المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌تاريخ "التذوق" عندي - جمهرة مقالات محمود شاكر - جـ ٢

[محمود شاكر، أبو فهر]

فهرس الكتاب

- ‌الناسخون الماسخون

- ‌إكمال ثلاثة خروم من كتاب التنبيه على أوهام أبي علي في أماليه

- ‌من خط البغدادي *

- ‌مقاليد الكتب

- ‌أدب الجاحظ

- ‌الصاحب بن عباد

- ‌أبو نواس

- ‌ضحى الإسلام

- ‌الشريف الكتانى

- ‌نابغة بني شيبان

- ‌مقاليد الكتب

- ‌1 - كتاب "حافظ وشوقي

- ‌2 - كتاب الرثاء

- ‌3 - كتاب الخط الكوفي *

- ‌4 - صلاح الدين وشوقي *

- ‌5 - كتاب الشخصية *

- ‌6 - كتاب أمير الشعراء شوقي *

- ‌مقاليد الكتب

- ‌حاضر العالم الإسلامي

- ‌ذكرى الشاعرين

- ‌ماضي الحجاز وحاضره

- ‌الوحي المحمدي

- ‌مقاليد الكتب

- ‌1 - ملوك المسلمين المعاصرون ودولهم

- ‌2 - ابن عبد ربه وعقده

- ‌3 - رحلة إلى بلاد المجد المفقود

- ‌4 - تنبيهات اليازجي على محيط البستاني جمعها وحل رموزها

- ‌مقاليد الكتب

- ‌1 - أنتم الشعراء

- ‌2 - تاريخ مصر الإسلامية

- ‌3 - آلاء الرحمن في تفسير القرآن

- ‌مقاليد الكتب

- ‌1 - ابن خلدون: حياته وتراثه الفكرى

- ‌2 - قلب جزيرة العرب

- ‌الينبوع

- ‌النثر الفني في القرن الرابع

- ‌مقاليد الكتب

- ‌1 - ديوان عبد المطلب

- ‌2 - مرشد المتعلم

- ‌3 - مواقف حاسمة في تاريخ الإسلام

- ‌ ملوك الطوائف، ونظرات في تاريخ الإسلام

- ‌الإسلام والحضارة العربية

- ‌وَحْيُ القلم

- ‌علم معاني أصوات الحروف سر من أسرار العربية نرجو أن نصل إلى حقيقته في السليقة العربية (1)

- ‌علم معاني أصوات الحروف سر من أسرار العربية نرجو أن نصل إلى حقيقته في السليقة العربية (2)

- ‌علم معاني أصوات الحروف سر من أسرار العربية نرجو أن نصل إلى حقيقته في السليقة العربية (3)

- ‌عبقرية عمر

- ‌شاعر الحب والفلوات ذو الرُّمَّة- 1

- ‌شاعر الحب والفلوات ذو الرُّمَّة- 2

- ‌شاعر الحب والفلوات ذو الرُّمَّة- 3

- ‌ جمعية الشبان المسلمين

- ‌ تاريخ اليوم الأول

- ‌ دعوة الشباب إلى الجمعية

- ‌ الاجتماع الأول

- ‌ الاجتماع الثاني والثالث

- ‌ انتخاب مجلس الإدارة

- ‌في حلبة الأدب

- ‌كتاب تطور الأساليب النثرية في الأدب العربي

- ‌ عن كتاب تطور الأساليب النثرية" رد على مؤلفه

- ‌ترجمة القرآن وكتاب البخاري

- ‌ترجمة القرآن في صحيح البخاري

- ‌من أين؟ وإلى أين

- ‌لماذا، لماذا

- ‌تهيئة الشرق لوراثة الحضارات والمدنيات

- ‌شكر

- ‌أنا وحدى

- ‌الطريق إلى الأدب- 1

- ‌الطريق إلى الأدب- 2

- ‌فوضى الأدب وأدب الفوضى

- ‌الأدب والحرب

- ‌إلى على ماهر باشا

- ‌لا تبكوا. .! لا تنوحوا

- ‌تجديد التاريخ المصري ساعة واحدة

- ‌أحلام مبعثرة

- ‌أهوال النفس

- ‌وقاحة الأدب أدباء الطابور الخامس

- ‌قلوب جديدة

- ‌القلم المعطَّل

- ‌اللغة والمجتمع

- ‌أوطانَ

- ‌(حول قصيدة القوس العذراء)

- ‌صَدَى النقد طبقات فحول الشعراء رد على نقد

- ‌[الاستعمار البريطاني لمصر]

- ‌المتنبي

- ‌حديث رمضان. عبادة الأحرار

- ‌مع الشيطان الأخرس

- ‌ يحيى حقي صديق الحياة الذي افتقدته

- ‌لا تنسوا

- ‌عدوى وعدوكم واحد

- ‌أندية لا ناد واحد

- ‌لا تخدعونا

- ‌احذروا أعداءكم

- ‌في خدمة الاستعمار

- ‌حكم بلا بينة

- ‌تاريخ بلا إيمان

- ‌المسلمون

- ‌ لا تسبُوا أصحَابي

- ‌طلب الدراهم من الحجارة

- ‌ألسنَةُ المفترين

- ‌جرأة العلماء

- ‌أحمد محمد شاكر إمام المحدّثين

- ‌ قُرَىَ عَرَبِيَّةَ

- ‌كانت الجامعة. . . هي طه حسين

- ‌مواقف

- ‌في الطريق إلى حضارتنا

- ‌الأندلس تاريخ اسم وتطوره

- ‌المتنبي ليتني ما عرفته- 1

- ‌المتنبي ليتني ما عرفته- 2

- ‌القول في "تذوق الشعر

- ‌القول في "الشعر

- ‌القول في "التذوق

- ‌المتنبي ليتني ما عرفته- 3

- ‌تتمة القول في التذوق

- ‌قضية "التذوق" عندي

- ‌تاريخ "التذوق" عندي

- ‌من هؤلاء

- ‌قضية اللغة العربية

- ‌في زمان الغفلة

- ‌هؤلاء الخمسة

- ‌الفقيه الجليل ورموز التكنولوجيا

- ‌النكبات الثلاث

- ‌الجبرتى الكبير

- ‌الألفاظ المكشوفة في هذا الكتاب طبيعية وينبغي ألا يجهلها البشر

- ‌ذكريات مع محبى المخطوطات

- ‌[تعقيب]

