الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
في الطريق إلى حضارتنا
ألقيت في جامعة الملك عبد العزيز بجدة
في يوم الأربعاء 23 ربيع الآخر سنة 1394/ 15 مايو سنة 1974
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادى له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله.
لا أملك إلا الشكر الجزيل على هذه الدعوة التي جاءتني من جامعة الملك عبد العزيز، موجهة من صاحب المعالى وزير المعارف والرئيس الأعلى للجامعة الشيخ حسن عبد الله آل الشيخ. وقد عشت أكثر من أربعين سنة في عزلة ضربتها على نفسي حتى استحكمت، وصارت كأنها طبيعة فطرت عليها، أنظر إلى العالم من حولى وأحس به من خلالها. فلما جاءتنى هذه الدعوة الكريمة أحدثت في إلفي الطويل لهذه العزلة انتقاضا ناسفا لما أبرمته السنون الطوال فتصدعت أسوار العزلة التي اخترتها ورضيتها لنفسي، تصدعت على غير توقع، فلم يخطر ببالى قط أن يدعونى أحد لأنى منذ هجرت الكتابة في المجلات والصحف أكثر من عشرين عاما، كنت قد وضعت اسمى في صندوق مغلق، لا يعرف ما فيه إلا عدد قليل من قدماء القراء. أما الأجيال الحديثة، فهي تمر عليه بلا مبالاة، ثم لا تجد ما يحفزها على الكشف عما يحتويه هذا الصندوق المغلق، والكاتب إذا وضع قلمه صدئ القلم، وإذا حجب اسمه عن القراء، نسى اسمه، وانطمس رسمه، ودخل في حيز الموتى، وإن كان يعد في الأحياء. فلما جاءتنى هذه الدعوة الكريمة، فكأنها فرضت عليَّ أن أجلو ما صدئ من قلمى، وأن أسترد لنفسي صورة أبدو فيها حيا بعد طول الرقاد في حيز الموتى من الماضين. . . وحب الحياة شهوة خفية في كل قلب، فإذا كان اللسان معبرا عن ظاهر الشكر لهذه الدعوة إلى الحياة فإن الباطن شكر لا يكاد ينتهي إلى غاية.
(*) مجلة الثقافة، العدد العاشر - يولية 1974، ص 4 - 10
من العسير على أن أضمن هذه الدقائق القليلة، قدرا كافيا من الحديث عن أهم ما يدور في العالم العربي والإسلامي. فإن هذا العالم قد مضى عليه أكثر من قرن كامل وهو يموج بالحركة ويغلى بالفكر، حتى تجمعت في هذه السنوات الأخيرة دلائل كثيرة على أن هذا العالم لن يهدأ حتى يحتل مكانته التي يستحقها بتراثه العظيم، وبمساحته المترامية الأطراف، وبسكانه الذين يزيد عددهم على ثمانمئة مليون من البشر، وبما أودع الله في أرضه من الذخائر والكنوز، ما استغل منها وما لم يستغل بعد -ولا يستطيع أحد أن يغمض عينيه عن قوة عالمنا هذا مرة أخرى، بعد المعركة التي هزت قواعد العالم الآخر، العالم المتفوق الذي كان يستغل غفلتنا منذ أكثر من قرنين، استغلالا لا شرف فيه ولا أمانة ولا رحمة ولا إنسانية. ومع ذلك فواجبنا نحن اليوم أن نعلم علم اليقين أن هذه القوة التي فاجأت العالم وهزته هزا عنيفا، لم يكن مصدرها تفوقنا نحن بحضارتنا الموروثة، على هذا النوع الغريب من الحضارة الممثلة في القوى الحربية والصناعية والعلمية التي يمتلك زمامها العالم الذي نسميه عالم المستعمرين. بل كل الذي حدث هو أننا استطعنا أن نستفيد فائدة جليلة من حركة الصراع بين القوى الكبرى في عالم الاستعمار، فاشترينا بأموالنا السلاح المتفوق من إحدى القوتين العظيمتين في العالم، لنواجه به سلاحا متفوقا أيضا يستمده عدونا من القوة الأخرى، ثم بلغنا درجة كاملة من حسن الاستعداد للمعركة، ومن دقة التوقيت لساعة اللقاء. هذه واحدة. أما الأخرى فهي أننا استطعنا أيضا بالجرأة والاتحاد أن نحبس عن عالم الاستعمار أهم مصدر من مصادر قوته وتفوقه، أو على الأصح، أهم مصدر من المصادر التي يعتمد عليها تفوقه الحربى والصناعى، وهو النفط. ومنذ عهد غير بعيد لم يكن في قدرتنا أن نفعل هذا الذي فعلناه، ولا أغالى إذا قلت أنه كان يعد ضربا من الأحلام التي لا مكان لها في عالم الحقيقة.
ورب قائل يقول، وهو صادق فيما يقول: إننا لم نصل إلى (شراء السلاح المتفوق) ولم نبلغ القدرة على (حبس النفظ) إلا بجهود متواصلة طويلة الأجل، بلغت غايتها من التدبير والحزم ومن الفكر والعزم، وبأسباب كثيرة من وسائل
المعرفة والعلم. وأقول: نعم، وصدقت ولكن ينبغي أن نكون على بينة من أن هذا القدر من الجهود، لا يستطيع أن يدفع حقائق مخيفة (ظاهرة) كل الظهور. أهمها أن العالم العربي الإسلامي والعالم الإفريقى والآسيوى اللذين يرتبطان به ارتباطا يكاد يكون ارتباطا عضويا، لا يعيش اليوم في حضارة متفوقة ينبع تفوقها من داخله، بل يعيش مستهلكا لإنتاج حضارة عدو متفوق، عدو ماكر يأخذ من هذا العالم بلا حساب، ويعطه بحساب دقيق مقتر لا يرحم، ولا يتعفف عن ارتكاب أخبث الجرائم في حق الإنسان وفي حق الإنسانية.
