المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌ضحى الإسلام تأليف "أحمد أمين" الأستاذ بكلية الآداب بالجامعة المصرية - - جمهرة مقالات محمود شاكر - جـ ٢

[محمود شاكر، أبو فهر]

فهرس الكتاب

- ‌الناسخون الماسخون

- ‌إكمال ثلاثة خروم من كتاب التنبيه على أوهام أبي علي في أماليه

- ‌من خط البغدادي *

- ‌مقاليد الكتب

- ‌أدب الجاحظ

- ‌الصاحب بن عباد

- ‌أبو نواس

- ‌ضحى الإسلام

- ‌الشريف الكتانى

- ‌نابغة بني شيبان

- ‌مقاليد الكتب

- ‌1 - كتاب "حافظ وشوقي

- ‌2 - كتاب الرثاء

- ‌3 - كتاب الخط الكوفي *

- ‌4 - صلاح الدين وشوقي *

- ‌5 - كتاب الشخصية *

- ‌6 - كتاب أمير الشعراء شوقي *

- ‌مقاليد الكتب

- ‌حاضر العالم الإسلامي

- ‌ذكرى الشاعرين

- ‌ماضي الحجاز وحاضره

- ‌الوحي المحمدي

- ‌مقاليد الكتب

- ‌1 - ملوك المسلمين المعاصرون ودولهم

- ‌2 - ابن عبد ربه وعقده

- ‌3 - رحلة إلى بلاد المجد المفقود

- ‌4 - تنبيهات اليازجي على محيط البستاني جمعها وحل رموزها

- ‌مقاليد الكتب

- ‌1 - أنتم الشعراء

- ‌2 - تاريخ مصر الإسلامية

- ‌3 - آلاء الرحمن في تفسير القرآن

- ‌مقاليد الكتب

- ‌1 - ابن خلدون: حياته وتراثه الفكرى

- ‌2 - قلب جزيرة العرب

- ‌الينبوع

- ‌النثر الفني في القرن الرابع

- ‌مقاليد الكتب

- ‌1 - ديوان عبد المطلب

- ‌2 - مرشد المتعلم

- ‌3 - مواقف حاسمة في تاريخ الإسلام

- ‌ ملوك الطوائف، ونظرات في تاريخ الإسلام

- ‌الإسلام والحضارة العربية

- ‌وَحْيُ القلم

- ‌علم معاني أصوات الحروف سر من أسرار العربية نرجو أن نصل إلى حقيقته في السليقة العربية (1)

- ‌علم معاني أصوات الحروف سر من أسرار العربية نرجو أن نصل إلى حقيقته في السليقة العربية (2)

- ‌علم معاني أصوات الحروف سر من أسرار العربية نرجو أن نصل إلى حقيقته في السليقة العربية (3)

- ‌عبقرية عمر

- ‌شاعر الحب والفلوات ذو الرُّمَّة- 1

- ‌شاعر الحب والفلوات ذو الرُّمَّة- 2

- ‌شاعر الحب والفلوات ذو الرُّمَّة- 3

- ‌ جمعية الشبان المسلمين

- ‌ تاريخ اليوم الأول

- ‌ دعوة الشباب إلى الجمعية

- ‌ الاجتماع الأول

- ‌ الاجتماع الثاني والثالث

- ‌ انتخاب مجلس الإدارة

- ‌في حلبة الأدب

- ‌كتاب تطور الأساليب النثرية في الأدب العربي

- ‌ عن كتاب تطور الأساليب النثرية" رد على مؤلفه

- ‌ترجمة القرآن وكتاب البخاري

- ‌ترجمة القرآن في صحيح البخاري

- ‌من أين؟ وإلى أين

- ‌لماذا، لماذا

- ‌تهيئة الشرق لوراثة الحضارات والمدنيات

- ‌شكر

- ‌أنا وحدى

- ‌الطريق إلى الأدب- 1

- ‌الطريق إلى الأدب- 2

- ‌فوضى الأدب وأدب الفوضى

- ‌الأدب والحرب

- ‌إلى على ماهر باشا

- ‌لا تبكوا. .! لا تنوحوا

- ‌تجديد التاريخ المصري ساعة واحدة

- ‌أحلام مبعثرة

- ‌أهوال النفس

- ‌وقاحة الأدب أدباء الطابور الخامس

- ‌قلوب جديدة

- ‌القلم المعطَّل

- ‌اللغة والمجتمع

- ‌أوطانَ

- ‌(حول قصيدة القوس العذراء)

