المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌أوطانَ في أواخر القرن التاسع عشر الميلادى وأوائل القرن العشرين، كانت - جمهرة مقالات محمود شاكر - جـ ٢

[محمود شاكر، أبو فهر]

فهرس الكتاب

- ‌الناسخون الماسخون

- ‌إكمال ثلاثة خروم من كتاب التنبيه على أوهام أبي علي في أماليه

- ‌من خط البغدادي *

- ‌مقاليد الكتب

- ‌أدب الجاحظ

- ‌الصاحب بن عباد

- ‌أبو نواس

- ‌ضحى الإسلام

- ‌الشريف الكتانى

- ‌نابغة بني شيبان

- ‌مقاليد الكتب

- ‌1 - كتاب "حافظ وشوقي

- ‌2 - كتاب الرثاء

- ‌3 - كتاب الخط الكوفي *

- ‌4 - صلاح الدين وشوقي *

- ‌5 - كتاب الشخصية *

- ‌6 - كتاب أمير الشعراء شوقي *

- ‌مقاليد الكتب

- ‌حاضر العالم الإسلامي

- ‌ذكرى الشاعرين

- ‌ماضي الحجاز وحاضره

- ‌الوحي المحمدي

- ‌مقاليد الكتب

- ‌1 - ملوك المسلمين المعاصرون ودولهم

- ‌2 - ابن عبد ربه وعقده

- ‌3 - رحلة إلى بلاد المجد المفقود

- ‌4 - تنبيهات اليازجي على محيط البستاني جمعها وحل رموزها

- ‌مقاليد الكتب

- ‌1 - أنتم الشعراء

- ‌2 - تاريخ مصر الإسلامية

- ‌3 - آلاء الرحمن في تفسير القرآن

- ‌مقاليد الكتب

- ‌1 - ابن خلدون: حياته وتراثه الفكرى

- ‌2 - قلب جزيرة العرب

- ‌الينبوع

- ‌النثر الفني في القرن الرابع

- ‌مقاليد الكتب

- ‌1 - ديوان عبد المطلب

- ‌2 - مرشد المتعلم

- ‌3 - مواقف حاسمة في تاريخ الإسلام

- ‌ ملوك الطوائف، ونظرات في تاريخ الإسلام

- ‌الإسلام والحضارة العربية

- ‌وَحْيُ القلم

- ‌علم معاني أصوات الحروف سر من أسرار العربية نرجو أن نصل إلى حقيقته في السليقة العربية (1)

- ‌علم معاني أصوات الحروف سر من أسرار العربية نرجو أن نصل إلى حقيقته في السليقة العربية (2)

- ‌علم معاني أصوات الحروف سر من أسرار العربية نرجو أن نصل إلى حقيقته في السليقة العربية (3)

- ‌عبقرية عمر

- ‌شاعر الحب والفلوات ذو الرُّمَّة- 1

- ‌شاعر الحب والفلوات ذو الرُّمَّة- 2

- ‌شاعر الحب والفلوات ذو الرُّمَّة- 3

- ‌ جمعية الشبان المسلمين

- ‌ تاريخ اليوم الأول

- ‌ دعوة الشباب إلى الجمعية

- ‌ الاجتماع الأول

- ‌ الاجتماع الثاني والثالث

- ‌ انتخاب مجلس الإدارة

- ‌في حلبة الأدب

- ‌كتاب تطور الأساليب النثرية في الأدب العربي

- ‌ عن كتاب تطور الأساليب النثرية" رد على مؤلفه

- ‌ترجمة القرآن وكتاب البخاري

- ‌ترجمة القرآن في صحيح البخاري

- ‌من أين؟ وإلى أين

- ‌لماذا، لماذا

- ‌تهيئة الشرق لوراثة الحضارات والمدنيات

- ‌شكر

- ‌أنا وحدى

- ‌الطريق إلى الأدب- 1

- ‌الطريق إلى الأدب- 2

- ‌فوضى الأدب وأدب الفوضى

- ‌الأدب والحرب

- ‌إلى على ماهر باشا

- ‌لا تبكوا. .! لا تنوحوا

- ‌تجديد التاريخ المصري ساعة واحدة

- ‌أحلام مبعثرة

- ‌أهوال النفس

- ‌وقاحة الأدب أدباء الطابور الخامس

- ‌قلوب جديدة

- ‌القلم المعطَّل

- ‌اللغة والمجتمع

- ‌أوطانَ

- ‌(حول قصيدة القوس العذراء)

- ‌صَدَى النقد طبقات فحول الشعراء رد على نقد

- ‌[الاستعمار البريطاني لمصر]

- ‌المتنبي

- ‌حديث رمضان. عبادة الأحرار

- ‌مع الشيطان الأخرس

- ‌ يحيى حقي صديق الحياة الذي افتقدته

- ‌لا تنسوا

- ‌عدوى وعدوكم واحد

- ‌أندية لا ناد واحد

- ‌لا تخدعونا

- ‌احذروا أعداءكم

- ‌في خدمة الاستعمار

- ‌حكم بلا بينة

- ‌تاريخ بلا إيمان

- ‌المسلمون

- ‌ لا تسبُوا أصحَابي

- ‌طلب الدراهم من الحجارة

- ‌ألسنَةُ المفترين

- ‌جرأة العلماء

- ‌أحمد محمد شاكر إمام المحدّثين

- ‌ قُرَىَ عَرَبِيَّةَ

- ‌كانت الجامعة. . . هي طه حسين

- ‌مواقف

- ‌في الطريق إلى حضارتنا

- ‌الأندلس تاريخ اسم وتطوره

- ‌المتنبي ليتني ما عرفته- 1

- ‌المتنبي ليتني ما عرفته- 2

- ‌القول في "تذوق الشعر

- ‌القول في "الشعر

- ‌القول في "التذوق

- ‌المتنبي ليتني ما عرفته- 3

- ‌تتمة القول في التذوق

- ‌قضية "التذوق" عندي

- ‌تاريخ "التذوق" عندي

- ‌من هؤلاء

- ‌قضية اللغة العربية

- ‌في زمان الغفلة

- ‌هؤلاء الخمسة

- ‌الفقيه الجليل ورموز التكنولوجيا

- ‌النكبات الثلاث

- ‌الجبرتى الكبير

- ‌الألفاظ المكشوفة في هذا الكتاب طبيعية وينبغي ألا يجهلها البشر

- ‌ذكريات مع محبى المخطوطات

- ‌[تعقيب]