نحن من أجل ذلك ينبغي أن نكون على حذر دائم اليقظة، حتى لا تغرر بنا هذه الجهود المتواصلة التي بذلناها حتى تطمس الحقيقة الظاهرة الأخرى، وهي أن (شراء السلاح المتفوق) يتوقف على أمرين: على مال متوافر، وعلى رغبة البائع في بيع هذا السلاح المتفوق. فإذا كان مالنا لا يفي بشرائه، أو كان يفي به إلى أجل محدود، ولكنه لا يضمن المدد المستمر الذي يعوض ما يستهلك منه في الحرب أو في الاستعداد لها، فإننا نكون عندئذ على شفا جُرف هار يفضى بنا إلى التمزق والضياع. فهذا خطر لا ينبغي لعاقل أن يسقطه من حسابه، ونحن إن شاء الله قادرون على حسابه ما استطعنا إلى ذلك سبيلا، لأن المال مالنا وفي أيدينا القدرة على تدبيره وتصريفه. ولكن يبقى خطر آخر لا نستطيع أن نملكه قادرين عليه، وهو رغبة البائع الذي يبيعنا السلاح المتفوق، فهذه الرغبة متعلقة بمصالحه، ونابعة من إرادته، ونحن لا نستطيع أن نملك مصالحه إذا رأى هو أن بيعه السلاح لنا ضار بهذه المصالح، ولا نملك أيضا أن تستمر إرادته طبقا لما نريده نحن. فإذا علقنا حياتنا على إرادة لا نملكها، فقد وقعنا في براثن خطر لا يرحم، هو أن تكون إرادة بائع السلاح هي التي تملكنا وتملك مصيرنا، وتملك تدميرنا بين القبض والبسط في أي ساعة يشاء هو، ونحن عندئذ في قبضته بلا إرادة ولا مشيئة.
أما (حبس النفط) وهو الذي هز العالم الاستعمارى هزة دكت كثيرا من قواعده، وأذهلته فترة طويلة، وأحدثت في خططه ومقاصده اضطرابا شديدا، فإنه قوة مخوفة، كان عالم الاستعمار يحاول جاهدا منذ سنين طويلة أن يثبط عزائمنا،
ويضرب على آذاننا وعلى أبصارنا غشاوة حتى لا نسمع دويها أو نبصر مدى ما هي قادرة على بلوغه، والأمر الذي لا شك فيه أننا قادرون على (حبس النفط) ما صحت عزائمنا على حبسه قهو قوة نملكها ولا تملكنا، ولكن ينبغي أن لا يغيب عنا أن حبس النفط وحده قوة سلبية من ناحية، وقوة ذات أثر إِيجابى من ناحية أخرى. قوة سلبية لأنها لا تنتج بمجردها إنتاجا صحيحا في حياتنا، وهي قوة ذات أثر إيجابى في عالم الاستعمار، لأنها توجب عليه أن يخفض من تفوقه الحربى والصناعى لأن عالم الاستعمار استغفلنا دهرا طويلا، يأخذ المقادير الوافرة من نفطنا بأبخس الأثمان، لكي يستخدمها في تصعيد هذا التفوق المذهل في أدوات الحرب وإنتاج الصناعة لبيع ذلك كله بأفحش الأثمان، وليعيش هو في رغد مترف لا نهاية له ولا لآثاره السيئة في الحضارة، وليتركنا نعيش في قيود من المهانة والضنك والاضطراب والتفكك، تحول بيننا وبين ما هو حق لنا في أن نمارس الحياة الصحيحة وأن نعطى العالم حضارة شريفة بريئة من آثام هذه الحضارة الباغية التي تريد أن تنفرد بالبقاء والخلود في عالم لا يضمن البقاء ولا الخلود للحضارات إذا هي ضلت الطريق السوى. وقد ضلت حضارة الاستعمار ضلالا بعيدا عن كل طريق سَويّ، وهي اليوم تبذل كل جهودها في اتقاء المصير المكتوب عليها بضلالها بيد أنها لن تستطيع ذلك، لأن داءها داء عضال، يعميها عن علاجه ودوائه ما هي فيه من التفوق ومن الغنى ومن السطوة ومن الترف الذي أصبح هدفا لجماهيرها لا تستطيع أن تتخلى عن طلبه طلبا ملحا لا ينقطع ولا يفتر.
وعالم الاستعمار يعرف هذه الحقيقة معرفة واضحة، وهو يعيش أيامه الباقيات في خوف وفزع من هذا المصير المرهوب، المفضى إلى تقوضه ودماره. وهو يعرف أيضا أن الحضارة دول، يتداولها الجنس الإنساني مرة بعد مرة، وأقواما بعد أقوام، فما من حضارة بادت إلا قامت على أنقاضها حضارة أخرى جديدة الشباب، تملك أسباب التفوق والاستمرار. وهو يعلم أيضا علم اليقين، أن عالمنا العربي والإسلامي يرتبط به العالم الإفريقى والأسيوى ارتباطا عضويا، هو المؤهل
للقيام بأعباء تجديد عمارة الأرض، بحضارة متميزة بنقائها وبراءتها من الأدواء الكامنة التي أدت إلى تقوضه ودماره.
وعالم الاستعمار عالم غير غافل، وهو متمكن كل التمكن من وضوح الرؤية، ومن تملك أسباب العمل ووسائله، فهو لا يتردد في سعيه سعيا حثيثا باستخدام أخبث الوسائل، إلى استبعاد شبح التقوض والدمار. فمن أفحش وسائله حرصه المتتابع البين حينا، والغامض حينا آخر على أن يخرب حياتنا وذلك بإدخال عناصر الفساد إلى عالمنا: بإفساد إرادتنا وإفساد عقولنا، وإفساد ثقافتنا، وإفساد ضمائرنا، وإفساد أذواقنا، وإفساد صورة ماضينا، وإفساد حاضرنا، أي بإفساد حياتنا كلها ليفسد مستقبلنا، ويحرص أيضًا على أن يوهمنا إيهاما مستمرا بأن مصيرنا مرتبط بمصيره، لكي يبلغ بنا حدا من العجز والتردد وتشتت القوى، يضمن له إطالة مدى بقائه غالبا متسلطا مسيطرا على هذا العالم كله بتفوقه الحربى والصناعى والعلمي.
