الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
شاعر الحب والفلوات ذو الرُّمَّة
- 1
-
" ذو الرُمّة: لقبٌ غَلَب عليه، واسمهُ "غَيلان بن عقبة بن مسعود" من بني عدي بن عبد مناة. وأمه "ظبية بنت عبيد أو بنت مصعب" من بني أسد. وإخوته لأبيه وأمه: "مسعود" و"هشام" و"جرفاس"، وكلهم شعراء. وكان هشام من عقلاء الرجال. وخاله أبو جنة الأسدي "حكيم بن عبيد أو بن مصعب"، وكان شاعرًا. وابن عمّهِ "أوْفى بن دلهم العدوى"، وهو أحد من يروى عنهم الحديث، وكان رجلًا صالحًا. وصاحبته ميّ بنت عاصم بن طلبة بن قيس بن عاصم المنقرى. وجدها قيس بن عاصم هو الذي قال فيهِ رسول الله: هذا سيد أهلِ الوبَر. ثمَّ شبَّب ذو الرمة بخرقاء العامرية ليكيد بها مَية -وذلك قبيل وفاتهِ بقليل- ثم نزع إلى صاحبته حتى مات".
قبس يتوقّد في عيني هذا الغلام البدويّ النحيف، وقد أخذت أمه بيده تريد ذلك الشيخ سيد بني عديّ بن عبد مناة "الحُصينَ بن عبدة بن نعيم العدوى" وجاءَت المسجد والناس على صلاتهم، حتى إذا ما انفتلوا عن موقفهم، وانفضُّوا عن إمامهم أقبلت عليهِ: يا أبا الخليل إن ابني هذا يروع بالليل كأنما يفزِّعهُ شيطان، وإني لأخاف عليه، فاكتب لي معاذة أعقلها على عنقه. قال الشيخ: إيتينى بِرَق أكتب لك فيه. قالت: فإن لم يكن، فهل يستقيم في غير رقّ أن يكتب له؟ قال: فجيئينى بجلدٍ. فانطلقت الأم الوالهة حتى أتتهُ بقطعة جلدٍ غليظ، فكتب الشيخ لهُ معاذة فيه، فعلقتها في عنقه مشدودة على يساره في حبل أسود.
فمكث الغلام بها ما شاءَ الله أن يمكث، حتى قال شعرًا. وإن أمهُ لتمشي بهِ إلى بعض حوائجها، فلما كانت ببعض الطريق، مرَّت بالشيخ سيد بني عديّ بن
(*) المقتطف، المجلد 102، فبراير 1943، ص: 126 - 130
عبد مناة، وهو جالس في ملأ من أصحابه ومواليه. دنت وسلّمت وقالت: يا أبا الخليل: هذا غلامك غيلان قد شبَّ وقال (1)، ألا تسمع قوله وشعره؟ قال: بلى! يا أم مسعودٍ! فتقدّم الغلام فأنشدهم، فإذا أبلغ قائل، وأنطق متكلم، وأحسن صوتٍ في أحبّ إنشادٍ، كأنما يرتل مزامير داود. قال الشيخ لقد أنجبتِ يا أمّ مسعود! أحسن ذو الرمة وأنهُ لشاعرٌ! فمن يومئذٍ ذهب بلقبه "ذي الرمة"، لذلك الحبل الأسود البالي الذي كان في عنقه، والذي كانت فيه المعاذة. (والرمة قطعة من حبلٍ بالية).
ولم يلبث أن خرج الغلام "ذو الرمة"، هو وأخوه مسعود وابن عمه (أوْفى)، في بغاءِ إبلٍ ضلّت لهم، حتى إذا أجهدهم العطش، وردوا ماءً. وإذا حِواءٌ (2) عظيم. فقال مسعود لأخيه الغلام: إيت الحِوَاء فاستسق لنا. فانطلق، فإذا عجوزٌ جالسةٌ فاستسقاها. فالتفتت وراءَها وقالت: يا مَي! اسق الغلام! . . . ودخل ذو الرُّمة على مي وهي تخيطُ ثوبًا لها، وهي تتغنَّى بأرخم صوتٍ.
