الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فوضى الأدب وأدب الفوضى
مضى زمن، مذ كان أحد من يلتصق بأيامه في أيام الأدب، وينتشط اختطافا من بعض أسباب هذا الأدب المسكين -يتكلم عن الأدب والفوضى وكيف يضرب أحدهما بعرق إلى الآخر. وقبل، فإن أضر ما ابتلى به الأدب وغير الأدب من العلم والسياسة والاجتماع وما علا وما سفل- إنما هو تلك الهنات الناشبة في أقصى الحلق، والتي تمتد وتطول وتعرض، وتلين على الحركة، والتي تسمى في لغة الناس باللسان.
ونحن الآن نريد أن نتسلل من فتنة هائلة وفوضى شاملة، بل نحن غارقون في هذين البلاءين إلى قريب من الاختناق فيجب على كل من حقق لنفسه معنى من معاني الأدب -على أصل ثابت قوى أن يدفع بنفسه في جهاد هذه الجنود الفاسدة التي تغزو عقول الناس في الشرق بأداة مهولة من الأدب الذي لا قيمة له في حقيقة العلم. وهذه الجنود هي بعض الآراء البراقة، وكثير من المراتب التي يلقى على درجاتها كل من ملك لسانا يتكلم به فتكلم وأطال، وعرف أن الحياء إن يكن في الأخلاق مَنْقَبة، فهو لطالب الشهرة والصيت مَثْلَبة ومَذَمة. وعلى ذلك فأنت ترى أكثر هؤلاء لا يستحي أن يتبجح بالجهل والخطأ والضلال والفجور، مادام ذلك مما يؤدي به إلى مدارج الذكر على ألسنة الناس من العامة وأشباه العامة. وإذا نُزِع الحياء كثر البلاء.
وقد رأيت أن أقدم بين يدي هذه الكلمة -أن الرأي ليس هو ما يقال، وإنما هو ما يبنى بناء محكما على دقة وتدبير ومراقبة، وأما القول فسهل على باغيه، دان لملتمسه، وليس في ظواهر الأشياء في الحياة ما يعسر على المرء أن يتخذ منه فصلا بل فصولا كاملة يلبس بها الحق على الناس تلبيسًا، يقف في مدارج
(*) الدستور -السنة الثالثة- العدد 764، الثلاثاء 5 جمادى الأولى سنة 1359 - 11 يونيو سنة 1940، ص 1.
أفكارهم فيدعها لا تخلص إلا على طريقه، وإن بعض البلاغة -على أي درجاتها- تمهد للسان الرجل أن يذهب بالرأي المذاهب غير حذر، فإنه يعلم أنه يزور كلاما على مدة وتطاول، يلقن إلى من يقرؤه فيتلقفه فيختزنه عقله يعمل فيه عمل الداء الخفي في العضو المصاب به.
ولذلك جاء في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "أخوف ما أخاف على أمتى كل منافق عليم اللسان" وجاء عنه أيضا قوله: "إن الله عز وجل يبغض البليغ من الرجال، الذي يتخلل بلسانه كما تتخلل الباقرة (1) بلسانها" وذلك لأن عمل الكلام في النفس الإنسانية هو العمل الخفي الذي يذهب مع الدم، فإن الجماهير تأخذ الآراء كلاما لم يحذر فيه صاحبه، وتعطيه للدنيا عملا لا يخاف مغبته فاعله. فذلك هو البلاء وهو اللعنة وهو المحق الذي يذهب بصالح أعمال الناس فيجعلها كهباء اشتدت به الريح في يوم عاصف. فواجب الأديب الذي يحرص على أن يكون رجلا مذكورا في الناس ما بقي في الدنيا وبعد زواله منها، أن لا يتركه لسانه يلين كما يلين لسان البهيمة في التمطق بلذيذ الكلأ إذا أصابته وتملأت منه، وإلا فقد اختار لنفسه أسوأ الحالين. فإن العصر الذي هو فيه إن ذكره فذاك، ثم يأتي من بعده عصر فيه يغاث الناس بالعقل الحاكم فيقذفون به وبأدبه في تلك السلال الأبدية العظيمة التي أعدها الزمن لفلان وفلان ممن عرفنا ومن لم نعرف.
