الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
اللغة والمجتمع
أدق تعريف للغة وأوجزه. فيما أعلم، هو ما جاء في كتاب الخصائص لابن جنى من أنها:"أصوات يعبر بها كل قوم عن أغراضهم"، وهو على إيجازه مغن عن التفصيل، ومصيب حد المقطع في الخلاف، ومساير لمدارج اللغات منذ نشأتها الأولى إلى أن صارت أوضاعًا محفوظة يقاس عليها. ففيه تحديد الصوت، وهو أصل الكلام المنطوى كله، وفيه ذكر الجماعة، وهم القوم الذين يتفاهمون بينهم بهذه الأصوات المختلفة، وفيه ذكر الأغراض، وهي حاجات المجتمع الذي يتفاهم بتلك الأصوات المعينة وهذه هي حقيقة كل لغة في كل زمان وفي كل مكان وبين كل جماعة.
ولما كانت أداة الصوت، وهي الحلق واللسان وما يكتنفهما، هي بطبيعتها مختلفة في الناس على تباينهم منذ كان الناس، وكانت الأعراض والعلل التي تلحقها تزيد الاختلاف كثرة وشدة، كانت الأصوات المعبرة عن الأغراض عرضة للتباين والاختلاف أيضًا. ولا مراء في أن الحلق واللسان وعملهما في النطق خاضعة لقانون طبيعي كالقانون الذي اكتشفه الإنسان وأصدر عنه أكثر آلات الموسيقى على اختلاف تركيبها، وعرف بذلك كيف يبتدع الأصوات ويقلدها ويفسد منها ويصلح.
وكذلك الجماعات أيضًا خاضعة لقانون -أو قوانين كثيرة- تجعل لكل جماعة دستورًا أو دساتير تجري عليه في كل شأن من شؤونها، وتفضى بها إلى غايات أو نتائج لا محيص عنها. وهذه القوانين تنشيء من الأغراض -أو تنشأ هي من الأغراض- ما تصبح به الجماعة فئة ذات حضارة مدنية على اختلاف الدرجات.
فمن أجل ذلك كان لابد للغة من قوانين تسير بها وتتغير على قواعدها طبقا لما يلحق أداة التعبير نفسها من التغير والتباين، وبحسب ما تخضع له الجماعة من
(*) مجلة الكِتاب، المجلد الثاني، سنة 1946، ص: 310 - 313
تطور إلى علو أو سفل، وتبعًا للأغراض التي تقتضيها طبيعة التبدل التي هي سنة من سنن الله في الحضارات والمدنيات. ومن أجل ذلك نشأ علم جديد يبحث عن هذه القوانين التي تشمل طبائع الألسنة المختلفة في العصور المتطاولة، وهو الذي في شأنه ألف الدكتور وافي كتابه "اللغة والمجتمع".
ولا شك أن علماء العربية القدماء لم يؤلفوا في هذا الباب كتبًا قائمة برأسها. وليس معنى هذا أنهم لم يكونوا يعرفون شيئًا من هذه القوانين التي انتهى إليها بحث المحدَثين. كلا، بل كان في كتبهم ما يدل على أنهم ألموا بأطراف من هذه القوانين وساروا في بعض أبحاثهم سيرة من يدرك حق الإدراك طبيعة تلك القوانين ومقتضياتها. ولكن كل ذلك من عملهم كان شيئًا مبعثرًا في كتبهم وفي مطاوى كلامهم، ولم ينتهوا إلى إفراده بالتأليف على النسق الذي انتهى إليه المحدَثون، وتركوا لمن يأتي بعدهم جهد الإبداع فيما أشاروا إليه أو ألموا به، وكان من أعظم من تعاطى القول في بعض ذلك في تضاعيف كلامه، فيما أعلم، الجاحظ أولا، ثم أبو علي الفارسى، ثم تلميذه إمام العربية أبو الفتح بن جنى، في كتاب "الخصائص"، وفي كتاب "سر صناعة الإعراب"، وفي كتاب "المحتسب في شواذ القراءات" بيد أن انتثار القول هنا وهنا يجعلنا نقضى بأنه لم يكن عندهم "علمًا" ولا "فنًّا"، بل كان بابًا من المعرفة غير مضبوط ولا محصور ولا مترابط.