- ‌كلام منقول بنصه

- ‌في الطبعة الجديدة "للمتنبى

- ‌ الجيل المفرغ

- ‌كتاب الشعر الجاهلي

- ‌هل يبقى الاتهام

- ‌تهمة أكبر

- ‌ليس شكا أزهريا

الفصل: ‌ ‌أوطانَ في أواخر القرن التاسع عشر الميلادى وأوائل القرن العشرين، كانت

‌أوطانَ

في أواخر القرن التاسع عشر الميلادى وأوائل القرن العشرين، كانت العربية قد بلغت من الانحلال على ألسنة أهلها مبلغًا ليس بعده إلا موت اللغة واندثارها بتةً واحدةً، لولا كتاب واحد كان كالديدبان على مصير هذه اللغة ومصير أهلها -هو القرآن، إذ كانت في كل بلد عربي لهجة عامية تختلف عن عامية أخيه، بيد أن القرآن ظل هو اللغة المشتركة التي يتفاهم بها هذا الجيل المختلط من العرب، وظلت لغته هي الرباط الوثيق الذي يمنع هذه الأمة العربية من أن تنتشر وتتفرق وتنقطع بينها أسباب التفاهم.

وفي هذا العصر نفسه كان الشعر العربي، في هذه البلاد المختلفة والأوطان المتباعدة، خليطًا عجيبًا من الركاكة والعبث بالألفاظ وبالمعاني وبالعقول، فكان مصيره أيضًا إلى الاندثار، لولا رجل فرد جاء كالقدر الغالب لينقذ الشعر العربي من أن يصير رِمَّة بالية في تاريخ الأدب، هو محمود سامى البارودى الذي نشأ على سليقة العرب الأوائل، فطرح الركاكة واللهو بالألفاظ، وانتحى الجزالة وقوة الأسر في العبارة في شعره، أو في التعبير عن حقيقة ما يدور في نفسه "هو" من المعاني التي يحس بها إحساس الشاعر، وإن كان يسلك أحيانًا طريق تقليد القدماء فيما لم يحس به ولم يعرفه، كبكاء الديار والأطلال ما إليه من خصائص شعراء الجاهلية وصدر الإسلام. فكانت نشأة البارودى في ذلك العصر إحياء للعربية وللشعر العربي لم نقدره إلى اليوم حق قدره. فلولا كتاب الله، ثم لولا ما شاء الله من هداية البارودى الشاعر إلى حقيقة نفسه وإلى حقيقة الشعر، لما صارت العربية إلى الذي صارت إليه اليوم، حتى لو بعث الجاحظ، وبيننا وبينه أكثر من عشرة قرون ومئتى سنة، لما أعجزه أن يفهم عن العقاد والمازنى وطه حسين من كتاب هذا اليوم، وعن محمود حسن إسماعيل وعلى طه من شعرائنا المعاصرين.

(*) مجلة الكِتاب، المجلد 4، سنة 1947، ص: 1566 - 1587

ص: 882

وفي هذا العصر نفسه، بلغت فورة الاستعمار الأوربى ذروتها، وغمرت الشرق والغرب العربي أمواج طاغية متدافعة من البغي والعدوان والعصبية الفاجرة، وأصبح العرب من أطراف مراكش إلى أقاصى العراق غرقى في لجج الاستعمار الأجنبى، ثم لا يجدون شيئًا يتشبثون به إلا الإيمان، وإلا أنهم قوم بُغِى عليهم و"على الباغى تدور الدوائر"! أي أنهم كانوا مستسلمين لعقوبة القدر التي نزلت بهم، وكان مع الاستسلام الذهول والتشتت والحيرة والضلال عن الطريق السوى، طريق الحرية.

وفي هذا العصر أيضًا ولد رجلان قدر لاسمهما أن يكونا أعلى الأسماء في شعراء مصر والبلاد العربية، هما شوقى وحافظ، ولد أولهما في سنة 1868 وولد الثاني في نحو من سنة 1871، أي قبيل اليوم المشئوم في تاريخ وادي النيل وتاريخ العرب قاطبة، إذ تم للغزاة البريطانيين أن يطؤوا ببطشهم أرض القاهرة في 14 سبتمبر سنة 1882. فنشأ الرجلان في حقبة من الدهر كان البلاء فيها محيطًا بالأرض التي ولدا فيها وبسائر بلاد العربية. وكان البارودى يومئذ قد نفي إلى جزيرة سيلان بعد أن استسلم للغزاة كما استسلم إخوانه من رجال الثورة العرابية، وخلا بِغَيْبَتِه ميدان الجهاد من شاعر يؤرث أحقاد أمته على الغزاة، أو يرفع لعينيها أهدافًا نبيلة سامية تندفع إلى بلوغها، أو يملأ قلوبها أشواقًا إلى التحرر من طغيان الغزاة وغطرستهم واستبدادهم.

وقد فُتِن هذان الشابان بالشعر منذ حداثتهما وطلبا أن يكونا شاعرين مذكورين كما كان إمامهما البارودى، فإن البارودى كان قد حطم ذلك الوهم الراسخ الذي لم يزل يملأ قلوب الشعراء هيبة تحجم بهم عن الطمع في بلوغ مرتبة الأوائل القدماء في الشعر: من قِبَلِ لغته وجزالتها، ومعانيه وجدّتها، وأغراضه وحداثتها. فأرهف هذا المثل الحي إحساس الشابين، فانطلقَا يطلبان الشعر من معادنه الأولى كما فعل البارودى: طلباه من دواوين شعراء الجاهلية وصدر الإسلام إلى ما وراء العصر العباسى. وتم لهما ما أرادا، فأجادا اللغة وتتبعا ألفاظها، وحرصا على اختيار جيد الكلام واحتذاء مِثَاله في أغراض عصرهما،

ص: 883

حتى صارا شاعرين لا تنزل ديباجة كثير من كلامهما عن ديباجة شعر العصر العباسى، ولكنهما وقعا في أشد مما وقع فيه البارودى، فكانا كثيرًا ما يقلدان شعراء هذا العصر في نهج شعرهما، وفيما لم يحسا به، وفيما لم يعرفاه على وجهه من تاريخ تلك الحقبة من حضارة الدولة العربية، فصارا يستعيران من كلامهم وأسلوبهم ما ليس يغني شيئًا في مثل عصرهما، وإن شئت فقل: ما ليس له معنى في هذا العصر.