وإذا كنا قد استطعنا، في هذه الفترة الأخيرة، أن نحدث في فكر عالم الاستعمار رجة شديدة الدوى باقتدارنا على (شراء سلاح متفوق) وعلى (حبس النفط) فإن هذا غير مُغن على طول المدى، وهو غير مضمون ضمانا مستمرا، لأنه غير متعلق بإرادتنا تعلقا صحيحا من جميع الوجوه وأثره في حياتنا أثر موقوت بميقات. ونحن مكلفون تكليفا محتوما أن نصحح وضع السلاح والنفط تصحيحا يقوم على أساس لا يختل، نملكه ولا يملكنا. وذلك بأن نصبح قادرين، في عالمنا نحن، على صنع السلاح المتفوق، حتى لا يكون مصيرنا معلقا على إرادة بائع السلاح الذي يملك القبض والبسط في ساعة العسرة = وأيضا أن يتخطى نفطا كل السدود التي ضربت عليه لكي يظل في حياتنا سلعة فحسب، سلعة تدر المال الوفير علينا، دون أن تكون لنا قدرة على استخدامه في الوجوه التي يستخدمها فيه عالم الاستعمار، ومعنى ذلك أن نحاول بالعزم والحزم والقوة أن نحرج نفطنا من حيزه المضروب عليه، لكي يصبح عاملا إيجابيا منتجا، يتيح لنا التسلط على أسباب التفوق الصناعى والحربي معا. وهذا بلا ريب
هدف لا غنى لنا عنه، وينبغي أن يكون واضحا كل الوضوح في أفهامنا وفي نظرنا، وفي تخطيطنا، وأن تتعلق به إرادتنا تعلقا لا يتخلله عجز أو تردد.
عالم الاستعمار يعلم علم اليقين أن عالمنا نحن، سوف ينتهي عاجلا أو آجلا إلى الإصرار على محاولة تحقيق هذا الهدف، فمن الغفلة أن نظن أنه سوف يتركنا اليوم نعمل بإرادة طليقة تكفل لنا بلوغ ما نريد. وهذه قضية واضحة، وإن كان بعض الصخب واللجاجة قد أخفى عنا كثيرا من معالمها البينة، وسوف تزيدها الأيام جلاء وبيانا.
وإذن، فنحن نعيش اليوم في حومة الصراع، صراع لن يفتر ولن ينقطع. صراع إرادة كانت مغلولة اليدين زمنا طويلا، وقد آن لها أن تفض أغلالها بالحزم والعزم حتى تتحرر، وإرادة ظلت طليقة دهرا طويلا، ولكن دُولَة تاريخ الحضارات قاضية عليها أن تلحق بأخواتها من الحضارات التي بغت في الأرض وضلت الطريق المستقيم.
وقد أَلِف كثير من الكتاب أن يعدوا هذا الصراع المستمر، صراعا بين الحضارة العربية الإسلامية والحضارة الغربية المسيحية، أي بين الحضارة التي يتصور عالمنا أنه يمثلها، وبين الحضارة التي يمثلها اليوم عالم الاستعمار. ولكني لا أرتاب في أن وضع القضية في هذه الصورة خطأ بيَّن، ساقنا إليه قلة احتفالنا بتحديد معاني الألفاظ، وغفلتنا عن دلالاتها الصحيحة، وكل تهاون في تحديد معاني الألفاظ وفي تحديد دلالاتها، مؤد إلى تيه لا ينتهي الضلال في فيافيه. وليس من الحكمة ولا من العقل أن نعود أنفسنا وأبناءنا عادة مميتة قاتلة، وهي عادة التهاون في العمل أو في الفكر. وإذن فلا مناص لنا من أن نعرف على وجه التحديد معنى هذا اللفظ المألوف الذي نستعمله في غير مكانه. وكل ما نسميه (حضارة) مما تداولته أمم الأرض منذ أقدم الأزمان دال على أن (الحضارة) بناء متكامل، لا تستحقه أمة إلا بعد أن تجتاز مراحل كثيرة معقدة التركيب، حتى تنتهي إلى أن يكون لأهلها سلطان (كامل) على الفكر، وعلى العلم، وعلى عمارة الأرض، وعلى أسباب هذه العمارة من صناعة وتجارة، وعلى أسباب
كثيرة من القوة، ترغم سائر الأمم على الاعتراف لها بالغلبة والسيادة، وإذا صح هذا، وهو صحيح إن شاء الله، فالذي لا شك فيه أن عالمنا نحن اليوم ليس له سلطان (كامل) على هذه الأصول والشروط التي يستحق حائزها أن يسمى ما هو فيه (حضارة)، والذي لا شك فيه أيضا أن عالم الاستعمار الذي نصارعه، هو المستحق اليوم، والى أجل محدود، أن يسمى ما هو فيه (حضارة) لأنه يملك هذا السلطان على الفكر والعلم وعمارة الأرض وعلى الصناعة والتجارة وعلى أسباب قوة باغية ترغم العالم على أن يعترف له بالغلبة والسيادة. وإذن فمن المغالطة المعيبة أن نلهج نحن بوصف هذا الصراع الذي لا شك في أنه كائن ومستمر بأنه صراع بين الحضارة العربية الإسلامية والحضارة الغربية المسيحية. ومن الضرر البالغ أن نظل في غيبوبه تحول بيننا وبين الفهم الصحيح لطبيعة هذا الصراع الذي لا خفاء فيه ولا لبس في أنه واقع ومستمر.
وإذا كنت قد استطعت في هذه الألفاظ القليلة أن أوضح ما يكتنف قضية الصراع من الغموض الذي نتورط نحن فيه بسلامة نيتنا، والذي سعى عالم الاستعمار بأساليب مختلفة أن يجعلنا ننغمس في أمواجه المضطربة بمكره وبسوء نيته، فإني أعلم أنى قد أثرت بهذا الوضوح سؤالا ينبغي أن يردده كل من يسمع كلامي أو يقرؤه .. وهو سؤال لا مفر منه، ولا غنى عنه أيضا. يقول السائل: فخبرنا إذن، ما هي حقيقة هذا الصراع الذي يدور في عالمنا بيننا وبين عالم الاستعمار؟
وجواب هذا السؤال أمر "عسير" كل العسر. لأنه في زماننا هذا أصبح محتاجا إلى حيطة مضنية في إزالة كل لبس يخالط معنى (الحضارة) وفي تحديد حقيقتها تحديدا صارما في أذهان عالمنا هذا -وأصبح محتاجا أيضا إلى دقة بالغة في تفسير ما عنيته بقولي آنفا: (إن الحضارة بناء متكامل، لا تستحقه أمة إلا بعد أن تجتاز مراحل كثيرة معقدة التركيب) وسأحاول في جمل قليلة مفيدة، إن شاء الله أن أبلغ بالوضوح إلى مطلع ينير لنا الطريق. أما لفظ (الحضارة) فعسى أن أكون قد حددته تحديدا واضحا مجزئا حيث قلت: (إن الحضارة بناء متكامل،
يمكن أصحابه من أن يكون لهم سلطان (كامل) على الفكر والعلم وعمارة الأرض، وعلى الصناعة والتجارة وأسباب القوة التي ترغم على الاعتراف لها بالغلبة والسيادة. وهو على إيجازه واختصاره لا يحتاج إلا إلى استدراك ضرورى، وهو أن حضارة الأمة مرتبة لاحقة، لابد أن يسبقها أساس ترتبط به ارتباطا لا فكاك منه البتة. وبهذا الأساس تتميز حضارة من حضارة تميزا جوهريا وتتميز به غلبتها وسيادتها حتى يصح أن توصف بأنها حضارة شريفة كريمة، أو حضارة لئيمة المنبت خسيسة الأصل.