فمن الغفلة التي طمست على صاحبها، وسولت للسانه أن يتخلل الكلام من هنا وهنا، أنه جعل الأدب إنما -على هذا الحصر- يزدهر في أزمان الفوضى الاجتماعية. ولو فهم هذا الأديب حق الفهم معنى الفوضى الاجتماعية لم يجرؤ على القول الذي قاله، ولم يحاول بلسنه وتفاصحه، أن يذهب هذا المذهب من الرأي. فإن عصر الفوضى الاجتماعية، شيء غير عصر الصراع الاجتماعي، فإن الفوضى انحلال ذاهب إلى أسفل وإلى طلب الأسفل، والصراع ذاهب إلى الأعلى وإلى درك الأعلى، وبين هذين ما بين ألفي ميل انخسفت في الأرض، وألفي ميل
(1) الباقرة: اسم جمع للبقر.
ذهبت في السماء، ولا يخلط بينهما إلا مخادع أو مفتون أو من عمى فلم يبصر الذي فوق والذي تحت.
إن جماعة الجماهير التي تقرأ والتي تسمع والتي تفهم، لا تفهم من الفوضى إلا ذلك الاضطراب المتداعى الذي لا يستقر فيه شيء على حال، ولا يمكن أن يستقر على حال، والذي لا يعرف أصولا مقررة بينة يتهاوى إليه بقوته وإرادته إلى غاية بعينها، فالفوضى الاجتماعية هي الحال التي إذا وضعت إصبعها في سرارة الجماعة ووسطها جعلت فيها كمثل الزلزلة المخبولة الطائشة الباغية بقوتها وجبروتها، إذا أصابت الجبل فهدته، فما كان فيه قمة لم يلبث أن يكون مطمورا تحت الحصى الذي كان يلوذ بالجبل كما يلوذ الذليل بمن أذله واحتكم عليه. فهذه حال لا يكون فيها الجبل جبلا ولا ينتظر أن يكون مرة ثانية.
أما الصراع الاجتماعي فهو ذلك الجذب الهائل بين القوى المتكاثفة من الخير والشر والخطأ والصواب والعلم والجهل كلها قد احتشد للظفر والغلبة فيخيل للجاهل المفتون إذا رأى تداخل هذه الجيوش المتحاربة وتحاطم أسنتها في قتالها، وما يصيب ميدانها من الكَرّ والفر والإقبال والإدبار وما سوى ذلك من أعمال القتال والمناجزة -يخيل لهذا الجاهل أن الأمر فوضى واضطراب، وما هو به، إن هو إلا طبيعة الحرب، التي يراد بها الظفر ولا تكون الحرب إلا كذلك. وما اختلاط الدنيا وموج الناس إلا تنظيم القوى وتلاقيها، فليس بين هذا وبين الفوضى إلا شبه يتخيله من ينظر إلى السطح دون الأعماق، ويطلب عرض الباطل دون جوهر الحق، وهذا النظر حاله غالبة على من به ضعف كضعف القط حين يتنمر أو يستأسد، وما هو إلا نتيجة الفوضى التي تقع في أعصاب مريضة متهالكة من منبعها إلى مصبها، فلذلك لا يكون الرأي لها إلا كذلك.
إن الفوضى الاجتماعية إنما تعقب عصور القوة الحاكمة المتسلطة، وذلك إذا بدأت تنهار بعد الاستكانة إلى غرور هذه القوة وهذا السلطان، وإذا انهار السلطان الاجتماعي القوى كانت الفوضى بتمامها وبأدق معانيها، وتعيش الأمة بعد ذلك في فوضى أي في ضعف مستمر ليس له حاجز يلجأ إليه، أو ليس له من
القوة ما يرتفع به حتى يعتصم بهذا الحاجز إن كان قد بقي منه شيء. وإذا بلغت الأمة هذا المبلغ فالرجاء في قيامها من كبوتها هو رجاء باطل ليس له أصل في السماء ولا في الأرض.