ولما استقاد لهما الكلام العربي السليم، نظرا فأبصرا سبعين مليونًا من العرب يرسفون في أغلال الاستعمار الأوربى، ومن ورائهم خمسون مليونًا ومئتا مليون مسلم من أهل القرآن يرسفون في هذه الأغلال أيضًا، وفي أغلال مثلها من الجهل والتفرق والتنابذ والتدابر والعصبية الجاهلية. ثم تلفتا فإذا مجد باذخ عريق كان لأسلاف هذه الأمة من خلق الله، ولأوطانها التي تعيش فيها -مجد يضرب بجذوره إلى آلاف من السنين في مصر والشام وبلاد العرب والعراق وتونس ومراكش والجزائر وتركيا وفارس والهند وما والاها. ولم يلبثا أن سمعا صوت جمال الدين الأفغانى، وهو يدور في أرجاء الدنيا ليوقظ هؤلاء المسلمين من غفواتهم، ويحملهم على فضّ تلك الآصار التي ضربت عليهم. ثم لم يلبثا أن سمعا الصيحة الأولى في أرض مصر والسودان- صيحة الجهاد والتحرير التي انبعثت من قلب الفتى مصطفى كامل في نحو سنة 1890، ورددتها جنبات الوادي، واستيقظ على رَوْعتها ذلك الجيل المستسلم بعد فُجَاءَة الاحتلال. فانتبه هذان الشابان وتسمَّعا، فإذا صيحات أُخَر تدوى في نواحي الأرض العربية والأرض الإسلامية كلها، داعية إلى التحرر من ضراوة الاستعمار الأوربى، ومن البطش التركى، ومن الجهل المستبد الجاثم على هذه الشعوب، ومن الخوف الذي يقبض الهمم ويُغلُّ النفوس. وإذن فقد نشأ هذان الشاعران في زمن كل ما فيه يدعو الشاعر إلى أداء الفَرْض الأول على أبناء الوطن، وهو الجهاد، فماذا كان من أمرهما؟

ص: 884

كان من البديهي أن ينبعث هذان الشاعران إلى باب من الشعر حقيق بأن يسقط عنهما عبء الجهاد العسير في السياسة أو في الثورة أو في الجماعات السرية التي تعمل لاستنقاذ الوطن الأصغر وهو مصر والسودان، وتحرير الوطن الأكبر وهو ديار العروبة والإسلام، كما فعل رجال كالأفغانى وتلاميذه ومن جاء بعدهم. وهذا الباب من الشعر هو الذي يؤثر الكتاب أن يسموه الشعر الوطنى أو الشعر القومى. وقد عرف الرجلان ذلك وأراداه، وأدركا أن عليهما فرضًا وطنيًّا لابد من أدائه على وجه من الوجوه، ولذلك كثر في شعرهما ما قالاه في المناسبات الوطنية قديمها وحديثها. وليس عليك إلا أن تتصفح ديوان شوقى ثم ديوان حافظ، فتعلم أنهما شاركا مشاركة تامة في ذكر الأحداث السياسية العظيمة التي عاصراها. وكان حقًّا عليهما أن يعرفا أن هذا الضرب من الشعر إنما هو جهاد في سبيل بلادهما وفي سبيل سائر الأوطان العربية والإسلامية، وكان حقًّا عليهما أن يحرصا عليه حرصًا شديدًا، لأن الأمم العربية والإسلامية كانت يومئذ تتحرك وتغلى، وكان وطنهما مصر مُهَاجَر كل مضطهد ومأوى كل مهضوم، وكانت هي نفسها تغلى غليانًا شديدًا عميقًا لقرب عهدها بنعمة الحرية المسلوبة في سنة 1882، ولأن الغاصب كان يومئذ جبارًا متغطرسًا شديد الوطأة، لم ينشِّئْ بعد ذلك الجيلَ المستكين إليه، العاملَ على مرضاته، القانعَ بالوظيفة، الراضىَ بخسيس الجهد في خسيس الرزق.

وهذا الضرب من الشعر الوطنى الذي قصداه أو ظنا أنهما قصداه كان بلا ريب شيئًا جديدًا عليهما وعلى الشعر في زمانهما، فهل استطاعا أن يعرفا طريقهما إلى إنشاء أسلوب لهذا الشعر غير الأسلوب الذي درج عليه شعر الحماسة وشعر المناسبات.

أما "حافظ" فما أظنه فعل شيئًا ولا كان في طوقه أن يفعل شيئًا، ولذلك قصر شعره على المناسبات يقول فيها، وكان قليل المحصول من تاريخ هذه الدنيا، فاتر النفس في عالم مضطرب، مُسْتَغْرَقًا في همم صغارٍ لا تنزع به إلى ثورة ولا إلى تحريض على ثورة، وكان إلى آخر حياته حريصًا على أن يكون مكفيّ

ص: 885

الرزق، فإنه رحمه الله قد لقى عنتًا شديدا من ضيق ذات يده في نشأته وفي صباه وفي أكثر شبابه. ولكنه لم يخل شعره أحيانًا قليلة من إحساس وطنى يدفع الشاعر أن يقول شعرًا فيه نفحة من الوطنية، ولكنه شعر على غير نهج وإلى غير هدف، بل كان إذا جاءه القول قال. واستقر في نفسه أن ذلك حسبه من الشعر الوطنى فيما يظن ويتوهم.