- ‌صَدَى النقد طبقات فحول الشعراء رد على نقد

- ‌[الاستعمار البريطاني لمصر]

- ‌المتنبي

- ‌حديث رمضان. عبادة الأحرار

- ‌مع الشيطان الأخرس

- ‌ يحيى حقي صديق الحياة الذي افتقدته

- ‌لا تنسوا

- ‌عدوى وعدوكم واحد

- ‌أندية لا ناد واحد

- ‌لا تخدعونا

- ‌احذروا أعداءكم

- ‌في خدمة الاستعمار

- ‌حكم بلا بينة

- ‌تاريخ بلا إيمان

- ‌المسلمون

- ‌ لا تسبُوا أصحَابي

- ‌طلب الدراهم من الحجارة

- ‌ألسنَةُ المفترين

- ‌جرأة العلماء

- ‌أحمد محمد شاكر إمام المحدّثين

- ‌ قُرَىَ عَرَبِيَّةَ

- ‌كانت الجامعة. . . هي طه حسين

- ‌مواقف

- ‌في الطريق إلى حضارتنا

- ‌الأندلس تاريخ اسم وتطوره

- ‌المتنبي ليتني ما عرفته- 1

- ‌المتنبي ليتني ما عرفته- 2

- ‌القول في "تذوق الشعر

- ‌القول في "الشعر

- ‌القول في "التذوق

- ‌المتنبي ليتني ما عرفته- 3

- ‌تتمة القول في التذوق

- ‌قضية "التذوق" عندي

- ‌تاريخ "التذوق" عندي

- ‌من هؤلاء

- ‌قضية اللغة العربية

- ‌في زمان الغفلة

- ‌هؤلاء الخمسة

- ‌الفقيه الجليل ورموز التكنولوجيا

- ‌النكبات الثلاث

- ‌الجبرتى الكبير

- ‌الألفاظ المكشوفة في هذا الكتاب طبيعية وينبغي ألا يجهلها البشر

- ‌ذكريات مع محبى المخطوطات

- ‌[تعقيب]

- ‌كلام منقول بنصه

- ‌في الطبعة الجديدة "للمتنبى

- ‌ الجيل المفرغ

- ‌كتاب الشعر الجاهلي

- ‌هل يبقى الاتهام

- ‌تهمة أكبر

- ‌ليس شكا أزهريا

الفصل: ‌ ‌ضحى الإسلام تأليف "أحمد أمين" الأستاذ بكلية الآداب بالجامعة المصرية -

‌ضحى الإسلام

تأليف "أحمد أمين" الأستاذ بكلية الآداب بالجامعة المصرية - أخرجته لجنة الترجمة والتأليف والنشر بمصر

من أجلّ الكتب العربية التي أخرجت للناس في هذا العام كتاب "ضحى الإسلام"، وصل بهِ صاحبه الأستاذ "أحمد أمين" ما كان بدأ في كتابه "فجر الإسلام"، وبه نقع المؤلّف غُلّة شقىَ بها أدباءُ هذا العصر زمنًا طويلّا، ويخيَّلُ إليَّ أن الأستاذ "أحمد أمين" رجل قد أوتى من الصبر والجَلَد والمثابرة وقوة العزم ونشاط الفكرة نصيبًا وافيًا سابق به المجتهدينَ من أهل عصره حتى سبقهم وأربى عليهم. وعامة الناس لا يعرفون ماذا يلقى الباحث في التاريخ العربي والأدب العربيّ من عناءٍ وعنتٍ يبلغان منهُ الجُهْد. فالباحث إن لم يؤتَ مثل ما أوتى هذا الرجل انقلب إلى نفسه بأخسّ النصيبين وأوكس الحاجتين. ذلك بأن التاريخ العربيّ خاصة قد انفرد دون ما دوّن من تواريخ الأمم الخالية بالنقص في ناحيتين: أولاهما، انطمار آثار جاهلية الجزيرة العربية في اليمن والعراق والحجاز والشام وخُفُوتُ أخبارها وقلّةُ ما دُوِّن منها على تشتتهِ في كتب الأدب وكتب التاريخ، والأخرى، اعتماد المؤرخ العربي على الرواية فلم يعنَ بالتعليق عليها وتوضيح ما غمض من أسرارها. ونعتقد أنهم كانوا يستطيعون ذلك لو تعمدوه، وقد تبيَّن هذا لنا مما نراه لهم من القول في ترجيح رواية على رواية إذا التبس الأمر. وثالثة لا ذنب للتاريخ ولا للمؤرخ فيها، تلك هي ضياع أكثر الكتب العربية التي ألفت في عصر الرشيد والمأمون أو عصر تدوين العلم. وابتلينا نحن من بعد ذلك ببليتين: أولاهما أنْ لم يُنْتَدَبْ أحد من أهل هذه اللغة إلى التنقيب عن آثار هذه الأمة العربية التي طويت في أرضها بين يَمِنها وشامها وحجازها وعراقها ومصرها ومغربها وما سوى ذلك، والأخرى، أن لم يخفَّ أحدٌ إلى دراسة كتب العرب ولمّ شتاتها واستخراج ما خفي من أساليب العرب وأحوالها وعاداتها في الاجتماع

