الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المتنبي ليتني ما عرفته
- 1
-
أخي الدكتور عبد العزيز الدسوقى
. . . . وبعد، فكاذب أنا إن قلت لك أن ثناءك على لم يهزنى، فأنا كأنت وكهو وكهي، كلنا مما يغره الثناء، أو تأخذه عنده أريحية وابتهاج أو تغمره فيه نشوة ولذة. ولكن غرورى وأريحيتى وابتهاجى ونشوتى ولذتى، سرعان ما تنقلب علي غما لا أجد متنفسا يفرج عني لأنى أعلم من حقيقة نفسي ما يجعلني دون كل ثناء وإن قل، أعلمه عيانا حيث لا يملك المثنى علي أن يراه عيانا كما أراه. وليت شعرى، أكان شيخ المعرة صادقا حيث يقول عن نفسه.
إذا أَثْنَى على المرءُ يوما
…
بخير ليس فيَّ فذاك هاجِ
وحقى أن أُساءَ بما افتراه
…
فلؤمٌ في غريزتىَ ابتهاجِى
وعسى أن يكون الشيخ قد صدق عن نفسه بعض الصدق. لقد عد ثناء المثنى عليه بما ليس فيه افتراء، ثم أقر مع ذلك أنه يبتهج لما افتراه وكان حقه أن يستاء، لولا لؤم الغريزة. فمعنى هذا إذن: أن الشيخ كان إذا جاءه ثناء عليه بما هو فيه، فإنه يبتهج له، ولا يعد ابتهاجه هذا لؤما في غريزته. أما أنا فأعد ابتهاجى بالثناء على بما هو في وبما ليس فيَّ، لؤما في الغريزة لأنى أعلم أن الذي فيَّ من الخير مغمور في بحر طام من النقيصة والعيب. ومع ذلك، فأنا أشكر لك ثناءك، لأن الشكر واجب لا مصرف عنه. وترك الشكر لؤم آخر في الغريزة.
أشكره لك لأنك بثنائك على، ذكرتنى عيبى وتقصيري ونقيصتى لأستغفر الله وأتوب إليه هذه هي الأولى.
أما الثانية: فإني وجدتك في مواضع متفرقة من كلامك في شأن كتابي وكتاب الدكتور طه عن المتنبي تكثر من أن تتنصل من إرادة إغضابى أو إرادة
(*) الثقافة، السنة الخامسة - العدد 60، سبتمبر 1978 ص 4 - 19
إساءتى. فمن الذي أنبأك أيها العزيز الكريم أنى أعد الذي يظهرنى على أخطائى، أو الذي لا يعجبه ما أكتب، مريدا لإساءتى، مثيرا لغضبى، طالبا للغض مني أو من كتابي؟ من أنبأك هذا، حتى تبالغ في التنصل من اعتماده، وفي البراءة من إرادته؟ لقد قدمت بين يدي كتابى عن المتنبي قصة هذا الكتاب. وبينت أنها:"لمحة من فساد حياتنا الأدبية". فكان مما أشرت إليه أنه كان من عادة "الأساتذة الكبار"، وهي عادة بثت في حياتنا الأدبية إلى هذا اليوم فسادا ساحقا: أنهم كانوا يخطئون في العلن. ويتبرأون من أخطائهم في السر. (المتنبي 1: 42). وأشرت أيضا إلى أنهم كانوا لا يصبرون على من يدلهم على الخطأ، ويستنكفون كبرا أن يؤوبوا إلى الصواب. ثم أزيدك الآن أيضا: أنهم كانوا لا يتورعون عن الإيقاع بمن يدلهم على الخطأ، ويتعقبونه بالأذى من وراء حجاب: ومَنْ طلب الأمثلة على هذا وجدها على مَدّ يده!
بيد أنى، من يوم عقلت أمر نفسي، قد أنكرت جميع السنن التي سنها "الأساتذة الكبار"، أنكرتها كفاحا ومواجهة وبلا مواربة. فبئس المرء أنا إذن، إذا أنا أنكرت سنة كريهة ثم ركبتها! كانوا، رحمهم الله جميعا، لا يحبون إلا الثناء المحض المصفّى الخالص من كل شائبة. فإذا جاءهم غير ما يحبون، تنمَّروا لمن أتاهم به تنمُّرَ من لا بيت على دِمنة - (والدمنة: الحقد الدفين المضمر الملتهب بالغيظ). وهم يتخلّقون، في غير موضع التخلُّق، بما قاله بشار الأعمى في صفة عمر بن العلاء، فاتح طبرستان في عهد الخليفة أبي جعفر المنصور. وكان عمر قبل ذلك جزارا، ولم تعبه الجزارة، بل كانت له أسوة حسنة بفاتح مصر عمرو بن العاص رضي الله عنه فإنهم يزعمون أنه كان جزارا في الجاهلية، قبل أن يسلم. قاتل عمر بن العلاء الديلم قتالا مريرًا حتى كسر شوكتهم وأخضعهم، فلذلك ولاه المنصور ثم المهدي من بعده، طبرستان مرات، منذ سنة 141 من الهجرة إلى سنة 167، كان عمر عاقلا داهية جوادا شجاعا شديد البأس، فقال بشار للخليفة في شأنه:
فقلْ للخليفة إن جئته
…
نَصيحا ولا خير في مُتَّهَمْ
إذا أيقظتْكَ حروبُ العِدَى
…
فنَبهْ لها عُمَرًا، ثم نَم
فتى لا يبيِتُ على دمنة
…
ولا يشربُ الماء إلا بِدَمْ!
"لا يشرب الماء إلا بدم"، هذه حقيقة أخرى أيضا، تستطيع أن تجد عليها الدلائل الكثيرة في تاريخ صراع "الأساتذة الكبار". فالأمر كما ترى تخلُّق منهم بما قال بشار، ولكنه تخلُّق في غير موضع التخلُّق. ولا تحسبنى أريد بهذا الاستطراد أن أبشع إليك "أمر""الأساتذة الكبار" تبشيعا أو أنفرك منهم تنفيرا لا! ليس يعنينى أن تستبشع أو تستسيغ، ولكني أعبر عن نفسي، ثم أقول لك: إني شهدت فأجفلتُ، فعرَفت، ففزِعتُ، فهالنى الأمر، فأنكرتُ .. أنكرت جميع هذه السنن التي كانوا يسنونها لنا في حياتنا الأدبية.
فمن أجل ذلك أجدنى لا أغضب إذا دلنى أحد على خطأ قارفته، ولا أستنكف أن أعترف بخطأ ارتكبته، ولا أستتر من عيب اجترحته. ولا يسوؤنى أن ينقدنى ناقد ظالمًا أو غير ظالم، ولا أعده غضًّا لشأنى ولا وضيعة تحط مني أن يقول قارئ أو كاتب أو ناقد جهارا وعلانية ووجها لوجه: إن كتابى لا يعجبه، أو إنه كتاب لا قيمة له. لم أكتب شيئا قط، وأنا أتلفت يمينا وشمالا، أراقب ما يُعقِبه على كلامي من رضى أو سخط ولم أخط حرفا إلا وأنا على ثقة ويقين من أن الناس مختلفون فيه لا محالة بين قادح ظالم، وبين مادح ظالم يظلمني ويظلم نفسه بالغلو في الثناء. واعلم إذن، إن كنت لا تعلم، أن أحب الأمرين إليّ: أن تنقدنى مخالفا لي، أو مظهرا لخطأ كان مني، أو دالا لي على طريق جُرْت عنه غرورا بنفسي أو اتباعا لهواى. ثم اعلم بعد ذلك أيضا أنى لا أبيت ليلة طاويا ضلوعى على حفيظة تؤرقنى، من إساءة أحد يسئ إلي متعمدا أو غير متعمد.
هكذا كنت، وهكذا كانت سيرتى، ولا ينبغي لي غير ذلك، لأنى منذ قديم، منذ ريعان شبابي، أنكرت سنة "الأساتذة الكبار" وكرهتها مستبشعا لها، كراهة لم تزل قائمة في نفسي، وإن قصر قلمي، أو تورع، في الدلالة على خبثها وبشاعتها وعلى فسادها أيضًا وإفسادها للناس
لن تستقيم لنا حياة أدبية، ولن تصح، ولن يرجى لها صلاح حتى تقوم على قواعد راسخة ثابتة من طلب الحق صرفا، ثم الإبانة عن الحق بلا مداجاة، ثم الإفصاح عن حقيقة ما في النفس بلا مواربة، بلا تخوف، بلا ترقب. القائل بالحق لا يحتاج إلى التنصل من إرادة الإساءة. فإن المخطئ مخطئ وإن جل شأنه، والمصيب مصيب وإن خفي في الناس مكانه، هذه هي الثانية.
أما الثالثة: فجملة قرأتها في كلمتك الثالثة، (الثقافة: مارس 1978)، حيث تقول:"إنه لشيء محزن أن يصل (اللدد في الخصومة) حدا يجعلنا نسلب طه حسين أخص خصائصه، ونتجاهل أجمل قدراته، ونصفه بأنه (رجل جاهل)، (ليس له بصر بتذوق الشعر) ". هذا النص كلامك. شيء محزن حقا، ولكن هل هذا صحيح؟
ذكر خبر الخصومة
أنت بلا شك تعنينى، وتعني أنى فعلت ذلك وقلته: فهل تأذن لي أن أقف على كلماتك هذه وقفة، لا يحبسنى عليها ولع بجدل أحسنه، أو صراع عقلي أجيده، كما وصفتني، لا، بل تجلية للحقيقة كما كانت، وكما جاءت في كل ما كتبته قديما وحديثا وذكرت فيه الدكتور طه وهذا لا يضيرك، ولا يفيد أحدا إن شاء الله، وإن كنت أعده مملا! !
