المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌تتمة القول في التذوق - جمهرة مقالات محمود شاكر - جـ ٢

[محمود شاكر، أبو فهر]

فهرس الكتاب

- ‌الناسخون الماسخون

- ‌إكمال ثلاثة خروم من كتاب التنبيه على أوهام أبي علي في أماليه

- ‌من خط البغدادي *

- ‌مقاليد الكتب

- ‌أدب الجاحظ

- ‌الصاحب بن عباد

- ‌أبو نواس

- ‌ضحى الإسلام

- ‌الشريف الكتانى

- ‌نابغة بني شيبان

- ‌مقاليد الكتب

- ‌1 - كتاب "حافظ وشوقي

- ‌2 - كتاب الرثاء

- ‌3 - كتاب الخط الكوفي *

- ‌4 - صلاح الدين وشوقي *

- ‌5 - كتاب الشخصية *

- ‌6 - كتاب أمير الشعراء شوقي *

- ‌مقاليد الكتب

- ‌حاضر العالم الإسلامي

- ‌ذكرى الشاعرين

- ‌ماضي الحجاز وحاضره

- ‌الوحي المحمدي

- ‌مقاليد الكتب

- ‌1 - ملوك المسلمين المعاصرون ودولهم

- ‌2 - ابن عبد ربه وعقده

- ‌3 - رحلة إلى بلاد المجد المفقود

- ‌4 - تنبيهات اليازجي على محيط البستاني جمعها وحل رموزها

- ‌مقاليد الكتب

- ‌1 - أنتم الشعراء

- ‌2 - تاريخ مصر الإسلامية

- ‌3 - آلاء الرحمن في تفسير القرآن

- ‌مقاليد الكتب

- ‌1 - ابن خلدون: حياته وتراثه الفكرى

- ‌2 - قلب جزيرة العرب

- ‌الينبوع

- ‌النثر الفني في القرن الرابع

- ‌مقاليد الكتب

- ‌1 - ديوان عبد المطلب

- ‌2 - مرشد المتعلم

- ‌3 - مواقف حاسمة في تاريخ الإسلام

- ‌ ملوك الطوائف، ونظرات في تاريخ الإسلام

- ‌الإسلام والحضارة العربية

- ‌وَحْيُ القلم

- ‌علم معاني أصوات الحروف سر من أسرار العربية نرجو أن نصل إلى حقيقته في السليقة العربية (1)

- ‌علم معاني أصوات الحروف سر من أسرار العربية نرجو أن نصل إلى حقيقته في السليقة العربية (2)

- ‌علم معاني أصوات الحروف سر من أسرار العربية نرجو أن نصل إلى حقيقته في السليقة العربية (3)

- ‌عبقرية عمر

- ‌شاعر الحب والفلوات ذو الرُّمَّة- 1

- ‌شاعر الحب والفلوات ذو الرُّمَّة- 2

- ‌شاعر الحب والفلوات ذو الرُّمَّة- 3

- ‌ جمعية الشبان المسلمين

- ‌ تاريخ اليوم الأول

- ‌ دعوة الشباب إلى الجمعية

- ‌ الاجتماع الأول

- ‌ الاجتماع الثاني والثالث

- ‌ انتخاب مجلس الإدارة

- ‌في حلبة الأدب

- ‌كتاب تطور الأساليب النثرية في الأدب العربي

- ‌ عن كتاب تطور الأساليب النثرية" رد على مؤلفه

- ‌ترجمة القرآن وكتاب البخاري

- ‌ترجمة القرآن في صحيح البخاري

- ‌من أين؟ وإلى أين

- ‌لماذا، لماذا

- ‌تهيئة الشرق لوراثة الحضارات والمدنيات

- ‌شكر

- ‌أنا وحدى

- ‌الطريق إلى الأدب- 1

- ‌الطريق إلى الأدب- 2

- ‌فوضى الأدب وأدب الفوضى

- ‌الأدب والحرب

- ‌إلى على ماهر باشا

- ‌لا تبكوا. .! لا تنوحوا

- ‌تجديد التاريخ المصري ساعة واحدة

- ‌أحلام مبعثرة

- ‌أهوال النفس

- ‌وقاحة الأدب أدباء الطابور الخامس

- ‌قلوب جديدة

- ‌القلم المعطَّل

- ‌اللغة والمجتمع

- ‌أوطانَ

- ‌(حول قصيدة القوس العذراء)