يا من رَأى برقًا يَمُرُّ حينا؟
…
زمْزَمَ رعْدًا وانْتَحى يمينا
كأنّ في حافاته حنينًا
…
أو صوتَ خيل ضُمَّر يَرْدِينا (3)
فقطعت غناءَها وقامت إليهِ تصبُّ في قربته من الماءِ. وعلى الفتاة بُرْدٌ فارسيٌّ لا جَيب ولا كُمّ يسمونهُ "النوذر". فلما مالت على القربة تصبُّ، رأى ذو الرُّمَّة، فلها بالنظر إليها. . . غلامٌ متوقدٌ ينظر من عيني باز، إلى فتاة أحسن من النار الموقدة في الليلة القرّة في عين المقرور مسنونة الوجه، أسيلة الخد، شماءُ الأنف، حُسَّانة الجيد، هيفاءُ أملود (4)، واردة الشعر، عليها وَسْم جمال، تنظر عن عيني غزال، فجعل يستطعم حديثها، حتى انطلقت تحدثهُ ويحدِّثها، والماءُ يذهب يمينًا وشمالًا. رقّت الفتاة للغلام حين نمَّ صوتهُ على هواه. فقالت له: يا ذا الرمة! لقد كلّفك أهلك السفر، على ما أرى من صغرك وحداثة سنك! ! وتفطن لهما العجوز، وتقبل عليهما، وتقول: يا بنَّي! ألهتك ميّ عما بعثك أهلك له! أما
(1) أي قال الشعر.
(2)
الحواء: مجتمع بيوت الناس.
(3)
يردى: يسرع.
(4)
الأملود: اللينة القَدّ.
ترى الماءَ يذهب يمينًا وشمالًا؟ فلم يخش أن يقول لها يا أماه! أما والله ليَطولنَّ هيامى بها! ! . . . ثم يملأ قربتهُ وينصرف، ويأتي أخاه وابن عمه. ولم يطل بهِ الأمر حتى أخذه من هواه ما قرب وما بعد، فيلف رأسهُ، وينتبذ دونهما ناحية، حتى دنا رحيلهم فارتحلوا، وميّ أحلام ليله ونهاره.
وشبّ الغلام في وَهج الحبّ. . . في سعير الحرمان، فإذا هو شابٌّ آدم، رقيق البشرة، مدوَّر الوجه، أكحل حلو العينين، برَّاق الثنايا، حسن المضحك، أقنى الأنف، أنزع الرأس، حسن الشعرة جعدها، خفيف العارضين. . . بدويّ جميل المنظر، لوَّحه (1) البيد والأسفارُ، وإذا هو يفترُّ عن شاعر عاشق مُلْهم لُجِّيّ الصبابة، لا يشكو الحبَّ أحد أحسن من شكواهُ، مع عفةٍ وعقل رصين. وإذا هو يتعشق الأطلال في البوادي والقفار، فيقف عليها متأملًا قد نفذت بهِ أشواقه إلى سرِّ الرمالِ، فلا ينعتُ الفلوات، وسرابها، وأسفارها، وسَفْرها (2)، وما فيها من شيء. . . شاعرٌ، أبرعَ من نعته. ويتسامع الناس بهذا "الغلام من بني عدى" الذي يركب أعجاز الإبل وينعت الفلوات، حتى يحسده فحول الشعراءِ كجرير والفرزدق، فيؤخروا ذكره لما يرون من حداثة سنه، وأنهُ لا يحسن من الشعر ما يحسنون. . . هذا المدحَ، وهذا الهجاءَ، وهذا الفخر! !