- ‌كلام منقول بنصه

- ‌في الطبعة الجديدة "للمتنبى

- ‌ الجيل المفرغ

- ‌كتاب الشعر الجاهلي

- ‌هل يبقى الاتهام

- ‌تهمة أكبر

- ‌ليس شكا أزهريا

الفصل: ‌تاريخ "التذوق" عندي

أول الأمر قلت: "وأنا أخشى أن أقترب من لفظك في زينته، لأنى إن فعلت ذلك، سقطت فجأة في جوف المنطقة الملتهبة، منطقة الجدل والصراع العقلي". لن أفعل، فالأمر كله بعد ذلك إذن مفوض إليك ظلمتَ أو أنصفتَ. وهذا التفويض أقل ما يجب عليّ من حقوق صداقتك لي ومودتك.

* * *

‌تاريخ "التذوق" عندي

أنت متذوق للشعر، وأنا متذوق للشعر، وآلاف مؤلفة من المثقفين وغيرهم، قديما وحديثا متذوقون للشعر، أوه، نسيتُ، وحتى لا أُعَدّ متجنيا أو مقصرا، والدكتور طه حسين أيضًا متذوق للشعر. و"التذوق" عند جميعنا قائم في النفس، ولا يجمع بيننا في الحقيقة إلا هذا اللفظ "التذوق". أما وسائل "التذوق" وأسبابه وطرائقه وأساليبه، فمختلفة بيننا اختلافا يكاد يبلغ من الكثرة عدد المتذوقين. ولا يستطيع أحدنا أن يلزم الآخر بما يجده قائما في نفسه من وسائل "التذوق" وأسبابه وطرائقه وأساليبه. هذا مستحيل إن شاء الله، وكل ما يمكن أن يكون، أن يقع من جميعنا، أو من بعضنا، اتفاق على مظهر أو أكثر من مظاهر "التذوق"، وعلى غير تواطؤ منا أو من بعضنا. أما الاتفاق على طبيعة "التذوق" وعلى وسائله ودرجاته وأبعاده، اتفاقا قاطعا لكل شبهة اختلاف أو تباين أو تضاد، فهذا ما لا يكون البتة. وهذا تفسير آخر يزيد ما قلته قديما وضوحا، إذ قلت في المقالتين السالفتين:"إن التذوق معنى عام مشترك الدلالة بين الناس جميعا، وهو يقل ويكثر، ويعلو ويسفل، ويصقل ويصدأ، ويجود ويفسد، ولكنه حاسة لا غنى عنها للإنسان"(1)، وقلت أيضًا:"إن التذوق لفظ مبهم مجمل الدلالة، ولكل حي عاقل مدرك منه نصيب يقل ويكثر، ويحضر في شيء ويتخلف في غيره، وتصقله الأيام والدربة، وترهنه جودة المعرفة والصبر على الفهم والمجاهدة في حسن الإدراك"(2).

وقد فرغت في المقالة السالفة من الدلالة على أن لفظ "التذوق"، مصدر

(1) انظر ص 1124 من هذا الجزء.

(2)

نفس الجزء ص 1124 - 1125

ص: 1176

دال على حديث (1)(أي فعل) مبهم غير متعين، ولا متميز، قابل للتعدد والاختلاف والتنوع، أي أنه، كما قلت، كسائر أخواته من الأحداث المبهمة، هي ذات نماء سابغ متوهج، وذات غنى مفعم، وذات ثراء مكنوز -وأنها أيضًا ذات خطر مرهوب، لما فيها من قوة غامضة تجعلها قادرة قدرة مطلقة على تضليل السامع والمتكلم. وقد نشأت أنا في زمن كانت فيه هذه اللفظة "التذوق" شائعة كثيرة الاستعمال في الصحف والمجلات، فتَلَقَّنْتها تَلَقنا وأنا في أول الصبا وخفت على اللسان ونشبت فيه كسائر ما نتلقنه مع الصغر. فكان إبهامها وقبولها للتعدد والتنوع بنمائها وغناها وثرائها يثير في النفس لذة ونشوة واهتزازا ونحن نحاول أن "نتذوق" الشعر والنثر، ثم سائر الفنون الدنيا، كالتصوير والموسيقى. ولكن التفكير في حقيقة "التذوق" ما هو، لم يكن داخلا في منطقة الوعى، ولا غائبا أيضًا عن منطقة الوعى. (استطراد: أرجو أن لا تتذكر أن هناك شيئًا حادثا شبيها بهذا في مسألة "غيبة الوعى" و"عودة الوعى"(2)، لأننا هنا نتكلم في فن الأدب والشعر، لا في فن التمثيل والتهريج، وأيضا لأن الله عافانى من أن أسلك نفسي في عقد "الأساتذة الكبار"، فلذلك لم أتعلم هذه الفنون لا صغيرا ولا كبيرا، فليس بيني وبينها عمل. وكذلك لفظ "الوعى" هنا، ليس بينه وبين هذا اللفظ عندهم عمل. لا تنس ذلك أيها العزيز).