ذكرتَ "اللدد في الخصومة" بيني وبين الدكتور طه، ورتبتَ عليه ما رتبتَ، فأحب أن تعلم، قبل كل شيء، إنه لم تكن بيني وبينه (خصومة) قط، حتى يكون فيها (لدد) وأنت الآن تضطرنى الى تعقب هذه (الخصومة) من عند جذورها الأولى، الى أن كتبت كتابى عن المتنبي، ثم ما كان بعد ذلك بيننا إلى أن قضى الدكتور طه نحبه. وهذا الذي ألجأتنى إليه، يقتضينى أن أتحدث عن نفسي ويقتضينى مرة أخرى أن أعيد ما استفتحت به "قصة هذا الكتاب" حيث قلت (المتنبي 1: 10، 11):
"الحديث عن النفس شيء أكرهه، ولكنه يكون أحيانا ضرورة لا غنى عنها. فالجيل الذي يستقبل اليوم هذا الكتاب، لم يشهد تلك الأيام الغابرة، ولا يعلم
عنها علما يغنى أو يفيد. بل لعله يعلم عن هذا الغابر أشياء قليلة، على غير الوجه الصحيح الذي كانت عليه، وإنما اكتسبها الجيل الحاضر من الثرثرة التي تنشر أحيانا في بعض الصحف والمجلات. وقد التزمت في هذا الحديث أن أقص ما لا مناص منه: على الوجه الذي كان، بلا إخفاء للحقائق التي وقفت عليها يومئذ، لأنها هي التي أثرت فيما أكتب، وهي التي كونت رأيي في الجيل الذي عاصرته، وفي آثار هذا الجيل في الأجيال التي جاءت معه أو بعده، متأثرة به أو وارثة له". هذا ما قلته وما فعلته، وكذلك أنا فاعل الآن:
عرفت الدكتور طه عن قرب، وهو يكتب بحديث الأربعاء في صحيفة السياسة (سنة 1923، 1924) وذلك قبل أن أفارق المدارس الثانوية، واحدة. ثم فارقتها، عند أول إنشاء الجامعة، فكانت له عندي يد لا تنسى يوم تقدمت إلى الجامعة أحمل شهادة (البكالوريا) من القسم العلمي، لألتحق بكلية الآداب، قسم اللغة العربية، وبإصراره هو استطاع أن يحطم إصرار مدير الجامعة يومئذ أو أحمد لطفي السيد الذي كان، كعادته، ملتزما بظاهر الألفاظ ويرى أن لا حَقَّ لحامل بكالوريا القسم العلمي في الالتحاق بالقسم الأدبى، فبفضل الدكتور طه صرت طالبا عنده في قسم اللغة العربية بالجامعة، ثانية. وكان الدكتور طه في السابعة والثلاثين من عمره، وأنا في السابعة عشرة من عمرى، فهو بمنزلة أخي الأكبر، وكان توقير السن، فيما مضى من زمننا نحن، أدبا نرتضعه مع لبان الطفولة، ثالثة. ثم عرفت الدكتور طه عن قرب أشد قرب، كنت طالبا، وكان أستاذا، وكانت هيبة الأستاذية وتوقيرها أدبا ننشأ عليه منذ نعومة أظفارنا، رابعة. وقصصت القصة كلها واضحة في كتابي (المتنبي 1: 17 - 26)، ولكن كلمتك التي كتبتها، تضطرنى الآن أن أرجع على نفسي باللائمة. لعلى أسأت العبارة عما أريد. لعلى أوقعت في سياق القصة خللا مضللا. لعلى أجملت حيث كان ينبغي التفصيل. فهل تأذن لي أيها العزيز، أن أجعل القصة أشد وضوحا؟
منذ بدأ الدكتور طه محاضراته في الجامعة، في شأن الشعر الجاهلى، إلى أن
انتهى منها، نشأت عندى أنا قضيتان: وأرجو أن تقرأ هذا بشيء من التدقيق، ومعذرة أيضا من هذا التوسل:
القضية الأولى
القضية الأولى: "قضية الشعر الجاهلى": وهي قضية قد أكثرت من ترديد ذكرها في مواضع مختلفات في أكثر ما أكتب، لأنها هي القضية التي أحدثت في حياتي، وفي طلبى للعلم، تغييرا حاسما، فيما بعد سنة 1926، وأنا يومئذ في السابعة عشرة من عمرى. وهي بلا شك، مرتبطة ارتباطا ما بالدكتور طه، وبسماعى محاضراته في الشعر الجاهلى، وأظن أن هذا "الارتباط"، وخاصة بعد أن قطعت دراستى في الجامعة فجأة، هو الذي أوهم أنه كانت بينى وبين الدكتور طه (خصومة)، ظلت تنسحب، عند كثير من الناس، على كل ما أكتبه وأذكر فيه الدكتور طه. وليس هذا بصحيح البتة، لأن "قضية الشعر الجاهلى" كانت، ولم تزل إلى اليوم، "هي قضيتي أنا وحدي، بيني وبين نفسي، ليس لأحد فيها ذنب ولا جريرة. ومن أجل ذلك لم أكد أفرغ من قصتى في الجامعة، ومن قصة انقطاعى عن الجامعة وفراقها بعد سنتين، (المتنبي 1: 9 - 36)، حتى قلت بعد ذلك مباشرة في أول ص: 27:
"ومرت بي الأيام والليالى والسنون، ما بين سنة 1928 وسنة 1936، التي كتبت فيها هذا الكتاب "المتنبي"، وهمى مصروف أكثره إِلى قضية الشعر الجاهلى إِلى طلب اليقين فيها لنفسي، لا لمعارضة أحد من الناس (وأعني الدكتور طه بلا شك)، مشت بي هذه القضية في رحلة طويلة شاقة، ودخلت بي في دروب وعرة شائكة، وكلما أوغلت انكشفت عني غشاوة من العمى".
ثم عدت فذكرتها في كتابى مرة أخرى زدتها وضوحا فقلت: ". . وفي خلال ذلك، لم يكن لي مطلب سوى مطلب واحد: أن أجد برد اليقين في نفسي، في شأن "الشعر الجاهلى". وفي شأن ما نسميه "إعجاز القرآن"، (المتنبي 1: 47، 48).
ثم عدت فذكرتها ونكرت فراقى للجامعة، وذكرت ما كان من سبب طلبى
للعزلة فقلت: ". . . حتى أستبين وجه الحق في "قضية الشعر الجاهلي": بعد أن صارت عندى قضية متشعبة كل التشعب"، (المتنبي 1: 24).
فالأمر إذن، كما ترى بين جدا. "قضية الشعر الجاهلي"، هي قضيتى أنا وحدي. ومعناها عندي معنى قائم في نفسي أنا وحدي. ومهما يكن من شأن المآزق المهلكة، والمتالف المبيرة التي لم أنج من شرها وعقابيلها إلا بتوفيق من الله وحده وعصمته، فأنا وحدي أشقيت نفسي بها، ولم يكن للدكتور طه فيها جريرة، ولا كان له فيها ذنب جناه على حتى أخاصمه على هذه الجناية.
أما الذي قلت لك من أن للدكتور طه بهذه القضية "ارتباطا ما": فسأبينَه، لأزيل الضباب الذي يخلط بين معنيين متباينين، ولتعَلم أيضا أن هذا الارتباط لا يمكن أن يكون سببا في (خصومة)، ولا كان فيه ظل من (خصومة)، مع أنى أظنه كان واضحا في مقدمة كتابي "المتنبي". ما علينا أيها العزيز.
الأمر وما فيه هو أن الدكتور طه أراد أن يثيرنا نحن طلبة الجامعة يومئذ، بمسألة غربية، هي "مسألة الشعر الجاهلي". وهذه "المسألة" من حيث هي مسألة شك في صحة الشعر الجاهلي وفي صحة نسبته إلى أهل الجاهلية، ثم الإفضاء منها إلى أن الشعر الجاهلي منحول موضوع، وأنه شعر إسلامي صنعه الرواة في الإسلام، هذه "مسألة" كنت أعرفها قبل أن أدخل الجامعة، وقبل أن يلقى علينا الدكتور ما ألقى، لأنى كنت قرأتها في مقالة الأعجمى مرجليوث، وقصصت القصة في كتابى ثم قلت:"إني لم ألق بالا إلى هذا الذي قرأت: وعندي ما عندي من هذا الفرق الواضح بين الشعر الجاهلي والشعر الإسلامي"، (المتنبي 1: 16). ثم قلت أيضا في شأن هذا الأعجمى وزمرته "لم يكن لمثل هذه الآراء في الشعر الجاهلي وقع في نفسي يثيرنى اللهم إلا ما يثير تقززى. فما أسرع ما أسقط كلامهم جملة واحدة في يم النسيان"، (المتنبي 1: 18).
ثم جاءنا الدكتور طه يردد أقوال مرجليوت وآراءه وحججه، بجوهرها ونصها، أستغفر الله، بل زاد عليها تعليقاته وحواشيه، فلم يزد الأمر عندي على أن يكون ما أسمع من المحاضرات "حاشية" على متن من المتون، ولكنها
"حاشية" من نوع مبتكر مبتدع جديد مباين للحواشي التي كانت مألوفة يومئذ عند طلبة الأزهر. ولما كان "المتن" معروفا عندي من قبل قرأته ولم ألق إليه بالا، بل قذفته في يم النسيان، كما قلت: فإن "حاشية الدكتور طه على متن مرجليوت"(وهي المعروفة عند الناس باسم كتاب: في الشعر الجاهلي)، كانت خليقه أن تلقى نفس هذا المصير، لولا شيء سأحدثك عنه فيما بعد. وهذه "الحاشية" لم تكن تتضمن شيئا ذا بال سوى "مسألة الشك في صحة الشعر الجاهلي"، وإذن فهي لم تكن قادرة في ذاتها على إثارتى أو إثارة خصومة بيني وبين صاحبها الدكتور طه ولم يكن لها عندي أثر سوى ما بينته في كتابى حيث قلت:"تتابعت المحاضرات، وكل يوم يزداد وضوح هذا السطو العريان على مقالة مرجليوث، ويزداد وضوح الفرق لكن طريقتى في الإحساس بالشعر الجاهلي وبين هذه الطريقة التي يسلكها الدكتور طه في تزييف هذا الشعر"(المتنبي 1: 21). وانظر أيضا ذكر حواشي الدكتور طه في كتابي (المتنبي 1: 20، 144، 145).
إذن، فبين أن "مسألة الشعر الجاهلي" بهذا القدر الذي وصفته لك آنفا، هي أولا وقبل كل شيء، مباينة تمام المباينة للذى أسميه "قضية الشعر الجاهلي"، ثم هي ثانيا بهذا القدر نفسه، مسألة كانت في ذاتها غير قادرة على أن تنشيء بيني وبين الدكتور طه (خصومة). وأيضا، لم يكن لها، لا بالفعل ولا بالقوة في نفسي أو في قلبي أو في عقلي، أو في شيء مما أكتب، أثر يمكن أن يحرك (خصومة) وإذا كنت ممن يخاصم الناس على آرائهم، لا ممن يخاصم الآراء نفسها: وكان لمثل هذه "المسألة" قدرة على إنشاء (خصومة): فأولى الناس كان بخصومتى هو مرجليوث نفسه صاحب "المسألة" وصاحب "المتن". أما الدكتور فلم يكن سوى ناقل لهذه "المسألة" وصاحب "حاشية" على هذا "المتن"، لا أكثر ولا أقل. وببديهة العقل، لا ينال الناقل صاحب الحاشية من خصومتى عندئذ، إلا قدر ضئيل كتاب لا يستحق أن يسمى (خصومة). وإذا كان ذلك كذلك، فالدكتور طه ينبغي -بلا شك، أن يكون بنَجوَة من خصومتى، أو من ضراوتها، أو من جَوْرها على الأقل.
وأحب أن أصدقك القول عن نفسي. لو أن الأمر في "مسألة الشعر الجاهلي" لم يكن كما كان: لكان يكون ممكنا، على وجه من الوجوه أن تقع بيني وبين الدكتور طه (خصومة ما) وذلك إن صح فعلا أنه شك أولا من عند نفسه: ثم أداه شكه إلى "مسألة" إبطال صحة رواية الشعر الجاهلي. ولكن هذا لم يصح البتة: ولن يصح لأنه لم يزد على أن جاء فنقل مسألة إبطال صحة رواية الشعر الجاهلي، من الإنجليزية إلى العربية، نقلا لا يستره ساتر، ولا يقبل في شأنه تأويل أو انتحال عذر، وببطلان هذا، بطل أيضا معنى (الخصومة) بيني وبينه.