- ‌صَدَى النقد طبقات فحول الشعراء رد على نقد

- ‌[الاستعمار البريطاني لمصر]

- ‌المتنبي

- ‌حديث رمضان. عبادة الأحرار

- ‌مع الشيطان الأخرس

- ‌ يحيى حقي صديق الحياة الذي افتقدته

- ‌لا تنسوا

- ‌عدوى وعدوكم واحد

- ‌أندية لا ناد واحد

- ‌لا تخدعونا

- ‌احذروا أعداءكم

- ‌في خدمة الاستعمار

- ‌حكم بلا بينة

- ‌تاريخ بلا إيمان

- ‌المسلمون

- ‌ لا تسبُوا أصحَابي

- ‌طلب الدراهم من الحجارة

- ‌ألسنَةُ المفترين

- ‌جرأة العلماء

- ‌أحمد محمد شاكر إمام المحدّثين

- ‌ قُرَىَ عَرَبِيَّةَ

- ‌كانت الجامعة. . . هي طه حسين

- ‌مواقف

- ‌في الطريق إلى حضارتنا

- ‌الأندلس تاريخ اسم وتطوره

- ‌المتنبي ليتني ما عرفته- 1

- ‌المتنبي ليتني ما عرفته- 2

- ‌القول في "تذوق الشعر

- ‌القول في "الشعر

- ‌القول في "التذوق

- ‌المتنبي ليتني ما عرفته- 3

- ‌تتمة القول في التذوق

- ‌قضية "التذوق" عندي

- ‌تاريخ "التذوق" عندي

- ‌من هؤلاء

- ‌قضية اللغة العربية

- ‌في زمان الغفلة

- ‌هؤلاء الخمسة

- ‌الفقيه الجليل ورموز التكنولوجيا

- ‌النكبات الثلاث

- ‌الجبرتى الكبير

- ‌الألفاظ المكشوفة في هذا الكتاب طبيعية وينبغي ألا يجهلها البشر

- ‌ذكريات مع محبى المخطوطات

- ‌[تعقيب]

- ‌كلام منقول بنصه

- ‌في الطبعة الجديدة "للمتنبى

- ‌ الجيل المفرغ

- ‌كتاب الشعر الجاهلي

- ‌هل يبقى الاتهام

- ‌تهمة أكبر

- ‌ليس شكا أزهريا

الفصل: ‌تتمة القول في التذوق

ما جدوى التمنى! لابد مما ليس منه بد. فلنعد، إذن إلى حديث "الإبانة" و"الاستبانة" و"التذوق"، وإن كان التوقف والانقطاع، فلنعد إلى بعض التكرار، لأريح القارئ من بعض العنت والمشقة.

‌تتمة القول في التذوق

خليط هائل يموج بعضه في بعض من الحب والبغض، والصدق والكذب، والشك واليقين، والعفة والدعارة، والود والمداهنة، والاستقامة والمراوغة، والغضب والرضى والتقوى والفسق، والشجاعة والجبن، والنشاط والسأم، والطمع والقناعة، والصبر والجزع، والألم واللذة، والحزن والفرح، والغش والأمانة، والأنفة والاستكانة، والطيش والحلم، والطلاقة والعبوس، والسفه والوقار، والخسة والنبل، والعقل والجنون، والحقد والصفاء، والجفاء واللين، والفطنة والغفلة، والسكينة والهلع، والحياء والقحة، والدماثة والشراسة، والقسوة والرقة، والزهو والتواضع، والخبث والطيبة .. وألوف مؤلفة من الخواطر والهواجس، والهواتف والوساوس، والنوازع والشهوات والغرائز والطبائع، والأهواء والعواطف، والشيم والشمائل. وبحور متلاطمة من أفكار مركبة، وصور مصورة، متجددة الظهور والاختفاء، والثورة والخمود، تتصادم وتأتلف، وتتزاحم وتنفض، تضيئ وتنطفيء، وتثب وتغوص، وتعدو وتدب، وتعوى وتغمغم، وتقدم وتهرب .. هول هائل يجول في النفس ليلًا ونهارا، في مستقر قوى الحلقة المفرغة، (المكونة من العقل والقلب والنفس والقدرة على البيان) .. كل منها يطالب "القدرة على البيان" أن تهيئ نفسها وتتشكل، وأن تعبئ نفسها تعبئة صالحة عند الحاجة للدلالة على وجوده وحضوره في الضمير قديما أو متجددا، ظاهرا أو باطنا، مجملا أو مفصلًا.

