الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
في حلبة الأدب
كتاب تطور الأساليب النثرية في الأدب العربي
للأستاذ أنيس الخورى المقدسى
ألقى إلى هذا الكتاب فخما ضخما مصقولا كأنه حديقة مطوية فأخذته بين يدي أدافع به الملل وأنا عند صديق عزيز فوقعت العين على كلمة أكبرتها أن تكون من غير رجل عالم. ثم وضعت الكتاب وأنا في أمر غير الأمر وطويت أياما حتى تلقيته مرة أخرى لأقرأه وأكتب عنه، فدخلت الكتاب كما يدخل الضيف أحمل نفسي على الأدب في خلوة من أهل الدار، وطفقت أرد ورقة منه على أختها يوما من بعد يوم حتى فرغت منه وأنا في حيرة. فقد اتفق لمؤلفه أنه سما بالرأي حتى قلت قد انفتق لعينيه النور فما يروعنى إلا وأنا في ظلماء مطبقة من تحت سبع أرضين لا هدى فيها لدليل، وهذا عجيب في كثير ممن يؤلف في عصرنا هذا فقد رأيت في كتبنا كثيرا من هذا السمو في الفكرة والسقوط في أدلتها وبراهينها ثم في توجيهها وتطبيقها.
وقبل هذا أصف للقارئ موجز هذا الكتاب الذي هو الأول من جزءين فهو كما يقول مؤلفه في صدره "يتناول النثر العربي وخصائصه الفنية منذ بزوغ الإسلام إلى النهضة الأخيرة يتخلله دراسات تحليلية لنخبة من أمراء الأقلام وعرض كثير من نصوصهم الإنشائية". ثم يصف غرضه في الكلمة التمهيدية لكتابه فيقول "أما كتابنا فغايته عرض الأساليب النثرية عرضا يبين تطورها منذ ظهور الإسلام إلى الوقت الحاضر". . . ."ولسهولة البحث أفردنا لنثر صدر الإسلام قسما خاصا صرفنا العناية فيه إلى تحقيق مروياته والنظر في نصوصه وهو يشمل بضعة فصول ويمتد إلى زمن عبد الحميد الكاتب"، ثم ألقى نظرة "على الأساليب
(*) المقطم، الجمعة 26 يوليه سنة 1935
الإنشائية من أيام عبد الحميد إلى الوقت الحاضر فإذا هي تجري على ثلاثة أساليب رئيسية:
(1)
الأسلوب المتوازن (أي المزدوج غير المسجع) ويدخل فيه ترسل عبد الحميد والجاحظ وأضرابهما.
(2)
الأسلوب المسجع - ويتناول الرسائل الديوانية والأدبية والمقامات وما إلى ذلك.
(3)
الأسلوب المطلق - وهو النثر السائد في الكتب العلمية والتاريخية والاجتماعية قديما وأسلوب الإنشاء العام في العصر الحديث". وقد تناول المؤلف الأسلوبين الأولين في هذا الجزء وأبقى الثالث للجزء الثاني من كتابه .. هذه صفة الكتاب رويناها للقارئ عن مؤلف الكتاب.
وأنا حين أقرأ كتابا أنظر إلى نهج صاحبه في تأليفه فإذا رأيت له نهجا يخالف ما درج عليه الناس في التأليف أخذته بنهجه حتى أخرج لنفسي خطأ النهج أو صوابه، فإذا اضطرب نهجه عدلت عنه إلى أغراضه، فإذا استوت أغراضه أخذته بها ونظرت إلى غرض غرض منها معدلا بين أوزانها حتى يخلص لي الأصل الذي خرجت عليه أو الأرض التي نبتت فيها، فإذا اضطرب ذلك أخذته بآرائه في مفردات علمه واحدة واحدة حتى يخلص بي إلى أحد أمريه غير مظلوم ولا ظالم.
فلما قرأت هذا الكتاب لم يقع لي إلا أن آخذ الأستاذ أنيس المقدسى بآرائه في مفردات علمه غير متعرض لنهجه أو أغراضه في كتابه هذا. فمن أول ذلك كلامه عن السجع ومقارنة سجع الجاهلية بآيات القرآن فإن المؤلف لم يأت فيه إلا بالشبه التي تورط فيها الناس من قديم إلى يومنا هذا كقولهم في تحريم السجع لما روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث الغرة وقوله للرجل الذي قال "أَأَدِى من لا شَرِبَ ولا أَكَل ولا صاح فاسْتَهَلّ، ومثل ذلك يُطَلّ" فقال الرسول صلى الله عليه وسلم "أسجْعًا كسجع الكهان". ثم جاء الجاحظ بعد ذلك ووضع علة لتحريم السجع: إن الكهان كانوا يتكهنون ويحكمون بالأسجاع، فوقع النهي في ذلك
لقرب عهد العرب بالجاهلية ولبقيتها في صدور كثير منهم، فلما زالت العلة هذه زال التحريم.