وهذا الأساس هو الذي عنيته بقولي آنفا "إن الحضارة بناء متكامل لا تستحقه أمة إلا بعد أن تجتاز مراحل كثيرة معقدة التركيب". فأساس الحضارة هو هذه (المراحل الكثيرة المعقدة التركيب) وهذه المراحل هي الشيء الذي يحتاج إلى تفسير دقيق صحيح. وقد وقع أهل زماننا على اصطلاح سموا به هذه المراحل المعقدة وهو لفظ (الثقافة) وينبغي أن أكون واضح العبارة عند هذا الموضع لأنه هو منبع الخطر الذي لم نزل نعانيه في هذا القرن الأخير، وهو المدخل الخبيث إلى كل وسائل التدمير التي يُكاد بها لعالمنا هذا. فأول كل شيء، أجده لزما على أن أعيد ما قلته مرارا منذ حملت هذا القلم الذي طال صدأه بانقطاعى عن الكتابة، وهو وجوب الفصل فصلًا تاما بين (العلم) بمعناه الحديث وبين (الثقافة)، لأن العلم تراث إنساني ممتد من أقصى الجهود التي نعرف تاريخها إلى يوم الناس هذا، وإلى غدهم فيما يستقبل، ولكن الذي ينبغي أن نحذره فهو أن ندخل نحن أو أن نقبل من عدونا أن يدخل، على مفهوم "العلم" شيئا وهو عنه بمعزل، ومع ذلك فأنا لا يمكن أن أدعى أن هذا الفصل سهل يسير لأن التداخل بين (الثقافة) وبين (العلم) واقع لا شك فيه، ولكن أكثر فروع (العلم) يسهل فيها تميز هذا التداخل، وبعضها يحتاج إلى جهد -وصبر وتبصر، حتى يخلصها الدارس البصير شيئا فشيئا، لتصير علما خالصا يستحق أن يقال فيه أنه تراث إنساني مشترك دائم النمو، ودائم التغير أيضا، طبقا للمناهج التي يهتدى إليها العقل الإنساني وما يتبع ذلك من مناهج التطبيق التي تجعل العلم قادرا على المشاركة
في صياغة الحضارة في صورة أو في صور متحركة دائبة السعي إلى أهداف الإنسان في هذه الحياة.
فإذا صار بينا هذا الفصل بين "العلم" الذي تسيطر عليه قوى (الحضارة) وبين المراحل المعقدة التركيب، والتي لا تقوم الحضارة إلا على أساس منها، وهي "الثقافة" فالذي لا شك فيه أن عالم الاستعمار إنما يدير الصراع كله بيننا وبينه على هذا الأساس الذي هو شرط ضرورى لقيام أية حضارة وهو الثقافة، وإذن فالصراع بيننا وبين عالم الاستعمار صراع بين "الثقافة العربية الإسلامية" وبين "الثقافة الأوربية المسيحية الوثنية"، هذه هي القضية على وجهها الصحيح. وسبب هذا الصراع وهدفه: هو الحيلولة بيننا ويين أن تتجدد "الثقافة العربية الإسلامية" حتى تصبح قادرة أو حتى نصبح نحن قادرين بها على أن نسير في الطريق الصحيح الذي يصل بنا إلى أن تكون ثقافتنا حاملة للقوة المتحركة التي تدفعنا إلى أول الطريق الذي تلتقى عنده "الثقافة" وحركتها الدافعة الدافقة، بالأسباب التي تجعلها قادرة على تملك السلطان الكامل على الفكر والعلم وعمارة الأرض، وعلى الصناعة والتجارة، وعلى القوة التي سيتاح لنا نحن أن نصنعها بأيدينا، فنرغم العالم على الاعتراف لنا بالغلبة والسيادة، أي بالأسباب التي تجعل (الحضارة) شيئا واقعا في حياتنا، أنشأناه نحن، وفي أيدينا الحق الكامل في إنمائها حتى تتفوق، ونحن وإن كنا لا نعيش اليوم في "حضارة عربية إسلامية" نمثلها تمثيلا صحيحا يكفل لنا أو يؤدى بنا إلى هذا السلطان، إلا أننا بلا شك ورثة لحضارة عربية إسلامية كانت فيما مضى تملك هذا السلطان، ونحن بلا شك أيضا ورثة لثقافة عربية إسلامية أصولها قائمة بصورة ما في عالمنا هذا، وفي قدرتنا أن نجلوها ونحييها ثم نحيى بها مرة أخرى ونضع بعد ذلك أقدامنا على الطريق إلى "حضارة عربية إسلامية" جديدة نستطيع أن نحققها للعالم، كما حققناها من قبل على هذه الأرض بلا ريب في ذلك. وشرط ذلك أن لا ندع لحظة أو خطرة تمر، إلا ونحن عاملون دائبون على تأسيس حياتنا على أصل محكم من فهم المراحل المعقدة التركيب، التي ينبغي أن نمر بها ونزيل الركام
والأنقاض والتراب الذي غطى على (ثقافتنا) حتى نملك ثقافتنا ونأخذها بقوة واقتدار، في هذه الفترة الحرجة التي تعانيها حضارة عالم الاستعمار في ساعة تقوضها ودمارها. وقبل كل شيء ينبغي علينا، ولاسيما ناشئتنا، أن نعرف تمام المعرفة أن الشعار الذي ترفعه الحضارة الغربية، وتلح على إذاعته وبثه في العالم كله، بادعائها أنها "حضارة عالمية" إنما هو شعار مزيف وغش فاضح، تريد أن تفرضه فرضا على العقول حتى تستسلم، وتنفذه إلى غيب الضمائر حتى تتخدر. وحقيقة الشعار، كما هو واضح في دنيانا، أنها حضارة خاصة بأقوام بأعيانهم، يرون أن لها الحق كل الحق في السيطرة على العالم، وإذلاله وترويضه واستغلاله لتطيل بناءها على الأرض.