ومن الدليل أيضا على بطلان كل (خصومة) بيني وبين الدكتور طه، جرتها "مسألة الشعر الجاهلي"، أنى لم أكتب يومئذ، ولا بعد ذلك اليوم، وإلى يوم الناس هذا: شيئا يمكن أن يعد ردا مباشرا على ما تضمنته "حاشية الدكتور طه على متن مرجليوث"، وذلك لأن هذه "المسألة" برمتها كما هي في المتن والحاشية، كانت، ولم تزل، هي عندي مسألة فارغة بذرتها ثرثرة، وشجرتها ثرثرة، وثمرتها ثرثرة، أي هي مسألة لا طعم لها. وهذا حسبك: إن شئت متفضلا، في نفي كل شبهة تؤدى إلى الظن بأنه كانت بيني وبين الدكتور طه (خصومة) قديمة، من أجل آرائه التي كان يرددها في "مسألة الشعر الجاهلي" وهو حسبك أيضا في إزالة كل وهم عن (خصومة) كانت، يحدثها اقتران هذه "المسألة" بما كان من أمر مفارقتى الجامعة، بعد سنتين من بدء حديثه فيها. فهذا بيان موجز عن القضية الأولى، ومعذرة إن أطلت أو كررت.
القضية الثانية
أما القضية الثانية التي نشأت عندي أنا، أي عندي أنا وحدي مرة أخرى، وكانت محاضرات الدكتور طه سببا في نشأتها يوم كنت طالبا عنده في الجامعة، فهي "قضية السطو" على أقوال الناس وآرائهم وأعمالهم، ثم ادعاء تملكها تملك عزيز مقتدر، ثم الاستعلاء بهذا الملك المغصوب والاستطالة به على الناس. وأبشع من ذلك: أن ينكشف أمر هذا الغصب والسطو. ويتسامع به الناس:
ويدل الكتاب والعلماء على الأصل المغصوب كتابة موثقة منشورة، فلا يبالى الساطى بشيء من ذلك كله: بل يزداد جرأة وتيها وادعاء واستعلاء واستطالة، كأن الذي قيل عن سطوه لم يُقَل، وكأن ظهور سطوه فضيلة ترفع من قدره تنوه به في المجامع، أما أنا، مع أسفي واعتذارى، فلم أزل أعد هذا المسلك احتقارا للناس أي احتقار، وإزراء بهم وبعقولهم أي إزراء، وإنزالًا لهم منزلة من لا يبصر ولا يسمع ولا يعقل ولا يحس. هكذا نظرى أنا، كان، ولم يزل إلى هذا الأمر. هذه هي "القضية" كانت، ولم تزل، حية في نفسي منذ خمسين سنة:(وانظر كتابي المتنبي 1: 25).
وقبل أن أحدثك بخبر هذه "القضية" وأنا في الجامعة سنة 1926، أجدنى مضطرا أن أخبرك بشيء كان قبل ذلك، يجعل "القضية" أوضح وأبين. كنت في سنة 1923، وسنة 1924، أقرأ على شيخى سيد بن على المرصفي إمام العربية في زماننا، وهو شيخ الدكتور طه أيضا. وكنت في ذلك الوقت أقرأ ما كان يكتبه الدكتور طه في صحيفة السياسة، وهو "حديث الأربعاء"، فجاء يوما على لساني وأنا عند الشيخ ذكر الدكتور طه، فعرفت من الشيخ أنه كان يقرأ عليه بعض ما كنا نقرأه عليه. وبهذا النسب القريب، كما يقول أبو تمام (1)، تاقت نفسي إلى معرفة الدكتور طه. فسعيت إليه سعيا، وعرفته من يومئذ عن قرب. كنت صغيرا، وكان هو في نحو الخامسة والثلاثين من عمره، ومع هذا التفاوت في السن: فقد قربنى الرجل إليه حتى اطمأن قلبي وانطلق لساني، فبجرأة الشباب كنت أخالفه أحيانا كثيرة فيما يكتب، وبجهل الشباب أيضا أحاوره وأجادله بقليل علمي. وكان بينًا عندي، وعنده أيضا، أن مقالاته في "حديث الأربعاء" كانت تنطوى على "استلهام" شديد مفرط من آراء طائفة الأعاجم المستشرقين، على حد تعبيرك أنت أيها العزيز، أو على "استعارة" منهم مغرقة ملتهمة، على حد
(1) وذلك في قوله:
أو يَخْتَلِفْ نَسبٌ يؤلفْ يَيننا
…
أدَبٌ أقمناهُ مقامَ الوالِد
تعبير شاعرنا القديم الذي هجر الشعر وتفرغ للكتابة، الأستاذ كمال النجمى، أو على "استلال في خفة" على حد تعبير الأستاذ كمال أيضا. ومع كل ذلك: فقد استمرت مودتى لأستاذتا الدكتور طه صافية، لم يكدرها خلافي عليه، أو جهل شبابي عليه أحيانا. ولم يكن لهذا "الاستلهام"، أو لهذه "الاستعارة" أو لهذا "الاستلال في خفة": أثر يبلغ من قوته أن يحدث بيني وبينه (خصومة)، لا في نفسي ولا في نفسه هو أيضا. وظل الأمر بيننا سهوا رهوا (أي ساكنا لينا كنسيم الصبا)، حتى جاء عهد التحاقى بالجامعة، فغمرنى الدكتور طه بفضله، وقيدنى يإحسانه، وأحسن الشهادة لي عند مدير الجامعة، ثم أصر إصرارا حتى غلبه، فبإصراره صرت طالبا في الجامعة، وقصصت بعض القصة آنفا وفي كتابى (المتنبي 1: 20، 21).
وهكذا كان الأمر بيني وبينه قبل دخولى الجامعة وقبل إنشائها، والدكتور طه يومئذ لم يكن سوى كاتب أديب يكتب في الصحف والمجلات، وأنا يومئذ قارئ لما يكتبه، أقرؤه في البيت أو الشارع، أو على ظهور المقاهي.
ولكن الأمر سوف يختلف اختلافا بينا حاسما حين ضمتنى وإياه أسوار الجامعة.
في الجامعة
كنت يومئذ فتى شابا غض الإهاب: فلما أنشئت الجامعة والتحقت بها، كان للفظ الجامعة معنى في نفسي، أنا الآن، بعد أكثر من خمسين سنة، يغلى بي ارتيالى وشكى: أأنا مخطئ في هذا المعنى أم مصيب؟ أقولها لك، ودمعة من عيني تنحدر على الخدين من ألم الذكرى! وقاتل الله النابغة الذبيانى الشاعر الجاهلي، ما أصدقة حيث قال، وكأنه إنما عنانى أنا، يقرعني تقريعا يوغل بي في مهاوى اليأس:
إن يكُ عامر قد قال جَهْلا،
…
فإن مَظِنة الجهلِ الشباب
ولا تذهبْ بحِلْمك طامِيات
…
من الخُيلاء ليس لهن بابُ
فإنك سوف تَحلُمُ، أو تَناهي
…
إذا ما شِبتَ أو شاب الغرابُ
لقد شبتُ وما شاب الغراب بعد، فكيف وأني وأيان لي الحِلْم أوْ التناهي عن
الجهل! وإني لأسأل نفسي اليوم: أبجهل مني لا حلم فيه، كان يومئذ للفظ "الجامعة" هذا المعنى في نفسي أخالنى لست أدري، بعد طول التجريب وبعد المشيب. ولكن هكذا كان، واحسرتاه! "أم كان شيئا كان، ثم انقضى"، كما يقول العرجى.
دخلت الجامعة ومعي هذا المعنى يتسع ويتراحب يوما بعد يوم، حتى بلغ مبلغا يرتد عنه البصر خاسئا وهو حسير. دخلتها ومعى فورة الشباب وأحلامه وتهاويله. دخلتها ومعى كل ما قرأته وسمعته من أدب أمتى وتاريخها وأخلاق علمائها وعظمة رجالها. . . والآن أقول لك ما لم يكن يخطر لي يومئذ على بال: دخلتها ومعى أيضا "متن مرجليوث" في "مسألة الشعر الجاهلي" مطروحا في قرارة يم النسيان. ألقيت بكل سمعى مصغيا إلى أستاذنا الدكتور طه، وهيبة الأستاذية تملأ قلبي وهو يردد كلماته، وأنا واقع أيضا في أسر كلماته، ولكني في الأسر كنت أعرف وأنكر، وينبسط قلبي وينقبض، ثم يوما بعد يوم. وبغتة، ومن قرارة يم النسيان، طفا "متن مرجليوث" كتابا مفتوحا، اقرأ "المتن" بعيني، وأسمع "الحاشية على المتن" بأذنى، وأخذنى ما أخذنى من الحيرة والدهشة والارتياح، ثم انقشع عني الظلام. . .
فأصبحتُ والغولُ لي جارة،
…
فيا جارتا، أنتِ، ما أَهْولَا!
"والغول لي جارة"، ليست رمزا ولا مجازا بل كانت عندي حقيقة (1) مفزعة، تدخل معى قاعة المحاضرات يوما بعد يوم، وكل يوم أقول لنفسي عسى، ولعل! وأتوقع أن يذكر الدكتور طه، اسم مرجليوث مرة، وينسب إلى الرجل رأيه في "مسألة الشعر الجاهلي"، مجرد إشارة! وذهب توقعى باطلا هذرا. لم أسمع منه إلا:"انتهى بي البحث"، ثم "انتهى بي البحث"، ثم "انتهى بي البحث" وإذا كل شيء منه هو يبدأ، وإليه هو ينتهي! كيف يكون هذا، "والمتن" أمامى أقرؤه بعينين مبصرتين، وكل شيء يقوله الدكتور طه من هذا "المتن" وحده يبدأ، وإلى "المتن" وحده ينتهي، يا لحيرتى وعجبى!
(1) كما كانت عند تَأبط شرا، صاحب البيت الذي استشهد به الأستاذ شاكر.
لو مرة واحدة ذكر الدكتور طه اسم مرجليوث، لنجوت بها من هذه "الغول" التي كانت تفزعني وتتشبث بي "جارة" لي في قاعة المحاضرات وخارج هذه القاعة! "فيا جارتا أنا ما أهولا! "، ويومئذ، ومن هذا الهول الذي كان يصحبنى ويتهددنى، نشأت عندي "القضية الثانية" "قضية السطو" التي ذكرتها وأن أكشف عن "لمحة من فساد حياتنا الأدبية" في كتابي (المتنبي 1: 17 - 26).
