الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أرسطو وأفلاطون وغيرهما من الفلاسفة، ولكن هذا على كل حال موضع توقُّف، لأن بضاعتى في شأن اليونان بضاعة مُزجاة، ولعلى أجد عند أخي الأستاذ الجليل الدكتور عبد الرحمن بدوي، أثارة (1) من عِلْم، فهو الخبير حق الخبير بهذا الشأن، وأقول له أن أكبر ظني أن هذا اللفظ قد انحدر إليهم مع ما انحدر إليهم من لسان العرب في الأندلس أو في غير الأندلس، حيث كان كُتابنا العرب القدماء، بل عامة الناس أيضًا، يكثرون من استعمال لفظ "الذوق السليم"، ثم يسندون إليه الفصل في أمور كثيرة منها الحكم على ألفاظ الشعر والنثر، كما سأبين فيما بعد.
* * *
قضية "التذوق" عندي
وبعد، فأنت ترى أنى آثرت لفظ "التذوق" على لفظ "الاستبانة"، لكي أدل به على ما تتولاه تلك الحاسة السادسة فينا، من تطلب الآثار العالقة في الأحرف والكلمات والجمل والتراكيب والمعاني الناشبة في حواشيها وأغوارها، والتي تدل دلالة ما على ما في ضمير صاحبها الذي أنشأها من ألوف مؤلفة زاخرة من الغرائز والطبائع والأهواء والنوازع والعادات والأخلاق، بل تدل أيضًا على الهيئة والسمت والحركة وسائر السمات الظاهرة والخفية. ومعنى ذلك أن "الكلام" مُحَمَّل بدلالات مميزة، تجعل صاحبه متفردا بخصائصه عن سائر إخوانه من البشر المتكلمين. وأنا أدرك تمام الإدراك أن هذا كلام سهل أن يقال. ولكن ليس من السهل التسليم به، فإن من يبتغى الوصول إلى التثبت من صحته، أو إلى اختباره وتحقيقه، مكلف أن يخوض في العنت والمشقة والحيرة خوضا. . . وإذن فأنا لا أستطيع أن أنكر أنى أقول قولا ليس سهلا أن يقتنع المرء بصحته على وجه يعينه، أو يحثه على مراجعة نفسه، أو على محاولة اختباره في شيء مما يقرؤه أو يسمعه.
(1) أثارة: بقية من عِلْم تُؤثَر وتُرْوَى.
وهذا عيب، ولكنه ليس عيبي أنا وحدي. ففي كل لغة ألفاظ كثيرة جدًا تدل على المعاني المجردة التي لا تتجسد. ولكننا إذا أدخلنا هذه الألفاظ في الجمل المركبة، لم نجد مناصا من استعمال ألفاظ أخرى من الأفعال والصفات، تجعل الحديث عن هذه المعاني المجردة حديثا عن متجسد يكاد يرى بالعين، ويمس باليد .. وهذا التجسيد يقربنا إلى إدراك مضمون الحديث عنها، نعم، ولكنه يباعد بيننا وبين القدرة على الاحتفاظ بالأصل الأول، وهو أننا نتحدث عن معان مجردة لا تتجسد ولا تُرَى ولا تُمَسّ. . . وغياب القدرة على الاحتفاظ بهذا الأصل الأول (المعنى المجرد)، يباعد هو أيضًا بيننا وبين الشعور بوجوب العودة إلى مراجعة ما نجده في أنفسنا، أو ملاحظة ما يجرى في أنفسنا، مما له علاقة بهذه المعاني المجردة التي لا تتجسد. وبذلك يصبح الطريق إلى الامتناع، أو إلى مراجعة النفس، أو إلى محاولة اختبار ما نسمع أو نقرأ، طريقا مسدودا في أغلب الأحيان. وكذلك كان فقد كان حديثي كله يجعل "القدرة على البيان" وهو معنى مجرد مغرق في التجريد، شيئًا متجسد الصورة، متجسد العمل، فصار ما قلته في شأنها سهلا في السياق، ولكن ليس من السهل التسليم به لأول وهلة. وهذا ليس عيبى ولكنه عيب اللغة، لأنها، اضطرارا، تُجسد ما لا يَتَجَسَّد.
