الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
في خدمة الاستعمار
اقرأ أحاديث هؤلاء الذين تسميهم الصحافة "زعماء" تارة و"ساسة" تارة أخرى، فلا أدري من أي شئونهم أعجب؟ أمن حسن فهمهم لما يدور في عالم نعيش نحن فيه أداة مسخرة للاستعمار؟ أم من دقة بصرهم بما يرضى الدول التي استعمرت بلادنا من أقصى المشرق إلى أقصى المغرب؟ أم من براعة ألسنتهم في عرض قضايا الأمم المنكوبة بالاستعمار، عرضا لطيفا هينا رقيقا، يعين الشعوب المسكينة على أن تسكن إلى الأمر الواقع، وإلى الاطمئنان إليه والرضا به، أم من رشاقة اهتدائهم إلى حلول يزعمون أنها ترضى طرفي النزاع؟ وطرفي النزاع -كما هو معلوم بالضرورة- هما المستعمر الذي أهدر حرية الشعوب، وكرامة البشرية، والمستعبد الذي يريد أن يسترد حريته وكرامته.
كلا، بل أخطأت، فأنا لا أعجب في الحقيقة، بل أتقزز وأشمئز، فإن الفرق بين التعجب وبين التقزز والاشمئزاز، هو من الدقة بحيث لا يعدو أن يكون فرقا في صورة التعبير عما تعانيه النفس تفاجئها المعاني المثيرة. ولعلها اختلطت عليّ، كما اختلط علينا كل شيء في هذه السنين السود.
والذي يحمل النفس على التقزز والاشمئزاز، هو أن هؤلاء الزعماء والساسة، مفروض أنهم من أنفسنا، أسماؤهم كأسمائنا، وأنسابهم في الأمة كأنسابنا، ونشأتهم فيها كنشأتنا فكان ينبغي أن يكون إحساسهم بالذل والعار والمهانة كإحساسنا، ولكن يخيل إليك إذا تكلموا، أنهم من عالم غير عالمنا أو من أرض غير أرضنا، فلو طمس اسم أحدهم من حديث يتحدث به إلى الصحافة وثبت مكانه اسم أي انجليزى أو أمريكى أو روسى أو ما شئت، لما أحسست كبير فرق، يميز بينهم وبين أحد من هؤلاء، يكون الرجل منهم كأحسن ما يكون عقلاء الرجال، ولكن فقده للإحساس بالذل والعار والهوان الذي يتمرغ فيه هو وبلاده، يجعل الأمر من الفظاعة، بحيث لا ينفع فيه إحسان ظن ولا حسن تقدير.
(*) اللواء الجديد، عدد 25 سبتمبر سنة 1951، ص 3.
ومن هذه الأحاديث، حديث على ماهر المنشور في الأهرام (السبت 22 سبتمبر الحالي) وقد سئل عن مشكلة السودان فكان جوابه:"ويخيل إلى أنه ينبغي أن نتدبر حقوق السودان وحقوق مصر، والمصالح البريطانية. ففيما يتعلق بالمصالح البريطانية، فإن الرأي عندي -حتى أثناء مفاوضات 1946 - أن تلك المصالح تلخص في مسائل اقتصادية، ومشاكل مواصلات ومطالب استراتيجية ويمكن الاهتداء إلى حل لكل من هذه المسائل يرضى بريطانيا" يا للعجب! "يرضى بريطانيا"! !
وتصوير المشكلة على هذا الوجه اللطيف البسيط غريب جدا! . ولو أنت جعلت آخر هذه الفقرة: "ويمكن الاهتداء إلى حل لكل من هذه المسائل يرضى مصر"، ثم نسبت الحديث إلى إيدن مثلا، لكان كلاما مستقيما مع السياسة البريطانية، لا لبس فيه ولا إبهام، وكلنا قد قرأ مثله للساسة البريطانيين، وفي الصحافة البريطانية، مصورا لهذه المشكلة بنفس الأسلوب، إن لم أقل بنفس الألفاظ. لم يقولوا قط أن السودان ملكا لهم، بل قالوا أن لهم فيه مصالح اقتصادية، واستراتيجية يحافظون عليها، بل هم زعموا أنهم يحافظون على رفاهية السودان واستقلاله. بل أقرب من ذلك أنهم زعموا منذ قديم أن بقاءهم في مصر نفسها ليس إلا للمحافظة على مصالحهم الاقتصادية والحربية والمواصلات البريطانية، وسلامة الأمن العالمى أخيرًا، وأن هذا البقاء ليس احتلالا بل هو بعض واجبات الصداقة المتينة بين مصر وبريطانيا! !
