعاني التي تدل عليها الألفاظ تختلف اختلافا كبيرا في فهم رجلين متقاربين متعاصرين وذلك لأن الألفاظ اللغوية بحدها الذي تحده به المعاجم ليس لها عمل البتة إلا إثارة المعاني في نفس قارئها أو سامعها، وهذا السامع أو القارئ يتحين أحيانا لمعانيه، فإذا هزته الألفاظ أخرجت من مكامنها تلك الأفكار الكثيرة المتشابكة المتداخلة التي لا تنتهي، والتي تنام دائما في واعية العقل -أو ما يسمونه العقل الباطن- وعندئذ لا يُبْقِي اللفظ اللغوى معناه المحدود بالمعجم، بل ينطلق في مذاهب لا تنتهي كل معنى منها يركب معنى آخر أو يتعلق به أو يتولد منه.
والعرب سمت هذه الحالة التي تعرض للألفاظ في سمع السامع وفهمه، وكلام المتكلم وبيانه، اسما خاصا أرادت به تعميم هذا المذهب في كلامها. ولولا أن البلغاء -أعنى أصحاب علم البلاغة- قد حجروا ما وسع أصحاب اللغة والبيان العربي، لكان لهذا الباب مذهب آخر غير المذهب الذي درج عليه أئمتنا رضوان الله عليهم في دراسة هذا الباب من العلم.
وهذه الحالة التي ذكرناها هي المعروفة في علم البلاغة "بالمجاز". فالمجاز في اللغة هو الطريق، وسموه كذلك لأن اللفظ اللغوى يجوز من معناه الأصلى على طريق ومذهب إلى معنى آخر يتهافت إليه أو يتعلق به أو يهوى في بعض هواه. وهذا المجاز الذي يجوزه اللفظ ينضبط ويتقرر على أصول نفسية محصنة (1)، هي التي ترتاد للفظ سبيله الى المعاني التي يمت إليها أو يمتد معناه فيها. والمجاز هو أصل البيان كله، والبيان هو أصل الأدب، والأدب قائم من ناحية أخرى على الفكرة الأدبية، فمن هنا ترى أن المجاز في اللفظ والفكرة الأدبية هما الشريكان المترافدان اللذان ينشئان الأدب ويجعلانه شيئا خالدا من الفن المتكلم الصامت.
وإذا سقط أحد هذين من مذهب الأديب تساقط معه أدبه وتهافت، وإذا بقي أحدهما سابقا والآخر متخلفا كان ذلك مطعنا يغمز منه أدبه أو مقتلا يلقي من قبله حتفه، وكذلك تعلم أن لابد من تقاود الفكر واللفظ في البيان الأدبى حتى لتجد كأنهما يتسابقان يقود أحدهما الآخر إلى غايته، فلا تسلم صفة القيادة لواحد منهما دون الآخر، فإذا تم ذلك تم المعنى الأدبى البيانى الكامل في أدب الأديب، وتم له الخلود الدائم في التاريخ الأدبى والبيان اللسانى الذي تتكون من أشيائه ثروة اللغة.
وإذا صح لديك -وهو لا شك صحيح- أن الأديب لا تجتمع لأدبه مادته إلا من الحياة اليومية التي تؤثر في فكره أشد التأثير، وتحمله على توليد المعاني الأدبية من معاناة الحياة ومداورتها ومقاساتها على لينها وشدتها، وأنه أشد الناس تأثرا وإحساسا بالأحداث الإنسانية والطبيعية كلها، وأن هذا الإحساس وهذا التأثر هما
(1) كذا بالأصل، وظنى بها: مَحْضَة.
الدافعان الأولان اللذان يوجدان فيه معانيه التي تحمله حملا على التعبير، وأن التعبير يتناول المادة اللغوية من الألفاظ فيدورها على أسلوب وطريقة وترتيب ينتهي إلى شيء واحد: هو حفظ النسبة والعبارة بين اللفظ اللغوى والمعاني الجديدة التي يعلق بها الأديب أسبابه بأسباب معانيه. إذا علمت ذلك علمت أن الحرب وهي الهَزّ الدائم المستمر بين صباح اليوم وليله -توجد في أدب الأديب بيانًا جديدًا ومجازًا مبتكرًا وعبارة متناسبة تتجدد بها اللغة وتثرى، وتختزن في خزائنها أموال الأدب التي يسهبها (1) لها هذا الأديب.
ولا يذهبن بك ما ترى منْ رَأْينا إلى أن ذلك لا يتناول إلا الألفاظ، كلا، فالأغراض والمعاني والآراء كما قلنا هي الأصل واللغة تبع كمتبوع، وليس ذلك حسب، بل أن النهج والأسلوب والمأخذ والمرمى والمقطع والحد، وكلٌّ يتميز به الكلام الأدبى والنهج الأدبى العام، هو أيضا يتأثر تأثرًا ظاهرًا بينا بالأثر الذي يحدث من جراء الرجفة الحربية التي تزلزل أعصاب المجتمع البشرى في هذه الأيام.