حتى إذا ما جاء وقت "الإبانة"، وهو أول عمل لهذه القوة الغريبة الغامضة المطبقة للتشكل، مارست إنشاء الكلام وتركيبه على أسلوب مطبق لأن تحمل أحرفه وكلماته وجمله وتركيبه ومعاطف معانيه أمشاجا متداخلة مما تتميز به نفس

ص: 1162

صاحبها أو ضميره، ثم تفصل عن لسانها حاملة آثارا مفصحة، أو مستكنة، أو عالقة، أو ناشبة، في ثنايا الكلام، وفي طواياه، وفي أغواره، دالة على صاحبها دلالة مميزة له من سائر إخوانه من البشر.

حتى إذا ما جاء وقت "الاستبانة"، وهو العمل الثاني لهذه القوة الغريبة الغامضة تلقت "الكلام" الذي يأتيها من خارج، والذي أنشأته أخت لها عند إنسان آخر، انبعثت هذه القوة تمارس عملها الثاني ممارسة خاطفة لأول وهلة، فتهتز لما تلقته، ثم تبدأ تقلب "الكلام" وتفليه بسرعة مذهلة، متدسسة في الثنايا والطوايا، والأغوار، طالبة باحثة عن الآثار التي علقت بالأحرف والكلمات والجمل والتراكيب التي جاءتها من خارج، يعاونها في ذلك جميع صواحباتها في الحلقة المفرغة، (وهي العقل والقلب والنفس). وهذه "الاستبانة" نجدها في أنفسنا وجودا ظاهرا لا خفاء فيه، إذا ما أحسن أحدنا التنبه لهذه اللحظة الخاطفة التي يتم فيها عمل "القدرة على البيان"، إذ هي عندئذ صاحبة السلطان الأعظم على قوى الحلقة المفرغة، وقبل أن تتراخى قبضتها عن صولجانها، ليتاح للعقل أن يهتبل الفرصة ليبسط سلطانه على قوى الحلقة المفرغة، وليتولى عمله في التبين والتمييز ليقضى فيما سمعن جميعًا قضاء فاصلا، ثم يحكم مستقلا بالحكم.

وهذه "الاستبانة" التي تتولاها "القدرة على البيان"، وهي مسيطرة على قوى الحلقة المفرغة، تتطلب ما تتطلب في كل كلام تتلقاه من خارج، هذه الآثار التي ذكرتها آنفا. وهي تفعل ذلك في سرعة خاطفة خارقة لكل مدى تبلغه السرعة، وفي "زمن" مختطف كومضة البرق لا يمكن إدراكه أو تثبيته، ثم تتراخى قبضتها على صولجانها، لكي يمارس أخوها العقل سلطانه القاهر على قوى الحلقة المفرغة، في تبين الكلام وتمييزه. وهو أيضًا يفعل ذلك في سرعة مذهلة، وفي زمن مختطف أيضًا كومضة البرق لا يمكن إدراكه أو تثبيته. ولكن طبيعة العملين:"عمل العقل في التبين والتمييز، وعمل القدرة على البيان في الاستبانة"، وطبيعة السرعة عند كل منهما، مختلفان اختلافا صريحا، نجده في

ص: 1163

أنفسنا بالتأمل المستغرق، ولكننا نعجز عن أن نحدده تحديدًا قاطعًا ظاهرًا يبين عن قدر هذا الاختلاف أو نوعه.

