الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
إلى على ماهر باشا
هل يأذن لي -صاحب الرفعة- أن أنتحل لنفسي صفة الأديب الذي يريد أن يتكلم بلسان مصر الخالدة التي أرسلت أجيالها تطل علينا من لدن عصر التاريخ الأول إلى القريب القريب ممن توفاه الله من آبائها وأبنائها؟
إنني لن أنتحل بهذا شيئا ليس لي، فإن الأدب الذي وقفت نفسي عليه هو نفسه ليس إلا تعبير الوطن كله بأرضه وسمائه وسكانه بألفاظه من اللغة على لسان رجل واحد، فما ينكر أحد على أديب مجهول مثلي -يجد في دمه تلك الأمواج الثائرة المتدفقة، وهي تتدافع في بنيانه تيارا من الإحساس- أن يطلب بألفاظه التعبير عن حقيقة هذا التيار تعبيرا صريحا يدل بروحه على أن الغفلة المظلمة لم تطبق دياجيها على القلب المصري الحر بعد.
حين بدأ الموقف المصري السياسي يرسل تلك الرعدة النافضة في أعصاب الوطن المستيقظ، بادرت فكتبت كلمة كنت أجد ألفاظها جائلة تدور في نفسي. كان الموقف غامضا، ولكني كنت أجد الهواء ينشق عن رائحة الفجر ويترقرق بأنواره فعلمت ساعتئذ بعض واجبي، فسارعت إليه. فلما قرأت اليوم ذلك البيان الفاصل الذي فرق بين الحق والباطل جعلت أستعيده مرات. ثم قلت لنفسي:"ويحك يا نفس! أي رجل هذا الذي أشرق من قلبه النور الخالد الذي أضاء لمصر وللعالم الإسلامي طريقا سوداء داجية"، وعندئذ علمت من واجبي بعضًا آخر.
إن مصر قد لقيت في هذا القرن من أحداث الدهر ما لا طاقة لوطني بالصبر على لأوائه وشدته، فقد قامت جماعات أريد لها يوما أن تنصب أنفسها كالأعلام الشامخة في تاريخ مصر، فكان ذلك. ومع ذلك فإن القلب المصري الذي لا يندفع وراء صوت الناعق، قد وجد هؤلاء -حين استوى لهم الأمر- قد أفرغوا
(*) الدستور -السنة الثالثة- العدد 778، الأربعاء 20 جمادى الأولى سنة 1359 - 26 يونيو سنة 1940، ص 1.
على شعلة الوطن التي أوقدتها قلوب أبنائه ذَنوبا (1) من ماء، فأطفأوا نورًا ونارًا - لو هما بقيا واستمرا إلى غاية، لأضاءا للتاريخ المصري الحديث مرتقاه إلى الذروة.
ولكن لا يخذل الله إلا هالكا، فاصطفاك الله لمصر في أيام من المحن، فما ندرى! !
لقد كانت مصر تجهل أن هذا الرجل الذي استطاع أن يلم شعث الوطن في أيام عاصفة، هو الرجل نفسه الذي سيكون عمله فيما بعد تعبيرًا عن روح النار المصرية الخالدة التي تأبى أن تنطفيء. نعم، لقد وقفت اليوم على قمة المجد الوطنى تكشف الحجاب عن ذلك المارد العاتى الذي جعل همه أن يغرر غرره بالوطن المصري، فنزعت من قلبك الرهبة، وسموت بروحك عن حاجة البدن وضرورة المادة، فتوهج بك النبراس المنير الذي سيضئ لمصر مرة أخرى -بعد مصطفى كامل- طريقها إلى معراج مجدها الخالد الذي لا يتهدم.
أبشر أيها الرجل المبارك! ! ! إن هذه القلوب المصرية المشعلة قد جعلت تسمع معمعة نيرانها تتردد في أرجاء الوطن قاصيها ودانيها. وإن الجرأة الكامنة في ضلوع هذا الشعب قد وجدت تعبيرها في مثال روحي سام نبيل، فهي تمد بقوتها وتستمد منه استمرارها ودوامها، ليس في مصر اليوم إلا أمة على قلب رجل واحد، اجتمعت على معرفة الحقيقة التي أحاطت بها، فهي لن تتوانى ساعة من نهار في إعلان حقيقتها هي. تلك هي الحقيقة التاريخية الخالدة في بلاد الشرق حقيقة الروح الباقية بإيمانها، بعد أن ينضم الثرى على رمَّة ورُفاتها.
إن الأسد لا يعرف من معاني وجوده إلا معنى واحدا: هو معنى العظمة الباذخة تستعلن بخيلائها من عضله إلى لبدته، وتتجلى بتيهها من نظراته إلى مشيته، لأنه هو قوة تفرض سلطانها بنفسها، وهو متبوع لا تابع، وهو صرامة
(1) الذَّنُوب: الدلو المَلأَى، ولا يُقال لها وهي فارغة: ذَنُوب.
ماضية تلطم فتحطم، وما يؤذيه أو يضره أن يصاب خيانة أو غدرا. فإذا لاقاه من يلاقيه عيانا، فالأسد الأسد، لا يفر ولا ينهزم.
وقد مد الله لك صحيفة بيضاء في عهد الفاروق، فاكتب فيها تاريخك المجيد الحي في المحاماة عن هذه الأرض التي حملتك صغيرا، ورعتك شابا، وعظمتك كبيرًا. اكتب تاريخك، وسيكون توقيع الأمة كلها شهادة على أن مصر تستطيع أن تلد أبناءها أحرارًا، لا يستذل أعناقهم خوف ولا حرص ولا طمع وسيكون توقيع الأمة عملا مجيدًا لعملك وصرامة ماضية كصرامتك، وجرأة تتحفز كجرأتك.
إن الله قد أعطاك سَورة من عز مصر، وعز العرب، وعز الإسلام، فاعمل على ألا يراك الله إلا بحيث أحبَّ، فإنه تعالى يقول:
إن مصر قد أعدت لك قلوبها، فانزل منها حيث شئت، ومن أنكر عليك موضعك فما ينكر إلا نفسه، ومن أغمض (1) في ضلاله فدعه، فقديمًا قالوا:"خرقاء وجدت صوفا"(2) فهي تفسده بحماقتها، وسيأتي على الناس يوم تعلم فيه الشاة علما ليس بالظن: أنها إن تك بقرنيها تناطح، فمن قرنيها تصرع، ويومئذ لا يغني عنها علمها شيئا. فاللهم ادفع عنا وانصرنا، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
(1) أغمض في الأمر: مضى فيه ولجَّ.
(2)
مثل يضرب للذي يُفْسِد ماله.