ومع ذلك، فالذي قلته على عيبه هذا، ليس أمرًا مجهولا لا يعرفه أحد: بل العكس هو الصحيح. فما من أحد منا إلا وهو يمارسه مرات بعد مرات. يمارسه حين يسمع من يكلمه (أو حين يقرأ شعرا، أو نثرا، أو رسالة). فيمس في دخيلة نفسه أن صاحبه كاذب، وإن كان ظاهر ألفاظه لا يدل على الكذب، أو أنه مراوغ، أو أنه حقود، أو أنه خبيث، أو أنه حيي، أو أنه عفيف، أو أنه رقيق، أو أنه منافق = فإذا سألته من أين عرف ذلك؟ لم يجد جوابا، ولم يدر ماذا يقول، وأحال الأمر كله إلى أنَّه: هكذا أحس! والعامة الذين لم يتعلموا قط، يفاجئونك أحيانًا كثيرة بالحكم على حديث رجل، بل على الرجل نفسه، حكما تنكره ويعيبك أنت المتعلم أن تعرف صحته، إلا بعد تجارب قد تطول، مع أنك كنت شاهده معهم. وكذلك طفلك الصغير، يكشف أحيانا ما تضمره في نفسك،
وأنت تتحدث حديثا عليه سمة الصدق كاملة فيما تظن، أما هو فقد يفاجئك باكتشاف ما لم تكن تتوقع أن يكشفه.
ونحن الذين نتحدث عن الشعر وعن تذوق الشعر، نقول أن الشرط الأول في جودة الشعر (أو جودة الفن عامة) أن يكون الشاعر "صادقا". وهذا شرط صحيح بلا ريب. ولكن ما السبيل إلى معرفة ذلك؟ أن يقول لنا الشاعر بلسانه أنه صادق، أو يكتب على رأس كل قصيدة "أنا صادق"؟ أم أقنع أنا بأن أفترض افتراضا أنه صادق، فيكون عندئذ صادقا! كلا هذين باطل لأول وهلة. لم تبق، إذن، وسيلة لمعرفة صدقه إلا من خلال الشعر نفسه، أي من خلال أحرفه وكلماته وجمله وتراكيبه ومعانيه. ومن أين يعرف صدقه في هذا؟ وكيف؟ ينبغي هنا أن نحترس من الوَهْم الذي يجعل مجرد مطابقه ما يقوله الشاعر لما نعتقده نحن أو نتوهمه دليل على صدقه في شعره. فهذا باطل أيضًا، لأن مخالفته كل المخالفة في الاعتقاد أو التوهم، ممكن أيضًا أن يكون فيما قاله صادقا كل الصدق وإن لم يقع كلامه عندنا موقع الرضى والقبول والتسليم. فلم يبق إلا طريق واحد: أن يكون الكلام المركب من الأحرف والكلمات والجمل والتراكيب، وما تؤدى إليه من المعاني، كلها حاملًا لآثار عالقة في جميعها، أستطيع أنا أو أنت بالاعتماد على "التذوق" الذي وصفته لك، وكما وصفته لك، أن نحسه إحساسا ما، وبطريقة واعية منظمة بصيرة، قادرة على الاعتماد على هذه الحاسة السادسة التي تنشيء "الكلام" فينا، والتي تطيق أن "تتذوق"، الكلام الآتى إليها من خارج. ومناقشة هذه القضية للتوصل إلى غاياتها البعيدة، وإلى كشف النقاب عنها، وإلى إزالة الإبهام المحيط بلفظ "التذوق"، كما استعمله أدباؤنا وكُتابنا المحدثون بمجرد التوفيق من الله، لا بالنظر والاستنباط والتحصيل والتقرير، مسألة تحتاج إلى إفاضة وتتبع واستيعاب.