(*) المقتطف، المجلد 82، مارس 1933، ص: 360 - 365

ص: 623

والأدب واللغة حتى جاءَ في هذا العصر أصحاب الألسنة الأعجمية من دول أوربا بأقوالهم في تاريخنا وأدبنا وديننا بالكلام الجيد تارة، والفهم الملتوى والتعليل الفاسد تارة أخرى.

فأنت حين ترى "أحمد أمين" يبتدر صادقًا إلى هذا التاريخ فيتقلّب فيما بقي من دارسات طلوله وفيما وصلنا من كتبه ما شاءَ الله أن يتقلّب ثم يخرج فيقصُّ عليك من أخباره وقد نَفَضَ عنها غبار القرون وأحداثها، وما إن ترى من أهل هذه اللغة إلا نائمًا أو متيقظًا كنائم أو صاحب مكيدة مخدوعًا عن رأيه وقلبه، وإلّا أعجمي اللسان والقلب يلتوى فهمه ولا يستقيم غرضهُ يتعرّض لتاريخ هذه الأمة فيصيب ويخطئُ، ويظهر فضلا ويدس مكيدة. . . أنت حين ترى هذا وترى ما في دراسة التاريخ العربي والأدب من عناءٍ وعنتٍ لا يتأتى لك بعدُ إلا أن تحْمَدَهُ وتشكر له ما أسدى إلى أمته من جميل. هذا وقد وضع المؤلف كتابهُ في أربعة أبواب في كل باب فصول، وفي الجزء الذي بين أيدينا الباب الأول منهُ: في الحياة الاجتماعية في العصر العباسيّ من (سنة 132 - 232 هـ) واجتزأ منها بما له أثر قوىٌّ في العلم والفنّ. والباب الثاني: في الثقافات المختلفة دينية وغير دينية. وأرصد باب "الحركات العلمية" وباب "المذاهب الدينية" ليجعلهما من نصيب الجزء الثاني الذي وعد بتقديمه إلى القراء قبل أن يفرغوا من قراءَة هذا الجزء. فوفاءً بحقّ هذا الكتاب الجيد نبذل جهدنا في الكلام عنهُ والتعرض لما فيهِ موجزين إن شاءَ الله وبالله التوفيق.

تحرير القول في الأحوال الاجتماعية والعلم والفنّ وأثر أحدها في الآخر من أعسر ما يتعرض له الكتَّاب فإن الجليل من أحدها له من التأثير مثل الذي لحقيره، وإن من صغير أحوال المجتمع لما يزيد في العلم والفن أو ينقص منهما، وإن من حقير العلم والفن لمَا يزيد في أحوال المجتمع أو ينقص منها إذ تترافد هذه الثلاثة. حتى إذا ما أردت أن تعرف أيها الذي أثّر تأثيرًا قويًّا أو ضعيفًا وأيها الذي تأثّر التوى عليك المسلك ووقعت في الحيرة واضطربت اضطراب من ضلّ بهِ دليلُهُ. فمن أجل ذلك ما ينكُصُ كثير من المؤلفين عن تناول هذا إلا في الندرة. وغاية ما