فمنذ الآن، سأقص عليك القصة كاملة "قصة التذوق"، لأني رأيتك قد جُرت على فيها جَوْرا ما كان ينبغي أن يكون. جور هو أشد من جورى الذي زعمته على صاحبك الدكتور، سأبين لك تاريخ "التذوق" عندي، وبعض معانيه عندي أيضًا، ومنهجى الذي ملكته وطبقته في جميع ما كتبت. ومن خلال ذلك تعلَم، إن شاء الله، إني لم أظلم الدكتور طه حبة خردل في كل ما كتبته عنه أو وصفته به، بل لعلى أسأت أبلغ الإساءة، حين تغاضيت عن كثير مما كان ينبغي أن أقوله فيه قديما وحديثا.

(1) كذا بالأصول، والصواب: حَدَث.

(2)

يشير الأستاذ شاكر رحمه الله إلى كتابى الأستاذ توفيق الحكيم، غفَر الله له.

ص: 1177

لعلك تذكر أنى قد تحدثت في مقدمة كتابى (المتنبي 1: 11 - 15): وقلت إني حفظت "المعلّقات العشر الجاهلية" صغيرا، وإن معرفتى بها لم تزد قط على أن تكون زيادة في ثروة معرفتى بالعربية وبشعرائها وشعرها = وإن قراءتى بعض أصول كتب الأدب والشعر على الشيخ سيد بن علي المرصفي، شيخى وشيخ الدكتور طه من قبلى، نقلتنى من هذا الطور إلى طور آخر، أوغل بي في الحفاوة بالشعر الجاهلي، وفي الحرص على قراءته وتتبع قواصيه ونوادره = وإن قراءتى على الشيخ أوقفتنى على شيء مهم جدًا، شغلنى، واستولى على لبى وعلى نفسي، فعدت أدراجى أقرأ دواوين الشعراء الجاهليين، ديوانا ديوانا، شاعرا شاعرا، ومن لم أجد له منهم ديوانا جمعت لنفسي ما بقي من شعره وقرأت شعره مجتمعا. وهذا المسلك في ترتيب القراءة، جعلني أجد في الشعر الجاهلي شيئًا لم أكن أجده من قبل وأنا أقرأ الشعر الجاهلي متفرقا على غير نظام، مبعثرا بين الشعراء المختلفين: أو وأنا أحفظ هذه "المعلقات العشر الجاهلية"، وإدراسها (1) معاني ألفاظها، مع اختلاف معانيها وأغراضها". (المتنبي 1: 14). وهذا الذي وجدته فيه فاستولى عليّ، كان يومئذ شيئًا لا أملك التعبير عنه ولا أحسنه، لأنه كان شيئًا غامضا مستبهما يجول في نفسي لا أكاد أتبين معالمه. فلذلك صار أمر التعبير عنه تعبيرا واضحا متعذرًا على كل التعذر وقلت أصف ذلك:"فما هو إلا "التذوق" المحض والإحساس المجرد. وبهذا "التذوق" المتتابع الذي ألفته مرة بعد مرة، صار لكل شعر عندي مذاق وطعم وشذا ورائحة، وصار مذاق الشعر الجاهلي وطعمه ورائحته بينا عندي، بل صار يتميز بعضه من بعضه (2) دالا يدلنى على أصحابه"(المتنبي 1: 15).

وأنا عند هذا الموضع أتلفت إلى الماضي التفاتة لابد منها. حق لازم في عنقى أن أفرد الفضل كله في تنبهي إلى أول الطريق، إلى شيخى سيد بن علي

(1) كذا في أصول مجلة الثقافة، والصواب: وأدارِسها وأتتبع، كما في مقدمة كتاب "المتنبي" 1:14.

(2)

كذا في أصول مجلة الثقافة أيضًا، والصواب: بَعض، بغير هاء.

ص: 1178

المرصفي، فإنه، بعد الله سبحانه، هو الذي هدانى وسدد خطاى على أول الطريق. كانت للشيخ رحمه الله وأثابه عند قراءة الشعر وقفات، يقف على الكلمة، أو على البيت، أو على الأبيات، يعيدها ويرددها، ويشير بيديه وتبرق عيناه، وتضيئ معارف وجهه، ويهتز يمنة ويسرة، ويرفع من قامته مادًا ذراعيه، ملوحا بهما يهم أن يطير، وترى شفتيه والكلمات تخرج من بينهما، تراه كأنه يجد للكلمات في فمه من اللذة والنشوة والحلاوة يفوق كل تصور. كنت أنصت وأصغى وأنظر إليه لا يفارقه نظرى، ويأخذنى عند ذلك ما يأخذنى وأطيل النظر إليه كالمبهوت، لا تكاد عيني تطرف وصوته يتحدر في أقصى أعماق نفسي كأنه وابل منهمر تستطير في نواحيه شقائق برق يومض إيماضا سريعا خفيفا ثاقبا. أيام لم يبق منها إلا هذه الذكرى الخافتة! فإذا كف عن الإنشاد والترنم أقبل يشرح ويبين. ولكن شرحه وتبيينه لهذا الذي حركه كل هذا التحريك، كان دون ما أحسه وأفهمه ويتغلغل في أقاصى نفسي من هيئته وملامحه وهو يترنم بالشعر أو يردد، كان دون ذلك بكثير، وكنت أحس أحيانا بالحيرة والحسرة تترقرق في ألفاظه وهو يشرح ويبين، كأنه كان هو أيضًا يحس بأنه لم يبلغ مبلغا يرضاه في الإبانة عن أسرار هذه الكلمات والأبيات. هكذا كان شأن الشيخ رحمه الله، أي علَّامة ذوَّاقة كان!