ولذلك يقع التداخل والخلط عندنا بين أحكام "القدرة على البيان" في "زمن" الاستبانة، وبين أحكام العقل عليه في "زمن" التبين والتمييز لأنهما زمنان مختطفان متلاحقان متداخلان غير قابلين للإدراك والتثبيت.

بل يبلغ الأمر مبلغا أبعد من ذلك بكثير، وهذا عجب وفوق العجب: إن الكلام المركب من الأحرف والكلمات والجمل، تحمل في تركيبها أشياء أخرى غير آثار الطبائع والغرائز والأهواء والنوازع التي يطول جولانها من السرائر والضمائر المغيبة. نعم هي قادرة بفضل هذه القوة الغريبة النفسية العجيبة المنشئة للكلام، أن تُحَمِّل الأحرف والكلمات والجمل ضروبا أخرى من الدلالات الخفية والظاهرة، والكامنة والمنسابة، تدل على هيئة صاحبها، وعلى حركاته عند إنشاء الكلام، وعلى شمائله الظاهرة، وعلى سمته، وعلى صوته، حتى كأنك ترى صاحب الكلام ماثلًا أمامك، يشير، أو يتحرك، أو يهمس، أو يصرخ، أو يتلوى، أو يثنى جيده، أو يرفع رأسه فعل المندهش أو المستنكر، أو يميل جانبا كفعل الذي يسرّ إليك سرا، أو يغضى، أو يطرق، أو يسكت سكتة كالمتردد بين أن يتم كلامه أو يكف عن الكلام، أو يشيح بوجهه فعل المستنكف .. مئات لا تعد من السمات الظاهرة والخفية التي يتميز بها متكلم عن متكلم. كل ذلك ممكن أن تراه أو تحسه وهو يطل ملثما أو سافرا من خلل الأحرف والكلمات والجمل، مغروسا في حافاتها وحواشيها، بل مغروسا أيضًا في معاطف المعاني التي يدل عليها هذا الكلام المركب. عجب وفوق العجب! وهذا شيء تحسه أحيانا إحساسا خاطفا في الشعر وفي غير الشعر، ولكنا لا نطيل الوقوف عليه متأملين، بل نتجاوزه تجاوز المستهين الغافل.

هذه جملة من القول. حاولت أن أصورها لك، أيها العزيز، بهذه اليراعة (1)

(1) اليراعة: القلم هاهنا.

ص: 1164

المتقصفة العاجزة عن ملاحقة حركة هذه اللحظات الخاطفة من عمل "القدرة على البيان" في زمن "الاستبانة". ولا أدري، هل أنا متعجل مسئ، تدفعنى العجلة إلى الإخلال بسياق حديثي، أم ترانى عصيبا إذا أنا قلت لك الآن، هاهنا: إني أعد "القدرة على البيان" بعمليها في "الإبانة" و"الاستبانة" حاسة سادسة في بناء الإنسان، هي أولى بالتقديم من الحواس الصُّم البُكْم المقصورة على صاحبها وحده، أولى من السمع، ومن البصر، ومن الذوق، ومن اللمس، ومن الشم، بالإثبات .. بل لعلها أولى بأن تعد جارحة كامنة في البناء كله، أشرف وأكرم من اليدين والرجلين والأذن والأنف والعينين واللسان، وهي الجوارح الظاهرة. لا يعيبها أن لا مَكْمَن لها تستقر فيه نعلمه وندركه، ويكون أداة صالحة لإظهار فعلها وعملها، كاللسان والأذن، مثلا، في السمع والبصر، لا، بل لعل مكمنها في الحقيقة هو هذا البنيان كله الذي يسمى "الإنسان"، والأداة الصالحة لإظهار عملها وفعلها هو بناء الإنسان نفسه، وكل ما في هذا البنيان خدم لها. ولأن "الإنسان" لو سلب هذه "القدرة على البيان" سلبا تاما، لعاد من فوره بهيمة من البهائم، لا معنى لإطلاق يديه، ولا لقدرة شفتيه على الحركة، ولا لاعتدال قوامه واستوائه، ولخرج يمشي على أربع، بلا فرق ظاهر بينه وبين سائر إخوانه من البهائم، وإذن، فقد خرب البناء كله، وسقط عنه "التكليف"، وزادت السوائم سائمة ترعى ما أخرج لها ربها من الأرض. وإن شئت الآن فتدبر هذه الآية:{الرَّحْمَنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (2) خَلَقَ الْإِنْسَانَ (3) عَلَّمَهُ الْبَيَانَ} ، ثم هذه الآية {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ} ، ثم هذه الآية:{وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ} ، آيات ثلاث فيهن الحديث عن "خلق" الإنسان وإنشائه، ويقترن بذكر "الخلق" ذكر "البيان"، و"الأسماء" و "القلم"، وتأمل قوله سبحانه "علّم" في ثلاثتهن، فسترى الخبر الصادق يلوح كأنه نور ساطع يكشف عن حقيقة هذا "الإنسان" التي طمستها القرون والكتب، وعسى أن تقول معى: لولا البيان، لخرب هذا البنيان!

