المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌المتنبي ليتني ما عرفته- 2 - جمهرة مقالات محمود شاكر - جـ ٢

[محمود شاكر، أبو فهر]

فهرس الكتاب

- ‌الناسخون الماسخون

- ‌إكمال ثلاثة خروم من كتاب التنبيه على أوهام أبي علي في أماليه

- ‌من خط البغدادي *

- ‌مقاليد الكتب

- ‌أدب الجاحظ

- ‌الصاحب بن عباد

- ‌أبو نواس

- ‌ضحى الإسلام

- ‌الشريف الكتانى

- ‌نابغة بني شيبان

- ‌مقاليد الكتب

- ‌1 - كتاب "حافظ وشوقي

- ‌2 - كتاب الرثاء

- ‌3 - كتاب الخط الكوفي *

- ‌4 - صلاح الدين وشوقي *

- ‌5 - كتاب الشخصية *

- ‌6 - كتاب أمير الشعراء شوقي *

- ‌مقاليد الكتب

- ‌حاضر العالم الإسلامي

- ‌ذكرى الشاعرين

- ‌ماضي الحجاز وحاضره

- ‌الوحي المحمدي

- ‌مقاليد الكتب

- ‌1 - ملوك المسلمين المعاصرون ودولهم

- ‌2 - ابن عبد ربه وعقده

- ‌3 - رحلة إلى بلاد المجد المفقود

- ‌4 - تنبيهات اليازجي على محيط البستاني جمعها وحل رموزها

- ‌مقاليد الكتب

- ‌1 - أنتم الشعراء

- ‌2 - تاريخ مصر الإسلامية

- ‌3 - آلاء الرحمن في تفسير القرآن

- ‌مقاليد الكتب

- ‌1 - ابن خلدون: حياته وتراثه الفكرى

- ‌2 - قلب جزيرة العرب

- ‌الينبوع

- ‌النثر الفني في القرن الرابع

- ‌مقاليد الكتب

- ‌1 - ديوان عبد المطلب

- ‌2 - مرشد المتعلم

- ‌3 - مواقف حاسمة في تاريخ الإسلام

- ‌ ملوك الطوائف، ونظرات في تاريخ الإسلام

- ‌الإسلام والحضارة العربية

- ‌وَحْيُ القلم

- ‌علم معاني أصوات الحروف سر من أسرار العربية نرجو أن نصل إلى حقيقته في السليقة العربية (1)

- ‌علم معاني أصوات الحروف سر من أسرار العربية نرجو أن نصل إلى حقيقته في السليقة العربية (2)

- ‌علم معاني أصوات الحروف سر من أسرار العربية نرجو أن نصل إلى حقيقته في السليقة العربية (3)

- ‌عبقرية عمر

- ‌شاعر الحب والفلوات ذو الرُّمَّة- 1

- ‌شاعر الحب والفلوات ذو الرُّمَّة- 2

- ‌شاعر الحب والفلوات ذو الرُّمَّة- 3

- ‌ جمعية الشبان المسلمين

- ‌ تاريخ اليوم الأول

- ‌ دعوة الشباب إلى الجمعية

- ‌ الاجتماع الأول

- ‌ الاجتماع الثاني والثالث

- ‌ انتخاب مجلس الإدارة

- ‌في حلبة الأدب

- ‌كتاب تطور الأساليب النثرية في الأدب العربي

- ‌ عن كتاب تطور الأساليب النثرية" رد على مؤلفه

- ‌ترجمة القرآن وكتاب البخاري

- ‌ترجمة القرآن في صحيح البخاري

- ‌من أين؟ وإلى أين

- ‌لماذا، لماذا

- ‌تهيئة الشرق لوراثة الحضارات والمدنيات

- ‌شكر

- ‌أنا وحدى

- ‌الطريق إلى الأدب- 1

- ‌الطريق إلى الأدب- 2

- ‌فوضى الأدب وأدب الفوضى

- ‌الأدب والحرب

- ‌إلى على ماهر باشا

- ‌لا تبكوا. .! لا تنوحوا

- ‌تجديد التاريخ المصري ساعة واحدة

- ‌أحلام مبعثرة

- ‌أهوال النفس

- ‌وقاحة الأدب أدباء الطابور الخامس

- ‌قلوب جديدة

- ‌القلم المعطَّل

- ‌اللغة والمجتمع

- ‌أوطانَ

- ‌(حول قصيدة القوس العذراء)

- ‌صَدَى النقد طبقات فحول الشعراء رد على نقد

- ‌[الاستعمار البريطاني لمصر]