هكذا حال الشيخ كان في بيته، وأنا أقرأ عليه الأدب والشعر يومئذ وحدى. أما حاله وهو يلقي دروسه العامة التي يحضرها الجمع من طلبة العلم، والتي كان يحضر أمثالها من قبلنا الدكتور طه قديما فيمن يحضر دروسه في الأزهر، فكان مختلفا كل الاختلاف. كان ملتزما بالجد والوقار يتخللهما دور قليل من مزاح لاذع جارح أحيانا، ولكنه كان لا يقصر في الإبانة والشرح، ولا في التوقف عند الأبيات أو الكلمات الجياد الحسان المحكمة، فهذا موضع الفرق بين الذي أخذته أنا عن الشيخ، والذي أخذه عنه الدكتور طه، وما كان على كل حال بقادر أن يأخذ عنه ما أخذت، فإن الذي أخذته عنه وأحدث في نفسي ما أحدث، لا يبلغ السماع بالأذن منه شيئًا، لأنه وليد المشاهدة والعيان، لا وليد الألفاظ والكلمات! ما علينا أيها العزيز.

ص: 1179

شيئًا فشيئا، منذ تلك الأيام الغوابر، بدأت أحس في الشعر الجاهلي، وفي غير الشعر الجاهلي، شيئًا ينبعث منه، دبيب حركة تترك في نفسي آثارا خفية غريبة. فإذا عدت استبطنه مترنما به، متأملا في طواياه، عاد دبيب الحركة، حركة لا أدري ما هي؟ فهذا هو الذي قلت إنه كان من ديدنى بعد ذلك أن أحدث عنه أساتذتي الكبار الذين خالطهتم وعرفتهم يومئذ وتأخذنى النشوة وأنا أفاوضهم فيما أحس به:"فكان يعرض منهم عني من يعرض. ويربت على خيلاء شبابى من ربت بيد لطيفة حانية"، كما وصفت ذلك في كتابى (المتنبي 1: 12، 15). ومن أغرب ما لقيت من الإعراض عما أقول، إعراض الشيخ المرصفي نفسه عن حديثي مرات، وهو نفسه الذي أثارنى إلى هذا وحركنى هو وحده دون سواه! ولكني لم أكف عن الإلحاح عليه، حتى كانت نهاية إعراضه عني، حين فهم عني ما كان لسانى يعجز عن بيانه وعن التعبير عنه. فإذا هو بعد ذلك راض عني مقبل عليّ، يفيدنى الفوائد، ويسدد لي خطاى في هذا الطريق الوعر المسالك والمضايق، المتشابك المناهج والشعاب. كان هذا أول ممارستى للذى سميته فيما بعد "التذوق"، مكان "الاستبانة"، ولكنها على ذلك كله، كانت ممارسة جاهلة جافية غامضة بلا منهج صحيح آوى إليه وأستعين به. كان ذلك في سنة 1925، وما بعدها.

وبعد سنة دخلت الجامعة، وكان من أمر الدكتور طه وأمرى ما كان، حتى كان اليوم الذي اضطررت فيه اضطرارا أن أقف الموقف الذي دفعت إليه بغتة أجادل الدكتور وأناقشه في "مسألة الشعر الجاهلي"، صارِفا همي كله إلى موضوع "المنهج" و"الشك" وإلى ضرورة قراءة الشعر الجاهلي والأموى والعباسى قراءة "متذوقة" مستوعبة لنستبين الفرق بين الشعر الجاهلي والشعر الإِسلامى، قبل الحكم على الشعر الجاهلي بأنه شعر صنعته الرواة المسلمون في الإِسلام، كما بينت ذلك في كتابى (المتنبي 1: 23) ثم في مقالتي الأولى هنا أيضًا. وفي غضون هذا الموقف المتطاول بيننا حتى فارقت الجامعة. كان اللفظ الناشب في لسانى وفي ألسنة الكُتَّاب، وهو "التذوق" بمعناه المشهور الغامض

ص: 1180

المبهم الدلالة القابل للتنوع والتعدد بلا شيء يعين على تميزه وتعينه -كان هذا اللفظ محور المفاوضة بيني وبينه، كما كان من قبل محور المفاوضة بيني وبين أساتذتى الكبار، على رأسهم شيخى المرصفي، فيعرض عليّ من يعرض، ويربت على خيلاء شبابى من يربت، ولكني كنت في خلال مفاوضتى لجميعهم، أغرق هذا اللفظ إغراقا في أشباه أقولها، هي "وراء التذوق"، بيد أنني كنت لا أحسن العبارة عنها إحسانا يعين عليّ.