وقضية نشوب جميع الطبائع والعواطف والغرائز والأهواء وجميع السمات الظاهرة والباطنة، في الأحرف والكلمات والجمل والتراكيب والمعاني أيضًا، قضية صادقة عندي كل الصدق، بعد أن عانيت في سبيلها معاناة لا أستطيع أن
أسترجع أهوالها وأقيدها لك منه هذا المكان، ولذلك فسوف أنقل شيئًا مما كتبته قديما في مجلة المقتطف (المجلد 97، ص: 57، شهر يونيه 1940)(1) حين شرعت في كتابة مقالات لم أتمها بعنوان: "علم معاني أصوات الحروف: سر من أسرار العربية، نرجو أن نصل إلى حقيقة في السليقة العربية" قلت:
"وأنا أريد بقول "معاني أصوات الحروف" ما يستطيع أن يحتمله صوت الحرف من المعاني النفسية التي يمكن أن تنبض بها موجة اندفاعه من مخرجه من الحلق أو اللهاة إلى الحنك أو الشفتين أو الخياشيم، وما يتصل بكل هذه من مقومات نعت الحرف المنطوق. وليست المعاني النفسية، أو العواطف، أو الإحساس، هي كل ما يستطيع أن يحتمله صوت الحرف. بل هو يستطيع أن يحمل أيضا صورا عقلية معبرة عن الطبيعة وما فيها من المادة، وما يتصل بذلك من أحداثها أو حركاتها أو أصواتها أو أضوائها، أو غير ذلك مما لا يمكن استقصاؤه، إلا بعد طول الممارسة لوحي الطبيعة في فطرة الإنسان. . . ." ثم قلت: "هذا جهد كنت بذلته قديما. والنفس ساكنة قارة هادئة .. ولكن الأيام انتزعتنى ورمت بي إلى حومة تتسعّر وتضطرب وتطغى بضجيجها على فترة النفس واجتماعها على الهدأة والهوينى والسكون، فكذلك ذهب أكثر ما تلقنته من المعاني نهبا ضائعا بين النسيان والغفلة وقلة المبالاة وطول الإهمال".
وهذا الذي كتبته قديما، أشد إيغالا في أعماق القضية، من كل ما تناولته في كلماتى اليوم. ومع ذلك، فإن في الواقع مؤيدا هو أشد دلالة على صدق القضية عندي. فالخط، مثلا، (وهو عمل من أهم أعمال اليد في تقييد "الكلام" وتثبيته بالتسطير على الورق وغيره)، يحمل في طوايا رسمه دلائل كثيرة عميقة على صاحبه الذي كتبه بيده ويحمل دلائل على أخلاق الكاتب وعاداته وطبائعه وحالاته وهيآته وسماته المختلفة المتباينة. وقد استطاع المتخصصون في قراءة ما وراء "الخط"، أن يصيبوا صوابًا كثيرا موفقا في قراءتهم لهذه الدلائل العالقة الناشبة في
(1) هكذا ذكر الأستاذ شاكر رحمه الله، والصواب: المجلد 96، مارس 1940، ص 320. انظر المقالات هنا 2: 708 - 709
حواشى الخط وفي طواياه، وفي أغواره، وفي تعيين بعض تكوينه الذي يتميز به من غيره من الناس، وفي تمييز صاحب خط من صاحب خط آخر، وإن تشابه الخطان كل التشابه، بل ميزوا التقليد المتقن الخفي البارع من أصله الذي قلده، أو ميزوا الصادق من الكاذب. ومعنى ذلك أن "الخط" المسطور قابل لحمل هذه الدلائل الخفية المغرقة في الخفاء، وأن التوصل إلى استخراج هذه الدلائل ممكن أيضًا لمن تطلبه على وجهه الصحيح. هذا على أن أحدنا، وإن لم يكن خبيرا بقراءة "الخط" خبرة المتخصص، قد يصله كتاب من صديق، فيقع في نفسه وهو ينظر في خطه: إن صديقه قد كتب ما كتب على عجل، وأن أحرفه محفوفة بالملل، وإنه كتبه مجرد إبراء للذمة، وإن كان الكلام الذي سطره وكتبه يعبر ظاهره عن أشد الاهتمام وأشد العناية، وأشد الحرص على الصداقة. فإذا لقى صديقه الذي كتب هذا إليه، فأعلمه بما وقع في نفسه من دلالة خطه، قال له نعم، صدقت، هكذا كنت حين كتبت إليك. وأنا أحدثك بهذا عن واقع لا عن توهم.