ص: 1165

وعسى أن يكون صوابا أن أدمج السياق الأول في هذا السياق الثاني. فإن تكن كل حاسة من الحواس الخمس الصُّم البُكْم المقصورة على صاحبها وحده، (وهي الحواس المشتركة بين الإنسان والبهائم)، لها مَكْمَن وأداة صالحة لظهور عملها، هو جارحتها. فإن هذه الحاسة السادسة الخفية المبهمة المفصحة البريئة من الصَّمَم والبَكَم، لها هي أيضًا مَكْمَن هو بناء الإنسان، وهو أيضًا جارحتها، أي هو بجملته الأداة الصالحة لإظهار عملها، وعملها هو "البيان"، الذي يتميز به الإنسان من سائر البهائم. ومن أجل هذا المميز الغريب الحاسم، فارقها كل المفارقة في إطلاق يديه، وفي طواعية شفتيه للحركة، وفي استواء قوامه واعتداله ولأن هذا البناء كله هو الأداة الصالحة لإظهار عمل هذه الحاسة السادسة، صار ممكنا أن يكون كل ما تنشئه هذه الحاسة إنشاء، وهو "الكلام"، قابلا لظهور كل فعل باطن أو ظاهر من أفعال هذا البناء العجيب، وهو "الإنسان"، ويظل الأمر بعد ذلك عجبا وفوق العجب!

ولأنى حددت هذه القدرة النبيلة الغربية المذهلة حاسة من الحراس وجارحة من الجوارح، لم أبال بأن استبدل لفظ "التذوق"، الذي هو أصلا من عمل جارحة اللسان، مكان لفظ "الاستبانة" الذي هو أحد عملين تتولاهما هذه الحاسة السادسة، بل هو جزء لا يمكن أن يتجزأ من عملها الآخر "الإبانة" أي إنشاء الأحرف والكلمات والجمل، وتركيبها تركيبا دالا على المعاني الجائلة في الضمير المستور، على الهيئات الظاهرة التي يشف عنها هذا البناء الذي تكمن فيه، ثم تخرج جميعها حاملة آثارا مفصحة عن صاحبها المتميز عن إخوانه من البشر، بخصائصه الدالة عليه وعلى تفرده. وهذه الآثار موجودة حاضرة في "الكلام المركب" حضورا مستكِنًا في غضونه، أو عالقا بأحرفه وتركيبه، أو ناشبا في ثنايا الكلام، وفي طواياه، وفي أغواره القريبة والبعيدة.