- ‌المتنبي

- ‌حديث رمضان. عبادة الأحرار

- ‌مع الشيطان الأخرس

- ‌ يحيى حقي صديق الحياة الذي افتقدته

- ‌لا تنسوا

- ‌عدوى وعدوكم واحد

- ‌أندية لا ناد واحد

- ‌لا تخدعونا

- ‌احذروا أعداءكم

- ‌في خدمة الاستعمار

- ‌حكم بلا بينة

- ‌تاريخ بلا إيمان

- ‌المسلمون

- ‌ لا تسبُوا أصحَابي

- ‌طلب الدراهم من الحجارة

- ‌ألسنَةُ المفترين

- ‌جرأة العلماء

- ‌أحمد محمد شاكر إمام المحدّثين

- ‌ قُرَىَ عَرَبِيَّةَ

- ‌كانت الجامعة. . . هي طه حسين

- ‌مواقف

- ‌في الطريق إلى حضارتنا

- ‌الأندلس تاريخ اسم وتطوره

- ‌المتنبي ليتني ما عرفته- 1

- ‌المتنبي ليتني ما عرفته- 2

- ‌القول في "تذوق الشعر

- ‌القول في "الشعر

- ‌القول في "التذوق

- ‌المتنبي ليتني ما عرفته- 3

- ‌تتمة القول في التذوق

- ‌قضية "التذوق" عندي

- ‌تاريخ "التذوق" عندي

- ‌من هؤلاء

- ‌قضية اللغة العربية

- ‌في زمان الغفلة

- ‌هؤلاء الخمسة

- ‌الفقيه الجليل ورموز التكنولوجيا

- ‌النكبات الثلاث

- ‌الجبرتى الكبير

- ‌الألفاظ المكشوفة في هذا الكتاب طبيعية وينبغي ألا يجهلها البشر

- ‌ذكريات مع محبى المخطوطات

- ‌[تعقيب]

- ‌كلام منقول بنصه

- ‌في الطبعة الجديدة "للمتنبى

- ‌ الجيل المفرغ

- ‌كتاب الشعر الجاهلي

- ‌هل يبقى الاتهام

- ‌تهمة أكبر

- ‌ليس شكا أزهريا

الفصل: ‌المتنبي ليتني ما عرفته- 2

‌المتنبي ليتني ما عرفته

- 2

-

أيها العزيز، كانت نيتى، كما تعلم، أن أجعل ما أكتبه، تعقيبا على مقالاتك الخمس، مقالة واحدة، ولكن القلم جمح بي جماحا أنا غير راض عنه، فاجتزأت بالقدر الذي نشرته، وأجلت الباقى. ومع التأجيل تتغير طبيعة سرد الأفكار. ومضت أيام، وحل ميعاد كتابة المقالة الثانية، فكعادتى، عدت أقرأ ما كتبته في المقالة الأولى، ولم أكد أنتهي إلى آخر ما ختمت به المقالة، وهو بيت شيخ المعرة:

وأردتمونى أن أكون مُدَلِّسا؟

هيهاتَ! غَيْرى آثر التدليسا!

حتى رأيتنى بما كتبت، قد وقعت في ردغة التدليس، (والردغة: الوحل الكثيف المتماسك الذي يعسر الخلاص منه). وذلك أنى من شدة إلحاحي على نَفْى كل (خصومة) بيني وبين الدكتور طه تظن أنت أنها أدت لي إلى الجور عليه في الكتابه عنه، كدت بفعلى هذا أن أوهم القارئ أن الخلاف بيني وبينه كان، ولم يزل، مقصورا على "مسألة الشعر الجاهلي"، وما ارتكبه هو في سبيلها، وما اقترفته الجامعة وأساتذتها يومئذ من التستر على فعلته التي فعل. وهذه هي ردغة التدليس التي وقعت فيها. ولكى أُزيل هذا التدليس الذي أوحت به مقالتي الأولى، رأيته واجبا عليّ أن أبين الأمر بيانا واضحا.

لم تكن بيني وبين الدكتور طه نفسه (خصومة) ما منذ عرفته إلى أن أفضى إلى ربه. نعم، ولكن نَفْى هذه (الخصومة) لا يعني البتة إني راض كل الرضى أو بعضه عن سائر أعماله وآرائه، فالعكس هو الصحيح، الدكتور طه أديب كبير، له كتب كثيرة مختلفة الأنواع، وله آراء كثيرة مبثوثة في ثنايا كتبه، وله أساليب في البحث والنظر والاستنباط، وله قدرة متميزة على تصوير آرائه وأبحاثه وسائر

(*) مجلة الثقافة، السنة السادسة - العدد 61، أكنوبر سنة 1978، ص 4 - 18.