ص: 624

يمكن المؤلف فيعمل ليتلافي هذا النقص وخاصة في التاريخ العربي أن يتسقّط أخبار الحياة الاجتماعية من قصيدة لشاعر أو كلمة لخطيب أو وصف أو قصة فيؤلف بينها ثم يمنحها من خياله وفكره ما يتمم به النقص الذي وقع فيها ويضع عليها من زينتها ما يظنُّ أنها كانت تتجمل بهِ ثم يعرضها لك بعد عرضًا خلابًا رائعًا حتى لتحسَّ وأنت تقرأ ما كتب أنك قد انتقلت من عصرك الذي أنت فيهِ إلى عصرِ مثل هذا العصر العباسيّ الذي تناوله "ضحى الإسلام"، وأنك تعيش في جوّ من الحياة العباسية فيها سحرها وجمالها ولها روعتها وجلالها ويترقى إليك المؤلف خلال ذلك بما يحقق من علاقة هذا الاجتماع بالعلم والفن وأين أثر كلِّ في صاحبه غير تاركك فتنسى أنك تعيش في ديار الدولة العباسية. فإذا أراد أن يحقق القول في موضوع بعينه كالرقيق مثلًا أفرد له خاصة ما يخرج فيهِ رأيه بأدلته وبراهينه وحججه وما ينتهي إليه من أخباره زَيْفها وصحيحها.

ونحن نعتقد أن المؤلف قد قصّر في هذا الباب على جلالة ما كتب فيهِ. وإن القيد الذي وضعهُ من الاجتزاء بما لهُ أثر قويٌّ. . . في العلم والفن من الحياة الاجتماعية قد أضاع بهجة هذا الباب. وقد كان يستطيع أن يحتفظ بشرطهِ هذا مع شيء من التوسع في صفة بعض بلاد الدولة العباسية وأهمها بغداد حتى يحس القارئ وكأنهُ ارتحل فوافى بغداد يرى من أطرافها الأسوار والقباب العالية على أبوابها، بينها الأبراج عليها حراسها وحجابها في أزيائهم وملابسهم، والتماثيل على رؤوسها تلوح وتلمع. حتى إذا دخل بغداد رأى القصور بين البساتين والأنهار فإذا دخلها رأى الدهاليز والممرات والمخترقات والصحون فيها الصور الفاتنة على أعمدة الرخام، والمجالس فيها الفرش الجميلة والأبسطة المطرزة بالألوان الغريبة، والشعْرَ المنقوش على أطرافها وأوساطها. ورأى صور الفيلة والخيل والجمال والسباع والطير على ستور الديباج المذهبة. ورأى الخليفة في أبهته وجلاله ومن يحيط بهِ من حاشيته من أجناس الأمم في اللباس العجيب. ورأي العلماء والشعراء والحجاب تروح وتغدو، ورأى زيّ القضاء وزي الشرطة وزيّ الكتابِ وزيّ الوزراء وزي الأعراب من الشعراء وهم ينشدون مديحه في صوت البدويّ الجافي

ص: 625

مع حلاوة المخرج وحسن الأداء. ورأي شعراء الحضر يمدحون بالشعر فيه الغزل وفيه الحكمة وفيه السياسة والتحريض والدعوة إلى التوفيق أو التنبيه إلى الدسيسة. ورأي الجدَلَ في مجلس الخلافة بين العلماء من فقهاء ونحويين ولغويين، ورأي أولياء العهد في ملاعبهم ومجالس علمهم، والندماء في لباس الشراب والمغنين في الأقبية الخراسانية بأيديهم المزاهر والأعواد ومن كل آلات الطرب، بينهم القيان الجميلات والإماء الأديبات، والشراب يدور بهِ الولدان والفتيات بزينتهنّ وحسنهنّ. فإذا خرج إلى البساتين رأي الأفراس المطهمة عليها الذهب والفضة في أيدي الشاكريين (السوَّاس) عليهم البزَّة الجميلة ثم رأى حيرَ الوحش (حديقة الحيوان) تخرج الوحوش منها تقرب الناس وتأكل من أيديهم، والفيلة المزينة بالديباج والوشى مع أصحابها من فيالة السند، والسباع بأيدى السباعين في رؤوسها وأعناقها السلاسل والأغلال، ورأي البرك من الماء فيها مجالس للخليفة بألوانها وصورها وجمالها وأخرى من الرَّصاص القلعيّ تتوهج في شعاع الشمس كالفضة المجلوة والنخيل من حولها ملبَّسًا بالشبه المذهب وأشجار الأترجّ عليها الزينة تنفح عطرها وشذاها. والأشجار المصنوعة من الذهب عليها عصافير الفضة تحركها الريح فيخيل إليك من حسنها أنها أشجار حية. وتخرج إلى أسواق بغداد يفوح طيبها ومسكها ومندلها وبخورها وصندلها ويتلألأ الذهب والفضة في نواحيها وأرجائها والنساء والقيان والمغنيات والشباب والشيوخ والفقر والغني وأهل التصوف ومن كل أمة وجنس من رومها وعربها وفُرسها وسودانها وحبشها وظرف أهل بغداد وأحاديث مُجانها وخُلعائها وتنادر ظرفائها، والأعرابي في صوفهِ والحضري في خزهِ وحريرهِ، والنعال السبتية بأصواتها وألوانها ويسمع من وراء الجدران ألحان الجوارى وهن يتغنينَ في بيوتهن ويضربنَ بالدف والعود والمزهر والناي، وليل بغداد والسمر والغناء والموسيقى والمساجد والأذان وأصوات التكبير ودويُّ قرَّاء القرآن في جوانبها ومواعظ الوعاظ وبكاء الناس من هول يوم القيامة وأهل الحديث والمعتزلة والفقهاء والآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر. . . إلى غير ذلك مما يطول ذكره ولا يفرغُ منهُ. والذي ذكرنا هو من أحوال الإجتماع