هذه هي الحقيقة المجردة من الزيف والغش. والحقيقة الأخرى أنها تريد أن تبيد (ثقافة) كل شعب من شعوب عالمنا هذا، لتحل محله قشورا مزيفة من ثقافتها هي، بشعار آخر يتولى إذاعته وبثه أصحاب دعوات خبيثة، بكثرة إلحاحهم على إقناع جماهير قرائنا وناشئتنا في عالمنا العربي الإسلامي وهو شعار (وحدة الثقافة الإنسانية).
وتعريف (الثقافة) ليس سهلا ميسورا كما نتوهم عند أول النظر. لأن مفهوم الثقافة لا يتم إلا بعد مراحل متداخلة متطاولة الأزمان، يقطعها الشعب بين مئات من فترات الارتفاع والانخفاض والتقدم والتأخر والحركة والسكون، والوضوح والغموض وهو في خلال ذلك يجيش ويتجمع حتى يتحقق له أسلوب حياة مركب شديد التعقيد يكاد يستعصى على التحليل الصحيح الواضح لمقوماته المميزة، التي ترى، ولكن لا يحيط بها الوصف إحاطة كاملة. وأضرب مثلا قريبا. فأنت ترى رجلا بعينه، فتعرفه وتميزه، ولكنك إذا أردت أن تصفه لصديق لك لم يره قط من قبل، فإنك لا تستطيع أن تبلغ بالألفاظ التي تصف بها ملامح وجهه وحدها إلى درجة تجعل هذا الصديق قادرا على معرفة هذا الرجل إذا رآه في مكان ما، فيقول: هذا هو الرجل بعينه، الذي وصف لي. ولكنك إذا زدت مع وصف ملامح الوجه صفة بعض الأشياء المميزة لحركته في مشيته مثلا، ولون
ثيابه، وما يحمله في يده، وما شئت من أمثال هذه المميزات، كان خليقا أن يعرفه لأول وهلة يراه فيها: هذا مثل أردت به تقريب تصوير هذه الصعوبة في الحديث عن (الثقافة).
ولفظ الثقافة مستحدث في لغتنا، بل في لغات العالم أجمع، وقد وقع الاختلاف في تحديدها وتعريفها حتى صار اختلافا يخرج من النقيض إلى النقيض، وكأنها ليست لفظا قابلا للتحديد والتعريف. بل رمزا غامضا لحركة دائمة في حياة كل شعب، في أحواله المختلفة، في حالة تفجره وغليانه حتى يصبح مؤسسا لحضارة في طريقها إلى العمل والتميز والتفوق، أو في حالة سكونه حين يصبح وارثا لحضارة قد فقدت قدرتها على العمل والتميز والتفوق. وهذه الحالة الأخيرة، هي الحالة التي تكون فيها ثقافة الشعب قد تفككت بتفكك أفراد الشعب في أنفسهم وما يتبع ذلك من تفكك المجتمع المكون من هؤلاء الأفراد. ومع كثرة الاختلاف في تحديد لفظ (الثقافة) في زماننا فنحن نجد أنهم يحاولون أن يضعوا مميزات تميز ثقافة شعب من ثقافة شعب آخر، وتكاد تنحصر هذه المميزات في (العقائد) و (الأخلاق) و (العادات) و (التقاليد) و (الأفكار) و (اللغة) ولا شك في صحة هذه المميزات من ناحية النظر المجرد، ولكنها مميزات مبعثرة. وقد أراد بعض الغربيين أن يجمعها في سياق واحد فقال: إن ثقافة الشعب ودين الشعب، مظهران مختلفان لشيء واحد لأن الثقافة في جوهرها تجسيد لدين الشعب. وقال أيضا:(إن السير إلى الإيمان الديني عن طريق الاجتذاب الثقافي ظاهرة طبيعية مقبولة)، وهو تعبير صحيح في جوهره يجمع هذه المميزات المبعثرة في إطار واحد، ويجعل تمييز ثقافة من ثقافة واضحا من خلال النظر في أصول التدين الذي هو فطرة في طبيعة الإنسان حامل الثقافة ومؤديها إلى من بعده.
ومع ذلك فإني أحب أن أوضح هذا بعبارة أخرى فأقول إن ثقافة كل شعب هي تراثه البعيد الجذور في تاريخه المنحدر مع أجياله ينقله خلف عن سلف. وهذا التراث مكون من أفكار ومبادئ يحملها أفراد الشعب على اختلاف طبقاتهم
وطبائعهم، في زمن ما من حياتهم، ومن تطبيق هذه الأفكار والمبادئ حتى تصبح أسلوبا لحياة المجتمع المكون من هؤلاء الأفراد. ولم أرد بهذا تعريف الثقافة ولكني أردت تحديد حركتها في جيل بعينه يعيش زمنا محدودا وفي خلال هذا الزمن نفسه تكون حركة الثقافة دائمة التغير في تطبيق الأفكار والمبادئ، وينشأ في أحضان هذا الجيل جيل آخر من أبنائه يتلقى عن الأفراد وعن المجتمع، فيتأثر بما تلقى، ولكنه لا يزال ينمو وتنمو معه أفكار أخرى تزيد أفكار الجيل السابق غنى أو تعدلها، أو تنقص منها، أي أنه يجدد أسلوب حياة مجتمعه فيصير مجتمعا ثانيا يمثل مجتمع الآباء من وجوه، ويعطى مجتمعه هو لمحة جديدة تميزه بعض التمييز عن مجتمع الآباء. وهكذا دواليك على طول امتداد حياة هذا الشعب.