* * *
تفاقم أمر "قضية السطو" في نفسي، واستبدت بي جارتى "الغول" حتى لم تدع لي ولا لقلبي سكينة، وسِرتُ على الجمر حافيا، وأنا أسمع يوما بعد يوم قعقعة معنى "الجامعة" في نفسي وهو يتقوض، يريد أن ينقض. وفي خلال ذلك كان مني ما كان. يوم وقفت أجادل الدكتور طه في "المنهج" و"الشك"، حتى انتهرنى، ثم استدعانى فدخلت عليه، فعاتبنى "وأنا صامت لا أستطيع أن أرد. لم أستطع أن أكاشفه أن محاضراته التي نسمعها مسلوخة كلها من مقالة مرجليوث، لأنها مكاشفة جارحة من صغير إلى كبير، ولكني كنت على يقين من أنه يعلم أنى أعلم، من خلال ما أسمع من حديثه، ومن صوته، ومن كلماته، ومن حركاته أيضًا" هكذا قلت في كتابي (المتنبي 1: 22). ثم قلت أيضا: "ومن يومئذ لم أكف عن مناقشة الدكتور في المحاضرات أحيانا بغير هيبة، ولم يكف هو عن استدعائى بعد المحاضرات، فيأخذنى يمينا وشمالا في المحاورة، وأنا ملتزم في كل ذلك بالإعراض عن سطوه على مقالة مرجليوث: صارف همى كله إلى موضوع "المنهج والشك"، وإلى ضرورة قراءة الشعر الجاهلي والأموى والعباسى قراءة متذوقة مستوعبة ليستبين الفرق بين الشعر الجاهلي والإسلامي .. ولكني من يومئذ أيضا لم أكف عن إذاعة هذه الحقيقة التي أكتمها في حديثي مع الدكتور طه وهي أنه سطا سطوا كريها على مقالة المستشرق الأعجمى. فكان بلا شك، يبلغه ما أذيعه بين زملائى. وكثر كلامي عن الدكتور طه نفسه، وعن القدر الذي يعرفه من الشعر الجاهلي، وعن أسلوبه الدال على ما أقول. واشتد الأمر حتى تدخل في ذلك، وفي مناقشتى، بعض الأساتذة كالأستاذ "نلينو"
والأستاذ "جويدى" من المستشرقين، وكنت أصارحهما بالسطو، وكانا يعرفان، ولكنهما يداوران. وطال الصراع غير المتكافيء بيني وبين الدكتور طه زمانا، الى أن جاء اليوم الذي عزمت فيه على أن أفارق مصر كلها، لا الجامعة وحدها"، (المتنبي 1: 23، 24)
أخشى أن يكون هذا هو الذي أوقع في نفسك أيها العزيز، أنه كانت بينى وبينه (خصومة) قديمة منذ ذلك الزمان وأنا في الجامعة. سوف أتمم لك التاريخ الغابر خطوة خطوة. نعم ظل أمرى كما وصفت آنفا، سنتين، وأنا لم أفارق الجامعة بعد. وأزيدك الآن أيضا، أنى، مع كل ذلك، لم أنقطع عن زيارة الدكتور طه في بيته خلال هاتين السنتين المرة بعد المرة والذي بينى وبينه "سهو رهو"، كما حدثتك عن شأنى وشأنه قبل أن يكون أستاذا في الجامعة. أما "قضية السطو" فكانت قضيتى أنا وحدي، تعمل عملها في هدم معنى "الجامعة" في نفسي فلا أنا أجترئ على مصارحته بها، ولا هو يفاتحنى في شأنها وهو يعلم علما ليس بالظن ماذا أقول في فناء الجامعة، وماذ أقول للأساتذة لم كان يفعل ذلك ويصبر على؟ أمر يحتاج إلى تفسير، وأنا لست بصدد التفسير ولكني ملتزم برواية التاريخ لا غير. وأيا ما كان الأمر فهل ترى في هذا ظلا من (خصومة)؟
وكذلك، فأنا أزيدك أيضا من أخبار هاتين السنتين يوم قبل مدير الجامعه أن التحق بكلية الآداب، وبمحضر الدكتور طه نفسه، أخذ على عهد: أن أدرس اللغة الفرنسية، لأن طلبة القسم العلمي في الثانوية، كانوا لا يدرسون سوى الإنجليزية، وزملائى في كلية الآداب كلهم من طلبة القسم الأدبى الثانوى وقد درسوا هذه اللغة سنتين، فكان لزاما على أن أحصل ما حصلوه فيها: وأن أحضر أيضا معهم دروس اللغة الفرنسية في كلية الآداب، لكي أمتحن فيها كما يمتحنون، ومرت الأيام والشهور، ودنا موعد الامتحان، وأنا في حيرة من أمرى، أي حيرة استنكفت أن أسأل الدكتور طه أن يشير على ماذا أفعل؟ وذات يوم دعانى وقال لي: غدًا تمر علي في بيتى. فعلتُ: وبقيتُ معه طويلا في حديث
متشعب. وأخيرا سألني: ماذا فعلت في دروس الفرنسية؟ قلت: الآن أستطيع أن أقرأ قراءة مقاربة، وأن أفهم فهمًا لا بأس به ولكني لا أستطيع البتة أن أعبر عن نفسي في الامتحان الشفوي، لا ينطلق لساني. فقال وبعدين يا محمود! قلت الأمر اليك. فأطرق يفكر. ثم قال: إذا كنت لا تستطيع أن تجيب عما تسأل عنه بالفرنسية، فهل تستطيع أن تجيب بالإنجليزية؟ قلت: نعم بلا شك. قال: إذن فعند الامتحان الشفوي تعالى إلي. ولم يزد، وانصرفت. فلما جاء الامتحان ودنا دروى، ذهبت إليه في مكتبه، فأخذ بيدي، وسار بي إلى لجنة الامتحان، ووقف الأستاذ الفرنسي إجلالا له، وبعد تقدمة قدمها قال: إنه يقرأ بالفرنسية ما شئت فإذا سألته عن شيء مما يقرأ، فأرجو أن تقبل منه أن يجيبك بالإنجليزية. وأخذت الأستاذ الدهشة، وبعد تردد ومحاورة قبل، وامتحنني.
فهل ترى، أيها العزيز، في هذا ظلا من (خصومة)؟
* * *
ودارت الأيام وأنا أغدو وأروح إلى الجامعة وجارتي "الغول" لا تفلتني ولا تفارقني، وصليل المعاول وهي تضرب في معنى "الجامعة" يتردد في نفسي، واسمع هدة انهيارها. وبغتة تهاوي كل شيء وهلكت قدرتي على الصبر فانقطعت عن الدراسة واستحصدت (1) عزيمتي على أن أهجر مصر كلها لا الجامعة وحدها، غير مبال بإتمام دارستي الجامعية، طالبا للعزلة، حتى أستبين لنفسي وجه الحق في "قضية الشعر الجاهلي"، بعد أن صارت عندي قضية متشعبة كل التشعب، (المتنبي 1: 24) هكذا قلت.
انقطعت عن الذهاب إلى الجامعة فجأة. لم أر أحدًا من زملائي البتة. وعزمت على أن أسافر إلى مكة والمدينة طلبًا للعزلة، ولم أخبر أحدًا فقط بعزيمتي إلا رجلا واحدا، كان قد أطال المقام في مصر، وصار بعد سفيرا للسعودية، وهو الشيخ "فوزان السابق"، رحمه الله كان صديقًا لأبي وإخوتي، وكان يعرفني
(1) استحصدت: اشتدت وقويت.
أوثق معرفة. استمع الرجل إلى وكان وديعا طيب النفس، فبعد لأي قَبل أن يُعِيننى، وأخذت عليه العهد أن لا يخبر أحدا من أهلى بما عزمت عليه. ورحت أسعى سعيا حثيثا حتى استخرجت شهادة الإعفاء من الخدمة العسكرية، بعد دفع رسوم "البدلية"، كما كانوا يسمونها. وأعانني الشيخ فوزان حتى استخرجت جواز سفر بعد جهد جهيد. فلما وضعت الجواز في جيبى واطمأن قلبي، ذهبت إلى أبي رحمه الله فكاشفته بجلية أمرى .. لم تأخذه دهشة المُنْكِر، خيل إلي أنه كان يعرف! ظللت أياما بين يديه، يحاورنى ويحاول أن يقنعني بالإقلاع عما عزمت عليه. لا هو يقتنع بما أقول وبما أمنى النفس به مختالا ولا أنا أقتنع بما يقول، وأخيرا ذكر لي بيت النابغة الذي مر آنفا:
ولا تَذْهب بحِلْمكَ طامِياتٌ
…
من الخُيلاء ليس لهن بابُ
وقال: ستجد الأبواب مغلقة دون أمانيك بالضبة والمفتاح وستعود إلينا، بعد أن تضيق كما ذهبت، فافعل ما تشاء. وأَلْقَى حَبلى على غاربى، ووافق على سفرى، وبدأت أعد العدة وجمعت جميع كتبى وعبأتها. ولكن من الطريف أنى أقصيت منها جميع كتب الدكتور طه، وهبتها لصديق لي رحمه الله .. فلم أكد استقر في مدينة جدة بالحجاز، وهدأت نفسي، حتى عدت فاشتريتها جميعا من مكاتب جدة. كان سخفا مني، ولكن هكذا كان! !
وذات يوم في الصباح الباكر دخل على زميلى وصديقي الأستاذ محمد الخضيرى، يستطلع أمر غيبتى عن الجامعة. وكان قد سأل عني مرات بالهاتف ولم يجدنى. فلما جلس، أفضيت إليه بالأمر كله، ففزع قائما، وكاد يبكى. فلما أخبرته بجميع ما في نفسي، أطرق وسكن، وبقى قليلا ثم انصرف. وفي العشية فوجئت بمقدم الأستاذ نلينو، ولكن هدوءه وبشاشته وهو يسألنى عن أبي كعادته كما جاء يزوره نفت الشك عن قلبي. فأخبرت أبي بمجيئه. فلما التقيا وجلسا، فوجئت بالأستاذ يتكلم ويذكرنى وصوته يتهدج ويتقطع من الغضب والأسف، فرجف قلبي رجفة وقمت من فورى ذاهبا على وجهي أحث الخطى، من دارنا في الحلمية الجديدة، ولم أنتبه إلا والمؤذن يوذن لصلاة المغرب، من
مسجد قريب في منطقة الدقي فصليت المغرب ثم انقلبت راجعا إلى البيت بعد صلاة العشاء.
أخبرني والدى أن الأستاذ نلينو جاء نائبا عن الدكتور طه، وأن الدكتور طه استحسن ذلك لأنه كان أستاذه وهو اليوم أستاذى أيضا، وقال: إنه دعا الأستاذ نلينو والأستاذ جويدى على الغداء عندنا بعد غد. جاء هذا الغد، وعدت إلى البيت بعد الظهر، لأجد الأستاذين نلينو وجويدى ومعهما أكثر من عشرين ضيفا، كلهم كان يعرفني، وهم من الأساتذة في دار العلوم، ومدرسة القضاء الشرعى، وفي الأزهر، وآخرين من أساتذتنا الكبار في ذلك العهد.
وبعد الغداء وقعت بين المطرقة والسندان. كل يتكلم مُسَفِّها لي ضِمنا أو علانية، وأنا أرد مرة وأسكت مرات حتى بلغ مني الجهد. وأخيرا وقف الأستاذ نلينو فجأة، ووجه الحديث إلى أبي، وقال إن واجبه ديانة (غريبة! ) أن يمنع ولده من السفر. فقال له أبي رحمه الله: لا آمر ولدى في شيء، وقد حاولت أن أقنعه بالحجة بعد الحجة فلم يقتنع. وها هو ذا بين يديك، فإن استطعت أن تبلغ في إقناعه ما لم أبلغ، فقد شفيت صدرى وأرحتنى، أما القسر فلا قسر عندي يا أستاذ نلينو. فالتفت إلى نلينو، وأطبق على إطباقا خانقا، فلم أجد لي مخلصا من قبضته إلا المصارحة. فقلت له: نعم أنا مقتنع بكل ما تقوله عني وعن تسرعى وتهورى ومخاطرتى بمستقبلي، ولكني لم أكن كما وصفت إلا لشيء واحد، هو أن معنى "الجامعة" في نفسي قد أصبح أنقاضا وركاما، فإن استطعت أن تعيد لي البناء كما كان، فأنا أول ساكن يدخله لا يفارقه. قال: ما هذا؟ ماذا تعني؟
قلت: أنت تعلم أنى بقيت معك في الجامعة سنتين لم أبرح، وتعلم ما كنت أقوله عن "مسأله الشعر الجاهلي" التي نسمعها في محاضرات الدكتور طه، وأن هذا الذي نسمعه ليس إلا "سطوا" مجردا على مقالة مرجليوث، وأنت وجميع الأساتذة تعلمون صحة ذلك. وفي خلال السنة الماضية، نُشرت كُتُب ومقالات في الصحف تكشف ذلك أبين كشف -ولكن لم يكن لهذا الكشف عندكم في الجامعة صدى إلا الصمت. فهدا الصمت إقرار من الجامعة وأساتذتها بهذا
المبدأ، مبدأ "السطو". قد مضت على سنتان صابرا، أما الآن، فلم أعد قادرا على التوفيق بين معنى "الجامعة" في نفسي، وبين هذا المبدأ الذي أقررتموه، فتقوض معني "الجامعة" وأصبح حطاما. فكيف تطالبوننى بأن أعيش سنوات أخرى بين الحطام والأنقاض؟ وأي خير أرجوه، أو ترجونه مني، إذا أنا فعلت ذلك راضيا أو غير راض؟ شيء واحد: أن يعلن الدكتور طه أن الذي يقوله في "مسألة الشعر الجاهلي"، هو قول مرجليوث بنصه، وليقل بعد ذلك أنه يؤيده ويناصره ويحتج له، أو لا يقل. فإذا فعل، فستجدنى غدا أول طالب يرابط في فناء الجامعة قبل أن تشرق الشمس. أما مع هذا الصمت، فإن نفسي لا تطيق أن تسكن الديار الخربة!