ولم آخذ هذه الكلمة، وهي "التذوق"، عن تراث أسلافنا رحمهم الله، ولكني أخذتها عن المحدثين من كتابنا وأدبائنا، حيث وجدتهم يقولون:"تذوق الشعر"، و "تذوق الجمال" و"تذوق الموسيقى" و"تذوق الفن". والذي

ص: 1166

حملنى على أن أوثر هذا اللفظ وأجعله دالا على العمل الثاني من أعمال "القدرة على البيان" وهو "الاستبانة" هو أنى وجدت في نفسي أن عمل "الاستبانة" عندي وأنا أتأمله أشبه بعمل جارحة اللسان في تذوق الطعوم مرة بعد مرة، ثم أشبه بما يتسم به عمل اللسان في التذوق من سرعة الفعل، وسرعة انقضاء الفعل، وسرعة الحكم على الشيء الذي وقع عليه الفعل، أي هذا الشعور الخاطف بالحلاوة أو المرارة، أو الملوحة، أو الغضانية أو اللذع، وسائر ما يتولى اللسان الحكم عليه من طعوم الأشياء.

حسبنا هذا القدر من المسير في الطريق الموحش المهجور الذي رمت بي فيه، كما قلت، "محنة الشعر الجاهلي"، حين أخذتني قديما فقذفتنى قذفا في الأمر المخوف المهوب، الذي تنخلع عنده القلوب، وهو إعادة النظر في شأن "إعجاز القرآن" .. والآن، ليت شعرى هل استطعت أن أثير فيك بإلحاحي على التجزئة والتقسيم والتوضيح والتكرار، إحساسا ما يعمق هذه الأعجوبة التي أودعت في بناء الإنسان، ملثمة بالأسرار المتلونة بألوان من البوح والكتمان، تحجبه بالوميض المتتابع الذي يُعْشِى نظر المتأمل من تعاقب الإضاءة والإظلام، لا أدري، ولكني أجد في إحساسى عجزا فادحا عن ملاحقة هذه البروق الخاطفة المتواترة التي تنشأ على التأمل، ثم أحس عجزا أفدح عن تثبيت ما أراه في كلمات. بيد أنى أشعر الآن، مخطئا أو مصيبا أنى قد جعلت أمر "الاستبانة" التي تتولاها حاسة "القدرة على البيان"، ظاهر المعالم بعض الظهور فيما أتوهم، وأن بلوغي هذا المبلغ في تبين بعض معالمها، هو الذي جعلني أوثر أن أستبدل لفظ "التذوق" مكان لفظ "الاستبانة". ولما فعلت ذلك، كنت قد أصبت للفظ "التذوق" صاحبا يمكن أن يقوم مقام صاحبه الأول، وهو جارحة اللسان. وهذا الصاحب الجديد هو أيضًا جارحة أخرى (أو حاسة أخرى)، هي "القدرة على البيان"، وكذلك أوشك أن يسلم قولنا:"تذوقت الشعر" من الهلاك، بعد أن كان مهددا بأن يرمى على ركام من الكلام الساقط المرذول الذي فقد التجانس والتطاعم بين طرفين.

ص: 1167

والذي يجعل قولنا "تذوقت الشعر" يسلم كل السلامة من المعاطب والمتالف، أن الشعر "كلام"، وهذه الحاسة السادسة هي التي تنشيء كل "كلام"، وهذا عملها الأول وهو "الإبانة". ثم هي نفسها التي تتلقى كل "كلام" يأتيها من خارج لتستبينه، وهذا هو عملها الثاني، وهو "الاستبانة". وهي وحدها، دون سائر الحواس الصم البكم المقصورة على صاحبها وحده، ودون سائر أخواتها في الحلقة المفرغة، هي وحدها المالكة لوسيلتين: مالكة لوسيلة عند صاحبها مترجمة مبلغة عنها هي نفسها وعن جميعهن، وهذه الوسيلة هي جارحة "اللسان" صاحب التذوق. ومالكة أيضًا لمستقبِل عند صاحبها وعند إنسان آخر غير صاحبها، يستقبل "الكلام" ويؤديه إلى أخت لها كامنة في بناء الإنسان الآخر، وهي جارحة "الأذن" صاحبة السمع. وهذا "اللسان" جارحة من جوارح الحواس الخمس الصُّمّ البُكْم المقصورة على صاحبها، المشتركة بين الإنسان والبهيمة. ولكنه حين تم بناء الإنسان، وصار البناء بجملته مكمنا لهذه القوة العجيبة النبيلة التي لولاها لخرب البناء، صار لهذا "اللسان" نفسه عمل آخر حاسم الدلالة، هو الترجمة عن هذه القوة المركبة من توأمين متداخلين لا يمكن الفصل بينهما، هما "القدرة على النطق" و"القدرة على البيان". وعندئذ صار "اللسان" بهذه القوة الغريبة النبيلة ألصق وألزم، وسما بالتصاقه بها سموا حاسما باذخا، حين صار صاحب "النطق" عنها، وصاحب الترجمة، وصاحب التبليغ، حتى كاد يخرجه سموه بها عن أن يكون هو صاحب التذوق، في أصحاب خمس من الحواس الصُّمّ البُكْم! ولذلك سموا اللغة نفسها "اللسان"، وقالوا:"إنما المرء بأصغرية قلبه ولسانه"، أي بيانه.