وكان في حافظ عيب آخر ضلله وزاغ به عن طريق الحق، ووقع به دون الاهتداء إلى النهج الذي يكون به الشاعر صاحب شعر وطنى أو قومى، فقد كان إنسانًا مذعور القلب في غير ذعر، قليل الحمل للمشقة وتكاليفها، كثير الشكوى والتبرم من أهون شيء، فكان إذا جاءه شعر فيه شيء يخشى أن يؤخذ عليه، آثر السلامة فطواه وأبى أن ينشره، كما روى ذلك أكثر الذين عاصروه وصاحبوه، ولما نشر هذا الشعر بعد وفاته كان أفرغ من أن يخافه إنسان من عامة الناس فضلا عن شاعر من خاصة المجاهدين! ثم إن هذا الذعر في غير ذعر كان يحمله على اختيار مناسبات يقول فيها شعرًا تبرأ الوطنية منه، ولا يقوله إلا شاعر متكسب أو خائف أو مقتول إن سكت، كان يقوله وهو يعلم كما يعلم أنه لن يأتيه بخير كثير ولا قليل، ففيم كان عناؤه وكده ذهنه إذن؟ فأي شاعر اهتدى إلى الحق يخطر على باله أن تموت ملكة بريطانيا التي كان زمنها بلاء مصبوبًا على بلاده، فإذا هو يرثيها ويعزى قومها الذين غزوا بلاده وساموها الخسف، وأي خسف؟ هو الخسف الذي شهده حافظ بعينيه وأبصره بباصرتيه! ونشر هذا الرثاء الغث في يناير سنة 1901، والذي لن يسمعه أحد إلا قومه المساكين، وهو كان يعلم ذلك حق العلم، ولذلك يقول في أولها:"أعزى القوم لو سمعوا عزائي" ولو سمعوا عزاءك لفعلوا ماذا أيها الشاعر الرقيق القلب؟

ثم لما ماتت ملكة بريطانيا التي تعرف في تاريخهم باسم فكتوريا، ولى المُلْك بعدها في يناير سنة 1901 إدوارد السابع، فإذا الشاعر المصري ينبري بعد أكثر من عام فينشر في أغسطس سنة 1902، يهنئ ملك الغزاة البريطانيين بتتويجه بقصيدة مطلعها (1: 18):

ص: 886

لمحتُ من مصرَ ذاكَ التاجَ والقمرَا

فقلتُ للشعر هذا اليوم من شعرَا

يا دولةً فوق أعلامٍ لها أسدٌ

تَخْشَى بوادرَهُ الدُّنيا إذا زأرَا

في كلام كثير هو على غثاثته مدخول مرذول، فأي رجل هذا الذي يقول لأبناء أمته إن الدولة المحتلة لبلادكم دولة ذات بأس تخشاه الدنيا؟ وأي تثبيط هذا؟ وما الذي دفع هذا الرجل إلى أن يقول ما قال ثم يشفعه بما هو أرذل منه وأشد تثبيطًا، إذ يقول لبريطانيا:

منْ ذا يُنَاوِيكِ والأقدارُ جاريةٌ

بما تشائين، والدُّنيا لمن قهرَا

إذا ابتسمتِ لنا، فالدهرُ مبتسمٌ

وإن كشرتِ لنا عن نابِهِ كشرَا

ألستَ خليقًا أن تقول كما قال القائل الأول: "لا والله لا يخرج هذا الكلام من قلب سليم أبدًا"؟

ثم ندع شيئًا كثيرًا من أمثال هذا وننظر، فإذا يوم "مشئوم" آخر في تاريخ مصر يفجع الشعب المصري كله، وتتسامع به الدنيا وتقشعر له الأبدان، حتى أبدان الإنجليز أنفسهم، لشناعته وشناعة آثاره، هو يوم دنشواى الذي لم يشهد العالم يومًا أفظع منه وحشية ولا اعتداء على الإنسانية. وكانت هذه الحادثة خليقة أن تنشيء رجلا لم يقل الشعر قط فيكون شاعرًا يملأ رحاب الدنيا تفجعًا ونداء وتحريضًا على تقويض دعائم البغي والطغيان، أما إذا كان الرجل شاعرًا وطنيًا، فكانت حقيقة بأن تبعثه بعثا جديدًا فيجرِّد شعره للحرية والجهاد والمصابرة على البأساءِ والضراء، حتى يوقظ نيام قومه من غَفَلاتهم، وينفض المخاوف عن قلوبهم، ويجيش هممهم للصِّراع الذي لا تنطفيء له جمرة أو تنطفيء جذوة الحياة في أبدانهم، ولقد وقعت هذه الكارثة في 13 يونية 1906، وحافظ يومئذ في الخامسة والثلاثين من عمره، أي في فَوْرة الشباب والعزم والقوة، ودوى صوت مصطفى كامل كأنه الرعود القاصفة في السحاب العرَّاض في الليلة المظلمة، فماذا كان من أمر هذا الفتى الشاعر الوطني؟ إنه استفتح قصيدته بهذه الكلمات الرقيقة وبهذه السخرية اللطيفة التي يقول فيها (2: 20):

أيها القائمون بالأمر فينا

هل نسيتمْ ولاءَنَا والودادَا

ص: 887

ثم لا تنس أنه يخاطب الإنجليز ويذكر لهم ولاء مصر وودادها! !

خفّضوا جيشكُمْ وناموا هنيئًا

وابتغوا صيدكُمْ وجوبوا البلادَا

وإذا أعوزتكُمْ ذاتُ طوقٍ

بين تلك الرُّبَى، فصيدوا العبادَا

إنما نحنُ والحمامُ سواءُ

لم تغادر أطواقنا الأجيادَا

ثم يطلب من الطغاة إحسان القتل إذا ضنُّوا بالعفو، وأنه لا يليق بالقوى أن يتشفى من ضعيف أسلم إليه قياده، ثم يقول:

إنّ عشرين حجّةً بعد خمسٍ

عَلمتنا السكون مهما تمادَى!

إلى آخر ما قاله في هذه القصيدة، وهو كلام لا غناء فيه ولا يمكن أن يعد في جيد الشعر الوطني، فإن فيه من المغامز ما لا يقوم له شيء من عذر أو سواه، بل أكبر من ذلك كله أن هذا الفتى الشاعر لم يلبث أن نشر قصيدة أخرى في 5 أكتوبر سنة 1906 يستقبل بها اللورد كرومر عند عودته من مصيفه بعد حادثة دنشواى (2: 22) يقول في مطلعها إنه لا يريد بها شيئًا أكثر من أن يعاتب اللورد ويقول له "علمتنا معنى الحياة"، ثم لا يزال يفيض في كلام رقيق سهل حتى يقول له ويذكر ولاء المصريين للبريطانيين! !