ص: 1128

ما يعالجه في كتبه ومقالاته. فأنا أحب أن تكون على بينة من رأيي، لكي تبنى حكمك وقضاءك بيننا على بصيرة.

ليس الأمر أمر (خصومة)، ولكنه أمر خلاف، خلاف بعيد الجذور. يبلغ حد التباين الكامل في الأصول. وهذا التباين الكامل في الأصول يفضى إلى تباين كامل في الآراء التي تنبع من هذه الأصول. وهذا التباين كان معروفا واضحا عندي وعند الدكتور طه على السواء منذ عرفته إلى أن فرق بيننا الأجل المُسَمَّى. وأنا لم أكتب شيئا كثيرا في نقد أعمال الدكتور طه وآرائه مدة حياته، ولكن الذي كتبته على قِلَّته كان يحمل في ثناياه وجوه التباين في الأصول، وفي طريقة تناول الأدب والتاريخ، وفي أسلوب تكوين التفاصيل التي تبنى عليها الصورة التي يصورها الكاتب بقلمه وبيانه، فمن أجل ذلك كان حكمى واضحا صريحا على كثير مما كتبه في التاريخ والأدب، ككتابه "على هامش السيرة"، وكتابه "الفتنة الكبرى"، وسائر هذه الفصيلة، وأنها بُنِيَت بناء فاسدًا كل الفساد، بفساد التفاصيل التي أعدها ونظر فيها واستخرج منها مادة كتابته، ولما جئت إلى النظر في كتابه "مع المتنبي"، كان بينا فيما كتبت، مقدار الاختلاف بين الأصول التي يصطنعها الدكتور طه، وبين أصولى التي أبنى عليها ما أكتب. ودع عنك مسألة الاستلهام أو الاجتهاد، أو الاستعارة، أو "الاستلال في خفة" فإنها ليست كل المسألة. ليست الجوهر، بل هي العرض، كما يقول أصحاب المنطق.

كنت أحب أن تتوقف عند هذا، لأن قضاءك كان محتاجا إليه، لتنصف في القضية. ولكنك أغضيت عن التباين في الأصول، فلم تجد تفسيرا لما تجده عندي إلا (الخصومة) الداعية إلى الجور. وعلى كل حال، فعسى أن أكون قد أزلت بهذه الكلمة القصيرة، ما أوقعتنى فيه المقالة الأولى، من التدليس عليك أو على القراء. لا (خصومة) بيني وبين الدكتور طه، نعم، ولكن بيني وبينه خلاف يبلغ حد التباين في الأصول، يجعل حكمى على كثير مما كتب أشد مما هو ظاهر فيما كتبته في كتابى "المتنبي" أو غيره من المقالات. وهذا حسبنا إن شاء الله. ونعود الآن إلى ما كنا فيه، بعد أن فرغنا من الثالثة.

ص: 1129

أما الرابعة: فهي أيضا في مقالتك الثالثة، (الثقافة: مارس سنة 1978) والتي جعلت عنوانها: "قضية التذوق الفني بين شاكر وطه حسين". وقبل كل شيء، أحب أن أثبت هنا نص الحكم الذي قضيت به عليّ في أثنائها حيث قلت:"والأستاذ شاكر مولع بهذا الجدل، مولع بهذا الصراع العقلي". . ولا أدري هل أستطيع، إعتابا لك وترضية، أن أغسل عقلي ونفسي وقلبي من أوضار هذا الذي طُبِعت عليه وأُولِعتُ به؟ ولكني سأحاول ما استطعت، مستعينا بحول الله وقوته على تكذيب أبي الطيب في قوله:"وتأبى الطباع على الناقل"، وما ذلك على الله بعزيز.

هذه المقالة الثالثة محيرة لي أنا. أربعة أسطر فيها لا أكثر، حركت فيّ تاريخا كاملا، حاولت أن أقص طرفا منه فيما مضى، حتى أطلت وأمللت. وكان الذي جر هذا أن ابتداء الأسطر الأربعة يتضمن لفظا مجلوبا من التوهم المحض، وهو (الخصومة)، وأنها بتمامها وختامها تتضمن ألفاظا بنيت صياغتها على التساهل في التعبير عن المعاني، فضلا عن التساهل في فهمها من كلامي، وذلك حين نسبت إليّ أنى وصفت الدكتور طه بأنه (رجل جاهل لا بصر له بتذوق الشعر). أما الآن، فأنا في حيرة أشد حيرة، لأن موضع التعقيب مبثوث في أسطر المقالة كلها، أي في أكثر من ثلاثمئة سطر. فمن أجل ذلك رأيت أن ألخص ما فيها تلخيصا أرجو أن يكون معينا لي ولمن يقرؤه.