وكنت أحسب أن المؤلف سينظر في خصائص سجع الكهان نفسه ليستخرج منه الفرق بينه وبين السجع المعروف عن البلغاء ثم بينه وبين القرآن فإن هذا هو موضع الفصل في الكلام الذي دار حول السجع وهو موضع التحقيق في العلم المروي الذي وقع إلينا ولم نحقق فيه إلا القليل. وأكتفي هنا بأن أقول أن سجع الكهان اسم لما وقع في ألفاظ الكهان على صورة صامتة وهو غير السجع الذي عرفه علماء البلاغة ووضعوا له الحدود والرسوم وسنفرد لهذا البحث كلمة خاصة في المقتطف إن شاء الله.
ومن عجيب ما وقع للمؤلف في هذا الفصل قوله "ص 5" ويؤيد ما يراه من شيوع السجع في تلك الحلقات (الدينية في الجاهلية) أن التنزيل القرآني على تعاليه عن أقوال العرب وكهانهم لم يخرج عن الأسلوب الذي عرفه الناس يومئذ". كيف يتفق للمؤلف أن يقول أن القرآن (لم يخرج عن هذا الأسلوب) وهو لا يعرف هذا الأسلوب ولم يحط بخصائصه. أيحسب الأستاذ أن الأسلوب هو الكلام المرصوف، وأن الخصائص هي انتهاء كل جملة من هذا الكلام بلفظين متقاربين في الجرس متفقين في القافية. . . إنه لا يقول هذه الجملة إلا من وقع إليه سجع الكهان في "حلقاتهم الدينية" كما يقول فدرسه وميزه وحده، ووضع له مطلعا ومقطعا وغرضا، ثم درس القرآن وعرف مثل ذلك فيه وقارن ثم ألقى ووضع وأخذ ورد ونفى وأثبت. كيف يقول المؤلف ذلك وهو الذي يقول في ص 4 "ولا يجوز علميا أن نتكل على روايتها فقط (أي أسجاع الكهان) في الحكم على ما كان عليه هذا النثر". وقد أتى المؤلف في ص 6 بما يدل على بطلان الأصل الذي يبنى عليه كلامه هذا من معنى السجع، فقد نقل عن الجاحظ "وقد كانت الخطباء تتكلم عند الخلفاء الراشدين فيكون في الخطب أسجاع كثيرة فلم ينهوا أحدا منهم". فهذا دليل على أن سجع الكهان غير السجع الذي يقع في كلام الناس أو يتعمدونه للزخرف والزينة، ولولا ذلك لكان الخلفاء
الراشدون قد نهوا عن ذلك كما يقول الجاحظ. فلو أن المؤلف وقف قليلا عند هذه الكلمة لتبين له أن كلمة السجع قد وقع في معناها الخلط والخبط بين أقوال الكهان والكلام المزور المزوق بالقافية الموسيقية، ولاجتهد بعد ذلك أن يفرق بين معنى الكلمة عند علماء البلاغة ومعناها الذي وردت له في قولهم (سجع الكهان)، ولوجد أن مقارنة سجع الكهان بالتنزيل القرآنى كما يسميه من أعظم الخلط بين المتضادين. والذي أوقع المؤلف في هذا أنه حسب أن أهل الجاهلية الذين قالوا عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه كاهن إنما قارنوا بين سجع كهانهم وبين سجع السور المكية الأولى كما قال في ص 5. ولو أن أهل الجاهلية قالوا ذلك لهذا المعنى ومن جراء هذه المقارنة لما كانوا أهلا لتنزيل قرآن عليهم، ولما كان هذا القرآن معجزا لأنه إنما أعجزهم ببلاغته وأسراره والذي يحكم في صور الألفاظ لا يكون بليغا أبدًا ولا يدرك أبدًا سرًّا من أسرار الكلام فهو عاجز من أصل طبيعته لا من أن الكلام بليغ أو معجز وبذلك يسقط الإِعجاز كله ولا يبقى معنى لإيمانهم بما جاء فيه ولا بمن جاء به.
وندع كلامه كله عن القرآن فأكثره مما لا يقف عنده إلا من أراد أن يكشف عن أوهامه وَهْمًا فوَهْمًا مفصلا لأخطائه أو مبينا لمواضع السقط فيه. ويأخذ في كلامه عن حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا الباب من الكتاب مملوء بكل عجيبة من الرأي، وفيه من التناقض كثير مما يدل على أن المؤلف لم يدرس هذا الموضوع دراسة من يريد أن يعلم ثم يحقق ثم يكتب خلاصة ما ثبت عنده أو رجح لديه.