رفقًا عميد الدولتين بأمّةٍ

ضاقَ الرجاءُ بها وضاق المذهبُ

رفقًا عميد الدولتين بأمّةٍ

ليست بغير ولائِها تتعذّبُ

كن كيف شئتَ، ولا تَكِل أرواحنَا

للمستشارِ فإن عدلَكَ أخصبُ

فاجعل شعاركَ رحمةً وموَدّةً

إن القلوب مع الموَدّةِ تكسبُ

إنها نصائح غالية يهديها هذا الفتى الشاعر الوطنى إلى الغازى المتغطرس الذي لم تسلم من شروره زاوية في أرض مصر، لكي يكسب قلوب المصريين وينال مودتهم وإخلاصهم له ولبريطانيا، فما أعجب وما أغرب! ! ثم هل يكتفي هذا الفتى ويمسك لسانه عن القول؟ كلا بل هو يبسطه أشد البسط في أوجز قول وأخصره، يصف قومه وما هم عليه فيقول للورد العظيم:

وإذا سُئِلتَ عن الكنانة قُلْ لهم:

هي أمّةٌ تَلهو وشعبٌ يلعَبُ

واستبقِ غفلتَها، ونمْ عنها تَنْم

فالناسُ أَمثال الحوادث قُلَّبُ

ص: 888

"هي أمة تلهو وشعب يلعب"! لم تكن لحافظ مندوحة عن أن يقول هذا القول، فإنها عادة "سيئة" من عاداته لم يزل يرددها في شعره ما استطاع، كأنه ترك هجاء الناس ووكل بهجاء هذه الأمة، لتكون كلماته عونّا للغزاة حين تذيع وتثبت وتجري بها ألسنة الجهال والمنافقين وشذاذ الآفاق الذين نزلوا مصر مع الاحتلال البريطاني. وقد كان ذلك، فمن منا أخطأه أن يسمع هذا المثل المضروب! ! مرات كثيرة في كل مجال قول أو دفاع عن مصر؟ وأقول عادة، لأن حافظ قد أطال الطعن في هذا الشعب على غير هُدًى، فإذا كان يريد به إيقاظ النفوس، فيا سوء المسلك الذي سلك، وإلا فهو يريد الطعن وحده ولا شيء غيره. وهو في سنة 1904 قبل دنشواى يقول:(1: 256)

فما أَنت يا مصر دارَ الأريبِ

ولا أَنتِ بالبلد الطيّبِ

يقولون في النشء خيرٌ لنا

ولَلنَّشْءُ شرٌّ من الأجنبِي

وكم ذا بمصرَ من المضحكاتِ

كما قال فيها أَبو الطَيّبِ

وشعبٌ يفرُّ من الصالحات

فرار السليم من الأجرب

أيجوز لي أن أعلّق على هذا الشعر بشيء إلا أن أقول إن حافظا نفسه كان أشد على مصر من هذا النشء الذي ذمه، وأنه ابن هذا الشعب الذي يفر من الصالحات؟ ولست أدري كيف أنتصف من هذا الرجل، فإن كل كثير في أمره قليل. وهو بهذا الكلام وأمثاله قد نفى عن نفسه خيرًا كثيرًا كان هو أحوج الناس إليه في حياته وبعد مماته.

ولست أدري أيضًا ما الذي كان يحمل حافظًا، حتى بعد أن جاوز الأربعين واستقر عيشه وصار رئيسًا للقسم الأدبى بدار الكتب، على أن يرمى بنفسه في غمار هذه الأشياء التي تجلب عليه المذمة والنقيصة، فإن كان يطلب الرزق فقد كفى الرزق، وإن كان يطلب الترقية ليزداد شيئًا إلى شيء فقد كان له سبيل غير سبيل الشعر. ويخيل إليَّ أحيانًا أن حافظًا كان أذنًا يذهب حيث يذهب به من يواليه ويلوذ بكنفه، فقد كان سعد زغلول في ذلك الحين الوكيل المنتخب للجمعية التشريعية وكان حافظ صديقًا له ونديمًا، ثم أعلنت الحماية على البلاد

ص: 889

وأذيلت كرامتها في 19 ديسمبر 1914، وأرسلت بريطانيا أول مندوب سام يحكم مصر تحت ظل الحماية، فخرج وكيل الجمعية التشريعية يستقبل هذا المندوب في محطة مصر يوم 9 يناير سنة 1915، وكان مما قاله سعد يومئذ على مسمع من المستقبلين:"إن دلائل الخير بادية على وجهه" وأمّل أن يجزل الله لمصر الخير على يده! ! كما نُشِر في جريدة المقطم يوم 11 يناير 1915، فلا تكاد تمضي أيام حتى ينشر حافظ في يناير 1915 قصيدته التي يقول فيها (2: 82) مخاطبًا المندوب الجديد:

أَىْ مَكْمَهُون قدمت بالـ

ـقَصْدِ الحميد وبالرعايهْ

ماذا حملتَ لنا عن الـ

ـمَلك الكبير وعن (غِرايه)

أَوضِحْ لمصر الفرقَ ما

بين السيادة والحمايَهْ

ثم يمضي على سننه في هذا الكلام الرفيق الرقيق الذي كان كأنه ترجمة شعرية للكلمة التي قالها وكيل الجمعية التشريعية، ثم يسأل العميد الجديد أن يتعهد هو وقومه أرض مصر بالرعاية، وأن يحسنوا عليها الوصاية! ! إلى أن يقول في غزاة بلاده:

أَنتم أَطباءُ الشُّعُو

بِ وأَنبلُ الأقوام غايَهْ

أَنَّى حللتم في البلا

دِ لكم من الإصلاحِ آيهْ

وعدلتمُ فَملكتمُ الدُّ

نيَا وفي العدل الكفايهْ

إن تنصروا المستضعَفيـ

ـين فنحن أَضعفهم نِكايَهْ! !

وَاذُلّاه! فأي شيء أبقى لبريطاني أن يقوله في تسويغ احتلال مصر، وفي الدعوى العريضة التي لا تزال بريطانيا تدعيها على كل شعب وقع تحت سلطانها الباطش؟ !

