الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَحْيُ القلم
لمصطفى صادق الرافعي: جزءان: 808 صفحة مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر سنة 1355 - سنة 1936
الرافعي كاتب حبيب إلى القلب، تتنازعهُ إليه أسباب كثيرةٌ من أخوة في الله، ومن صداقة في الحب، ومن مذهب متفق في الروح، ومن نية معروفة في الفن، ومن إعجاب قائم في البيان ومن هنا ومن ثمّ لا أدري من أين تبدأ ولا أين تنتهي. فأنا حين أريد القول في صداقتهِ أو في إيمانهِ أو في حبه أو في بيانه أو في فنهِ أجدنى كالمهموم إذا ابتدأ لهُ همٌّ تداعت إليه الهموم من كل جانب، فأضع القلم وأرفعهُ وأديره وأتلوى بهِ لأن المعاني تتلوى بي في سبيل مَضَلَّة، فأرانى أتحاشى القول خشية الغلوَ أو خوف التقصير. وقد تكلفت شططًا وحملت نفسي على ما لا تطيق وأنا أكتب عن "وحي القلم"، لئلا أغلو في الرافعيّ فيقال: معجب غلا بهِ إعجابهُ، أو أقصر فيهِ فيقال: صديق شقيت به أصحابه.
كانت سنة 1341 - سنة 1923 - فقرأت للرافعيّ كتابهُ "المساكين" فنازعتنى نفسي إلى مراسلتِه لأصل ما بيني وبينه، فكتب إليَّ كتابًا رقيقًا كنور الفجر، ثم مضت الأيام ولقيت رجلًا كهلًا قد اشتعل الشيب في رأسه، خفيفا قد أخذت منهُ الأيام، صامتًا قد أسكتهُ الفكر، ثم قيل هذا الرافعي. فيوم ذاك عرفتهُ، فإذا هذا الكهل شباب مشتعل يتوهج، وإذا هذا الخفيف قوة مستصعبة مستمرة لا تلين، وإذا هذا الصامت لسانٌ عربيٌّ مبين. ثم هو بعدُ صديق أنت من صداقته في مثل الروضة تفيء إلى ظلها، وتستنشى شذاها، وتصاحبها وتصاحبك فتمسح عن قلبك الحزن بالرضى والفرح، ما لا تمسح صداقة الناس ممن ترى وتعرف.
وهنا سر الرافعي كلهُ، سره في فكره، وسره في علمهِ، وسره في بيانهِ، وسره في فنهِ وذاك هو سر المؤمن إذا ارتفعت عن قلبهِ الحجب، وسقطت عن عينهِ الغشاوة، وارتفع بهِ الإيمان عن أشياء الأرض إلى أسرار السماء، فلا تجد
(*) المقتطف، المجلد 90، فبراير 1937، ص: 251 - 253
الدنيا منهُ ما يحده أو يطغيهِ أو يلفتهُ، فهو بصيرة تنفذ، وقوة تعمل، وإخلاص يجلو، وجمال يحب. وهذا هو سر الأسلوب الذي انفرد بهِ الرافعي.
والرافعي كاتب قد استولى على الأمد في مادة الكتابة، فاللغة عنده مادة للتعبير لا مادة للحفظ والاستعمال، فهو قد قرأها قراءة البصير ليرى الفروق الخفية بين اللفظ ومرادفهِ وليعلم حق اللفظ من العبارة، وحق العبارة من الألفاظ، فيظن بعض من لا قدرة لهُ أن الرافعي يريد الإغراب على الناس في كلامهِ، واستجلاب الغريب من اللغة للتفاصح، وما بهِ ذلك، وإنما هي المعاني. . . المعاني عند الرافعي هي التي لها حق اختيار الألفاظ من لغتهِ. وهو لا يأخذ ألفاظهُ من المعاجم وإنما يأخذها من سليقته التي صقلتها المعاجم. وقد أكثر الناس من نقد الرافعي زمنًا ووضعوا عليه من أوهامهم غشاءً آذاهم ولم ينفعهم، وحجتهم في ذلك هذه اللغة التي أحيا الرافعي مواتها ببيانهِ. وما اللغة؟ أهي الألفاظ قائمة بالمعاني التي وضعتها لها المعاجم ووقفت عندها؟ إن هذه ليست بشيء، وما هي إلا أداة كالسيف. فالسيف على جودته لا يعمل إلا أضعف العمل، فإذا أخذتهُ أنت وجعلت تتدرب بهِ وتمرن ساعدك عليهِ، وعرفت كيف تجيد الضريبة وتصيب المقطع، كان لهُ أقوى العمل، لأن السر في ساعد منتضيهِ وبصره وحيلتهِ لا في حدِّه وعارضَيْه.
واللغة لا تقوم بغير فكرة، والرافعي قد استولى على أصولها، بقوة الإدراك وشموله وتراميه، وبالقدرة على الإبانة عنها باللفظ المتصل الماضي الذي لا ينقطع دونها، وبسمو الخيال وتراحبه واستطالته. فالرافعي يدمن على الفكرة الواحدة إدمان الفيلسوف الصابر الثابت بين إدارتها وتطبيقها وبسطها وردها إلى أصول مقررة في الحياة، ثم لا يزال يجمع بينها وبين قرائنها، ويحدد فرق ما بين القرينين ما ظهر من ذلك وما استتر، ثم يصحح النظر في الأصل الذي يردُّ إليهِ أفكاره تصحيح الحكيم المقرر حتى لا يقع بينها التدابر والاختلاط والفساد. ولا يزال على ذلك يقيد ويطلق ويأخذ ويدع بقانون طبيعي في نفسه، فلا يترك الفكرة إلَّا وقد ولدت لهُ صغارًا من الأفكار فيها من الجمال والسحر والقوة الكامنة
ما للطفل الصغير الوديع الجميل، وإذا الفكرة الأولى التي أدمن عليها أمٌّ فيها هيبة الأُمومة العاملة المخلصة وحنانها وروعتها ووقارها.