1 -

ذكرت في رأس مقالتك هذا العنوان: "قضية (التذوق الفني) بين شاكر وطه حسين"، ثم قلت في فاتحته إن من أخطر القضايا التي تهمك قضية (التذوق الفني)، لأنها قضية جمالية -وأنك لا تهتم، في المقام الأول عند دراسة الشعر، إلا بهذا (التذوق الفني الجمالى)، ثم لما فرغت من عرض أصل القضية بيني وبين طه قلت:"وقضية التذوق الفني من أعقد القضايا في مجال الدراسات الإنسانية". ثم عرضت بعد ذلك ما تظن أنه رأيي أنا في (التذوق) من نص نقلته من كلامي، ثم قلت: "وقبل أن أناقش هذه (القضية الجمالية) أرجو أن لا يغضب أستاذنا الجليل محمود شاكر، وألا يعتبره دفاعا عن طه

ص: 1130

حسين، فقد أفضى إلى ربه، ولا يحتاج إلى دفاع مني أو من غيري. . هذه واحدة. وأخرى، أننى لن أتناول تصور الدكتور طه يرحمه الله (للتذوق الفني) للشعر، ولا للأسس النظرية لمناهجه المتطورة في النقد، فهي معروفة للقراء، وفي كتب مطبوعة أكثر من طبعة".

2 -

ثم قلت: "ونحن نلاحظ عيبا أساسيًا في منهج الأستاذ شاكر حول هذه القضية. فهو يتصور أنه المبتدع الأول لفكرة (التذوق الفني)، وأن تطبيقها على شعر المتنبي الذي تم على يديه، ليس له نظير في القديم ولا الحديث". ثم نقلت بعد ذلك نصا طويلا من كلامي، منتزعا من سياق استدلالى على سطو الدكتور طه على بعض ما في كتابي، وعلى تقليده لي في بناء كتابه، ثم في مواضع بعينها مما وقفت عنده من شعر أبي الطيب، وهذا النص مذكور في كتابي (المتنبي 2: 96، 97)، ثم عقبت عليه بقولك:"وبصرف النظر عن الغلو الذي يبدو في هذا الكلام، فإن وضع القضية على هذا النحو، هو الذي أوقع أستاذنا في هذا العيب الأساسى".

3 -

ثم عقبت على هذا بما يأتي: "وفكرة التذوق الفني معروفة منذ أقدم العصور. . والأساس النظرى لعملية (التذوق) كما حددها الأستاذ شاكر معروف، منذ حدد ابن سلام الجمحي، المتوفى في الثلث الأول من القرن الثالث الهجري؛ في مقدمة كتابه "طبقات الشعراء" الأسس الموضوعية لتذوق الشعر". وجئت بنص ابن سلام. ثم قلت أيضا: "ويحدثنا ابن الأثير في المثل السائر. ." وجئت بنصه، ثم قلت:"وهذه كلها معروفة في القديم والحديث".

4 -

ثم لما بلغت معى إلى التسليم جدلا بكل ما جاء في كتابي حول كتاب طه، قلت إنه لا يصدق إلا على 98 صفحة في الطبعة الأولى التي أربت على 700 صفحة، ثم قلت: "ومع ذلك، فمعظم الانتقادات التي جاءت في كتاب الأستاذ شاكر، يدور حول أمور بعيدة عن (التذوق الفني)، مثل الحديث عن نسب أبي الطيب، وعلاقته بجدته، وقرمطيته، أو الخلاف حول ترتيب القسم الأول من ديوانه، وهي أقرب إلى الجدل العقلي، منها إلى (التذوق الفني)،

ص: 1131

والأستاذ شاكر مولع بهذا الجدل العقلي، مولع بهذا الصراع العقلي. ولقد صرفه هذا الولع في كتابه إلى مجموعة من الأقيسة المنطقية والقضايا العقلية، أخضع الشعر لسطوتها، ليثبت أمورا لا علاقة لها بقضية (التذوق الفني)، مثل علوية أبي الطيب، وسجنه لإظهار هذا النسب، وحبه لخولة أخت سيف الدولة، وترتيبه لقصائد القسم الأول. ثم جاء (التذوق الفني) شيئا ضئيلا على هامش هذه القضايا العقلية. وبذلك أصيب منهج الدراسة بالضمور في جانب، والتضخم في جانب آخر. أما كتاب طه حسين، فعلى العكس من كتاب الأستاذ شاكر، اهتم أولا بالدراسة (الفنية) و (التذوق الجمالى)، وجاءت القضايا الفكرية على هامش هذا (التذوق الفني)، وهو منهج "مستقيم في النقد والدراسة الأدبية".