ولكن الفتى البدويّ العاشق يندفع إلى الحَضَر فيكثر أن يأتي الكوفة والبصرة يدَعُ رجز أهل البادية، ويأخذ في القصيد. ويلم بأهل الحضر فإِذا هو عندهم من أظرف الناس وأرقهم: بدويٌّ عاشق، عفيف الطرف، عذب المنطق. إذا نازع أحدًا الكلامَ لم يسأم حديثه، وإذا تكلّم أبلغ الناس، يضع لسانهُ حيث شاء، لم يكن أحد من القوم أحلى كلامًا، ولا أجلي منطقًا، ولا أحسن جوابًا منهُ، حتى كانوا يرون أن كلامه أكبر من شعره.
ولم يزل الفتى يتردد بين ديار ميّ في بلاد بني مِنْقَر، وبين دياره في بلاد بني عديّ، وبين الكوفة والبصرة. فتجلو أرض الحضر وحديث أهلها بعض ما في
(1) لوّحه: غيّر لونه وأضمره.
(2)
السفر: جماعة المسافرين، مثل راكب ورَكْب.
نفسه من جفاء البادية. حتى إذا لجَّ به هواه عاد إلى بلاد مى ينظر الديار بعينين ظامئتين، فإِذا خفَّ ما به انقلب إلى أهله، يحادث بينهم قلبه. ولا يزال يردد ذكر مي حتى عرف بها وعرفت بهِ، ولم يكن ما بهِ إلَّا هوى فتى لفتاة هو عليها -إن شاء- قادر. فقنع بذكرها وحبها زمنًا، وجعلت عناصر المأساة تتجمع من هنا ومن هناك ومن ثمة. وذو الرمة في أسفاره يتطرح (1) لكان البوادي والحضر، يستزير طيف ميّ على البعد، قد عمى عن فجاءات الغيَر!
لم تلبث مى أن تزوجت أحد رجال قومها: "عاصمًا المِنْقَرِى". نسيت الغلام الذي عجبت منه ومن أخيه مسعود، يوم.
"رأتْ غلامَى سَفَرٍ بعيد
…
يَدَّرِعان الليل ذا السدود"
"مثل ادّراع اليَلْمَقِ (2) الجديد"
نسيت ميّ عينيه تنظران في عينيها، وهي تصبّ له الماء في قربته، فيشغلها الحديث ويشغله، فيذهب الماء يمينًا وشمالًا. نسيتْ ذلك الهيام الذي انبعث في صوت الغلام يدعو هواها إلى هواه. لم تأبه لذلك القلب الغض الذي تنسَّمها فاستراح، ثم فارقها ليتعبّد لها ولطيفها في الليل والنهار. . . مات صدى كلماته وهو يقول لأمها:"أما والله ليطولنَّ هيامى بها"، فلم تجد لها في نفسها رجعًا. ويعرف ذو الرمة خبر زواج ميّ، فيجن جنونًا.
يومئذٍ ينبثق ينبوع الشعر في قلب هذا البدوى العاشق المحروم. الأمل، اليأس، اللوعة، الدمع، الصبوة، الأحلام، وساوس القلب، ديارها، زوجها، أخوها، الغدر، الذكريات، النظرة الأولى. . . كل هذه أخذت تتدفق في خطرات قلبه تحت الضربة الأولى من ضربات الغيرة المغيظة، المحنقة، الحاقدة. ميُّ. . . ميُّ. . . ميُّ. . .، هكذا يتردد صدى الضربات الملحة التي لا تفتر ولا تنقطع. . . ميُّ. . . ميُّ. . . ميُّ. . .، صدى يتردد في أذنيه من عن يمينه وشماله، قد ملأَ عليهِ أرضه وسماءه.
(1) يتطرح: يذهب ويجئ على ما بُعْد ما بينهما.
(2)
اليلمق: القباء الفارسى، وهي مُعَرّبة.