وعلى ذلك، فإن أدب مثل هذا الجيل الذي تغلب عليه الفوضى الاجتماعية لا يكون إلا أدب فوضى من عقول فوضى بآراء فوضى إلى غايات فوضى، أدب لا يرجع إلا إلى الفوضى، ولا ينتهي إلا إليها. فإذا انقشع غبار الفوضى، وتجلت عمايتها عن الناس، كان مصير هذا الأدب أن يحكم عليه بالإعدام فيقتل ثم يلقي في حفرته إلى التعفن والبلى، فإذا خفف الحكم كان حكما بالأشغال الشاقة المؤبدة، ليعمل في البناء التاريخى للأمة ومع ذلك فلن يعرى في مكانه هذا من اللعنات التي يغسل بها كلما ذكر.
إن صاحب هذا الرأي الذي أشرنا إليه آنفا قد احتمل سيله من غثاء الرأي، لا نجد معه حاجة إلى تعقبه للبيان عن وجه الخطأ فيه، أو وجه المغالطة إن كان قد تعمد ذلك. وليس هذا سبيلنا الآن. وإنما أردنا أن نبين قدر اللجاجة التي تسقط الرأي إذا نبعت في أصلها من خطأ الفهم لحرف واحد من الكلام. فلم يتدهور هذا الأديب فيما تدهور فيه إلا بعد أن كان أصل كلامه خلطا عجيبا بين معنى الفوضى، ومعنى الإرادة التي ينشب بقوتها الصراع بين الآراء أو المذاهب أو الضرورات الاجتماعية. إن الفوضى شر كبير لا يشك في ذلك عاقل، وهذا الشر لا يمكن أن ينتج خيرا كالذي يخيله للناس كلامه، والصراع خير وإن ظن فيه بعض الشر! فهو مخيلة الخير في الأدب وغير الأدب.
والأدب إذا بدأ استمداده من الفوضى التي لا تدع، يجب كما يجب، ولا تذهب بما ينبغي أن يذهب إلى حيث ينبغي أن يذهب -فهو أدب ضعيف لا يقوم على أساس من شيء ولا واقع ولا مرجو. وليس يغر أحدًا أن يقال إن الفوضى هي التي تدفع الناس إلى التفكير في إصلاح الفوضى، فإن أول ما يصاب في الفوضى هو التفكير، وإذا أصيب التفكير في مجموع الأمة بهذه الفوضى، لم يجد المصلح من يعقل عنه معنى ما يقول وأخفق أن يجد من يسمع إليه، وإذا فقد الأديب هذين فَقَدَ القدرة على الذهاب في البيان عن إصلاحه.
إن الأديب ينشأ في أوساط متصارعة بعقولها في طلب الحق، أي في الجماعات التي يشملها الصراع الاجتماعي الهائل، وليس معنى ذلك أن يكون هذا الصراع قائما على أسباب من المفاسد والمقابح التي تفسد النفس وتهلكها، بل معنى ذلك أن يكون هذا الصراع قائما على طلب الحقيقة التي تعصم الأمة من التفكك والذهول والحيرة أي من الفوضى.
فأدب الفوضى، فوضى الأدب هما شيء واحد، وقد احتفظت العصور الكثيرة في الأمم المتعاقبة بصور كثيرة من الفوضى الاجتماعية، وما كان من قدرة أدباء تلك الأجيال، وأين يقع أدبهم من الأدب الجيد، فإذا تناولت ذلك، ودراسته لم تجد إلا الفوضى في هذا الأدب من قبل الفكر والعبارة عنه والغرض الذي يرمى إليه. فلا يخدعن الناس ما يقال في ذلك، فإن أكثر ما بين أيدينا من الأدب إنما يدل دلالة بينة مكشوفة عن حقيقة الفوضى التي جعلت عقول بعض الأدباء كسطح المنخل، لا تمسك حبها على الهز.