والحرب الحديثة هذه لا تزال قائمة تدمدم دمدمة مفزعة متغولة بالرعب الوحشى الذي يزأر زئيره في ميادين القتال الهائلة، وستستمر كذلك إلى أن يقضى الله قضاءه على هذا العالم الظالم أهله، ولن تضع الحرب أوزارها إلا بعد أن تصفي الأوضار الخبيثة التي تراكم ثقلها (2) على البشرية، وحتى ينهك التعب شياطين الحرب وهي تتداك وتتزاحم إلى أن تسقط إعياء من طول ما طوفت على العقول المختبلة تضع فيها مادتها الشيطانية النارية الملتهبة بالشر والعدوان والبغي والطمع وسائر الرذائل الماحقة التي تعمل في خراب العالم من ناحية، ليقوم العقل البشرى الخالد من ناحية أخرى فيعمره بتوفيق الله وهدايته، واتباع طريقه والتسلم لقضائه، والإيمان بأن منه الرحمة في الخير والشر يداوى بها الكلم الدامى المتفجر حتى يرقأ دمه وتنحسم مادته.
(1) كذا في الأصول، وظنى أن الصواب: يُنْهِبها، وأنهب المال: جعله نهبا لمن يريده أن يأخذه.
(2)
في الأصول: ثغلها، فأثبتُ ما ترى. الثِّقْل: الذَّنْب، وفي التنزيل العزيز {وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ} [العنكبوت: 13] أي: أَوْزارهم وأَوْزار مَن أضلوا.
ومادامت هذه الحرب قائمة على هذا الهول وهذا العنف وذلك الجبروت الطاغى، فنحن لا نستطيع أن نقول كيف هو أثر هذه الحرب بالتحديد في أدب العالم، وذلك لأن تأثير الحرب لن ينتهي الآن لأنه يتجدد في كل يوم بأهواله، بل في كل ساعة بل بين كل دقيقة ودقيقة، والتأثير لا يعرف ولا يتميز إلا بعد أن تمر فترة تكفي على قدرها أن يستوى التأثير على حالة باقية يمكن أن يتصورها العقل أو يُلِمّ بها فيتفهمها، وعلى ذلك فليس من الممكن أن نجد أساسا نقول فيه إنه هو الأساس. ولكن لسنا نشك البتة في أن هذا الانفجار العظيم المتقصف في كل مكان سيجعل في أعصاب العالم كله بعد انقضائه انفجارا يتقصف زمنا بمثل ذلك الهول والفزع، وأن الحياة الاجتماعية في نواحي العالم الحي بعد ذلك ستجد اختلالا هائلا يسمع هده ودويه في كل ثنية من ثنايا الدنيا، وأن كل دار يسكنها حي باق سوف تسمع من أرجائها ضجيجا هائلا يودى بالحياة الاجتماعية السالفة التي تعاقبت على العالم بعد الحرب الماضية، وأن المرأة سوف تستغل لشهواتها هذه الرجولة الظامئة التي أطارت الحرب ريها زمنا طويلا، وأن العالم على ذلك سيجد بلاء جديدا لم يسبق له شبيه في التاريخ الإنساني، وأن الأديب سيعيش في هذا الاجتماع الإنساني العالمى بعد آثار الحرب في نفسه فيرى ويسمع ويحس ويفكر ويتأمل ثم ينتج للأدب إنتاجا جديدًا فيه من ذلك كله آثار تشتعل في نواحيه.
إن الأدب هو تعبير الروح الإنسانية السامية النبيلة، والحرب الحاضرة هي تعبير الروح الإنسانية التي اختبلها مَسٌّ من الشيطان المتدلِّي إلى هوة سحيقة من الغرائز الوضعية، وسنرى -والله يعصمنا ويعصم القارئ، وهو الحافظ- كيف يعبر المعنى السامى حين يهتز بالمعاني الوضيعة، وسنرى أبالسة الأدب ينطلقون في كل فج ومن كل حدب ينسلون على الناس بشهواتهم المتكلمة في شعرهم ونثرهم وأفكارهم المستكلبة. وإنا لا ندرى ما خَبَأَ الله للناس، ولكنا نرجو أن ينجينا الله أن نكون بعض هؤلاء، فإن الرجل -وصدق رسول الله- ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها قيد ذراع، فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها.
وإنما القلوب بين أصبعين من أصابع الرحمن يصرفها كيف شاء! فاللهم اهدنا بهديك واعصمنا، فلا عاصم اليوم من أمر الله.