ميُّ. . . ميُّ. . . وتضرمت الروح باللَّهب القدسى، وانبعثت في عيني "ذي الرمة" تلك الشغلة الخالدة التي لا يطفئها شيءٌ، وأكلت النار التي لا تخبو كل غشاءٍ كان يحول بينة وبين ميّ. وإذا الفتى اللاهي جليد "قد حلّمته العشائر"(1). ويخرج من بلواه. . . من غيرته. . . من أحقاده، قد نصب وجهه لهجير الحياة، فإذا قسماته تتوهج بالعزم، والصبر، والمغالبة، وفي عينيه تلك النظرة النافذة المتأملة الساكنة، ثابتةً لا تنهزم.
لقد كان أحب فتاة هو عليها -إن شاء- قادرٌ، وهو اليوم يحب امرأة قد ضمها خدْر بعلها، فلا سبيل لهُ عليها. أحبَّ الفتى فتاته، ولكنه اليوم رجل يحب أنثى قد تصدّى وجودها لوجوده. ذهب الفتى وذهبت الفتاة، وبقى الرجل والمرأة.
أيُّ سرّ عجيب يمس الفتاة اللاهية المتقلبة فإِذا هي تستحيل إلى وجودٍ كامل. . . إلى قلب يسع الدنيا. . . إلى حب ثابت حافل؟ أي سرّ هذا الذي يحيل عاشقها الفتى إلى قوةٍ زاخرة منشئة مبدعة متجلية، لا تقف ولا تتردَّدُ. أي سر فيها يمنح العين دقة ونفاذًا؟ أي سر ينفث في البصيرة وعيًا مستوعبًا لا يضيق؟ بل أي سر هذا الذي يرد إلى العبد حريته ليزداد في حريته تعبدًا للرّق؟
وينظر ذو الرمة فيرى الأُسَى (2) قد سبقته بين يديه. فما من شاعر من العشاق إلَّا قد ابتلىَ بمثل ما ابتلى به: امرأة ذات بعل لا سبيل لهُ عليها. أهي إذن "المرأة" وحدها لا الفتاة؟ أهي وحدها التي تحقق لهُ معني وجوده؟ فليذهب ليخالس الطرف إلى مى زوج "عاصم المِنْقَرى". ويركب ناقته "صَيدَح"، حتى إذا انتهي إلى ديارها لمح "ميًّا" مع الصبح تستقبل النهار.
وتجلو بفَزع من أراك كأنه
…
من العنبر الهندى والمسك يُصبَحُ (3)
(1) من بيت لذى الرمة، وتمامه:
أفي الدار تبكى أن تفرق أهلُها
…
وأنتَ امرؤٌ قد حَلمتْكَ العشائِرُ
حلمتك: وَصَفُوك بأنك حليم.
(2)
الأُسَى: جمع أُسْوَة.
(3)
الأراك: شجر تتخذ منه المساويك. يُصبح: يُشقَى العنبر الهندى والمِسك في الصباح
ذُرى أَقْحُوانٍ راحهُ الليل وارتقى
…
إليه الندى، من رامة، المتروّحُ (1)
هجانَ الثنايا مُغْرِبًا لو تبسمت
…
لأخرس عنه، كاد بالقول يفصح (2)
هي البرءُ والأسقام، والهمُّ، والمنى،
…
وموت الهوى، لولا التنائى المبرح
ويعود "ذو الرمة" إلى ديار أهله، إلى أخيه مسعود، إلى الذي جعل يركب معه الفلوات، يطيعه تارة حين يستوقفه على ديار مى، ويعصيه تارة أخرى ويلومه. ولم يزل ذاك أمره، يهيم في ديار مى أكثر من عشرين سنة، ومى لا تزداد في عينيه إلَّا ملاحة، ويتفجر شعره من قلبه، يشكو ما يلقاه من حبها، وما يقاسيه من البيد في الحنين إليها والوجد بها. ولا يلقى صاحبته إلَّا والحيُّ خُلوف، لم يبقَ في الديار إلَّا النساءُ، فيشكو لها ويتوجع، فتمسح عنهُ بعض عذابه. ويتردّد شعره بين البادية والحضر فلا يزال يعجب الناس ويحسده الشعراءُ.