وقد حدثت الدكتور طه مرارا، وأنا أجادله يومئذ فأطيل، بالذي كنت أجده في نفسي ولا أحسن العبارة عنه، أي بما هو "وراء التذوق"، فكان يصغى إلى أحيانا كثيرة، ثم ينتهي إلى أن يمصمص بطرفه لسانه، وبزهوه وخيلائه وإفراطه في الإعجاب بنفسه، لا يكون رده عليّ إلَّا سخرية بي وبما أقول. كان زهوه يجعله لا يصبر، فلم يفهم عني مرة واحدة كل الفهم أو بعض الفهم. لم أكن أبالى بسخريته، فقد ألفتها منذ قديم، وألفت استخفافه بالناس جميعًا سوى نفسه، "شِنْشِنَة أَعرِفُها مِن أَخْزم"، كما يقال في المثل، (والشنشنة: الخليقة والسجية المغروزة في الطبيعة). هذا، على أنه كان له يومئذ كل العذر في خيلائه واستخفافه، لأن ذيوع صيته بفعل المعارضة التي لقيها كتابه "في الشعر الجاهلي"، بلغ مبلغا مثيرا، فهو طائر محلق في جو السماء، كل شيء يقع عليه بصره يتضاءل ويصغر، كلما أمعن في العلو والتصعيد وهو معذور أيضًا، لأنه كان يومئذ في الثامنة والثلاثين من عمره، وكان يحس أنه أصبح مشروعا معدا ناضجا، قابلا للتنفيذ، أي هو في طريقه إلى أن ينقلب أستاذا كبيرا، فلابد له من التشبع بسُنن "الأساتذة الكبار" في الزهو والعجب والاستخفاف. ومع الزهو والعجب والخيلاء" لم أجد عنده صبرا أو استجابة، أو محاولة، لفهم ما أقول، كاستجابة المرصفي شيخى وشيخه هو أيضًا. ذهب كل كلام بيني وبينه هذرا باطلا، هكذا ظننت يومئذ! ولكن. . ولكني قد قصصتُ قصة تذكُّره لهذا الحديث البعيد، وظهور أثره فيما كتبه في جريدة الجهاد سنة 1935، حين أحس أن العرش يهتز من تحته، قصصتها في كتابى (المتنبي 1: 41 - 47) وفي مواضع أخرى، ثم ما فوجئ به عند ظهور كتابى عن المتنبي سنة 1936، حيث استبان له أنى

ص: 1181

طبقت في هذا الكتاب منهجا في "تذوق الشعر"، يشبه أن يكون قريبا من شيء سمعه قديما مني، ثم ذهل عنه في غمرة الأحداث والأزمان. ويومئذ بدا له أن يفعل ما فعل، مما قصصته أيضًا في مقدمة كتابى (المتنبي 1: 147 - 158)، وفيه قصة "السطو" كاملة على اختصارها، فإن شئت فأعد قراءتها، فعسى أن تجد فيها شيئًا يزداد وضوحًا بعد هذا الحديث. (انظر أيضًا المقالات في الجزء الثاني من ("المتنبى").

فارقت الجامعة سنة 1928، وانطوى الماضي كله بما فيه، وبمن فيه أيضًا. ذهبت بعيدا وحيدًا لا رفيق لي غير "قضية الشعر الجاهلي"، كما شرحتها لك آنفًا، والتي لم تلبث أن أنشأت لنفسها صاحبة لا تفارقها، هي إعادة النظر في شأن "إعجاز القرآن". كان لفظ "التذوق" فاشيا في الألسنة والأقلام. لا يكاد أحدنا يشك في أنه معنى مفهوم واضح مفروغ منه. ومع الأيام الطوال الموحشة، وشيئا فشيئا، بدأ ما كنت أجده في نفسي عند قراءة الشعر الجاهلي وغير الشعر الجاهلي، والذي سميته لك آنفا "ما وراء التذوق"، والذي كان ما أقوله عنه غير مبين ولا واضح، والذي أنكره على أساتذتى من قبل، ورفضه الدكتور طه رفضا كاملا -أخذ هذا يدفعنى إلى سلوك طريق آخر، يعتمد على جس الكلمات والألفاظ والتراكيب جسا متتابعا بالتأمل، ثم على الرجوع إلى أصولها في المعاجم مع التدقيق في مكنون معانيها المختلفة، ثم في دلالاتها وظلال دلالاتها عند كل شاعر أو كاتب، ثم دخلت في مقارنات كثيرة بين المتشابهات والمتباينات، وشيء كثير بعد ذلك كان يفرض نفسه على طريقي فرضا. يومئذ بدأ لفظ "التذوق"، بمفهومه الذي عهدته، بدأ يتزعزع من حيث نشب من نفسي ومن لسانى، ورأيته لفظا مبهما مجمل الدلالة، لفظ غامض مظلم، مضلل بتعدد صوره واختلافها وتنوعها، ولكني لم أستطع أن أطرق بعيدا، لأن الذي أجده في نفسي مما سميته "ما وراء التذوق"، كان لا يزال صاحب سلطان عليّ مطاع، فكان يقبضنى عن الطيش والمجازفة بطرحه، فبينهما صلة خفية أحسها، وإن كنت غير قادر على تبينها.

ص: 1182

وهذا الذي استولى عليّ وخامرنى في شأن "التذوق"، رماني بغتة في حومة الارتياب وفوجئت بلفظ آخر هو لفظ "البلاغة" الذي يدور عليه القول في "إعجاز القرآن"، والذي يوصف به الكلام فيقال:"كلام بليغ"، فإذا هو أيضًا عندي الآن لفظ مبهم شديد الإبهام ونفرت جهنم، بين شدقيها تريد أن تبتلعنى. ضاقت عليَّ الأرض بما رحبت، بيد أنى كلما أعدت النظر، وجدت "الذوق" حقيقة كامنة في نفسي، ووجدت "البلاغة" أيضًا حقيقة ظاهرة تفرض سلطانها على نفسي، ولكني كلما حاولت أن أعرف لهما بيانا أو حدا، بلغ في الاعياء كل مبلغ. وبدا لي يومئذ أن أعيد قراءة عبد القاهر الجرجانى فيّ كتابيه "أسرار البلاغة" و"دلائل الإعجاز". أكببت على قراءة الكتابين، وبغتة رأيت أو تبيَّنتُ أن عبد القاهر قد وقع في نفس ما وقعت فيه. رأيته قد وقع في الحيرة من لفظ "البلاغة"، ورآه لفظا مبهما شكلا ليس له بيان ولا حد يعين على تصور "البلاغة" ما هي؟ فيومئذ انبعث انبعاثا ليكشف عن إبهام "البلاغة"، فألف كتابه "أسرار البلاغة"، عمد فيه إلى تحليل الألفاظ المتصرفة بأمر المعاني، مبينا عن وجوه حسنها وقبحها، وخطئها وصوابها، وسموها وسقوطها غير مقطوعة عن أصلها في الكلام المؤلف المركب. ثم ألف أيضًا كتابه "دلائل الإعجاز"، عمد فيه إلى تحليل الجمل أي الكلام المركب الذي يحتمل تركيبه آلافا من الوجوه، فكان كتاباه هذان، أول كتابين في "تحليل اللغة" بلغ فيهما غاية قَصَّر عنها كل من جاء بعده، وهذان الكتابان هما أصل "علم البلاغة"، كما سميناه (وسترى ذلك مبينا في كتابى: مداخل إعجاز القرآن) (1).