أما العلماء المحدثون -من غير أهل اللسان العربي- فقد تدارسوا ما يختلف على اللغات أو أكثرها من تغير وتبدل على مدى عصور متطاولة، فانتهوا إلى شيء كثير من هذه القوانين التي يخضع لها اللسان في أمم كثيرة، وصارت اللغات عندهم ظاهرة من الظواهر الطبيعية تدرس على حدتها، دراسة استقصاء للأطوار التي مرت على مفرداتها ونحوها وإعرابها وبيانها. أما عندنا في العربية فقل ما ألف من الكتب فيها وندر من شغل نفسه بتتبع مثله في مدارج العربية من أول أمرها إلى يومنا هذا. ولعل رجلا أو رجالا لو تتبعوا ذلك في بلاد العرب كلها أن يهتدوا إلى كثير من وافى هذا الفن فيسدوا بذلك إلى العربية في العصر الحاضر خيرًا كثيرا في
إصلاح تعليمها، وتيسيرها على أهل العصر، وتبسيطها لهم حتى يدرك منها الرجل من عامة الناس ما لا يزال يجد العوائق دونه جمة مستعصية.
وقد أراد الدكتور وافي بكتابه "اللغة والمجتمع" أن ينقل إلى العربية صفوة ما انتهى إليه الرأي في شأن القوانين التي تسير عليها لغات الأرض قاطبة من حيث هي إحدى الظواهر الاجتماعية على اختلاف ألسنة البشر والناطقين بها. وقد قسم دراسته هذه ثلاثة أقسام: الفصل الأول في تطور اللغة وارتقائها. والفصل الثاني في صراع اللغات بعضها مع بعض. والفصل الثالث في تفرع اللغة الواحدة إلى لهجات ولغات.
ففي الفصل الأول طوى المؤلف جمهرة العوامل والمؤثرات التي تعمل في تطور اللغة من حالة إلى حالة أعلى أو أسفل، وهذا الفصل هو أهم الفصول في أمر اللغة ففيه تكمن العوامل الاجتماعية والأدبية والطبيعية واللغوية التي كان لها أكبر شأن في تحول اللغات من لهجة إلى لهجة، ومن أسلوب إلى أسلوب، ومن لغة إلى لغة. ودراسة أسرار هذه العوامل ودراسة آثارها بعد الاستقصاء والتحقيق، لها خطر أي خطر -لا في معرفة التطور اللغوي وحده، بل أيضًا في استخراج أشياء من اللغة نفسها بعد تطورها تتيح للباحث أن يقف على أحوال الشعب الذي كان يتكلم بها، من حيث الحضارة والثقافة والأدب، والأخلاق، وسائر أسباب مدنيته، وتكشف له الغطاء عن علاقاته بالأمم التي جاورته أو احتلته أو عقدت بينه وبينها أواصر الرحم والقربى، وما كان بينهما من تبادل الثقافات والتجارات والفنون وما سواها.
فمعرفة القوانين التي تخضع لها اللغات في تطورها أمر لا غنى عنه لمن يريد أن يصور تاريخ الأمم الماضية بصور أقرب إلى الواقع. فما أكاد أرتاب في أن علم التاريخ وحده علم "قاصر" لم يلم كل الإلمام بما ينبغي أن يشتمل عليه من الحالات الاجتماعية السائدة بين الناس، والتي لها فيما أظن أكبر الأثر في حضارة الأمة، ولعل أثرها في ذلك أعظم وأخطر من أثر الأحداث التي عنيت أكثر كتب التاريخ بجمعها واستيعابها.
وقد أتى في هذا الباب طرف مما يتعلق بآثار هذه القوانين في اللغة العربية، غير أنه جاء عرضًا ومن ناحية الاستدلال وحده على صحة القانون الشامل لسائر اللغات. وأظنه يكون أجدر بالأستاذ أن يفرد لمثل هذا الشأن كتابًا يتَّبَّع فيه العربية ولهجاتها واختلافها على العصور وفي البلدان المتباينة. وذلك لأن إدراك ذلك في اللغة التي يعرفها القارئ أتمَّ معرفة، يكون أقرب وأسهل منه في لغة أجنبية عنه، قلما يتاح له أن ينفذ إلى تاريخ ألفاظها نفاذًا يعينه على حسن فهم الموضوع الذي يعالجه المؤلف. وليس في الذي أقول غض من شأن الكتاب في ذاته، بل هو نقص في المكتبة العربية نحب أن يسده من كان أهلًا له وقائمًا به. وقد رأيت الدكتور وافي حسن التهدِّى إلى أشياء من ذلك في كتابه، فلذلك أحببت له وللعربية أن يتولى تأليف كتاب يغني القارئ العربي عن كثير من فضول القول في لغات لا يسهل عليه أن يضطلع بعبئها مستقلًّا، والفائدة التي تهدى إليه من مثل ذلك خليقة أن تحفز الهمة إلى إنجازه.