وجم نلينو، وأحسست بنظرات العيون تنفذ كالسهام في جميع أعضائى، وبغتة قال الشيخ عبد الوهاب النجار رحمه الله: إن هذا الفتى كان في رأسه أربعة وعشرون برجا، فطارت ولم يبق إلا برج واحد، عسى أن ينتفع به يوما ما، فيسترد الأبراج التي طارت! وسكت. وحيرتنى كلماته. ولم أدر ما عناه، أهو راض عما قلت أم غير راض؟ ثم بدأ نلينو يتكلم مرة أخرى هادئا معرضا عني، وعرض على والدى حلا آخر لإنقاذى ولكني لم أستجب لهذا الحل. وبعد يومين كنت على ظهر الباخرة التي تقلنى إلى مدينة جدة، فنزلتها، وشددت الرحال إلى بيت الله الحرام، فقضيت عمرتى، ثم عدت إلى جدة بعد أيام، فأجد أول رسالة تلقيتها من أبي وفي آخرها يقول:"زارنى في عصر اليوم الذي سافرت فيه إلى السويس، الأستاذ نلينو والدكتور طه حسين"، ولم يزد على ذلك شيئا، وختم الرسالة.
لقد أضنيتنى، أيها العزيز، وحملتنى على أن أقص قصة طويلة أنا راغب عنها، ولا خير فيها لأحد. ولكن .. أنتَ قطعت اللجام بالحسام، فلم يبق في يدي ما أكبح به جماح القلم، وقد كنت من قبل قادرا على كبح جماحه وأنا أكتب "لمحة من فساد حياتنا الأدبية" هي مقدمة كتابى "المتنبي" حيث قصصت بعض القصة كارها، ولكن ما أبشع قصة (الخصومة) وأكرهها إلى
نفسي. فالآن هل ترى من (خصومة) كانت بينى وبين الدكتور طه منذ عرفته إلى أن فارقت مصر كلها، لا الجامعة وحدها، في سنة 1928؟
بعد الجامعة
مضت السنوات منذ سنة 1928، وأمر الجامعة وكل ما فيها لا يعنينى. وكان ما توقعه أبي، فعدت أدراجى من الحجاز إلى مصر، لم أر الدكتور طه ولا أحدا من زملائى في الجامعة أو أساتذتى منذ ذلك اليوم إلى أن كان يناير سنة 1936، التي خرج فيها كتابي "المتنبي". ثم جاء أسبوع الاحتفال بمرور ألف سنة على وفاة أبي الطيب، بدار الجمعية الجغرافية في النصف الثاني من سنة 1936، فلقيت الدكتور طه مرتين متتابعتين، فقابلنى بالحفاوة والبشاشة، "ثم أخبرني أنه قرأ كتابي كله، وجاء بثناء لم أكن أتوقعه، وأطال وأفاض: (على مشهد من جميع أساتذتى في الجامعة) وغمرنى ثناؤه حتى ساخت بي الأرض، فمات لساني في فمى، فلم أستطع أن أنبس بحرف واحد، وهو آخذ بيدى لا يرسلها، إلى أن ركب، وافترقنا"، قلت ذلك وذكرت تمام القصة في كتابي، (المتنبي 1: 133، 134، 137، 138) -ثم في يناير سنة 1937، أي بعد أقل من عام، ظهر كتاب الدكتور طه "مع المتنبي"، وساءني الكتاب، وردنى إلى سنة 1928 وما قبلها، وإلى كل ما عنيته يومئذ من غوائل جارتى "الغول" وكذلك عادت "قضية السطو" على أعمال الناس في قلبي جَذَعَةً أي نارا حية بعد أن طفئت وخبا أُوارها.
كتبت اثنتى عشرة مقالة في صحيفة البلاغ بعنوان: "بيني وبين طه" بنيت الكلام فيها، منذ فاتحة المقالة الأولى على قول صريح بلا مواربة ولا مداهنة، أن كتابه "مع المتنبي"، "سطو" على كتابي أولا وتقليد لمنهجه، ثم على كتاب الدكتور عزام، ثم على كتاب الأعجمى بالاشير، وعلى كتب أخرى متفرقة. وكنت على نية متابعة هذه المقالات، فحدث ما بغَّض إلى هذا الأمر كله، فطرحت كتابي وكتاب الدكتور طه جانبا، وضقت بهما وبالمتنبى نفسه ذرعا. فكففت عن متابعة الكتابة، وذكرت سبب ذلك في كتابى "المتنبى 1: 142،
143". وكنت أنوى في ختامها أن أثير "قضية السطو على أعمال الناس برمتها، لأن أمرها كان قد استشرى في ذلك الوقت، وإلى اليوم، بين أسوار الجامعة وخارج الأسوار".
بعد أيام، منذ كففت، اتصل بي الأستاذ نلينو مرات بالهاتف: يسأل عن أبي، وكان مريضا، ويسأل عني فلم يجدنى. كانت وفاة الرافعي رحمه الله، وهو أستاذى وصديقي، قد بلغت مني، فنسيت نلينو أو تناسيته -وبينما أنا أفارق محطة مترو مصر الجديدة، وكانت في شارع عماد الدين يومئذ، لقيت نلينو وجها لوجه، وتصافحنا وسرنا حتى جزنا الزحام إلى الرصيف الهادئ، فابتدرنى قائلا: قرأت كتابك ثم مقالاتك في صحيفه البلاغ. ثم ضحك كعادته حتى استغرب (1) وقال: لم تتغير أنت، ولم يتغير الدكتور طه، (يعني ما كان من أمرى وأمره في الجامعة). ثم قال: إنه سألنى عنك مرات، وهو يحب أن يراك، فواجب عليك أن تزوره، قلت: نَعَمْ، ونِعْمَة عَيْن (2)، وسوف أفعل إن شاء الله. ولم يذكر كتاب الدكتور طه بكلمة، فسألته: وهل قرأت كتابه؟ قال: نعم. قلت له: فما رأيك إذن؟ وكنت أعني رأيه فيما كتبته أنا في صحيفة البلاغ، إلا أنه فاجأنى قائلا: كان ينبغي للدكتور طه أن يحتفظ به في درج مكتبه بضع سنوات، وهو يعيد النظر فيه، ثم ينشره بعد ذلك. قنعت بهذا، وسرنا نتحادث حتى افترقنا. ولكني لم أف بما وعدته به من زيارة الدكتور طه.
ومضت ثلاث سنوات أو أكثر، وفي يولية سنة 1940، دق جرس الهاتف، وإذا المتحدث هو الدكتور طه نفسه، فعاتبنى عتابا مُرا على انقطاعى عنه، ثم حدثني عن مقالة كان قرأها قبل أيام في الرسالة، كتبتها بعنوان:"ويلك آمن! "، وحرضنى على أن أتابع القول على هذا المنهج، ثم دعانى إلى زيارته، فزرته بعد ذلك مرات. ثم توفيت زوجة صديق لي، كان أديبا كاتبا، ومدرسا أيضا، وتركت امرأته صغارا في المهد وفوق المهد قليلا، فلم يطق من يومئذ أن يذهب
(1) استغرب: أغرق في الضحك حتى بدأت أواخر الأسنان.
(2)
أي أفعل ذلك وكرامة، وقد مر شرحه.
إلى المدرسة ويرى أشباههم الصغار، وأراد أن ينقل إلى الوزارة نفسها ويترك التدريس كان الدكتور طه يومئذ مستشارا لوزارة المعارف، فرأيت لزاما على أن أقضى حق صديقي، فاتصلت بالدكتور في بيته لأزوره، واتفقنا على الموعد.
كان هذا الصديق قد تناول الدكتور طه تناولا شديدا في بعض ما كتب من قبل، وأنا أعلم من خلائق الدكتور طه ما أعلم، فأخذت لذلك حذرى. لم أفاتحه فيما جئت له إلا بعد أن أنبأته أنى جئت في حاجة قضاؤها في سلطانه وناشدته أن يستجيب لي مهما بلغ أمرها من الصعوبة. فقال خيرا، حتى استوثقت من الأمر لم أذكر اسم الصديق، ولكني حدثته عن نكبة صديق لي مدرس في المدارس، وبلغتُ الجهد في نَعْت نَكْبته، وأحسنت وصف أخلاق صديقي وقدرته وامتيازه ومعرفته وخبرته وسألته أن يأخذه معه في مكتب المستشار، أي في مكتبه هو. فقال: سأفعل، لكن من هو هذا الذي حدثتنى عنه؟ فذكرت له اسمه، فانتفض غاضبا وقال: لا، كيف يكون هذا؟ محال! غير ممكن، إنك خدعتنى! فقمت غاضبًا وقلت لقد أعطيتنى العهد، وإذ لا عهد، فالسلام عليكم، ووليت منصرفا ولم أعقب. فنادى سكرتيره بأعلى صوته، وأمره بأن يردنى: فرجعت. فأجلسنى وقال: مالك أيها الصعيدى! فقلت مسرعا ببقية الغضب التي في نفسي: إنك ترفضه، لا لأنه كتب عنك، بل لأن ما كتبه ذكَّرك بما كتبت أنا عنك! (وأعني مقالاتى عن المتنبي). فقال: لا، يا شيخ، أتظن هذا؟ وانفثأ غضبه وظل يضحك ملء فيه. بدأ يحدثني عن هذه المقالات، وكيف كان يقرؤها؟ وعما كان يحدث بينه وبين بعض أصدقائه كلما ظهرت مقالة في البلاغ، وقال ما قال عن هذه المقالات، فأدهشنى ما قاله، وعلى كل حال لعله رأى فيها غير ما رأيت أنت أيها العزيز. ثم ختم الحديث بأن قبل شفاعتى في صديقي واستجاب لكل ما طلبته على بعض المضض. وصار موظفا عنده في مكتبه. وبعد أسبوعين أو ثلاثة زرته في مكتبه، فصارحنى بأنى قد أخلصت له النصيحة في هذا الصديق، وأثنى عليه ثناء مذهلا.