كان فضل عبد القاهر يومئذ عليَّ فضلا عظيما، لأننى حين فهمت حقيقة الدواعى التي حملته على وضع كتابيه الجليلين، أدركت من فورى أن مسألة "التذوق"، مرتبطة ارتباطا وثيقا بمسألة "البلاغة" في الأمرين جميعًا، في إبهامهما، وفي أنهما حقيقتان متعلقتان بمدارك الفطرة في الإنسان. ولما رأيته قد

(1) نشر بعد وفاته رحمه الله، مطبعة المدني، القاهرة 2002

ص: 1183

استطاع بتحليل الألفاظ والجمل والتراكيب، أن يجعلها تكشف اللثام عن أسرار المعاني القائمة في ضمير منشئها، فأزال إبهام "البلاغة"، ظننت أنه من المستطاع أيضًا بضروب أخرى من تحليل الألفاظ والجمل والتراكيب أن أصل إلى شيء يهدينى إلى كشف اللثام عن أسرار العواطف الكامنة التي كانت في ضمير منشئها، فأزيل إبهام "التذوق". وإذا كان تحليله قد أفضى به أن يجعل نظم "الكلام" دالا على صور قائمة في نفس صاحبها، فعسى أن أجد أيضًا في ضرب أو ضروب من التحليل، ما يفضى بى إلى أن أجعل "الكلام" ونظمه جميعًا دالا على صورة صاحبها نفسه. والتبست على الطرق مرة، واستبانت مرة، ثم بدأت بعد زمن تتضح لي بعض المعالم. وكان مما أعاننى على وضوح هذه المعالم، ما كنت دخلت فيه من قبل، من جس الكلمات والألفاظ والتراكيب جسا متتابعا، إلى آخر ما وصفته آنفا. وعلى الأيام بزغ لي بعض الضياء، وأنارت بعض الشعل، ووضعت لنفسي منهجا، انتهيت إلى أن سميته "التذوق"، كما حدثتك آنفا، وجعلت أمارسه في جميع ما أقرأ من الكلام لا في الشعر وحده والأمر يطول، ولكن هذه خلاصته أكتبها على مشقة.

ولم أجاوز حد تطبيق منهجى هذا في القليل الذي كتبته، مما نشرته وعما سوف أنشره بعد قليل إن شاء الله، ولكنه تطبيق لا أكثر ولا أقل. وما دمنا في حيز التاريخ فسأقفك على كلامين، أحدهما يصف الشعر الجاهلي في أول أمرى حين قرأت كما حدثتك، والآخر يصف الشعر الجاهلي بعد ذلك بزمان طويل، لما كتبت مقدمة كتابى المتنبي 1: 14) في سنة 1977، وضعت قديم إحساسى بالشعر الجاهلي في سنة 1927 وما قبلها فقلت:

1 -

"وجدت يومئذ في الشعر الجاهلي ترجيعا خفيا غامضا كأنه حفيف نسيم، تسمع حسه وهو يتخلل أعواد نبت غميم متكاثف = أو رنين صوت شجى ينتهي إليك من بعيد في سكون ليل داج، وأنت محفوف بفضاء متباعد الأطراف وكان هذا الترجيح الذي آنسته مشتركا بين شعراء الجاهلية الذين قرأت شعرهم، ثم يمتاز شاعر "من شاعر" بجرس ونغمة وشمائل تتهادى فيها ألفاظه، ثم

ص: 1184

يختلف شعر كل شاعر منهم في قصيدة من شعره، وبدندنة تعلو وتخف تبعًا لحركة وجدانه مع كل غرض من أغراضه في هذا الشعر".

هكذا كنت أجد الشعر الجاهلي، قبل أن أنتهي إلى المرحلة التي وجدت عندها منهجا أستطيع أن أعيد عليه قراءة هذا الشعر، وإن كنت قد كتبته بعد انقضاء خمسين سنة. ولكني في سنة 1961، وصفت هذا الشعر نفسه في مقدمة كتاب صديق لي، رحمه الله (1) فقلت:

2 -

ولقد شغلنى "إعجاز القرآن" كما شغل العصر الحديث، ولكن شغلنى أيضًا هذا "الشعر الجاهلي" وشغلنى أصحابه، فأدانى طول الاختبار والامتحان والمدارسة إلى هذا المذهب الذي ذهبت إليه، حتى صار عندي دليلًا كافيا على صحته وثبوته. فأصحابه الذين ذهبوا ودرجوا وتبددت في الثرى أعيانهم، رأيتهم في هذا الشعر أحياءً يغدون ويروحون، رأيت شابهم ينزو به جهله وشيخهم تدلف به حكمته، ورأيت راضيهم يستنير وجهه حتى يشرق وغاضبهم تربد سحنته حتى تظلم، ورأيت الرجل وصديقه، والرجل وصاحبته، والرجل الطريد ليس معه أحد، ورأيت الفارس على جواده، والعادى على رجليه، ورأيت الجماعات في مبداهم ومحضرهم، فسمعت غزل عشاقهم، ودلال فتياتهم، ولاحت لي نيرانهم وهم يصطلون، وسمعت أنين باكيهم وهم للفراق مزمعون .. كل ذلك رأيته وسمعته من خلال ألفاظ هذا الشعر، حتى سمعت في لفظ الشعر همس الهامس، وبحة المستكين وزفرة الواجد، وصرخة الفزع، وحتى مثلوا بشعرهم نصب عيني، كأنى لم أفقدهم طرفة عين، ولم أفقد منازلهم ومعاهدهم، ولم تغب عني مذاهبهم في الأرض، ولا شيء مما أحسوا ووجدوا، ولا مما سمعوا وأدركوا، ولا مما قاسوا وعانوا، ولا خفي عني شيء مما يكون به الحي حيا على هذه الأرض التي بقيت في التاريخ معروفة باسم: جزيرة العرب".

وأظن، أيها العزيز، أنك مستطيع أن تجد الفرق بين هذين النعتين للشعر الجاهلي ظاهرا علانية، وأن أولهما عليه وسم باد يلوح، يدل على أنه نعت من أثر

(1) كتب الأستاذ شاكر هذه المقدمة لكتاب الظاهرة القرآنية، لمالك بن نبي سنة 1958

ص: 1185

"التذوق المحض والإحساس المجرد"، كما قلت آنفا، وأن هذا "التذوق" يومئذ كان تذوقا ساذجا بلا منهج، كالذي هو ناشب في الألسنة وأقلام الكتاب المحدثين .. وأن ثانيهما عليه سمة واضحة تدل على أنه نعت من أثر "التذوق" أيضًا، ولكنه تذوق له معنى آخر غير المعنى المألوف، وأنه "تذوق" قائم على منهج مرسوم، له أسلوب آخر في استبطان الأحرف والكلمات والجمل والتراكيب والمعاني، ثم في استدراجها ومماسحتها وملاطفتها ومداورتها حتى تبوح لنا بدخائل منشئيها ومخبآت صدورهم، بل حتى تكشف اللثام عن صورهم وملامحهم ومعارف وجوههم سافرة بلا نقاب. أظنه فرقا ظاهرا بين نعتين، في زمنين متباعدين، لكل زمن منهما طبيعة تميزه عن الزمن الآخر. أليس كذلك؟

ولمجرد الحذر مما يخاف على الحديث إذا هو اختلف سياقه وتباعدت أطرافه، فيصبح عندئذ مهددا بأن تخفي أسباب التشابك بين معانيه، أو متوعدا بأن تتهتك أو تسقط بعض الروابط الجامعة بين أوصاله فيتفكك أو ينتشر، أحب أن أختصر لك مجمل حديثي في نظام واحد، متدانى الأطراف محذوف الفضول. فهذه القوة المركبة الكامنة في بناء الإنسان، والتي سميتها "القدرة على البيان"، مندمجة اندماجا لا انفصام له في حلقة مفرغة مكونة منها ومن العقل والنفس والقلب. ولها في هذه الحلقة عملان متداخلان لا ينفصلان هما:"الإبانة" و"الاستبانة" و"الإبانة" هي قدرتها على إنشاء "الكلام" وتركيبه، بليغا كان أو غير بليغ. و"الاستبانة" هي قدرتها على تفلية "الكلام" وجسه والتدسس في طواياه، وحين تتلقاه من خارج، بليغا كان "الكلام" أو غير بليغ. وهذه "الاستبانة" بجملتها هي التي سميتها "التذوق".

وكلامى، خفت، يوشك أن يوهم أن "التذوق" عمل آخر مستقل من أعمال هذه القدوة، مقصور على استبانة دفائن الكلام الدالة على آثار العواطف والنوازع والطبائع الناشبة فيه، وعلى التقاط الملامح العالقة التي يمكن بالملاطفة أن تحسر اللثام عن بعض معارف ضمير منشئها وصورته وهيئته، وخفت أيضًا أن

ص: 1186

يظن ظان أن هذا عمل آخر هو غير عملها في استبانة صور المعاني القائمة التي كانت في نفس منشئها، والتي هي في الحقيقة ما نسميه "البلاغة". وخفت أيضًا أن يتوهم متوهم أن أحد العملين ممكن أن يتم بمعزل عن العمل الآخر. ليس كل ذلك صحيحا أو ممكنا، لأن صاحب "الإبانة" و"الاستبانة" واحد غير قابل للتجزئة، وهو "القدرة على البيان" ولأن طلب "الاستبانة" لجميع ما تطلبه في "الكلام" المتلقى من خارج متداخل ممتزج في حيز واحد هو نفس "الكلام" المتلقى من خارج، ولأن جميع ذلك حدث واحد متلازم أيضًا في زمن واحد مختطف متلاحق لا يمكن تثبيته أو تقسيمه. وإذن، فهو على التحقيق عمل واحد خاطف لا يتجزأ، وإنما نحن الذين نتولى الفصل بين شيء منه وشيء بعد تمام العمل الواحد جميعه، على قدر ما عندنا من الرغبة وتوجيه العناية إلى إبراز شيء منه دون شيء.

وأظنه صار قريبا ممكنا أن نتخطى كلاما كثيرا ونفضى إلى نتيجة موجزة، هي أن "التذوق" يقع وقوعا واحدا، في زمن واحد، على كل "كلام"، بليغا كان أو غير بليغ. ثم يفصل عن "الكلام" ومعه خليط "واحد" ممزوج متشابك غير متميز بعضه من بعض. وفي هذا الخليط أهم عنصرين.