ولا أظن أن في الدنيا العاقلة مفكر يستطيع أن يفرق كثيرا بين الاحتلال وبين هذه الصداقة المتينة، إلا أن يكون قد زال من نفسه كل معنى من معاني الشعور بالعدل المجرد، ولا أقول أنه قد زال من نفسه كل معنى من معاني الشعور بالكرامة الإنسانية، وبالبلاء الماحق الذي نراه ماثلا في تاريخ الاستعمار، منذ انقض على بلاد الشرق كله، والعالم العربي والإسلامي، من أطرافها، حتى احتل القلب، في هذه النقطة التي يسمونها الآن: الشرق الأدنى.
ولست أدري كيف يستطيع سياسي أن يجهل أن وجود المصالح الاقتصادية،
والاستراتيجية، في أرض معناه إهدار ما يماثلها من مصالح، هي حق أصيل لهذه الأرض وسكانها، وأن الأجنبى المعتدى على هذه المصالح، لا يعتمد في صيانتها إلا على أن يسلب سكان الأرض مقدرتهم على أن تكون لهم مصالح تنازع مصالحه، ومعنى هذا أنه يعتمد على استعباده، ويرتكب في سبيل ذلك كل وسيلة تؤدى إلى أن يجعل سكانها في مرتبة الخدم والأذناب والماشية، فإن لم يفعل، فمنطق الاستعمار يدل على أنه مستعمر شديد الغفلة، لو سمح لأي عنصر من عناصر القوة أن تنازعه في هذا المكان، وأكبر عناصر القوة، هي: الحرية.
فتصوير المشكلة إذن خطأ كله، فمشكلة السودان أو مشكلة مصر -كما يحلو لك أن تسميها- ليست في هذه الصغائر، بل هي أكبر. هي مشكلة إهدار الحياة الإنسانية الصحيحة، والعمل على بث حياة إنسانية فاسدة منحطة، هي مشكلة ضياع الحرية، وسلب الشعوب كل مقوماتها التي تعينها على أن تكون أمما حرة، هي مشكلة تدليس الحياة على الشعوب، حتى تتصور الباطل القبيح، حقًّا جميل الصورة، هي مشكلة إحلال المنافع العاجلة التي تستهلكها الشعوب في حياتها اليومية، محل المنافع الباقية التي تحيى بها الأمم وتقوى وتستمجد.
ونحن لا نطالب بضم السودان إلى مصر، بالمعنى الذي يفهمه ساسة هذا الجيل، ولا أن يحكم السودان من القاهرة أو الخرطوم، أو بالعكس، فإن هذه كلها معاني فاسدة في التعبير، إننا -مصر والسودان جميعا- نريد أن نتحرر من المصالح البريطانية. . . اقتصادية وسياسية واستراتيجية، لتنبعث من قبورها مصالحنا نحن، اقتصادية، وسياسية، واستراتيجية، ولن نصل إلى ذلك إلا باسترداد حريتنا، التي أهدرت في كل شيء، وإنسانيتنا التي أبيدت في كل عمل، وفضائلنا التي ألغيت في كل شأن من شئون الحياة، ونحن لا ندعو إلى هذا في مصر والسودان وحدهما، بل في كل أرض من أراضي بلاد العرب والمسلمين، وغير العرب والمسلمين، افترستها الوحوش الاستعمارية الطاغية في العالم، التي جعلت المصالح الاقتصادية والسياسة والحربية مسوغا تستحل به إهدار الحرية، وإهدار الكرامة، واستعباد البشر.
وإذن فالمشكلة أسمى بكثير مما يتصور هؤلاء الساسة والزعماء، أنها مشكلة إنقاذ ملايين البشر من الانحطاط الخلقي والعقلي والنفسي، واسترداد ما دمره الاستعمار من مقومات الحياة الإنسانية في هذه الرقعة المترامية من الأرض وإحياء المعاني الصحيحة للحرية والكرامة والشرف، وقتل الوحش الاستعمارى الذي يريد أن يفرض على البشر، أن يرضوا بسيادته ووحشيته، لكي يضمن هو مصالحه الاقتصادية والسياسية والاستراتيجية التي يقتتل عليها بالليل والنهار، والتي توشك أن تدمر عليه حضارته التي يستعز بها، ويستعلى، في هذه الحياة الحاضرة.
إنها ليست مشكلة ساسة وزعماء، كساستنا وزعمائنا بل مشكلة أحرار، يتولون حلها بأسلوب الأحرار، في حل مشاكل الظلم والاستبداد، واللؤم والجشع والخسة، والكذب على الناس، والتغرير بالبشر، أنها مشكلة الحق والباطل، مشكلة النور والظلام، مشكلة الذل والكرامة.