ونحن قد سقنا هذا للدلالة على موضع الدَّخَل في شعر حافظ وفي عزيمة نفسه، ولو طلبنا أن نذكر شعرًا مما تكون فيه نفحة من الوطنية لوجدنا شيئًا، ولكنه إذا مُحّص وُجِد غير صحيح على التمحيص. وغير ذلك أننا لم نكتب هذا لنجمع ما قاله من الشعر مما فيه ذكر لمصر أو لما حدث فيها، بل أردنا أن نعرف

ص: 890

هل استطاع حافظ أن ينهج شعرًا في الوطنية، وأن يتخذ له أسلوبًا غير أسلوب المناسبات، وغير ترديد أسماء الأمم والأعلام والرجال من العرب الأوائل والمحدثين ممن كان لهم أثر في وطنه الأصغر خاصة أو في وطنه الأكبر عامة. فلما لم نجد لهذا الرجل نهجًا، وأعجزنا أن نجد له إلا كل ما يجعله محالا عليه أن يهتدى إلى مثل النهج الذي نطلبه، آثرنا أن نغفل ذكر شيء من شعره الذي يخيل إلى السامع أنه شعر وطني.

* * *

أما شوقى فقد برئ من هذه الآفة التي لحقت شعر حافظ، إذ خلا شعره مما يقدح في وطنية الشاعر، ومن طعن على بلاده وأوطان قومه إلا أن تكون فلتة، ومن كل ملق لا خير فيه يتملق به الغزاة البريطانيين. وبذلك سلمت له نفسه، فهل استطاعت هذه النفس الشاعرة أن تلتمس نهجًا للشعر الوطنى؟ وما الذي وفقت إليه؟ وهل أتتنا بشعر حقيق بأن يسلك في عداد الشعر الوطنى كما ينبغي أن يكون؟

كتب شوقى أول شعره في نحو سنة 1888، أي بعد الاحتلال بست سنوات، وكان قد صار إلى ما كان يتمناه وهو أن يصير "شاعر الخديو صاحب المقام الأسمى في البلاد"، كما قال في مقدمة ديوانه الأول. وكان خديو مصر في ذلك الوقت هو محمد توفيق الذي تم في عهده احتلال وادي النيل بعد انهزام جيوش عرابي وإخوانه. فليس عجيبًا إذن أن لا تجد في شعره الذي قاله في عهد توفيق شيئًا فيه ذكر ما اعتلج في نفسه من أثر هذا الاحتلال المشؤوم الذي نكبت به مصر والسودان، وهو يومئذ في نحو الخامسة عشرة من عمره -أي أنه كان فتى يعقل ويدرك ويعرف معنى الاحتلال وكان أيضًا يحفظ الشعر ويطلبه ويتهيأ له كما قال في مقدمة ديوانه الأول. وسكوت شوقى هذا السكوت المريب عن أفظع بلوى منيت بها بلاده، لم يكن إلا أنه كان منذ أول عهده يسمو ببصره إلى أن يكون "شاعر الخديو صاحب المقام الأسمى في البلاد"، فحمله هذا المطمح النبيل على أن يخفي شعوره الوطنى كل الإخفاء، أو يغفله كل الإغفال، حتى

ص: 891

لا يعوقه ذلك عن بلوغ المرتبة السامية التي يصبو إليها. فلو هو تنفَّس عن شيء لجرّ ذلك عليه غضب الخديو توفيق الذي تم الاحتلال في عهده، ولكانت عاقبة ذلك أن يقصى عن القصر وعن الحضرة الخديوية الفخيمة لا محالة. وهذا الفعل من شوقى دليل على أن نفسه كانت تؤثر المنفعة الخاصة إيثارًا يصرفها عن الأهداف النبيلة في حياة أحرار الرجال. وهذا أول مغمز يخشى معه أن يضل هذا الفتى كما ضل حافظ من قبل عن الشعر الوطني الحق.

ثم قضى توفيق نحبه في 7 يناير سنة 1892، فانقضى بموته السبب الذي كان يمنع الشاعر الفتى أن ينفث خطرات نفسه ويبث قومه أشجانه. وولى الأمر بعد توفيق الخديو عباس الثاني في 8 يناير سنة 1892. وبدأ عباس، منذ عاد من فينا إلى مصر في 16 يناير من تلك السنة، يناوئ الإنجليز ويُصِرّ على أن يستَمسك بحقوق مصر وحقوق عرشه. وكان رئيس الوزراء يومئذ هو وزير الاحتلال المشهور مصطفى فهمي باشا، فظل يعمل جاهدًا على نزع السلطان كله من يد الخديو الشاب، ووضعه في يد المعتمد البريطاني اللورد كرومر، ومضى عام، فإذا الخديو الشاب يرسل إلى مصطفى فهمي كتابًا يقيله من رئاسة الوزارة دون أن يستشير كرومر أو يطلعه على ما نواه، وذلك في 15 يناير سنة 1893. فلما بلغ الخبر كرومر استشاط غضبًا وجن جنونه وثار ثورة بريطانية، فأسرع إلى الخديو وقابله، وأصرّ على عودة وزير الاحتلال، فأصر الخديو على أن اختيار الوزراء حق من حقوقه الشرعية لا يجوز لكائن من كان أن ينازعه فيه. فأخذ كرومر يتوعده وينذره ويهدده، ولكن الخديو الشاب بقى كالطود الراسخ لا يتزلزل ولا يهاب وعيدَه ولا نُذُرَه. هكذا فعل كرومر، أما الشعب المصري فقد انبعث انبعاثًا جديدًا كان فاتحة الحركة الوطنية الخالدة في تاريخ مصر، وكان هذا الشعب يبغض مصطفى فهمي وزير الاحتلال بغضًا ليس بعده ولا قبله، ولكنه كان يطوى جوانحه على هذا البغض، فلما انتهى إليه خبر إقالته، وخبر هذه الجرأة الصريحة على كرومر الجبار المخوف، ابتهج ابتهاجًا عظيما، ولم يلبث أن سارت وفود الناس على اختلاف طبقاتهم، حتى الموظفين والقضاة، ويمموا

ص: 892

شطر قصر عابدين في 18 يناير سنة 1893 لكي يؤيدوا هذا الفتى فيما فعل. وكان هذا اليوم عجبًا في تاريخ مصر، دل على أن هذا الشعب لا يغفل عن حقوقه، ولا ينام عن عدو أو صديق، وإن ظن الجاهل به أنه راضٍ ساكن قانع بما كتب له أو عليه. ومن يومئذ ظل عباس يناوئ بريطانيا وعميدها كرومر مناوأة العنيد الذي لا يهاب.