ص: 626

في بلاد الدولة العباسية وقد أثّرت في العلم والفن وأثر فيها العلم والفنُّ فلو أن المؤلف عرضهُ عرضًا خلابًا فاتنًا لما ترك من بعده مقالًا لقائلٍ.

ومثل هذا العرض لابدّ فيه من تضافر أمرين. الأول: كثرة المادة التي يريد أن ينبني عليها المؤلف كتابه، وتهيئتها قبل البدء، ومعرفة المواضع التي يجب أن يكون فيها التحقيق العلمي وما هو بسبيله من إثبات أثر الاجتماع في العلم والفن أو أثرهما فيه بحيث لا يفسد جفاءُ التحقيق جمال الوضع وحسن الوصف. والثاني: قلمٌ سيالٌ عنيفٌ متزن يمده خيال واسع محيط وفكر متوقد لا يخبو كالشعلة من النار كلما احتطب لها ازدادت توهجًا واشتعالًا حتى ترسل الكلمات في تيار جارف من القوة والرهبة ليحطم بذلك ما بين القارئ وبين العصر الذي يدرسه من أسوار وحوائل. وقد تهيأ الأمر الأول للأستاذ "أحمد أمين" كما دلنا على ذلك كتابه، أما الآخر فكأني به شيخ محنك قد حطمتهُ السن يضع الكلمة بعدها الكلمة في هدوء ووقار. لأنهُ لا يخرجها إلّا بعد أن يزنها في الميزان المهيأ من تجاربه وما لقى من أحداث دهره فمن أجل ذلك ما تجده كثير الاستعانة بما ليس للقارئ بهِ حاجة كقوله في المواضع الكثيرة "في عصرنا الذي نؤرخه" فكأنهُ يخشى أن يكون قارئه قد نسى أنهُ يقول ما يقول عن العصر العباسيّ.

وبعدُ فهذا أهم ما نقوله عن الكتاب من جهة وضعه وعرضه وبقيت أشياء قد عرضت لنا حين القراءة على ضيق الوقت والتباسنا بالعجلة وهذا حين نحقق ما عرض لنا من ذلك.

1 -

نقل المؤلف من رسائل الجاحظ في ص 11 قوله "من ذلك: أن أهل البصرة أشهى النساء عندهم الهندياتُ وبناتُ الهندياتِ، والأغوارُ. واليمن أشهى النساءِ عندهم الحبشياتُ وبناتُ الحبشياتِ" ووضع نقطة الفصل بعد "الأغوار" ممَّا يدلُ على أنها معطوفة على "الهندياتُ وبنات الهندياتِ" وعلقَ على الأغوار بقوله "الغُورَة بالضم: بلدةٌ عند باب هراة، وبلا هاء، ناحية بالعجم. "والصواب" والأغوارَ واليمنَ أشهى النساء عندهم. . . إلخ، يعني أهلَ تهامةَ والحجاز واليمن "قال الأزهري: الغَوْرُ: تهامة وما يلى اليمن. وقال الباهليّ: كل

ص: 627

ما انحدرَ سَيلُه مُغرّبًا عن تهامَة فهو غورٌ" وأهلُ الأغوار واليمنِ أشهى النساء عندهم الحبشيَّاثُ لكثرة ورودهنّ عليهم لقرب الحبشة منهم. وقد ورد في الخبَرِ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أو أحد أصحابه في تفضيلهنَّ على غيرهن أنّ "هُنّ أنقى أرحَامًا" أو كما قيل.