ورحم الله عمر بن الخطاب ورضى عنه. فإن هذا العبقري الدقيق النظر قال فيما قال: (الناس بأزمانهم أشبه منهم بآبائهم) -وهذه من جوامع الكلم التي جرت على لسان هذا العبقري رضي الله عنه وضمنها تجربته هو التي مر بها: فإنه حين انتقل من الجاهلية إلى الإسلام في صدر شبابه، مارس هذا التحول الثقافي في نفسه ثم مد الله عمره حتى ولى الخلافة، ورأى ناشئة جديدة من أبناء الصحابة لم تشهد الجاهلية (أي لم تشهد ثقافة المجتمع الجاهلي الصرف) ولكنها نشأت في مجتمع مسلم جل أفراده قد انتقلوا من ثقافة الجاهلية إلى ثقافة الإسلام، ثم رأى هذه الناشئة التي تلقت عنهم وتأثرت بهم، وهي تتحرك وتنمو وتطبق أفكار الإسلام الحي، لتنشيء مجتمعا جديدا وارثًا لمجتمع الصحابة ورآه وهو يتميز من مجتمع الصحابة بعض التميز، لكي يتهيأ بحركته وفورانه واندفاعه إلى إنشاء حضارة جديدة في أرض العرب وسائر الشعوب التي دانت يومئذ بالإسلام ودخلت دخولا تاما في ثقافته، حضارة جديدة سوف تسود بعد قليل وتملك السلطان المطلق على الفكر وعلى العلم وعلى عمارة الأرض، وعلى الصناعة والتجارة وعلى أسباب القوة التي سوف ترغم العالم على الاعتراف لها بالغلبة والسيادة. وهكذا كان. فهذه الكلمة التي قالها عمر، من أروع الكلمات
الدالة على عمق النظر وبعده في حركة دين الإسلام في نشأته، ثم في انتشاره، ثم في تحقيقه عن طريق ثقافته، حضارة نسميها اليوم (الحضارة الإسلامية): بمفهومها التاريخي الواسع المتراحب.
ولعل هذا الاستطراد البسيط قد كشف شيئا من فكرة المفكر الغربي الذي قال: (إن ثقافة الشعب ودين الشعب مظهران لشيء واحد، وإن الثفاقة في جوهرها تجسيد لدين الشعب). ودين الإسلام يزيد هذه الفكرة وضوحا وجلاء لأنه هو الدين الوحيد في هذه الدنيا الذي يشتمل على جميع الأصول التي تقوم الثقافات الإنسانية على بعضها دون جميعها، فإن الله تعالى جده أرسل رسوله صلى الله عليه وسلم إلى الناس كافة، على اختلاف قبائلهم وشعوبهم، وعلى اختلاف ألسنتهم وألوانهم وهيأ للجنس البشري كله أن ينتقل به من فوضى الملل والعقائد والعادات والتقاليد، أي من فوضى الثقافات، إلى ثقافة هي في جوهرها قابلة لتصفية سائر الثقافات القديمة، ثم احتوائها لتكون ثقافة متعددة الوجوه على غير اختلاف في الأصول. ومعنى ذلك أن الله تعالى قد ضمن كتابه الذي جاء للناس كافة، أصولا جامعة للعناصر الحية التي تقوم عليها ثقافات البشر المختلفة، من عهد أبينا آدم عليه السلام إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها وضمن هذا الكتاب، وضمن الحكمة التي هي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم جميع الأسباب التي تحرك "الثقافة" وتعدها للنمو المتجدد الذي يتيح لها إنشاء الحضارة المتميزة الشاملة.
وذلك أن أن الله جلا جلاله قد اصطفي لكلامه سبحانه اللسان العربي المبين، فأنزل به كتابا عربيا لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وهو كلام الله، وهو القرآن، واصطفي من البشر نبيا عربي اللسان فأنزل على قلبه هذا الكتاب وآتى هذا النبي العربي الحكمة المبينة عما أجمله القرآن، وآتاه جوامع الكلم التي هي حديثه وسنته صلى الله عليه وسلم. واختار لتحقيق هذه الأصول التي اشتمل عليها كتابه واشتملت عليها سنة رسوله، مجتمعًا عربيًا مستخلصا مستصفى من المجتمع العربي الجاهلي وهم -أصحابه صلى الله عليه وسلم، ثم وصفهم سبحانه في محكم كتابه
فقال: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} ، فحدد بذلك مكانهم في معترك ثقافات العالم التي عاصرته أو سبقته، ثم وصف عملهم في تصفية الثقافات كلها بقوله سبحانه:{كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ} .
وكانت هذه الأمة العربية الجاهلية أمة ذات ثقافة منحدرة من عهد أبيهم إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام، وما كان إبراهيم ولا ولده إسماعيل يهوديًا ولا نصرانيا ولكن كان حنيفا مسلما، أي أن الحنيفية التي طبقها أبناء إبراهيم وإسماعيل قرونا طوالا وتداولها التغيير والتبدل حتى انتهت الى العصر الجاهلي الذي أظله الإسلام، كانت قد صارت تراثا ثقافيا لهذا المجتمع الجاهلي يعبر عنه أسلوب حياته عند نزول القرآن. فجاء الله بالإسلام لينفي من هذا التراث الحنيفي كل ما دخله من الفساد والتغير على تطاول القرون، وليتم مكارم أخلاق هذا المجتمع الجاهلي الوارث للثقافة الحنيفية، وليحمل هذا الجيل الذي اصطفاه من جيل الجاهلية أمانة حمل هذا الكتاب بقوة، وأمانة حمل السنة باقتدار وفهم، وأمانة تطبيقه في مجتمع جديد، وأمانة تبليغه ذلك كله لأبنائهم ولسائر من يدين به من البشر من غيرهم، ليحملوه أيضا ويبلغوه ويطبقوه في مجتمع متجدد تتسع رقعته، وتتجدد حاجاته زمانا بعد زمان.