ويلجُّ الشوقُ بذى الرمة يومًا، فيركب ناقته في ليلة ظلماءَ يريد أن يضيف (3)"عاصمًا المنقرى" زوج ميّ، وهو يطمع في أن لا يعرفه فيدخله بيته، فيقريه، فيرى ميًّا، ويتزوّد من وجهها، ويكلمها. فلما نزل به فطن له عاصم وعرفهُ، فلم يدخله. وأخرج إليهِ قراه وتركه بالعراءِ، فلمحته مية تحت الليل فعرفته. وجعل ذو الرمة يتململ، فلما كان في جوف الليل تغنى غناء الركبان ببعض شعره:
أراجعة يا ميّ أيامنا التي
…
"بذى الرمث" أم لا؟ ما لهن رجوعُ!
ولو لم يَشُقنى الظاعنون لشاقنى
…
حمام تغنَّى في الديار وقوعُ
(1) ذُرى الأقحوان: أعاليه، وهي جمع أُقحوانة، وهي نبتة طيبة، تشبّه بها ثغور النساء.
(2)
هِجان: بيض، وكذلك مُغْرِب، أو هو الشديد البياض.
(3)
يضيف: ينزل به ضيفا.
تجاوبنَ فاستبكينَ من كان ذا هوى،
…
نوائح ما تجرى لهن دموعُ!
دعاني الهوى من نحو ميّ، وشاقنى
…
هوَى من هواها: تالد ونزيعُ (1)
إذا قلت عن طول التنائى قد ارعوى،
…
أبي مُنْثَنٍ منه علىَ رجيعُ
فغضب عاصمٌ، وقام إلى امرأته وقال: قومى فصيحي به وسبيه، وقولي: أي أيام كانت لي معك "بذى الرمث"؟ فأبت ميّ وقالت لزوجها: يا سبحان الله! ضيف! ! والشاعر يقول! فانتضى عاصم سيفه وقال لها: لأضربنك به حتى آتي عليك أو تقولي! ففزعت وصاحت بذى الرمة وسبته كما أمرها زوجها. هذا صوت مى! ! ذهل ذو الرمة، فلما استقر في سمعه كلامها، نهض على راحلته فركبها. وانصرف عنها وعن ديارها مغضبًا يريد أن يصرف قلبه عنها إلى غيرها. وعاد إلى ديار قومهِ مغيظًا يتمزَّق، وأبى على نفسه ذكر مى. . . وهيهات.
وجاء قَدَرُه، فخرج في سفر في بعض أصحابه، فلما كان بفَلْج -في طريق الحاج من البصرة إلى مكة- إذا جوارٍ خارجات من بيت يردنَ آخر، وفيهنَّ جارية طويلة، حسنة، حلوة، شهلاء، بها فَوَهٌ (2)، فنظر إليها فوقعت في عينه وفي قلبهِ المغيظ المحنق، وذكر ميًّا فأراد هذه يكيدها بها إذا تناقل الناس ما بينه وبينها، وما يقول فيها. فأخذ إداوَته (3) فخرَّقها، ودنا من هذه الجارية يبتغى حديثها فقال: إني رجل على ظهر سفر، وقد تخرّقت إداوتى فأصلحيها. فنظرت إلى عينيه وقالت له تهزأ به: والله إني ما أحسن أعمل، وإني لخرقاءُ! (والخرقاء التي لا تعمل بيدها شيئًا لكرامتها على أهلها)، فسماها يومئذٍ خرقاء. وانطلق يشبب
(1) التالد: القديم. والنزيع: الذي ينزعه من مكانه إلى منَ أحب، يعني أن هواه أبدا متجدد.
(2)
الشهلاء: التي يخالط سواد عينها حُمرة أو زرقة، وهو ذَمٌ عندهم. الفَوَهُ: سعة الفم، وأيضًا خروج الأسنان من الشفتين وطولها.
(3)
الإداوة: وعاء يحفظ فيه الماء مثل المَزادَة.