ولسنا نشك في أن شوقى "شاعر الخديو" قد استفاق يومئذ على روعة هذا العمل الذي اجترأ عليه هذا الفتى الغرير عباس الثاني، كما استفاق خلق كثير ممن أُبْلِسُوا (1) حيرةً وذهولًا بعد احتلال بلادهم في عهد سلفه توفيق. ومن يومئذ، فيما نظن، بدأ شوقي يتطلب أن يكون شعره صدى يردد صوت الأمة المصرية والأمم العربية والإسلامية التي حاق بها بلاء الاستعمار. فماذا فعل؟

في سبتمبر من سنة 1894، أي بعد هذه الحادثة بسنة، أُوفِد شوقي مندوبًا إلى المؤتمر الشرقي المنعقد في مدينة جنيف، ويومئذ قال قصيدته المشهورة. (ج 1: 1)

هَمَّتِ الفُلْكُ واحتواها الماءُ

وحَدَاهَا بمنْ تُقِلّ الرجاءُ

وهي، كما قال هو في ديباجتها:"قصيدة تاريخية تتضمن كبار الحوادث في وادي النيل من يوم قام إلى هذه الأيام"، وفي هذه القصيدة أول شعر لشوقى تجد فيه إشارة إلى احتلال الغزاة البريطانيين لأرض وادي النيل، بعد سكوته في عهد توفيق، وذلك إذ يقول في ذكر الخديو محمد توفيق:

وغزيرِ الهُدَى من "الحمد والتو

فيقِ" صيغت لذاته الأسماءُ

بثَّت العدْلَ راحتَاه، وعزَّتْ

في حماهُ العلوم والعلماءُ

(إن أَتَاها فليس فيهَا ببَادٍ،

أو جناهَا فذا الوَرَى شركاءُ)

(لا يلمْ بعضكُمْ على الخَطْبِ بعضًا،

أيها القوم، كلّكُمْ أبرياءُ)!

ولم يصرح باسم الاحتلال بل كنى فقال: "إن أتاها. . . ." يعني الزلة المردية

(1) أبلس: وقف في مكانه حائرا مترددا.

ص: 893

التي زلها توفيق بدعوة بريطانيا إلى نصرته على أبناء بلاده الذين ثاروا مطالبين بحقوقهم الدستورية. وشوقى يحفظ جميل البيت العلوى عليه، فيلتمس العذر لتوفيق بأن يشترك الشعب المصري في هذه البلوى التي حلت بهما جميعًا. ثم يذكر في آخر القصيدة عهد عباس الثاني، فإذا فيه إشارة "خفية" إلى ما كان من إقالته لوزير الاحتلال وقلة احتفاله ببطش المعتمد البريطاني، وذلك إذ يقول:

كيفَ تشقى بحبّ حِلْمِي بلادٌ

نحنُ أسيافُها وأنت المَضَاءُ؟

وهذه القصيدة، لا أقول إنها من فاخر شعر شوقى، ولكنها كانت بدءًا جديدًا أراد به هذا الفتى أن يجلو بالشعر تاريخ وطنه، وأن يذكر الناس بماضي أسلافهم وغابر مجدهم وقديم حضاراتهم؛ وهذا بلا ريب باب من أبواب الشعر الوطنى. بيد أن شوقى لم يوفق إلى حقيقة الشعر الوطنى فكانت قصيدته هذه سردًا للأحداث التاريخية في وادي النيل، وردًّا على بعض المطاعن، وسخرية من الغزاة الذين غزوا أرض مصر، حتى إذا ما بلغ عهد توفيق اختصره في الأبيات التي ذكرناها آنفًا، وأعرض عن التصريح بذكر الاحتلال ووقعه في نفسه، ولم ينبض حرف "واحد" من شعره هذا ببغض الغزاة الذين يسومون بلاده سوء العذاب، وهو حي يدرك ويحس ويسمع ويبصر.

فأي بلاء هذا؟ شاعران تفخر بهما مصر العربية والإسلام، يضل أحدهما ضلالا مبينًا كما ذكرنا، ويضل الآخر عن الطريق الذي مهده له الخديو بجرأته وقوة جنانه معرضًا عرشه للضياع! كان شوقى رجلا طموحًا إلى أشياء بعينها أخذت عليه المسالك: أن يكون "شاعر الأمير" وأن يظل "شاعر الأمير" وإن اختلفت الأمراء، فمن أجل ذلك تراه لا يزال يخشى أن تتغير الحال بعد قليل فتتغير حاله، فيؤثر أن يمسك لسانه ولا يسترسل مع أميره هذا الجرئ. وكان هذا أول الداء العياء، هو الخوف آفة الأحرار. ومن جراء هذا الخوف القابض على جَنَانِه حار هذا الفتى الشاعر فلم يستطع هو أيضًا أن يهتدى إلى حقيقة الشعر الوطنى الصحيح ولا إلى نهجه الحق. إن أصل الشعر الوطنى هو الحماسة، أي أن تكون ثائر النفس جياش الفؤاد، فتصب ثورة نفسك في بيان يتدفق في قلوب

ص: 894

أبناء أمتك فيثيرهم ويثير أحلامهم، ويجيش همتهم، ويوقظ نائم أحقادهم، ويرفع لهم مثل الحياة الحرة الشريفة العزيزة، ويهزهم هزا إلى صراع عدوهم وإن خيف بطشه وجبروته، ويحبب إليهم احتمال الأذى ولقاء الردى، والجود بالنفس والمال والولد ونعيم العيش وراحة الحياة الدنيا، فكيف يستطيع أن يركب هذا المركب الوعر من تتعلق نفسه بلقب يحرزه ونعمة يتقلب فيها؟ !

وأنت إذا قرأت هذه القصيدة الهمزية التي ذكرناها، رأيت شوقى يتدفع فيها تدفعًا شديدًا على خلاف أكثر شعره، فقد كانت كالموج المتدفق في أسلوبها، وهذا هو الأسلوب المختار لأكثر الشعر الوطنى في أي أغراضه كان. بيد أن شوقى لم يلبث حتى هجر هذا الأسلوب نفسه واتخذ أسلوبًا آخر يناقضه تمام المناقضة، فلان شعره واسترخت قوته، وبدأ يسمو إلى أن يكون حكيم هذه الأمم يضرب الأمثال، ويأتيها بشعر فيه فلسفة وحكمة، تقليدًا للشاعر "صاحب اللواء، والسماء التي ما طاولتها في البيان سماء" وهو المتنبى، كما وصفه في مقدمة الطبعة الأولى لديوانه (ص 5 - 7). ومع ذلك لم يخرج شوقى من هذا التقليد إلا بأن يكون شاعرًا واعظًا، لا شاعرًا حكيما كما كان المتنبى وخليفته أبو العلاء المعرى، على شدة التفاوت بينهما. وأما السبب الذي من أجله عجز شوقى عن أن يكون حكيما على شدة تشبثه بهذا الوصف كما جاء في شعره، فشيء ليس هذا مكان بيانه والتدليل عليه.