5 -

ثم قلت: "على أن تصور محمود شاكر (النظرى للشعر) يحتاج إلى مراجعات وملاحظات. فلو تأملنا النصوص التي سقناها في هذه الدراسة من كلامه، لاكتشفنا للوهلة الأولى أنه يتخذ الشعر وثيقة نفسية، يستخرج منها حياة أبي الطيب وطبائعه وعواطفه وآماله وآلامه وأحزانه -كما يتخذ منه وثيقة تاريخية تسهم في تعديل أخبار الرواة القدماء أنفسهم أو تجريحها، أو استخلاص الصدق من نصوصها، ونفي ما زيفه (التذوق). وهذا مفهوم غير خصب (للتذوق الفني)، يحول العمل الأدبي إلى وسيلة لخدمة غاية خارجية. وبذلك يتحول الأدب إلى وثائق تاريخية، أو اجتماعية، أو نفسية، أو يصبح انعكاسا مباشرا لحياة الناس وأهوائهم ونزواتهم، واصطراعهم في الحياة". انتهى التلخيص.

وهذا التلخيص لا يغنى بطبيعة الحال، عن قراءة المقالة كاملة. وأنا لم آت بهذا التلخيص المخل لكلماتك، لكي أناقشها وأناقش الآراء التي تضمنتها المقالة: بل لأجعل القارئ على بينة صريحة من المحور الذي تدور عليه المقالة وما فيها من الآراء، والمحور كما هو ظاهر، هو لفظ "التذوق الفني الجمالى".

والبلوى، أن لفظ (التذوق الفني والجمالى) عندك، ناشب نشوبا غريبا في جميع أسطر المقالة، وفي جميع الآراء التي تضمنتها، وفي جميع الأحكام التي

ص: 1132

أصدرتها عليّ! والبلوى أيضا أن لفظ (التذوق) عندي أنا، ناشب هو الآخر نشوبا غريبا في مقدمة كتابي "المتنبي"، وفي كثير مما كتبت منذ زمان طويل. والفرق بين لفظى ولفظك، أن لفظى هو دائما عندي عار من كل زينة، (التذوق) لا غير، ولفظك عندك هو دائما في أتم زينة، (التذوق الفني والجمالى). وأنا أخشى أن أقترب من لفظك في زينته، لأنى إن فعلت ذلك، سقطت فجأة في جوف المنطقة الملتهبة، منطقة الجدل والصراع العقلي! فلم أجد لي مذهبا سوى الاقتصار على لفظ (التذوق)، كما استعملته أنا، ولم أزل استعمله.

وواضح جدا أنى ملتزم بأن أقول "التذوق" عاريا، وأنك مغرى بأن تقول "التذوق الفني والجمالى" في أتم زينته. ولا بأس عليّ ولا عليك إن شاء الله، ولكن البأس يحتدم احتداما حين تعد معنى اللفظ العارى، وهو "التذوق" عندي، مطابقا تمام المطابقة لمعنى اللفظ المتأنق عندك، وهو "التذوق الفني الجمالى"، فالتماسا لبركة العلماء القدماء والمحدثين، وتعرضا لنفحاتهم، أسلك مسالكهم في تدبر معنى "التذوق"، ثم لا أمس لفظك المتأنق، إلا بقدر اشتراكنا في لفظ "التذوق". ثم صدقنى أنى لا أفعل ذلك إلا التماسا للبركة وتعرضا للنفحات، واتقاء للفحات اللهب، لا إيثارا للجدل، ولا ولعا بالصراع العقلي، معاذ الله الذي أسأله أن يحط عني وعنك الخطايا.

و"التذوق" مصدر قولك "تذوقت الشيء تذوقا"، ومرده إلى "الذوق"، وهو مصدر قولك "ذاق الطعام أو الشراب ذوقا"، وهذا "الذوق" عمل من أعمال اللسان، حين يلتمس صاحبه تعرف طعم مأكول أو مشروب، وعمل اللسان في تبين طعوم الأشياء المختلفة أو المتشابهة، لا يختلف في ذاته ولا يتعدد. فالذوق، إذن، مصدر دال على حدث (أي فعل) معين متميز غير مبهم. وهو في هذا شبيه بقولنا:"جلس جلوسا" و"قعد قعودا" وأضرابهما. فالقعود والجلوس كلاهما دال على حدث معين متميز غير مبهم: لا يختلف أحدهما أو يتعدد، باختلاف الأفراد الذين يفعلونه، مهما تعددوا واختلفوا.