أما الفصل الثاني وهو صراع اللغات، من ناحية نزوح العناصر الأجنبية إلى بلاد فيها لغة قائمة، ومن ناحية تجاور الشعوب المختلفة الألسنة، ومن ناحية العلاقات التجارية والثقافية والأدبية، فهو أقرب إلى دراسة تاريخ اللغات وما كان من أمرها بين الحياة والموت وبين الغلبة والهزيمة، وكيف يتم أحد هذين الأمرين للغة على أخرى، وما هي الأسباب المفضية إلى هذه العاقبة. ومعظم هذه الأسباب كما قال المؤلف نفسهُ تردّ في أخراها إلى العوامل الاجتماعية التي عالج بحثها في الفصل الأول، بل هي في الحقيقة شيء لا مفر منه في العالم الاجتماعي كله.
وأما الفصل الثالث: وهو تفرع اللغة الواحدة إلى لهجات ولغات، فهو عندي من أقوم فصول الكتاب. ولو كنت مؤلفًا في مثل ذلك لبدأت بهذا الباب أو بأكثره، لأن اللغة الواحدة تتشعب من أول نشأتها إلى شُعَب من اللهجات قبل أن يلحقها التطور اللغوي الذي بينه المؤلف في أول كتابه. فعندئذ تتشعب مرة أخرى بعامل من العوامل الكثيرة التي تصطلح عليها حتى تستقل لهجة عن لهجة فتصير إحداهما لغة ثانية. والقوانين التي تخضع لها اللغة في انشعابها إلى لهجات
هي أصل القوانين التي تخضع لها في انشعابها في لغات، وهي أشبه شبهًا بالقوانين التي تفضي إلى تطورها وارتقائها أو انتكاسها. والمؤلف فيما أظن كان عارفًا بذلك كل المعرفة، لأنه قدم في أول هذا الفصل ما يفهم وأنه كالملحق بالفصل الأول، وجاء في أثناء كلامه ما يجعل الشبه بين الفصلين أقرب ما يكون. ولعل الذي دعاه إلى تقديم الأول وتأخير الثالث خطر التطور اللغوى في تاريخ الألسنة، وخفاء شأنه في انشعاب اللهجات. وهذا رأي، ولكني أميل إلى الذي قلتُ به.
هذا عرض الكتاب، رأيت أن أقتصر فيه على هذا القدر. بيد أنى رأيت المؤلف كان يقف من بعض الآراء التي ينسبها إلى أهلها موقف البصير المتعقب، فكان في أكثر الأحيان موفقًا غاية التوفيق، وكان في أحيان قليلة يميل به كرم طبيعته ترجيح رأي قال به عالم كانت بينه وبينه مودة سابقة، أو لعلى مخطئ، فيكون هو من صاحبه أنفذ بصرًا وأهدى فهمًا في حقيقة ما كان يقول به، غير أنه في حجاجه كان مبينًا كل الإبانة عن حقيقة رأيه.
وبقي في الكتاب أشياء كثيرة أخرى لم نتعرض لها بالنقد ولا بالتوضيح، لأن ذلك يقتضيني أن أكتب فيها كلامًا قائمًا بنفسه، فإن موضوع اللغة متشعب تشعبًا يجعل المرءَ أمضى قلمًا في باب التوسع، فلذلك آثرت أن أطوى ذكرها حتى يحين حينها، ونعود إلى بقية آراء المؤلف في سائر كتبه الأخرى، ليكون الموضوع أملأ بالرأي وأَقْوَم بالحجة.
هذا، ولابد لقارئ الكتاب من أن ينتهي إلى رأي لا محيص عنه: هو أنه لابد من دراسة اللهجات العامية في البلاد العربية كلها دراسة تبويب وتقسيم وفهم، ولابد من رد كل طارئ على هذه اللهجات إلى الأصول القديمة التي لا تزال باقية متوارثة في سلائق الشعوب التي تنطق بالعربية إلى يوم الناس هذا، وأن نجعل أكبر همنا أن ننتهي إلى معرفة هذه السلائق المشتركة بين العرب على اختلافهم. فإذا وقفنا على ذلك وعرفناه تمام المعرفة، تيسر لنا أن نَنمِّى هذه السلائق، وأن نعلمها العربية على هدى من قوانينها الثابتة، وبذلك تجري العربية
يسيرة سهلة على الألسنة، ونصير في مندوحة عن الخضوع للقوانين التي جعلت اللغة العربية الأولى تنشعب في ميادين المحادثة إلى لهجات متباينة، على الرغم من الجهود الجبارة التي بذلت في سبيل صيانتها والاحتفاظ بوحدتها ومحاربة ما يطرأ عليها من لحن وخطأ وتحريف (كما قال المؤلف في ص 132). بل نقلب الأمر، ونجعل هذه القوانين خاضعة لسيطرة علماء العربية في تيسير أمرها على متعلميها من أهل اللسان العربي والسليقة العربية. وكفي بهذا غرضًا تبذل في سبيله كرائم الجهود والآراء.