وهذا الدين قد انفرد بخصائص لم تكن قط في ملة سبقته، باشتماله على تفاصيل كل ما يحتاج إليه الجنس البشري في كل عصر وزمان، لم يقتصر على العقائد والعبادات وحدها، بل اشتمل على كل صغيرة وكبيرة في حياة الفرد الخاصة، وعلى آدابه في معاشرة الأهل والولد والعشرة والزوج والصديق والقريب والبعيد، وفي جميع معاملاته الخاصة والعامة واشتملت على أصول ما يحتاج إليه في تشريعه واقتصاده وسياسته وعلمه وفلسفته، وحروبه وجهاده، وعلى أصول حياة الجماعة وعلى روابط هذه الجماعة بسائر الجماعات التي تجاورها أو تهادنها أو تحاربها، لكل شيء من ذلك هدى هو نص في الكتاب والسنة، وهدى هو
دليل عقلي للاستنباط من الكتاب والسنة، مع تجدد حاجة كل مجتمع إلى هدى يهتدى به، حتى لا يخرج عن الطريق السوى الذي اختاره الله لعباده الذين أسلموا له وآمنوا به وبرسوله ثم لم يرتابوا.
إن الله سبحانه قد جاءهم بالدين الجامع الذي فيه صلاح أمر الدنيا وصلاح أمر الآخرة. ومعنى هذا أن دين الإسلام قد ضمن لكل شعب يدين به عناصر جامعة شاملة للحياة الإنسانية، تتضمن أصولا جامعة في الكتاب والسنة يجب عليه أن يتحرى أفراده العمل بها في ذوات أنفسهم، ويجب عليه أيضا أن يطبقها في مجتمعه، ويجب عليه أيضا أن يلتمس لكل ما يجد في حياته ومعاملاته هديا مستنبطا من الكتاب والسنة، ويجب عليه أيضا أن يلتمس فيها ضوابط تصحح طريق آدابه وعلومه وفنونه وأفكاره ومعارفه. وكذلك ترى أن ثقافة كل أمة مسلمة هي دينها بهذا المعني الجامع لحقيقة هذا الدين الذي انفرد عن سائر الملل بخصائص لم تشاركه فيها ملة من قبل.
ولكن هذا الأمر كله لم يترك سدى، يتناوله كل من دان بهذا الدين على اختلاف شعوبهم وألسنتهم، بلا ضابط يضبطه، كلا فإن كتاب هذا الدين هو كلام الله الذي لا يتبدل في نصه حرف واحد، والسنة المبينة لجمله بجوامع الكلم، هي كلام رسوله الذي لا ينطق عن الهوى. بل هو وحي يوحى وقد قال صلى الله عليه وسلم:(أوتيت الكتاب ومثله معه)، فهما بمنزلة واحدة في وجوب الطاعة لهما، والعمل بهما والاحتكام إليهما عند اختلاف المختلفين. وكلاهما جاء بلسان عربي مبين، فمن آمن بهما وبما جاء به، فهو يعلم علم ضرورة أنه لا مفر له من أن يكون متقيدًا بلفظ كلام الله سبحانه ومتقيدا بلفظ حديث رسوله صلى الله عليه وسلم، في طلب الهدى منهما، وفي استنباط المعاني والأفكار والمبادئ والأحكام من كليهما، وفي الاحتكام إلى نفس ألفاظهما عند الاختلاف، كل ذلك واجب في كل زمان ومكان.
وإذن فاللغة التي نزل بها كلام الله وجاء بها حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم هي الأصل الأول الذي لا يمكن أن ينفصل عن ديننا ولا عن ثقافتنا، وعن طريقها
وحده، يستطيع الفرد المسلم، من أي جنس كان، أن يتخذ من الأصول الجامعة في هذا الدين نبراسا لنمو الأفكار والمبادئ عن طريق النظر والاستنباط من نصوص هدى الكتاب والسنة، وعن طريقها أيضا يتم الاحتكام إِلى الكتاب والسنة عند اختلاف العقول في نظرها واستنباطها، وعن طريقها أيضا نستطيع أن نخلص الثقافة العربية الإسلامية التي نحن ورثتها من كل ما شابها أو خالطها، ونجلوها ونحييها ونحيى بها ونجدد ونتجدد بها، ولا طريق لنا غير هذه اللغة المذهلة التي نحن ورثتها، فإن لم نفعل، وإن لم نعرف طريقنا إِلى إِحياء هذه اللغة في قلوبنا وألسنتنا وحواضرنا وبوادينا ولهوتنا ومدارسنا، فإن أقدامنا ستقودنا إلى طريق مهلكة وضياع.
وقد أبان الإمام الشافعي رحمه الله عن هذا المعنى أحسن إبانة، فيما رواه الخطيب البغدادي عنه في كتاب (الفقيه والمتفقه) قال:(لا يحل لأحد أن يفتى في دين الله، إِلا رجلا عارفا بكتاب الله، بناسخه ومنسوخه ومحكمه ومتشابهه، وتأويله وتنزيله، ومكيه ومدنيه، ويكون بعد ذلك بصيرا بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وبالناسخ والمنسوخ منه، ويعرف من الحديث مثل ما عرف من القرآن = ويكون بصيرا باللغة، بصيرا بالشعر وما يحتاج إليه منه للسنة والقرآن، ويستعمل مع هذا الإنصاف، ويكون بعد هذا مشرفا (أي مطلعا) على اختلاف أهل الأمصار = وتكون له بعد هذا قريحة. فإذا كان هكذا فله أن يتكلم ويفتى في الحلال والحرام. وإذا لم يكن هكذا فليس له أن يفتى).
ولا تحسبن أن هذا الكلام البارع الذي قاله الإمام الشافعي قاصر على الفتيا في الحلال والحرام، بل هو خاص يراد به العام، كما يقول الأصوليون، فالذي قاله شرط لازم لكل ناظر في كتاب الله وسنة رسوله ولكل مهتد بهديهما، فقيها كان أو فيلسوفا، أو متكلما، أو أدبيا، أو كاتبا أو مؤرخا، أو داعيا أو واعظا، أو ما شئت من العلوم والفنون التي تجمعها (ثقافة) أو (حضارة).