حسبنا هذا القدر من التاريخ الممل، ذكرته واضحا لمن يتأمله، وفيه من جوانب فضل الدكتور طه ما ينفي كل (خصومة) متوهمة، ولم أنس قط يدا كانت للرجل عندي. ومنذ سنة 1940 ظل الود بيني وبينه إلى أن أفضي إلى ربه غفر الله لنا وله. وكان في حياته يقرأ كل ما أكتبه وأذكر فيه "قضية الشعر الجاهلي"، فلم أجد عنده ولا عندي (خصومة) تبلغ بي أو به حد "اللدد في الخصومة". وإذا كان، أيها العزيز، بعض ما في كلامي وألفاظي، وأنا أذكره قد ارتفع بك إلى إستخراج (خصومة) تنسبها إلي، فهذا ليس يجرى عندي على هذا الوجه. و (الخصومة) على الوجه الذي دل عليه كلامك، ليست مما أتعامل به فيما أكتب. فما من شيمتى أن أخاصم أشخاص الرجال على آرائهم أو أفعالهم، فإذا خاصمت فأنا أخاصم الآراء والأفعال نفسها، ولا أتجاوز بخصومتى إلى أصحابها والفاعليها. . نعم، إن "الأساتذة الكبار" قد سنوا في (الخصومة) سننا جرت عليها حياتنا الأدبية، فألفها الناس حتى لم يعد أحد ينكرها أو يعيد النظر فيها، فكأنك معذور كل العذر، إذ جعلت تقيس سُنَّتى في الكتابة على سُنَّتهم، ولكني لست من "الأساتذة الكبار" في شيء بحمد الله.
قضية السطو
كذلك. . "قضية السطو"، وهي إلى هذا اليوم قضية جارية في حياتنا الأدبية، حاولت في مقدمة كتابى "المتنبي" أن أكشف عن جذورها وأصولها وبعض أساليبها، ثم قلت:"والقصة تطول، ومع ذلك فليس هذا مكان قصتها على وجهها، إذا أنا أردت أن أقيد ما كان كما شهدته فيما بين سنة 1928 وسنة 1936، بل إلى ما بعد ذلك إلى يومنا هذا"، (المتنبي 1: 38) وإذا كان طول إلفها قد جعلها مستساغه، أو بعيدة عن التناول، أو في ضل وارف يسترها عن أعين الناظرين، فذلك لا ينفيها، أو لا يحجبها عن العين الفاحصة التي تتدسس إلى الأعماق. ومع ذلك، فأنا أحب أن أجعلك على بينة من أمرها عندي. فقد ذكرت لك أنها إحدى قضيتين نشأتا عندي، وأنا في الجامعة،
أستمع الى محاضرات الدكتور طه في "مسألة الشعر الجاهلي"، وكانت هذه القضية قضيتى أنا وحدي، فيما بيني وبين نفسي. ففارقت الجامعة سنة 1928 وهي معى حية مبصرة. ثم عشت منذ ذلك الحين زمنا طويلا إلى يومنا هذا، وأنا أرقبها وأشاهد آثارها، وأتتبع وسائلها وأساليبها في كل ما أقرأ أو أسمع. ولكني لم أنصب نفسي لدلالة الناس على هؤلاء الذين يسطون على أعمال الناس بجرأة خارقة، ولا أنا حاولت أن أتعقب هؤلاء فأكشف أمرهم علانية، كان ينبغي أن أفعل، ولكني لو فعلت ذلك، لكان على أن أستهلك أيامى وليالى وعمرى كله، ولأحفيت إذن آلافا من الأقلام في تسطير هذه الخبائث على آلاف من القراطيس والأوراق. لم أصبر نفسي على كشف الأساليب الملتوية البارعة في السطو على أعمال الناس، لأننى كنت يومئذ في شغل عنها، بما هو أجدى على: من تقويم نفسي، ومن تخليصها مما داخلها من الفساد بفساد الزمان الذي نشأت فيه.
كانت "قضية السطو"، فيما قبل سنة 1928، تسير على استحياء، وكان ما بقى من أخلاق الناس في الناس، يكف من خطواتها في حياتنا الأدبية. ولكن لما ثارت "مسألة الشعر الجاهلي" في الجامعة، وعلم من لم يكن يعلم أن الذي قيل فيها إنما هو سطر مبين على مقالة مرجليوث اختلف الأمر اختلافا شديدا. فالجامعة وجميع أساتذتها يومئذ، قد علموا علما يقينا أن كتاب "في الشعر الجاهلي" قائم على "السطو" على مقالة مرجليوث بحذافيرها. ومع ذلك، فقد ابتلعت الجامعة وأساتذتها هذا "السطو"، ثم تستروا عليه، لا بل حاطوه بالرعاية وبالعصبية. فكان ذلك إقرارا بالصمت، لهذا المبدأ، فمن يومئذ، أخذ من كان بالأمس يستحي أن يوصم بالسطو، يخلع برقع الحياء عن وجهه شيئا بعد شيء. واستحدث كل منهم وسيلة من الوسائل، وأسلوبا من الأساليب، تجعل هذا "السطو" يبدو ضربا من "التجديد" في دراسة الأدب وفي إنتاج الأدب. وبدأ السطو من بعض "الأساتذة الكبار" تزداد أساليبه خبثا ونكرا، ودهاء ومكرا، يوما بعد يوم، تحت سيطرة "الإرهاب الثقافي" الذي تولى كِبْرَهُ "الأَساتذة
الكبار" (1). وتُسَهِّل من أمره ما كان يَسْتصعب، وبدأ الكبار يستغلون الصغار أيضا، ويدربونهم على السطو الصريح بأساليب تخفي شيئا من معالمه، ودارت العجلة. . ورحم الله أبا العلاء إذ قال:
ولا تُعَلِّم صغيرَ القوم معصيةً
…
فذاك وِزْرَ إلى أمثاله عَدَلَكْ
فالسِّلْكُ، ما اسطاع يوما ثَقْبَ لؤلؤةٍ!
…
لكنْ أصاب طريقًا نافِذا فسَلَكْ
دارت العجلة، ولم تزل تدور، وجاء جيل بعد جيل، أصاب طريقا نافذا فسلك! واستقر الأمر على ذلك في حياتنا الأدبية إلى اليوم، لا أقول لك في البحث الأدبي، بل في الفن كله وفي الموسيقى أيضا، وفي الإنتاج الأدبي والعلمي بلا استثناء، إلا من عصم الله، وهم قليل.
وليت الأمر وقف عند ذلك القدر من المكر والدهاء في "السطو"! ليته وقف، ولكن انحدر بعد إلى هوة "السطو الحر" وقرارته، (الحر! غريبة، كيف جاءت هذه الصفة هنا؟ ). انحدر إليها بلا قناع، إلا قناع الزمن الذي يُشْدِلُه على أعمال الناس بالتقادم! مثال ذلك: كتاب كان صاحبه يحميه حيا، فلما هلك هلكت معه الحماية، وأسدل الزمن عليه قناعه. يأتي أستاذ فيعيد نشره بنصه كما كان، ولكن عليه اسمه هو، ويرتفع الأمر الى المحكمة، فتحكم بأنه "سطو"، دون أن تلجأ الى خبير من أهل هذا العلم، لأن الأستاذ قد أغنى المحكمة عن إرهاق الخبير! كان سطوا حرا، سطرا سطرا. ثم مات الأمر، وابتلعته حياتنا الأدبية ابتلاعا حرا؟ بلا استنكار، لا باليد ولا باللسان ولا بالقلب. وإذا بلغ الأمر هذا المبلغ. فلا ريب في أن "السطو" الخفي المتقن، الذي يلبس طيلسان الجامعة، أو برد الأستاذية، أو يختال في ثياب موشاة من البحث العلمي = خليق أن يعد عندنا في حياتنا الأدبية، تسابيح عبادة في محراب الفنون والآداب.
من أجل ذلك، لا أجدني منصفا، إذا توقفت عند مقالتك الثانية، وعند
(1) كِبْر الأمر: مُعْظَمه.
ما ذكرته فيها من استنكارك على أن أجعل في كتابي "المتنبي" فصلا بعنوان "كتابان في علم السطو"، متهما فيه الأستاذين الجليلين: الدكتور طه والأستاذ عبد الوهاب عزام بالسطو على ما في كتابي وعلى كتب غير كتابي عن المتنبي. فهذه قضية لا أحب أن أناقشها هنا، بأكثر مما سطرته في المقدمة (المتنبي 1: 106 - 165)، وفي مقالاتى التي نشرتها في الجزء الثاني من كتابي بعنوان "بيني وبين طه"، فإذا كان ما كتبته لم يقنعك، فأنا وأنت كما قال المقنع الكندى:
وإنَّ الذي بَيْنِي وبَيْنَ بَنِي أبي
…
وبَيْنَ بني عَمِّى، لَمختِلفٌ جِدًّا!
وحسبي أن أختم القول "قضية السطو" بكلمتين أقتبسهما عرضا.
الاقتباس الأول
من صحيفة الأخبار في 27 فبراير 1978، من كلمة كتبها الأستاذ جلال الدين الحمامصى "دخان في الهواء". يقول: "لصوص الفكر: عندما تحدثتُ عن لصوص الفكر الذين يسطون على الكتب، ويأخذون بعض أفكارها ويؤلفون منها القصص السينمائية، لم أكن أظن أن هذا الموضوع يشغل بال الكثيرين، لا في مجال السينما وحدها، بل وفي كل المجالات، فأساتذة الجامعة يشكون من أن اللصوصية امتدت إلى بعض الطلبة، فيسطون على مؤلفاتهم بكاملها ويصورونها، ويبيعون النسخ لزملائهم بأرباح طائلة. والدكتور صليب بطرس يقول:
"إن الإنتاج الفكرى المصري أصبح في معظم الأقطار العربية نهبا للصوص الفكر، يسَّرت لهم السرقة فنون الصنعة الطباعية الحديثة التي انتشرت على نطاق واسع في السنوات الأخيرة كما يسرت لهم تفادى أغلى الأجزاء في صناعة الكتاب، وهي حق المؤلف، وعملية الجمع. فلا يبقى بعد ذلك إلا التصوير والورق والحبر وهي تقل عن نصف التكلفة الكلية بكثير. ومن ثم يصبح اللص في مركز يمكنه من بيع الكتاب المزور بأقل مما يبيعه ناشره الأصلى بكثير جدا".
وردود الفعل لكلمتى كثيرة، وهكذا نجد أن اللصوصية لم تعد مقصورة على
مجال واحد، بل أنها تمتد. وتمتد وتصبح القاعدة في كل شيء. وما ذلك إلا لأن الاعتداء على حقوق الآخرين لا يجد من يمنعه. على أنى أقول إن أخطر أنواع هذه اللصوصية، هي السطو على فكر الآخرين وتقديمه في أفلام لأن المفروض أن مؤلف القصة أو كاتب السيناريو والحوار، إنما يحاضر المشاهدين في موضوعات عامة وترتكز على المبادئ، والقيم الأخلاقية. وما أتعس شعبا يكون المحاضر فيه من أقطاب لصوصية الفكر". هكذا قيل في (فبراير سنة 1978).
فهذا كما ترى، أيها العزيز، داخل دخولا ما في "السطو الحر" الذي حدثتك عنه، ولكنه خسيس!