العنصر الأول: ما استخرجه "التذوق" من العلائق الباطنة الخفية الناشبة في أنفس الأحرف والكلمات والجمل والتراكيب والمعاني. وهذا في جملته يجعلنا قادرين على أن نستخلص منه ما يحدد بعض الصفات المميزة التي تدل على طبيعة منشيء الكلام، أي على بعض ما يتميز به من الطبائع والشمائل، أو ما شئت من هذا الباب.

والعنصر الثاني: ما استخرجه "التذوق" من العلائق الظاهرة بين أنفس الأحرف والكلمات والجمل والتراكيب والمعاني، وهذا في جملته يجعلنا قادرين على أن نستخلص منه ما يحدد بعض الصفات المميزة التي تدل على طبيعة الكلام نفسه، أي على ما يتميز به من "السذاجة" و"البلاغة" أو ما شئت من هذا الباب.

ص: 1187

والإحساس بهذين العنصرين الخليطين إحساس سريع، خاطف، ناقد، لطيف، دقيق، دفين، قائم في النفس لأول وهلة عند سماع كل كلام أو قراءته، من العسير عليّ أن أتقصاه هنا أو أعبر عنه تعبيرا واضحا في كلمات قلائل، ولكن كل أحد قادر على تبينه بالأناة والتوقف. وبالتأمل والدربة، فيما أظن. ولكنه على كل حال، إحساس خفي مكنون مقنع بقناع من الكتمان. يحتاج إلى ما يهتك عنه هذا القناع حتى يسفر ويستبين وينجلى، ثمَّ يبوح بما عنده.

ولكن ليس أمر "التذوق"، في الحقيقة، محفوفا بمثل هذه القسوة والصرامة التي ألجأتنى إليها طبيعة حديثي عنه، وطبيعة اللغة التي تجعلنا "اضطرارا" أن نجسد ما لا يتجسد. فما من إنسان حي عاقل مدرك، صغير أو كبير، جاهل أو عالم، قَل علمه أو كثر، إلا و"التذوق" حاضر في دخيلته حضورا ما، لأنه "إنسان" قد أودع الله في بنائه هذه الأعجوبة النفيسة الغالية التي صار بها إنسانا، وهي "القدرة على البيان". فهو، إذن على هذا "التذوق"، لأنه ما من شيء يسمعه أو يبصره أو يحسه أو يذوقه، أو يتوهمه أيضًا، إلَّا وهو محتاج فيه إلى "القدرة على البيان" بعمليها في "الإبانة" و"الاستبانة" أي "التذوق"، لأنه غير قادر على إدراك أي معنى أو تصوره، إلا عن طريق هذه القدرة وأدائها لعمليها أداء ما فالتذوق إذن، ضرورة لكل حي منا، منذ يولد إلى أن ينقطع أجله على هذه الأرض.

وهذا الإلف الطويل لقيام "التذوق" فيه وأدائه لعمليه، منذ يولد إلى أن يكبر ويعقل يؤهله، بلا وعى منه حاضر فريد واضح الإرادة، أن يكتسب قدرة على سرعة استخلاص قدر لا بأس به من هذا الخليط الذي امتزج فيه العنصران جميعًا، وعندئذ، ولأول وهلة، ينفصل شيء بعد شيء من هذا الخليط وكأنه انفصل من تلقاء نفسه، ويبرز للمرء واضحًا جليا، ولا يحس البتة أنه بذل في تبينه جهدا أو تعمد بذله. وهذا هو "التذوق" الساذج الذي لم يتم عن منهج مرسوم أو قصد أو عناية. ولكن يبقى في الخليط الممزوج من العنصرين بعد ذلك شيء "كثير"، يحتاج إلى منهج وقصد وعناية أي يحتاج إلى إرادة واضحة، وإلى تنبه وبصر،

ص: 1188

وإلى حرص على تمييز شيء من شيء، وإلى عناية متوجهة إلى غرض واحد أو أغراض متنوعة. وهذا غير ممكن أن يتم من تلقاء نفسه على وجه صحيح، ولا أن يتم كله دفعة واحدة. ويحتاج أيضًا إلى ترديد الكلام وترجيعه، وإلى إعادة النظر فيه مرة بعد مرة بعد مرة، وإلى التقاط شيء من هذا الخليط، وإلى فصل بعض من بعض، وإلى ضم شكل إلى شكل، وإلى ملاحظة الفروق بين المتشابهين أحيانا، أو تحديد ضرب من التشابه بين غير المتشابهين ظاهر أحيانا أخرى. وأشياء أخرى كثيرة لا يضبطها إلا المنهج والقصد والعناية.

وهذا الذي وصفت هو "التذوق" بعنصريه "التذوق" الواقع على طبيعة الكلام نفسه، أي على ما يتميز به من "السذاجة" أو "البلاغة" أو ما شئت من هذا الباب، والذي كان مبهما كل الإبهام، فجاء عبد القاهر الجرجانى فألف كتابين:"أسرار البلاغة" و"دلائل الإعجاز"، ليزيل الإبهام عن لفظ "البلاغة": أي عن أحد عنصرى "التذوق"، وهو نفسه "التذوق" الواقع على طبيعة منشيء الكلام، أي على بعض ما يتميز به من الطبائع والشمائل أو ما شئت من هذا الباب، وهذا العنصر الثاني هو الذي حاولت جاهدا أن ألتمس لنفسي طريقا إلى إزالة إبهامه، فإن أنا قد وفقت فيه إلى بعض الصواب، فبفضل الله وتسديده، وإن أكُ قد أخطأت الطريق وأسأت، فأسأل المغفرة واسع المغفرة سبحانه.

ص: 1189