ص: 1133

ولا يختلف ولا يتعدد أيضا باختلاف عمل الأفراد في الجلوس والقعود، أو بتعدد صور جلوسهم وقعودهم. والذي يقال في "ذاق الشيء ذوقا" يقال مثله في "تذوَّقْتُ الطعام أو الشراب تذوُّقا" ولا فرق، إلا أن هذه الصيغة الأخيرة تدل على تكرار عمل اللسان مرة بعد مرة، في طلب تعرف طعم المأكول أو المشروب، لا غير. هذه حقيقة معنى "الذوق والتذوق" في أصل اللسان العربي.

ثم لما نقل هذان اللفظان من مدارج الحقيقة إلى معارج المجاز، تغيرت دلالتهما تغيرا تاما. بيان ذلك: أن معنى نقلهما من الحقيقة إلى المجاز، هو صرف اللفظين عن التعلق بالجارحة وهي اللسان، وعن الأجسام التي هي المأكول والمشروب وما يجرى مجراهما = ثم توجيههما إلى التعلق بالمعاني المجردة التي لا أجسام لها أو إلى التعلق بأجسام لا عمل للسان في تبين طعومها البتة. وفي الحالين تسقط الجارحة، وهي اللسان، عن لفظ "الذوق" و"التذوق"، ويسقط أيضا "الجسم" الذي يقع عليه فعل هذه الجارحة من المأكول والمشروب عند تعلقهما بالمعاني المجردة التي لا أجسام لها. فإذا تعلقا بجسم لا عمل للسان فيه، بل كان العمل فيه لجارحة أخرى غير اللسان، اكتسب لفظ "الذوق" أو "التذوق" معنى مبهما غير محدد من فعل هذه الجارحة الأخرى في ذلك الجسم بعينه، على وجه من الحقيقة لا المجاز. وفي الحالتين جميعا يصبح فقط "الذوق" أو "التذوق"، مصدرا يدل على حدث مبهم غير معين ولا متميز. وبذلك تغيرت دلالة اللفظين تغيرا تاما، وأصبحت قابلة للوقوع على أنواع متعددة مختلفة.

فإذا قال القائل: "ذُقْتُ القوس" وهي الأداة التي يرمى بها الرامى بالسهام، فالقوس جسم، ولكنه لا يدخل في معنى شيء من الأشياء التي يحاول المرء أن يتعرف طعمها باللسان، فبديهة اللغة، وبديهة متكلميها، تُسقِط عندئذ عن لفظ "الذوق" جارحةَ الذوق، وهي اللسان، وتُكْسِبه قدرا غير محدد من فعل جارحة أخرى، وهي اليد، لأن مراد القائل بقوله:"ذقت القوس"، إنما هو ما يعمد إليه بيده من اختبار جسم القوس، من حيث خفتها وثقلها، أو خشونتها وملاستها،

ص: 1134

أو لينها وشدتها عند نزع الرامى عليها بالسهم. بل ربما اشتركت العين أيضا في تبين طولها وقصرها، واستوائها واعوجاجها، إلى آخر ما يتطلبه اختباره جودة القوس وصلاحها لأحسن رَمْى الرامى بسهامه. فهذا هو المطلوب من "ذوق القوس". فلفظ الذوق في هذه الحالة، حين سقط عنه عمل الجارحة وهي اللسان، صار دالاًّ على حدث مبهم غير معين ولا متميز، ولكنه بوقوعه على "جسم" تعمل فيه جارحة أخرى، وهي اليد، اكتسب قدرا مقدورا من التحديد. أزالت عنه بعض الإبهام الذي أستغرقه وأكسبته قدرا مقدورا من التعين والتميز. ولكن الإبهام لم يزل عنه زوالا تاما. هذه هي الحالة الأولى.

أما إذا قال القائل: "ذقت العذاب، وأنا أفعل كذا وكذا"، اختلف الأمر اختلافا فاصلا، فإن "العذاب" الذي وقع عليه "الذوق" إنما هو معنى من المعاني المجردة لا جسم له، ولا تعمل فيه جارحة اللسان ولا جارحة أخرى من الجوارح. هذا فضلا عن أن "العذاب" معنى من المعاني متعدد الحقائق، متعدد الصور فبديهة اللغة وبديهة متكلميها، تُسْقِط عندئذ عن لفظ "الذوق" عمل الجارحة إسقاطا تاما، لأنه تعلق بشيء ليس بجسم له طعم من مأكول أو مشروب. وبإسقاطها يدخل اللفظ في الإبهام دخولا صريحا. وزيادة على ذلك فإن "العذاب" المتعدد الحقائق والصور، يكسبه قدرة على التعدد والتنوع في مواقعه على ما يقع فيه، فإذا كان إسقاط الجارحة هنا قد جعل "الذوق" مصدرا دالا على حدث مبهم غير متعين ولا متميز، فإن وقوعه على "العذاب" وهو معنى من المعاني لا جسم له، يغرقه إغراقا في الإبهام وانعدام التعين والتميز. لا، بل إن تعدد الحقائق والصور التي يحملها لفظ "العذاب" تزيد زيادة كثيفة في إبهامه وعدم تعينه وتميزه، وهذا غاية الغايات في الإبهام إلا أن الذي حَسَّنه وجعله مقبولا أن "العذاب" على إبهامه مما تدركه الحواس إدراكا لا مرية فيه. ومن هنا أشبه الحالة الأولى بعض الشبه وهذه هي الحالة الثانية.