2 -

ذكر المؤلف في معرض الكلام عن خطأ الأعراب وكذبهم في اللغة ص 300 "أكاذيب الأعراب" وعنى بها ما يختلقونهُ في اللغة وذكر أن أبا العباس المبرّد عقد بابًا في كتابه الكامل سمَّاهُ "أكاذيب الأعراب" والصوابُ أن البابَ الذي عقدهُ أبو العباس في الكامل هو "تكاذيبُ الأعراب" ج 1 ص 356 وعنى به ما يتزيَّدُون فيه من الكلامِ وما يختلقونهُ من الأوهام كالذي قال أبو عبيدة في قول الراجز:

"أهدَّموا بيتك لا أبا لكا

وأنا أمشى الدأَلى حوالكا"

هذا يقوله الضب للحِسْل (وهو ولد الضبّ حين يخرج من بيضته) أيامَ كانت الأشياءُ تتكلَّم. .! وكالذي نقله صاحب "ضحى الإسلام" في ص 37 عن كتاب الكامل نفسه من قوله "تكاذبَ أعرابيّان. . . الخ".

3 -

قال المؤلف في ص 301 "وألف ابن خالويه كتابًا سمّاهُ "ليس في كلام العرب" بيَّن فيه ألفاظًا تستعمل ولم يصحَّ سماعُها من العرب. وليس الأمر كذلك فالكتابُ لكان أيدينا وقد طبع سنة 1327 هـ بمطبعة السعادة. ذكر فيه ابن خالويه ما شذّ عن القاعدة من كلام العرب وابتدأ كل فقرةٍ بقوله "ليس في كلام العرب" وبها سمى الكتاب. وذلك كقوله مثلًا في ص 5 "ليس في كلام العرب، أفْعَل فهو فاعل إلّا أعشبت الأرض فهي عاشب، وأورس الرمثُ فهو وارس، وأيفع الغلام فهو يافع، وأبقلت الأرض فهي باقل، وأغضى الرجل فهو غاضٍ، وأمحل البلدُ فهو ماحل". ولدار الكتب في فهرستها خطأ أكبر من هذا فقد وصفوا هذا الكتاب بقولهم "هو كتابٌ في الكلماتِ التي دخلت على العربية من الفارسية وغيرها وليست منها". . . .! ! وليس في الكتاب كلمة فارسية ولا (ملطية).

ص: 628

4 -

في ص 395 تحريف في آيةٍ من كتاب الله وقعت هكذا: ألم تر إلى الإبل كيف خلقت. والآية من سورة الغاشية {أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ} .

5 -

قال المؤلف في ص 83 "وقد كانت المملكة البيزنظية تحرّمُ على من ليس نصرانيًّا أن يتملك رقيقًا نصرانيًّا، ولكن المسلمين أباحوا. . .! ! لليهود والنصارى أن يتملكوا الأرقاء ولو كانوا مسلمين". ولا ندرى كيف كان ذلك وكيف يكون؟ وأي دليل وقع للمؤلف على هذا القول؟ والله تعالى يقول في سورة المائدة {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} وكيف يبيح المسلمون ذلك، ومن الذي أباحَهُ؟ ؟

6 -

من أهم ما ترك المؤلف مِمَّا له أكبر الأثر في العلم والفن والاجتماع أيضًا كَثْرةُ الورق في بغدادِ حين أتوا به من الصين وغيرها وكانت له تجارة واسعة جدًّا في العصر العباسي، فقد انتشر الورَّاقون في بغداد وكثرت عندهم الكتب وكثر النُسّاخُ والكتّاب وسهل على الناس أن يقرأوا الكتب بالكراءِ من دكاكين الوراقين. ولقد أحدث ذلك من النهضة في العلوم والفنون أكثر مما أحدث الرقيق وغيرهم في بلاد الدولة العباسية. ولعلّ المؤلف أخره إلى حين القول في الحركات العلمية "فهو به أشبه" أو كما يقول. هذا، والكتاب لا يزال بموضع العناية فإن اتسع الوقت لنا في تحقيق ما رأينا فيه عدنا إليه والله المستعان؟

ص: 629