بها ويذكرها في بعض شعره، يريد أن يغيظ بذلك ميّا، فرمى إليها أول ما رمى ببيت تداولته الرُّواة:
تمام الحجّ أن تقف المطايا
…
على خرقاءَ واضعة اللثام
فجعلها منسكًا من مناسك الحج، لا يتم إلا به! ! ولكنه كان لا يطيق أن يدع ذكر مى فلم يقل في خرقاء إلا قصيدة أو قصيدتين، ورجع إلى ميّ.
ثارت نفس ذي الرمة ثورتها على مى، وقلق، فاضطرب في البلاد حتى أبعد، فذهب إلى أصبهان، فلم يطق أن يقيم بها فعاد إلى دياره. . . صبيّ مروَّع يتفزَّع بالليل، وغلامٌ عاشق يتزوّد بعينيه من ميّ نظرة بعد نظرة، وبين جنبيه نفس ملتاعة يحرقها الوجد في وقدة البيد تحت الشمس السافرة، ثم شابٌّ تأكل الغيرة قلبه، يثور بالليل والنهار فزعًا إلى مى، إلى المرأة التي لا سبيل لهُ عليها إلا بالوساوس والأوهام. إلى أين ومن أين؟ من البادية
…
إلى الحضر
…
إلى البادية
…
من الديار
…
إلى الأطلال، ومى تناديه في سرَ روحه فيهوى إليها كأنه شهاب تقاذفهُ الفضاء. فلم يلبث ذلك الشاب القصير، النحيف، الخفيف العارضين، أن استحال شيخًا شَخْتًا (1) دقيق العظام، قد براهُ الحب والضنى ولما يشرف على الأربعين. حتى إن أمهُ لتقول، وقد تحلق الناس عليه واجتمعوا. فأنكر -من لم يعرفهُ- دمامته، : أيها القوم اسمعوا إلى شعره، ولا تنظروا إلى وجهه! !
فلم يلبث ذو الرمة على ذلك أن اشتكى "النُّوطة" -وهي زيادة تحدث في النحر كأنها غدَّة، تَمور بين الجلد واللحم إذا حركتها- فوجع بها دهرًا حتى قال:
أَلِفْتُ كلابَ الحَى حتى عَرَفْنَنِي
…
ومُدَّت نساج العنكبوت على رَحلى
فلما تماثل عزم على أن يخرج إلى الشام، إلى هشام بن عبد الملك، فقال
(1) الشخْت: الدقيق الضامِر.
لأخيهِ مسعود: يا مسعود! قد أجدنى تماثلت، وخفّت الأشياء عندنا، واحتجنا إلى زيارة بني مروان، فهل لك بنا فيهم؟ فقال نعم! فأرسلهُ إلى إبلهِ يأتيهِ منها بلبن يتزوّده، وواعده مكانًا. وركب ذو الرمة ناقته فقمصت به، وكانت قد أعفيت من الركوب، فانفجرت النوطة التي كانت به. فلما بلغ موعد أخيهِ جهد فقال: أردنا شيئًا وأراد الله شيئًا. وإن العلة التي كانت بي قد انفجرت. مكث أيامًا حتى ثقل، وكان معه من أخواله الحجاج الأسدى فسأله: يا غيلان! كيف تجدك! فقال: أجدنى والله يا أبا المثنى اليومَ في الموت لا غداة أقول:
كأني غداة الزُّرق يا مى مُدنفٌ
…
يَكِيد بِنَفْسٍ قد أحمّ حِمامُها (1)
فلما احتضر كان آخر ما قاله:
يا ربِّ قد أشرفتْ نفسي، وقد علمتْ
…
علمًا يقينًا لقد أحصيتَ آثارى
يا مُخْرِجَ الروح من جسمى إذا احتضرت،
…
وفارج الكرب، زَحزِحْني عن النارِ
فمن مبلغ ميًا منية هذا القلب الذي شب في حبها حتى هَرِم قبل حين هَرَم؟ ؟
(1) يكيد بنفسه: يجود بها عند الموت.