فإذا كان هذا صادقا في شأن "الخط" وهو عمل من أعمال جارحة صماء بكماء لا تبين، فماذا تظن بأشرف قوة مبينة في بناء الإنسان، لم تستو لها قامته وتعتدل، ولم تطلق له يده، إلا لكي تكون اليد خادمة تقيد ما تنشئه هذه القوة العجيبة النبيلة، التي لولاها لَلَحِقَ من فوره بالبهائم على خلقتها وهيأتها يسعى على أربع. أيمكن أن يكون "الخط" -وسائر الفنون الدنيا: من نحت وتصوير وموسيقى جميعًا- قادرا على حمل آثار العواطف والأخلاق والشمائل، ثم لا تكون الأحرف والكلمات والجمل والتراكيب والمعاني التي تقيد بالخط، وهي الدالة على الفن الأعلى المتفرد بالسمو على سائر الفنون: الشعر والنثر والكتابة، غير قادرة على حمل هذه الآثار نفسها؟ أممكن هذا؟ كلا، هي على ذلك أقدر وأثبت وأقوم وأصدق شهادة. هي "الوثيقة الجامعة"، التي تميز إنسانا من إنسان (لا شاعرا من شاعر وبَس، أي، وحسب)، وعليها تنعكس صور حياته كلها ظاهرة وباطنة. و"التذوق" عندي هو الطريق إلى بعث هذه الصور، وإلى استنطاقها، وإلى حل رموزها المعقدة، وإلى بث الحياة في هامدها حتى تعود "إنسانا" يمشي ويتحرك ويتكلم ويغضب ويرضى، ويكذب ويصدق، ويخون
ويؤدي الأمانة، ويستقيم ويراوغ ويتهلل ويعبس، ويزهو ويتواضع، ويتألم ويبتهج، ويأنف ويستكين، ويسرق ويتصدق، ويعف ويفجر، إلى آخر ما لا يحصى مما يكون به الإنسان إنسانا، لا شاعرًا وبَس. هذا هو "التذوق" عندي، وقد أعفيت نفسي منذ بدأت من الحديث عما يريده الأدباء والكتاب بقولهم "التذوق"، ولكنه عندي معنى مغرق في الإبهام، قولا وتطبيقا.
فأنا أسألك الآن، أيها العزيز، أن تقرأ هذا، إن شئت، ببعض التأمل والتدبر، وتراجع قولك في مقالتك الثالثة "على أن تصور محمود شاكر النظرى للشعر: يحتاج إلى مراجعات وملاحظات. فلو تأملنا النصوص التي سقناها في هذه الدراسة من كلامه، لاكتشفنا للوهلة الأولى أنه يتخذ الشعر وثيقة نفسية يستخرج منها حياة أبي الطيب وطبائعه وعواطفه وآماله وآلامه وأحزانه، كما يتخذ منه وثيقة تاريخية، تسهم في تعديل أخبار الرواة القدماء أنفسهم أو تجريحها، أو استخلاص الصدق من نصوصها ونفي ما زيفه التذوق. وهذا مفهوم غير خصب للتذوق الفني، يحول العمل الأدبى إلى وسيلة لخدمة غاية خارجية. وبذلك يتحول الأدب إلى وثائق تاريخية أو اجتماعية أو نفسية، أو يصبح انعكاسا مباشرا لحياة الناس وأهوائهم ونزواتهم واصطراعهم في الحياة". وأنا لا أنتفي من شيء مما قلت، بل هو الحق كل الحق كما قلته، ولا أعده عيبا، ولا خدمة لغاية خارجية، بل هي غاية في الصميم.
ولكن، لو أنت فعلت ما سألتك، لاكتشفت للوهلة الأولى أيضًا أنك تستعمل لفظ "التذوق الفني" في أتم زينته، وأنى استعمل لفظ "التذوق" عاريا متجردا من كل زينة، وأنك تعد معنى اللفظ العارى المتجرد عندي وهو "التذوق" مطابقا تمام المطابقة للفظك المتأنق في أتم زينة عندك، وهو "التذوق الفني". ثم لاكتشفتَ أيضًا أنهما غير متطابقين في المعنى البتة، بل كل ما في الأمر أن لفظ "التذوق" لفظ مشترك بيني وبينك، له عند كل واحد منا معنى يصعب معه أن يتطابقا كل المطابقة. ثم لاكتشفتَ أيضًا أنك بذلك قد ظلمتنى حين جعلت معناتك في لفظ "التذوق" واقعة على معناته عندي .. وأنت أَلَبُّ وأَفْطَنُ من أن أدلك على الفروق بينهما، وأنا ممتنع عن الدلالة على ذلك، لأنى عاهدتك منذ