واللغة والشعر -اللذان ذكرهما. الشافعي، وجعلها شرطا للناظر المتكلم في كتاب الله وسنة رسوله، هي لغة العرب الجاهليين الذين تحداهم القرآن بلفظه،
وفوض إليهم الحكم على أنه كلام مفارق لكلام البشر بهذا اللفظ العربي المبين، وإن هذه المفارقة التي فوض إليهم الحكم بها ظاهرة في لفظ القرآن، وجعل هذه المفارقة هي القاضية عليه بأن يقولوا أنه (كلام الله سبحانه) لا كلام نبيه صلى الله عليه وسلم، وهي القاضية عليهم بأن يعلموا أنه معجزة النبي صلى الله عليه وسلم، وأنه لا يؤمن أحدهم حتى يقر بأن القرآن هو كلام الله المنزل من عنده وأن مبلغ هذا القرآن نبى مرسل أرسله إليهم بلسانهم وجعل هذا شرط الإيمان بالله وبرسوله ولم يجعل سائر معجزاته التي أوتيها كما أوتيها الأنبياء من قبله شرطا للتسليم بأن هذا الرجل نبى مرسل، صلى الله عليه وسلم.
والشعر الذي جعل الشافعي البصر به شرطا أيضا للناظر والمتكلم في كتاب الله وسنة رسوله، هو شعر هذه الجاهلية التي اختار الله من رجالها صفوة آمنت لتحمل أمانة هذا الدين بلسانه العربي المبين لا على معنى المعرفة به بل على معنى البصر النافذ في إدراك وجوه الشعر المختلفة، لأن الشعر هو محصلة البيان الإنساني الذي مَنَّ الله به على الإنسان فقال:{الرَّحْمَنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (2) خَلَقَ الْإِنْسَانَ (3) عَلَّمَهُ الْبَيَانَ} فجمع سبحانه (القرآن) و (البيان) في سياق واحد لأن بيان القرآن هو المعجز لبيان الإنسان، ومجرد التحدى ببيان القرآن، دال على أن هذه الجاهلية التي أظلها الإسلام قد بلغت أقصى حدود القدرة الإنسانية على البيان، ولذلك فوض الله إليها أن تكون هي الحكم على أن بيان القرآن مفارق لبيان البشر، وأنه معجز للخلق جميعا على اختلاف ألسنتهم واختلاف القدر المكنونة في طبائعهم في الإبانة عن أنفسهم، في كل زمان ومكان.
وإذن، فهذه اللغة الشريفة النبيلة التي كرمها الله بكلامه المنزل من فوق سبعة أرقعة هي بلا ريب حاملة ديننا، وحاملة ميراثنا من ثقافة الأمة الإسلامية وحضارتها على امتداد أربعة عشر قرنا، وهي اللغة التي ينبغي أن نجدد حياتها، ونحييها على ألسنتنا وأقلامنا بلا هوادة في ذلك ونمحو بها أمية الشعوب العربية والإسلامية، ونرفع بها غشاء الجهل عن جماهير الأمة المسلمة، لكي نستطيع أن نصفي بنقائها وصفائها ميراث ثقافتنا السالفة وحضارتنا الغابرة، ولكي نستطيع أن نجدد ثقافتنا مرة أخرى في زماننا، حتى نجتاز المرحلة الصعبة المرهقة العنيفة التي ينبغي
أن نقطعها حتى نبلغ الحد الفاصل بين الثقافة والحضارة، وتتمكن مرة أخرى من أن تسيطر بسلطانها على الفكر والعلم، وعلى هداية الأمم، وعلى عمارة الأرض وعلى الصناعة والتجارة، وعلى كل أسباب القوة التي ترغم العالم مرة أخرى على أن يعترف لنا بحضارة مجددة شريفة لها الغلبة والسيادة، بلا بغى ولا عدوان ولا إذلال ولا ابتزاز ولا مهانة ولا تحقير لمن يجاورنا أو يعايشنا أو يهادننا أو يعادينا.
والصراع الدائر اليوم بين الثقافة العربية الإسلامية التي نحن ورثتها وبين الثقافة الغربية المسيحية قد جمع أكبر همته في ميدان اللغة لأنه يعرف هذه الحقيقة التي بينتها، فبدأ دعوة هذه الأمم العربية المتفرقة إلى اتخاذ العامية الإقليمية لغة سائدة في كل إقليم عربي لكي يحطم هذا الأصل الحامل لثقافتنا وديننا، وليزيد في تمزيق حياتنا وتدميرها، وبلغ دعاته بعض مأربهم. ولا يتسع الوقت لبيان حقائق هذه المعركة، ولكني أذكر لكم أن كاتبا مسيحيا (1) كتب منذ سنوات يتمنى أن يرى عاملا عسكريا سياسيا يفرض اللغة العامية على العرب، ثم قرأت لكتاب عرب مسلمين كلاما يطالبون فيه بإسقاط اللغة الفصحى. فهذا نذير، من نذر، بأن قيام "العامل العسكري السياسي" الذي يرجوه الكاتب المسيحي ليس بالأمر البعيد.
هذه النذر المخيفة التي أحببت أن أختم بها كلمتى، تدل على جزء من هذا الصراع المر بين ثقافتنا وثقافة عالم الاستعمار (2)، يوجب علينا جميعا أن نعيد النظر في أساس التعليم كله من المدرسة الابتدائية إلى الجامعة، كما فعلت كل أمم الحضارة الحديثة وكما فعلت كل الحضارات السالفة، لكي نجدد حياة هذه اللغة الحاملة لتراث ثقافتنا العربية الإسلامية والتي لا نستطيع بغيرها أن نجدد ثقافة عربية إسلامية تقطع الطريق إلى حضارة عربية إسلامية متجددة. ومعنى ذلك أن
(1) هذا الكاتب -الذي لم يفصح الأستاذ رحمه الله عن اسمه- أظن ظنا أشبه باليقين أنه سلامة موسى.
(2)
انظر مزيدا من تصوير هذا الصراع في كتاب "أباطيل وأسمار".
تكون هذه العربية الشريفة لغة العلم والفكر بلا تردد في ذلك، وعلى المثقفين اليوم منا أن يلتزموا بجعلها لغة الدراسة في كل فرع من فروع المعرفة، مهما لاقوا من صعوبات في سبيل ذلك. وكلما عظم التحدى عظم الحافز، وطلب السهولة والتخفف من الأعباء أكبر عدو مهلك للثقافات وللحضارات. هذه مهمتكم، فخذوها بقوة، ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم، واعلموا أن الذي حققناه مرة، نحن قادرون على تحقيقه مرة أخرى بإذن الله.
واللهم أنا نبرأ إليك من كل حول وقوة، فأعنا بحولك وقوتك.