الاقتباس الثاني
من كتاب جيد للدكتور فؤاد زكريا، عنوانه "التفكير العلمي"، نشره في شهر (مارس سنة 1978)، عقد في أواخره بابا بعنوان "شخصية العالم"، وجعل الفصل الأول في "الروح النقدية" فقال (ص: 288، 289):
"والوجه الآخر لموضوع النقد هذا هو أن نعترف بفضل الآخرين على أعمالنا. فنحن ندين لمن نقرأ لهم بقدر كبير من معارفنا بل أن كثيرا من أفكارنا الشخصية التي يبتدعها كل منا وفي ذهنه أنه مصدرها الوحيد، لا تثار في أذهاننا إلا لأن قراءة بحث أو كتاب معين، قد أوحي إلينا بها، ولو بصورة غير مباشرة، أو أثار فينا حاسة النقد والهجوم، فيكون له الفضل في هذه الحالة بدورها، حتى ولو كان ذلك فضلا سلبيا. ومن هنا: فإن العلماء والكتاب في البلاد المتقدمة التي رسخت فيها التقاليد العلمية، يحاولون بقدر ما في وسعهم، رد الفضل إلى أصحابه. وربما رأيت المؤلف منهم يعدد في مقدمة كتابه أسماء مجموعة ضخمة من الأشخاص، بعضهم ناقشه مناقشة قصيرة حول الموضوع، وأحيانا يذكر الأستاذ فضل تلاميذه الذين ألهموه بأسئلتهم واستفساراتهم كثيرا من أفكاره. أما الإشارة إلى الاقتباسات من المراجع الأخرى، فقد أصبحت تقليدا ثابتا لا يخالف فيه أحد.
وفي هذه الحالة بدورها، نجد أن هذا التقليد الجليل لم يستقر في بلادنا تمام
الاستقرار، بل أن مخالفته قد تتخذ في بعض الأحيان أبعادا مؤسفة، كما يحدث في حالات "السطو" على أعمال الآخرين التي ينسبها المرء إلى نفسه دون وازع من ضمير. ومن المؤكد أن حياتنا العلمية لن تستقيم إلا إذا أصبح الاعتراف بفضل الآخرين، حتى في الأمور البسيطة، قاعدة لا يخالفها أحد. وربما احتاج الأمر في البداية إلى قدر من الشدة، بحيث يَلْقَى من يرتكبُ عملا من أعمال السرقة العلمية جزاء رادعا. وبعد ذلك يمكن أن يتحول السلوك العلمي القويم إلى عادة متأصلة في النفوس، فلا نحتاج إلى فرض جزاءات. ولكن النظرة المدققة إلى أوضاع التقاليد العلمية في العالم العربي لا توحي بالتفاؤل، إذ يبدو أن الأجيال الجديدة أقل تمسكا بهذه التقاليد حتى من الأجيال السابقة. ومن ثم فإن الخط البيانى للروح النقدية السليمة، وللأخلاق العلمية بوجه عام، يتجه إلى الهبوط. وهو أمر مؤسف ينبغي أن نتداركه حتى لا تتسع الهوة بيننا وبين البلاد المتقدمة التي يزداد علماؤها تمسكا بالتقاليد العلمية جيلا بعد جيل". هكذا يقول أستاذ من أساتذة الفلسفة بعد مضى أكثر من خمسين سنة على إِنشاء الجامعة!
وأنا أقتصر على هذين الاقتباسين بلا تعليق، فإن ما أسلفته هنا وفي كتابي دال عليه، وصدق أبو العلاء، فإن الجيل بعد الجيل "أصاب طريقا نافذا فسَلَكْ"، وغفر الله للأساتذة الكبار! ! ولكن الأمر أجل وأفحش مما يتصور الأستاذ الحماصى والدكتور فؤاد، كالذي قال الشاعر في هجاء رجل يقال له "الأشنعى":
لَعَمْرُكَ إن الأَشْنَعِيَّ وشَأْنهُ،
…
لكالصُّبْحِ، ما يزداد غَيْرَ بياضِ
أو كالذي قال أبو تمام:
أيقظت هاجِعَهمْ، وهل يُغْنِيهمْ
…
سَهْرُ النواظرِ والعقول نيامُ
أو كالذي قال ابن الرومى:
يرى الموارط ذو عين فيحذرها
…
والعمى فيها إلى الأذقان والركب
وحسبي أن أختم هذه القضية، "قضية السطو" هنا، بما قلت في ختامها في كتابي
"أتلفت اليوم إلى ما أشفقت منه قديما من فعل "الأساتذة الكبار". لقد ذهبوا بعد أن تركوا، من حيث أرادوا أو لم يريدوا، حياة أدبية وثقافية قد فسدت فسادًا وبيلا على مدى نصف قرن، وتجددت الأساليب وتنوعت، وصار السطو على أعمال الناس أمرا مألوفا غير مستنكر، يمشي في الناس طليقا عليه طيلسان (البحث العلمي) و"عالمية الثقافة" و"الثقافة الإنسانية"، وإن لم يكن محصوله إلا ترديدا لقضايا غريبة، صاغها غرباء صياغة مطابقة لمناهجهم ومنابتهم ونظراتهم في كل قضية، واختلط الحابل بالنابل. قُلْ ذلك في الأدب والفلسفة والتاريخ والفن أو ما شئت، فإنه صادق صدقا لا يتخلف. فالأديب مصور بقلم غيره، والفيلسوف مفكر بعقل سواه، والمؤرخ ناقد للأحداث بنظر غريب عن تاريخه، والفنان نابض قلبه بنبض أجنبى عن تراث فنه"، وارحمتاه! !
كذلك. . . وهذه هي القضية! ولم أزل أقول عن كتاب الدكتور طه، والأستاذ عزام، أنهما "كتابان في علم السطو" لا جَرَم! وسَمِّهما أنت بعدئذ ما شئت:"استلهاما" أو "استعارة" أو "استلالا في خفة"، أو بابا من أبواب "الاجتهاد" الذي تصورت أنى خُلِقْت لأغلقه، فالمهارة البارعة في تغيير بعض معالم المتاع المسروق أو أكثرها لا تخرجه ولا سارقه من حد السرقة.
وطال الأمد على لُبَد (1). . . ونحن لم نزل في الثالثة، فأنت أيها العزيز، تقول:"إنه من المحزن أن يبلغ بنا اللدد في الخصومة حدا يجعلنا نسلب طه حسين أخص خصائصه، ونتجاهل أجمل قدراته، ونصفه بأنه (رجل جاهل)، ليس له بصر بتذوق الشعر".
بطلت (الخصومة) آنفا، فالآن كيف؟ أنت تعرفني بلا شك، وتعرف الدكتور طه أيضا، أليس كذلك؟ فهل تتصور أنه لو كان الدكتور طه عندي (رجلا جاهلا)، هل تتصور أنى كنت أخاطبه أو أبالى به؟ لعلك قست أمرى وأمر الدكتور طه، على ما كان مني يوم حملت القلم بعد هجر له طويل،
(1) هذا مثل، وأكثر ما يروى: طال الأبَد على لبد، ولبد آخر نسور لقمان بن عاد السبعة، وكان أطولها عمرا، فضربت به العرب المثل.
فذكرت في مقالاتي إنسانا ينطبق عليه هذا الوصف انطباقا كاملا (1)، فأوغلت في كتابة اسمه إيغالا يوهم إني أخاطبه أو أبالى به، لا، يا سيدي، فأمر الدكتور طه غير أمر هؤلاء الذين يشترون قلما بقرش من الخردواتي، فيكتبون، فيكثرون، فيعدون في الكُتَّاب! ! أمران مختلفان جدا، وزمنان مختلفان كل الاختلاف أيضا. ومع ذلك، فأنا قد نبهت مرارًا في مقالاتى أن هذا الذي أكثرت ذكر اسمه ليس إلا دمية يحركها محرك، وأن الدمية في ذاتها ليس لها قيمة تذكر، وأن اسمه الذي أذكره لا يعنينى، بل الذي كان يعنينى هو "هيئات التبشير" و"دوائر الاستعمار" التي تحرك هذه الدمى في حياتنا الأدبية وترشدها إلى الطريق. كان همى هو كشف الغطاء عن هذه الحقيقة لا غير. فإذا كنت قست هذا على هذا فالقياس فاسد: كما يقول أصحاب المنطق.
(رجل جاهل)! لم أستعمل هذا قط في حديثي عن الدكتور طه: فليس لك بحق أن تقول إني قلته، لا استخراجا من فحوى كلماتى ولا استئناسا بأنى خاطبت مرة (رجلا جاهلا)!
يقول أبو عثمان الجاحظ: "طلبتُ علم الشعر عند الأصْمَعِى، فوجدته لا يحسن إلا غريبه. فرجعت إلى الأَخْفش، فوجدته لا يتقن إلا إعرابه. فعطفت على أبي عبيدة، فوجدته لا يحسن إلا ما اتصل بالأخبار وتعلق بالأيام والأنساب، فلم أظفر بما أردت إلا عند أدباء الكتاب، كالحسن بن وهَبْ ومحمد بن عبد الملك الزيات.
أفيحل لأحد منا أن يستخرج من كلام أبي عثمان أن الأصمعى (رجل جاهل)، وأن الأخفش (رجل جاهل)، وأن أبا عبيدة (رجل جاهل)؟ أو على الأقل أن كلا منهم (رجل جاهل بالشعر)؟ ونعم أنا ذكرت الدكتور طه وكتابه "مع المتنبي" فقلت فيه أحيانا: "إنه يتهجم على غير بصيرة في الرأي، وأن في بعض كلامه فوضى وإطالة وتهويلا وثرثرة، وفي بعض كلامه اضطراب وفساد
(1) يعني لويس عوض انظر ما كتبه عنه في "أباطيل وأسمار".
مفسد، وفيه تعسف غليظ وفيه تحميل للفظ ما لا يحتمله اللفظ، وفيه سوء نقل عن الكتب، وأنه كثير المغالطة: شديد اللدد، غير مستقيم الرأي، وأنه في بعض المواضع متخلف النظر، وأنه يجهل نفسية المتنبي كل الجهل، وأنه لا يعلم أسرار الألفاظ التي يستخدمها الرجل في شعره"، إلى آخر ما قلت في مواضع متفرقة من مقالاتى التي تضمنها الجزء الثاني من كتابي. كل هذا قلته وأشد منه، ولكني لا أقول إنه (رجل جاهل) كل ما قلت من ذلك محدود بمواضع نقدى لنصوص من كلامه، لا ينسحب شيء منه انسحابا مطلقا على كل كلام يكتبه، ولا على شخصه من حيث هو أستاذ من الأساتذة الكبار. وما من أحد من الناس يخلو من عيب في بعض شأنه، فإطلاق العيب على كل شأنه مجازفة، ولكن الأساتذة الكبار قد سَنُّوا من السنن سنة المجازفة، فكأنك أيضا معذور لأنك لم تملك إلا أن تقيس سُنَّتى في الكتابة على سُنة "الأساتذة الكبار" وأنا لست منهم في شيء بحمد الله وتوفيقه.
* * *
نحن لم نزل في الثالثة. فسياق كلامك أنى وصفت الدكتور طه بأنه " (رجل جاهل)، (لا بصر له بتذوق الشعر) ". وظاهر عندي أن مسألة "التذوق" مما تشغلك شغلا حتى ترددها تردادا، ولذلك، فأنا أظنها انزلقت منك في خلال هذه الجملة، حيث كان ينبغي أن تكفها وتحبسها.