وهناك أسرار الفن في بيان الرافعي فمنها إدراك الجمال السامي غير المبتذل، فهو يدرك الجمال في الجميل لأنه يعرف أسرار جمالهِ، ويدرك الجمال في القبيح لأنهُ يعرف أسرار قبحهِ. فالجمال عندهُ في السر والجوهر وأصل البناء لا في العرض، وكذلك الخير والشر، والفضيلة والرذيلة وما إلى ذلك، هي كلها عند الرافعي موضوع للأسرار فهو لا يقف عليها وقفة المتشبّث بل يهزها من أصولها ليخرج أسرارها، فإذا فعل كتب صفة الشيء الحي بكلام حي فيهِ قوة المقاومة والقدرة على البقاء، وكل الأسباب التي تضمن لهُ الحياة الفنية والبيانية.
ثم لا يقف الرافعي عند ذلك بل لكل هذا مكان آخر يصل إليهِ فيصهره ويذيبهُ ثم يرده في صورة فذة، ذلك هو الإحساس القوي المشبوب. فهو يأخذ الفكرة بلغتها وعقلها وسرها من إحساسهِ هو لا من إحساس الناس، حتى إذا آمن بها إيمانًا لا مطعن فيهِ استعان بإيمانه القوي على إنشائها إنشاءً مبتدعًا خاصًّا موسومًا بسمة صاحبهِ، تلك السمة التي تسمى "أسلوب الرافعي".
كلُّ ذلك بعض العمل البيانيّ الذي يتدفق من لسان هذا الرجل. وإن لهُ خاصّة عجيبة إذا تكلم في الاجتماع العربيّ الإسلاميّ في هذا العصر ما بين خُلُق وعلم وعمل ودين، هي هذه الروعة المستعلنة المنصبَّة على معانيها كنور الشمس. وسر هذه أنهُ يحسُّ ويفكّر وينقد ويبيّنُ بقوة ثلاثة عشر قرنًا من التاريخ الإسلامي، ويحسُّ بإحساسها، ويدرك أفكارها، ويعرف أسرار فضائلها ورذائلها، وأسباب قوتها وضعفها، وقد أحاط بكثير من أصول القانون الطبيعيّ الذي يجمعُ ويفرّق ويضبط وينشر، ويزيد وينقص في هذه الأمة الرابضة في قلب الشرق.
أما الرافعيّ المحب فهو رجلٌ وحدهُ سام عن الإسفاف، مشرق كالنجم، صاف كأنهُ مرآة مجلوَّة، ثم فرحٌ كأنهُ أملٌ يتحقق، باك كأنهُ عضوٌ يُقْطع، متألم كأنهُ محارب باسلٌ ينهزم، ثم لا يزال على ذلك -الرجلَ الجلْد القويَّ الذي
لا ينكسر ولا يتحطم، ولا تتدنَّى بهِ القوة الغالبة، قوّة اللذّة الإنسانية القَرِمة (1) المتشهّية. لذلك يخلو حبُّ الرافعيّ من الفجور الفني، وإنما يصف الرافعي المحبُّ فجور الرجل والمرأة ليسمو بالرجل الفاجر ويخرجهُ من سلطان لذتِه، ويصف فجور المرأة ليهديها ويطهرها وينزهها وينصفها من ظلم الرجل الفاجر. ولهُ على ذلك قدرة قَلّ أن ينالها كاتب ممن نعرف.
وأما الرافعي ربيبُ الشّعب، فهو الواصف البليغ الذي يستطيع أن يجمع آلام أمة مظلومة في ألفاظٍ تتألم، ويؤلف آلام المساكين في كلمات تبكى، ويحصر سخط المستعبدين من الفقراءِ في حروفٍ تبكى وتتألم وتتسخط وتتشفى وتبغض وتسخر من هذا الاجتماع الذي استعبدهم وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارًا. فهو في هذه "ترجمان القلوب المتحطمة".
وأما الرافعي الساخر، فهو الكلمة القصيرة التي تبلغ ما لا تبلغهُ الثورات المسلحة. . . وأما الرافعي فهو الرافعي الذي لا تعرفه حتى تقرأه وتصبر على ملازمتهِ، وتعطيه من نفسك لتأخذ من بيانهِ ومن فنّهِ ومن بلاغته ومن فكره ومن حكمته. فهو كاتب حكيم قوي فلا يجدر بك أن تأخذ كلامه على النظرة الطائرة كما تقرأ مقالة في صحيفة يومية لتستفيد، بل اقرأه لتحس وتنفذ إليهِ وتهتز معهُ ثم تستفيد.
اقرأ "وحي القلم" تجد الرجل الذي حدّثناك به، وتجد البيان الغضَّ القوي المتدفق الذي يثير في نفسك التاريخ اللغوى المكتوب في دمك بالوراثة، وفي قلبك بالحب، وفي إحساسك بالأهوال النفسية التي تمر بك. فإن بيان الرافعي إذا تدبرتهُ وتدبرتهُ أيقظ فيك البيان لأنه بيان حر غير مقلد، وأوحي إليك بالفكرة المستحكمة والعبارة المجوّدة لأنه بيان سام غير مقيد، ثم يلهمك القدرة على التفكير، والإبانة لأنه "وحيُ القلم".
(1) القَرَم: التشهي للذائذ، وأصله في اللحم والنساء.