ومن أعجب العجب أن شوقى الذي كان إلى سنة 1906 لا يدع شيئًا إلا قال فيه، قد اعتقل لسانه وسكن سكونًا حتى لا حراك به يوم وقعت كارثة دنشواي، فلم يقل شيئًا إلا أبياتًا من أرذل الشعر، قالها بعد عام مر على "حادثة هذه القضية في سبيل طلب العفو عن سجنائها"! كما قال في ديباجتها، وكان غاية ما قاله:

(نيرون) لو أدركتَ عهد (كرومر)

لعرفتَ كيف تنفّذ الأحكام!

فمن شاء أن يرشدنى كيف استطاع شوقى أن يملك نفسه، فلا يذكر شيئًا عن احتلال بلاده وضياع استقلالها، وعن هذه الكارثة الوحشية التي حركت الكاتب الإيرلندى "برناردشو" -فليفعل مشكورًا. أما أنا فأرى أن القلب الذي

ص: 895

سكن فلم يتحرك ولم يتمزق على هذين البلاءين الشديدين، لا يستطيع البتة أن ينفخ الحياة في شعر يقال لينفخ الروح في شعوب موات من وطأة الاستعمار والجهل والاستعباد قديمه وحديثه. وهذا هو جوهر الشعر الوطنى والقومى.

كانت الأحداث تتوالى في الدولة العثمانية، وتوالت الأحداث أيضًا في مصر، وهبَّ مصطفى كامل كالأسد يزأر هنا وهنا حتى أيقظ الأجنَّة في أرحام أمهاتها، واضطرب أكثر العالم العربي والإسلامي، فأراد شوقى أن يكون بالمرصاد لكل ذلك، فأرصد شعره للمناسبات يقول فيها، فكانت لكل حادثة قصيدة، وألف هذه العادة إلى آخر أيام حياته، وقلده فيها جمهرة من معاصريه الشعراء، ولا يزال يعيش بيننا إلى اليوم من يقلده ويقتفي آثاره خطوة خطوة. وأمثال هذه القصائد التي تقال في فورة الأمر وعنفوانه قلما تخطئ هدفها، إذ تجد النفوس مستعدة للتلقى والاهتزاز من تلقاء نفسها، وإن كان الذي يلقى عليها كلامًا غثًّا لا غناء فيه. وشبيه بذلك ما يجده الخائف المتوجس إذ تروعه النبأة الخافتة وتنفضه نفضّا، فإذا سكن جأشه نام على هدة جبل يندك. ولو قرأت اليوم أكثر ما قاله شوقى في المناسبات الوطنية والإسلامية والعربية، فعسى أن لا تجد فيه شيئًا يثير شيئًا فيك إلا التعجب مما كنت أحسسته يوم قرأته في حينه وأوانه، وكأنما كان ذلك كله من عمل الوهم فيك لا أكثر ولا أقل. ومثل هذا ليس بنافع شيئًا في الشعر الوطنى الصحيح الذي لا يموت بموت الساعة التي قيل فيها. ولو شئت أن أضرب الأمثال بكثير من هذا الشعر لفعلت ولكنه إطالة، فمن شاء أن يلتمس وجه الحق في ذلك فليقرأ ديوانه، فهو واجد فيه تحقيق ذلك عيانًا وتجربة.

وشيء آخر أراد به شوقى أن يكون شاعرًا وطنيًّا لكل وطن من أرض العرب والإسلام، ذلك أنه عني كل العناية بدراسة تاريخ عظماء هذا الجيل العربي قديمه وحديثه وحفظ أسماء الرجال والمواقع والأحداث، وجعل ينثرها نثرًا في شعره حتى ما تكاد تخلو له قصيدة من ذكر هؤلاء الرجال كخالد بن الوليد وصلاح الدين وبنى أمية وبنى العباس وفلان وفلان. وصار الأمر عادة حتى أفرط في ذكر الأنبياء بخاصة عيسى ومحمد عليهما السلام، ثم ألح على أسماء الملوك الأقدمين

ص: 896

كالفراعنة والقياصرة ومن إليهم، حتى صار شعره أشبه بسجل تاريخى لقديم هذا العالم وحضاراته. وأكبر الظن أن شوقى ظل يبحث عن الشعر الوطنى فخيل إليه أن هذا الذكر المردَّدَ للأسماء كافٍ وحده في أن يجعل شعره مذكورًا في الشعر الوطنى. والحق أنه ليس كذلك، وإن كان بعضه مما يدخل هذا المدخل على ضعف شديد. وكذلك أخفق شوقى كما أخفق حافظ في التهدى إلى حقيقة الشعر الوطنى والقومى.

* * *

بيد أنه ليس من الإنصاف في شيء أن نغفل أكبر يد أسداها حافظ وشوقى إلى الأمم العربية والإسلامية. ذلك بأنهما كانا شاعرين يستجيدان الكلام، وإن أخطآ وضلا عن الصواب، وأنهما كانا رائدين لهذا الجيل العربي بعد البارودى، وأن شعرهما قد علم مئات من الكتاب والشعراء في كل نواحي البلاد العربية، وأن تلهف الناس كان على شعرهما هو الذي أغرانا جميعًا ببذل الجهود في دراسة العربية ودراسة تاريخها وآدابها، وأنهما كانا من طلائع النهضة العربية الحديثة في هذا القرن العشرين. فإن كانا قد أخطآ وضلّا، فقد أيقظا ناسًا صاروا مددًا لهذه القوة الجياشة التي سوف تدفع بلاد العرب والمسلمين إلى التحرر من ربقة الاستعمار، ومن أوزار الجهل والتشتت والفرقة، وتجمعهم يدًا واحدة لكي ينشؤوا للعالم حضارة جديدة كالتي أنشأها آباؤنا من قبل، تأنف لنفسها أن تستعبد الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارًا.

ص: 897