اشتد لصوق "اللسان" بالقدرة على البيان لصوقا يستعصى على الفصل والانفصام، لأنه هو الآن مترجمها الوحيد في البناء كله، ولأنه هو وحده المبلغ عنها كل ما تنشئه من "كلام"، ولأنه هو وحده مظهر عملها المنفرد بالدلالة على كمونها في هذا البناء. فكذلك صار عملاه في "النطق" و"التذوق" عملين أخوين شقيقين متعانقين ثاويين في وطن واحد، وكاد يكون هذا الوطن

ص: 1168

مِلْكا خالصا للقدرة على البيان و"النطق" هو أسنى الأخوين شرفا، وأعلاهما سلطانا وغلبة على "اللسان" والنطق هو قرين "الإبانة" أحد عملي "القدرة على البيان" فلا جرم أن يكون أخوه الضعيف القاصر، وهو عمل "اللسان" في "التذوق" قرينا لعملها في "الاستبانة"، لشدة التشابه بين العملين، (التذوق، والاستبانة) في طلب التمييز بين الأشياء، وفي تبين الخصائص الكامنة فيها، ثم في سرعة الفعل، وفي سرعة انقضاء الفعل، وفي سرعة الحكم على الشيء الذي وقع عليه الفعل كما قلت آنفا.

وإذن، فبحمد الله وتوفيقه، خرج قولنا:"تذوقت الشعر" من المأزق الذي كان فيه لفظا مشكلا مبهم الدلالة غارقا في الإبهام، كما قلت في المقالة السالفة، وخفت إلى نجدته صاحب له، شهم الشمائل نافذ الجراءة لم يكتف بأن ينتشله من الغرق في معاطب الإبهام والغموض أو بأن ينتاشه من دنس الهلاك هاويا في قرارة السقوط والخساسة، بل زاد فرفعه إلى مكان على من الشرف والسمو. وأي مكان أشرف وأسمى وأنبل، من أن يكون لفظ "التذوق" بديلا له الحق الخالص في النيابة عن لفظ "الاستبانة" وهي العمل الذي تتولاه أنبل قدرة في بناء الإنسان، وهي "القدرة على البيان". وقد أصاب كُتابنا وأدباؤنا المحدثون قدرا عظيما من التوفيق، حين جرى لفظ "التذوق" على ألسنتهم متأثرين بما يقابله في الأدب الأوربى الحديث. ولكن العجب العاجب عندي أن يقع هذا اللفظ في اللغات الأوربية الحديثة! من أين جاءهم؟ وأنا شديد الشك في أن يكون أغتام (1) الأعاجم وأجلافهم في القرون الوسطى قد أصابوا هذا القدر من التوفيق اللطيف الخفي من عند أنفسهم. ولا أظنه ينفعهم شيئًا زعمهم أنهم ورثة آداب اليونان الأوائل وورثة حضارتهم لأنى لم أقف في قراءتى على شيء يدل على أن عظماء اليونان قد قالوا في مباحثهم عن الشعر والخطابة واللغة:"تذوق الشعر" أو "تذوق الجمال" أو "تذوق الفن". ولو كان ذلك، لوجدنا أثره في كتب

(1) أغتام: جمع أغتم، وهو الذي لا يُفْصِح شيئًا لعُجمَته.

ص: 1169