نعم، أنا قلت مرارا لا أحصيها في كتابي وفي مقالاتى عن كتاب الدكتور طه "مع المتنبي" أن الدكتور:"لا بصر له بالشعر"، ولكني لم أقل قط أنه "لا بصر له بتذوق الشعر"، والجملتان غير متكافئتين في المعني، حتى تغنى إحداهما عن الأخرى أو تقوم مقامها. وأنا أعلم أن أهل زماننا يتساهلون في كل شيء، ويتساهلون خاصة في التعبير، بلا تحديد ولا تحليل لألفاظ اللغة. وكنت أحب لك أن لا تتابعهم على هذا التساهل. ولكني أعلم أيضا أن هذه هي أيضا إحدى السُّنن التي سنّها "الأساتذة الكبار"، فغلبت على الناس وعلى ألسنتهم، فأصابت منهم موقعا أغفلهم عن حقيقة الفساد الذي يجره هذا التساهل. فهل تأذن لي أن أبين عن نفسي؟
في شهر فبراير سنة 1975، جاءني الأخ الأستاذ سامح كريم مندوبا عن مجلة الكاتب يسألنى سؤالا بمناسبة المشاركة في الاحتفال بذكرى وفاة الدكتور طه. وكان السؤال:"ما هو دور طه حسين في رأيك؟ ". وقد أجبته ونشرت الإجابة في مجلة الكاتب عدد مارس 1975 بعنوان "كانت الجامعة هي طه حسين". بدأت الإجابة بالقصة التي ذكرتها آنفا عن قراءتى على الشيخ المرصفي، وما عرفته منه من قراءة الدكتور طه عليه من قبل، قلت في مجلة الكاتب:
"فحفزنى ذلك على أن أسعى إلى لقاء الدكتور طه وإلى السماع منه (وذلك في سنة 1923)، فمن يومئذ عرفته من قرب. عرفته محبا لعربيته حبا شديدا، حريصا على سلامتها، (متذوقا) لشعرها ونثرها أحسن (التذوق). وعلمت أن هذا الحرص وهذا (التذوق)، كان ثمرة من ثمرات قراءته على المرصفي، فإني لم أر أحدا يحب العربية ويحرص على سلامتها كشيخنا المرصفي رحمة الله عليه. وكررت ذكر تذوقه في موضع آخر وقلت: ثم انتهى أمر الدكتور طه إلى أن صار من أكبر المدافعين عن اللسان العربي إلى آخر حياته، وأنه محال أن يحشر في زمرة الخبثاء ذوى الأحقاد من ضعاف العقول والنفوس الذين ظهروا في الحياة العربية لذلك العهد، بظهور سطوة "الاستعمار" وسطوة "التبشير"، وهما صنوان لا يفترقان ثم قلت:
"ودليل آخر، وذلك أنه حين انجلى غبار ما أثاره الدكتور طه بكتابيه: "في الشعر الجاهلي" و"مستقبل الثقافة في مصر"، وهما كتابان لا قيمة لهما من الوجهة العلمية، انجلت بعد ذلك نفس الدكتور طه، وناقض بما كتبه وبما قاله كل ما في هذين الكتابين من فساد. وَمَرُّد ذلك إلى هذه الخصال التي كادت تكون طبيعة في نفسه: من حبه للعربية وحرصه على سلامتها، وما هداه الله إليه من حسن (التذوق) لروائع البيان".
فهل تظن أن قائل هذا في الدكتور طه، يمكن أن يقول فيه "أنه (رجل جاهل)، ليس له بصر (بتذوق) الشعر هذا عجب أي عجب؟ ونعم أنا أقول
الآن وقد قلت مرارا كثيرة في مقالاتى "بيني وبين طه" وغيرها أن الدكتور طه "لا بصر له بالشعر، لأن البصر بالشعر يحتاج إلى أشياء كثيرا جدا، أظن (أي استيقن هنا) أن كثيرا منها يفتقر إليه أستاذنا الدكتور طه. وهناك فروق كبيرة بين "المعرفة بالشعر"، "العلم بالشعر"، و"البصر بالشعر" فالأمر كما ترى، درجات تفرق بينها فروق ظاهرة أحيانا ودقيقة أحيانا أخرى. وهذا رأي في معرفة الدكتور طه بالشعر تستطيع أن تقول فيه أنى مخطئ، بلا ضير عليك في ذلك. وسواء كنت مخطئا أو مصيبا، فإنه لا يتيح لك البتة، أن تستخرج منه -وهو بهذا القدر من التحديد- أنى أقول أن الدكتور طه رجل جاهل لا بصر له بتذوق الشعر بإقحام "التذوق" إقحاما يخرج عبارتى عن معناها ومرماها. وبيان ذلك أن التذوق معنى عام مجمل مشترك الدلالة بين الناس جميعا: لكل واحد منها نصيب، وهو يقل ويكثر ويعلو ويسفل، ويصقل ويصدأ، ويجود ويفسد ولكنه على كل حال حاسة لا غنى عنها للإنسان.
وقد بينت بعض رأيي في "التذوق" في كتابي "أباطيل وأسمار"، حيث قلت:
"كل حضارة بالغة تفقد دقة التذوق، تفقد معها أسباب بقائها. والتذوق ليس قواما للآداب والفنون وحدها، بل هو أيضا قوام لكل علم وصناعة، على اختلاف بابات ذلك كله، وتباين أنواعه وضروبه. كل حضارة نامية تريد أن تفرض وجودها، وتبلغ تمام تكوينها: إذا لم تستقل بتذوق حساس حاد مرهف نافذ، تختص به وتنفرد، لم يكن لإرادتها في فرض وجودها معنى يُعْقَل، بل تكاد هذه الإرادة أن تكون ضربا من التوهم والأحلام لا خير فيه. فحسن التذوق، يعني سلامة العقل والنفس والقلب من الآفات. فهو (أي التذوق)، لب الحضارة وقوامها، لأنه قوام الإنسان العاقل المدرك الذي تقوم به الحضارة. وهذا شيء لا يكاد يختلف فيه اثنان فيما أظن"، (أباطيل وأسمار: 34).
وإذن، فلفظ "التذوق" لفظ مبهم مجمل الدلالة، ولكل حي عاقل مدرك منه نصيب يقل أو يكثر، ويحضر في شيء ويتخلف في غيره، وتصقله الأيام
والدربة، وترهفه جودة المعرفة، والصبر على الفهم، والمجاهدة في حسن الإدراك. فبهذا القدر من دلالة اللفظ المجمل المبهم حين نقول "التذوق"، أقول إن الدكتور طه كان حسن "التذوق" للشعر أو لروائع البيان. وبهذا القدر أيضا صار الدكتور طه أديبا كاتبا متميزا من سواه في التعبير عن نفسه، أخطأ أو أصاب، غالط أو استقام، أو جز أو ثرثر، صح كلامه أو فسد، رضينا عن أسلوبه أو كرهناه. فلو صح أن أقول في الدكتور طه:"أنه رجل جاهل لا بصر له (بتذوق) الشعر"، لكان معنى هذا إخراجه من حيزه الذي هو فيه إلى حيز لا يكون فيه أديبا أو كاتبا، أي في حيز من لا يعتد به في الأدب أو في الكتابة. وهذا بلا شك، شيء لا يخطر ببالى، ولا يدل عليه شيء من حديثي عن الدكتور طه في كتابي هذا، ولا في سائر ما كتبت.
فانظر الآن، كيف فعل بنا أتباع سنة "الأساتذة الكبار" في التساهل في التعبير عن أنفسهم أحيانا، وفي نقل ما ينقلون بغير لفظه من كلام غيرهم؟ أنا لست من الأساتذة الكبار في شيء بحمد الله وستره، فأنا أرجو أن لا تُجْرِى عليَّ أو على كلامي سُنَّتهم، وأَجْرِ هذه السنة على كلامهم هم:"فأول راض سنة من يُسَيِّرها". ويحسن هنا أن أضع عبارتى التي أحزنتك، فاستخرجت منها عبارتك الحزينة عن رأيي في الدكتور طه، حين ذكرت المقالات التي كتبتها بعنوان:"بيني وبين طه"، فقلت:
"وحين بدأت أكتب، كنت قد حددت طريقى تحديدا كاملا، وهو أن أواجه الدكتور طه بثلاث حقائق:
= الحقيقة الأولى: أنه في أكثر أعماله "يسطو على أعمال الناس سطوا عريانا أحيانا، أو سطوا متلفعا بالتذاكى، والاستعلاء والعجب أحيانا أخرى".
= الحقيقة الثانية: أنه لا بصر له بالشعر، ولا يحسن تذوقه على الوجه الذي يتيح للكاتب أن يستخرج دفائنه وبواطنه، دون أن يقع في التدليس والتلفيق.
= والحقيقة الثالثة: إن منطقه في كلامه كله مختل، وأنه يستره بالتكرار والترداد والثرثرة" (المتنبي 1: 140).
فأنا أقول في الدكتور طه: "لا بصر له بالشعر، ولا يحسن تذوقه على وجه يؤدى إلى كيت وكيت -فصارت العاقبة، عاقبة التساهل: "رجل جاهل لا بصر له بتذوق الشعر" وبالتساهل أيضا صار "التذوق" المقيد بقيد، "تذوقا" جامحا مطلقا بلا قيد، فاكتسح في طريقه أخص خصائص الدكتور طه، وأجمل قدراته"! غفر الله لنا ولك، أيها العزيز.
وقبل أن أسلت نفسي من هذه الثالثة، أحب أن أقول لك: أنى كنت أتمنى أن تصدر مقالاتك الخمس هذه الجملة: "أنه لشيء محزن أن يصل اللدد في الخصومة حدا يجعلنا نسلب طه حسين أخص خصائصه، ونتجاهل أجمل قدراته، ونصفه بأنه رجل جاهل لا بصر له بتذوق الشعر". لأنك لو كنت فعلت ذلك، كان أبين عن طريقك في النظر إلى كتابي وكتاب الدكتور طه، وعن فصلك في القضية بيني وبينه. فالرحي لا تدور إلا على قُطْب، وهذه الجملة هي القطب، فكان تقديمها أولى من تأخيرها، لأنه منك قضاء فاصِلٌ بأنى بنيت ما كتبته على خصومة تحملنى على الجور حملا. هكذا أظن.
ولا أدري، منذ الآن هل تستطيع أن تصدقنى أو لا تستطيع، إذا أنا قلت لك: أنى منذ وقعت في المحنة، محنة "قضية الشعر الجاهلي" ورميت بنفسي في أهوالها التي كادت تفضى إلى الهلاك، لم يعصمنى فيها إلا آية سورة المائدة:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} . فمنذ خمسين سنة، قذفتنى القواذف في المعمعة، فأنا أخوض الغمرات في قضايا الفكر والنظر وأطأ على أشواك الاختلاف والتناقض، وتتخطفني خطاطيف الشكوك والريب، وأقف على شفا حفرة من النار، لو زلت بي قدم
لهويت على نار لا قرار لها سبعين خريفا. ولولا إخباتى لله بالطاعة فيما أمرنا به من القيام بالقسط، والاحتراز من الجور، وكف النفس عن تحكيم الشنآن (1) في كل قضية من آلاف القضايا التي يَعُبُّ عُبابها في بحار الفكر والنظر، لكنت قد هلكت منذ دهر طويل هلاكا لا مخلص منه. فهل تظن بعد ذلك أنى أكفر نعمة الله عليّ بنجاتى من ماحقات الدين، فأعمد إلى تحكيم الشنآن والخصومة في شيء هين لا خطر له، مثل كتابي وكتاب الدكتور طه عن المتنبي، فاتخذ الجور في الخصومة مذهبا، لا لشيء إلا لأسلب الدكتور طه بعض خصائصه وقدراته؟ ؟ هل تظن؟ رحم الله شيخ المعرة:
أَطَلبتُم أدبا لديَّ؟ ولم أزلْ
…
منه أُعانِى الحجر والتَّفْليسا
وأردتمونى أن أكون مُدَلِّسا؟
…
هيهاتَ! غيري آثرَ التدليسا؟
(1) الشنآن: البُغْض.