ومن البين أن الذي قلته في لفظ "الذوق" عندما نقل من مدارج الحقيقة إلى معارج المجاز، يصدق كل الصدق على لفظ "التذوق" لأنه فرع عنه، جاء

ص: 1135

للدلالة على تكرار عمل اللسان في "الذوق" مرة بعد مرة، طلبا لدقة التعيين والتمييز في الطعم والنكهة. و"النكهة" من عمل الأنف لأنها تتبين الرائحة مع الطعم. وهذا حسبنا من التماس البركات، والتعرض للنفحات. وعسى أن أكون قد وفقت بعض التوفيق فيما كتبت آنفا، فإن أحد أسباب كتابته أنى أردت أن أزيل الغموض عن الصفات التي وصفت بها لفظ "التذوق" في أواخر مقالتي السالفة، حيث قلت:"إن التذوق معنى عام مشترك الدلالة بين الناس جميعا، يعلو ويسفل، ويصقل ويصدأ، ويجود ويفسد، ولكنه على كل حال حاسة لا غنى عنها للإنسان" = وحيث قلت أيضا: "إن التذوق لفظ مبهم مجمل الدلالة، ولكل حي عاقل مدرك منه نصيب، يقل ويكثر، ويحضر في شيء ويتخلف في غيره، وتصقله الأيام والدربة، وترهفه جودة المعرفة، والصبر على الفهم، والمجاهدة في حسن الإدراك". فلعله صار واضحا بعض الوضوح ما أردته بقولي إنه "معنى عام مشترك الدلالة بين الناس جميعا"، وبقولي:"إنه لفظ مبهم مجمل الدلالة".

وهذه الألفاظ التي تدل على حدث مبهم غير متعين ولا متميز، هي في طبيعتها ذات نماء سابغ متوهج، وذات غنى مفعم وثراء مكنوز، ولكنها أيضا، وهو ما يهمنى هنا، ذات خطر مرهوب على جميع مذاهب القول والفكر والنظر. فإن فيها من القوة الغامضة ما يجعلها قادرة قدرة مطلقة على تضليل المتكلم والسامع جميعا، وهي التي تتيح لفكرة "التأويل"(أعني تأويل اللفظ المفرد والكلام المركب، وإخراجه من معنى ظاهر إلى معنى باطن) = أن تسيطر سيطرة كاملة على العقل أحيانا. وهذه القوة الغامضة، والقدرة المطلقة على التسلط، كانت ولم تزل من أكبر أسباب ضلال المتصوفة والمتكلمين والفلاسفة وأشباههم، فيها ضلوا وأضلوا، وهي أيضا العامل الحاسم أحيانا في توسيع هوة الاختلاف بين المختلفين في الرأي وفي تفسير الألفاظ والتراكيب، لأنها تعين على تشقيق الكلام وتفريعه تفريعا يغرق الاختلاف في بحر لجى يغشاه موج من فوقه موج من فوقه سحاب، ظلمات بعضها فوق بعض من الأهواء ونوازع النِّحَل

ص: 1136

المختلفة. يضاف إلى هذا أننا، نحن البشر، لا نرتاب أقل ارتياب في أن "اللغة" هي أداة التفكير، وأداة البيان. هذه حقيقة واقعة لا يختلف فيها أحد. ولكننا بالتدبر والتأمل نعلم أن "ألفاظ اللغة"، أي لغة كانت، ليست محددة المعاني تحديدا قاطعا حاسما في كل لسان، وعند كل أحد، وفي كل زمن من أزمنة هذا اللسان = ونعلم أيضا أن "تركيب ألفاظ اللغة"، وهي الجمل وأساليب دلالتها المختلفة، ليست هي الأخرى محددة تحديدا قاطعا حاسما واضحا في كل لسان، وعند كل أحد، وفي كل زمن من أزمنة هذا اللسان. ومعنى ذلك أن ادعاءنا أن "اللغة هي أداة التفكير. وأداة البيان، قضية غامضة، قضية موهمة، قضية إذا امتحنتها وجدتها غير مطابقة للواقع"، ومع ذلك فنحن بهذه "اللغة" نفكر، وبها نتفاهم! قضية مشكلة! ولكن هكذا كان، وهكذا خلقنا! وأنا أحب أن أعفيك، أيها العزيز، من المشقة، فأحيلك على ما كتبته في كتابي "أباطيل وأسمار" (ص: 514 - 517 وما بعدها)، حيث قلت ذلك في حديث طويل عن "اللغة"، وعن لفظ "الدين" وغيره من الألفاظ، أحيلك أيضا إلى ما أشرت إليه في مواضع متفرقة من الكتاب، تقوم على هذا الأصل من الرأي. فلو أذنت متفضلا فاطلعت عليه، لكان ذلك عونا لنا على ما نتلمسه أنا وأنت من الحق تلمسا.