ومن عجيب أمره أنه بعد ما جعل السجع من أسلوب الجاهلية وردَّ القرآن إليه في موضع من الباب الأول، عاد فذكر في ص 73 أن من مزايا الحديث أو نثر صدر الإسلام -البساطة- وفسرها بقوله أنها البعد عن تكلف السجع أو البديع وكيف يكون ذلك في الحديث ولا يكون في القرآن. هذا من العجب فإن الذي أنزل عليه هذا القرآن هو هو الذي تكلم بهذا الحديث، وهو هو الرسول الذي يريد أن يؤثر كلامه في الناس. فلو أن السجع الذي في القرآن كان للتأثير والإيهام كما
يكون سجع الكهان لكان ذلك أولى بصاحب هذا الكتاب في حديثه أن يتخذه من مادة تأثيره على الناس.
ثم أنه في ص 50 بدأ كلاما عن وضع الأحاديث -يعلم الله أنه كلام مُتلقَّف من أفواه قوم خبرناهم عهدًا طويلا، وفيه من التحريف شيء كثير. وللدلالة على ذلك نجد المؤلف يروى عن صحيح مسلم قول ابن القطان "لم تر أهل الخبر في شيء أكذب منهم في الحديث". وجعل الخبر بالباء الموحدة وسط اللفظ، ويريد بذلك أن يوهم الناس أنهم أهل الحديث. والحديثُ في مسلم "أهل الخير" بالياء المثناة، وفي رواية "لم نر الصالحين"، وفسر مسلم بعد هذا الحديث موضع الإشكال في أن الصالحين يكذبون على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم هم الصالحون. فقال:"قال مسلم: يقول يجرى الكذب على لسانهم ولا يتعمدون الكذب"، وتأويل ذلك أن أهل الصلاح والتقوى الذين يصرفون أنفسهم عن أمور الناس ولا يبحثون عن أحوالهم من صدق وكذب وتدليس وكذا وكذا إلى آخر النقائص يحسبون أن الناس لا يجترئون على رسول الله بالكذب إذا حدثوهم عنه فيتلقَّوْن ما يسمعون بالتسليم ثم يَرُوون ما يسمعون لما فيهم من سلامة الصدر عن الخبث، ولذلك يجرى الكذب على ألسنتهم ولا يتعمدونه. ولذلك يردّ أصحاب الحديث قوما من كبار الصالحين ويقولون عنهم حين يذكرونهم "كان في فلان غفلة"، فهذا هو المراد.
ومما يدل على أن المؤلف لم يتثبت من كلامه في هذا الباب كله أنه قال في ص 66 في عرض كلامه عن رد أحاديث من الصحيحين لا تثبت عنده لعلل زعم أنه اهتدى إليها وحده فردَّها، لذلك قال المؤلف حفظه الله "آية المنافق بغض الأنصار -آية المنافق حب الأنصار" وهما (يعني الحديثين كما يزعم) مع تناقضهما من المتفق عليهما في الصحيحين والإغضاء عن مثلهما أَوْلَى، أولًا: لما فيهما من دعاية حزبية، ثانيا: لتناقضهما". انتهى كلام الأستاذ والعجب لمن ينقل عن كتابين طبعا ثم طُبِعا ثم طبعا حتى امتلأت بما طُبع منهما بيوت المسلمين وغير المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، ثم يخطئ في النقل ثم
يجعل خطأه من الأدلة التي دفعته إلى الطعن فيما روى من حديث مسلم والبخاري وهما من هما في التحديث وفنونه. وللقارئ أن ينظر في صحيح مسلم كتاب الإيمان: باب حب الأنصار، وفي البخاري: كتاب المناقب، ليقرأ الحديث على وجه التحقيق لا على وجه الوهم "آية المنافق بغض الأنصار وآية المؤمن حب الأنصار". وأنا لا أدري كيف يتأتى لمؤلف أن ينقل خطأ ثم يتوهم ثم يكتب ثم يرد على الناس أقوال أئمتهم الذين أفنوا أعمارهم في تحقيق العلم وتمييزه طيبه من خبيثه ثم يزعم أن ذلك تحقيق لمرويات الصدر الأول كما نقلت عنه في أول كلامه.
هذا وسنعود إلى مواضع من الكتاب بعد قليل لنثبت أن هذا الكتاب لابد من تغييره البتة لأنه لا يصلح أن يكون دراسة في النثر العربي. وهنا أسوق للمؤلفين قول كونفوشيوس "من تعلم من غير تفكير فهو في حيرة، ومن فكر من غير تعلم فهو في خطر".