وأنا أحدثك عن نفسي، فأنا منذ حاولتُ تلمُّس طريقى في المسالك الوعرة الشائكة التي قذفت بي فيها المقادير المقدرة، أطبقت عليّ الشكوك والريب في معاني الألفاظ التي نستعملها والتي استعملها من قَبْلُ أسلافنا، وفعلنا ذلك، وفعلوا بلا مراجعة، لوضوحها فيما نظن. يومئذ لم يكن لي مطلب سوى مطلب واحد، هو أن أجد برد اليقين في نفسي في شأن "الشعر الجاهلي"، وفي شأن ما نسميه "إعجاز القرآن"، كما قلت في كتابي، (المتنبي: 1: 47، 48). ويومئذ تبينت لي مشكلة "اللغة" ومتشابهاتها ومبهماتها تبينا كاملا، حين وقعت في حومة الاختلاف بين المختلفين، وأطبقت عليَّ الشكوك المدمرة، وتنازعتنى هذه المتشابهات المبهمات حتى كادت تمزقنى، فلم أجد لي سبيلا إلى النجاة

ص: 1137

بنفسي، ولا منفذا إلى برد اليقين في نفسي، إلا طرح الاستهانة بخطر اللغة، وخطر الألفاظ والتراكيب التي تجرى على الأقلام والألسنة سهلة واضحة كل الوضوح فيما نتوهم. وهذه الاستهانة داء قديم عند البشر، ولكنها كانت عند أسلافنا رحمهم الله، محدودة بحدود صارمة من الجد والإخلاص للعلم والمعرفة، لم تمنع عنهم شر خطرها كل المنع، ولكنها كفت منه: وهيأت لفئة منهم أن تكون ظاهرة بالحق على سائر الفئات الأخرى التي استهانت بخطر المبهمات والمتشابهات، كالمتصوفة والمتكلمين وغيرهم فضلّوا وأضلوا، كما قلت.

أما اليوم، فيؤسفني أن أقول لك، أيها العزيز، أن أكثر هذه الحدود الصارمة التي كانت عند أسلافنا، قد طمست وأمحت معالمها، بإعراضنا عما كان عتدهم، واستخفافنا بما كانوا يلتزمون به استخفافا مزريا بنا وبهم جميعا. ومن أخطر ذلك سُنَّة الاستهانة الجامحة باللغة، وبالألفاظ، وبالتراكيب ودلالاتها على المعاني، ثم إهدارها جميعًا إهدارًا كاملًا، واطراح التدبر والتأمل في المبهمات والمتشابهات اطراحا طائشا أحيانا. هذه السُّنة، هي إحدى السُّنن التي سَنَّها "الأساتذة الكبار" في حياتنا الأدبية، واستشرى الأمر وتفاقم على مر السنين، وتكاثرت الجراثيم الفتاكة، وعز الطبيب المداوى، وأصاب جيلنا "طريقا نافذا فسَلَكَ"(1)، وقد تخفف من كل عبء يعوق حركته من حد أو التزام أو معاناة، أي تحرر من كل قيد يقيده. وحين أقول "حياتنا الأدبية" فإني لا أعني الأدب وحده، أو الشعر وحده، بل أعني كل ما كانت "الكلمة" أصلا فيه من أدب وشعر ودين وفلسفة وعلم، إلى آخر هذه السلسلة المتشابكة.

ولذلك، فهي قضية يطول شرحها، كما ترى أيها العزيز، ولكنك وقفت معى ولم يأخذك فيها الملل أو التبرم بي، ولم تستحوذ عليك سُنَّة من سُنن "الأساتذة الكبار" في إهدار الألفاظ ودلالاتها، والاستهانة بها وبخطرها،

(1) جزء من عجز بيت لأيى العلاء، استشهد به الأستاذ رحمه الله في المقالة السابقة ص 1116.

ص: 1138