الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفقيه الجليل ورموز التكنولوجيا
تحدث الأستاذ محمود محمَّد شاكر في العدد الماضي من "الهلال" عن "قضية اللغة العربية" وأربعة من كبار العلماء والأدباء والمفكرين الإِسلاميين، كان لهم شأن عظيم في بعثها وإحيائها وحمايتها من أعدائها الغزاة ..
ويكمل الأستاذ شاكر حديثه الشائق، بهذه الصفحات عن "الجبرتى الكبير" والد المؤرخ الجبرتى ..
ويرى الأستاذ شاكر أن للجبرتى الكبير شأنا عظيمًا في العلم والأدب، وأنه أحد الورثة العظام لحضارة الأمة العربية، وتراثها العلمي والأدبى.
* * *
"الجبرتى الكبير"(1): ولد حسن بن إبراهيم بن حسن بن علي الجبرتى العقيلي بالقاهرة "1110 - 1188 هـ / 1698 - 1774 م"، وأصله من بلاد الجبرت، من بلاد الزيلع في أرض الحبشة. جاء جده الأعلى الشيخ عبد الرحمن الجبرتى إلى مصر، في أوائل القرن العاشر الهجرى "سنة 900 هـ، وما بعدها بقليل"، فاستوطن مصر، وصار شيخ رواق الجبرت بالأزهر، وتولى مشيخة الرواق أولاده وحفدته من العلماء من بعده وانتهت المشيخة إلى الشيخ العلامة إبراهيم بن حسن الجبرتى، فتوفي سنة 1110 هـ بعد شهر واحد من مولد ولده حسن".
كفلت حَسنا جَدته أم أبيه، وكانت موفورة الحظ من الغني، وكان الوصى عليه رجل من ذوى الدين والمهابة، هو الإمام العلامة الشيخ محمد النشرتى. فما أتم حسن العاشرة من عمره، حتى حفظ القرآن وجَوَّده، ودخل كآبائه في عداد طلبة العلم بالأزهر، فقرأ على أئمة عصره الكبار من العلماء والشيوخ، فأتقن علوم
(*) مجلة الهلال، عدد يونيو، سنة 1982، ص 50 - 55. وهذه الفقرة الأولى من تقديم المجلة.
(1)
وتحدث عنه أيضًا في "رسالة في الطريق إلى ثقافتنا".
العربية والدين، حتى برع في جميع علوم المعقول والمنقول، وفاق أقرانه، حتى زاحم شيوخ عصره فباحثهم وجادلهم، وصار معدودا في شيوخ الأزهر وعلمائه المتقنين.
كان مما درسه وأجاده من العلوم المألوفة في الأزهر يومئذ علم الجبر والمقابلة والأعداد الصم والمساحة والحساب. ثم علت به همته فتعلم تجويد الخط بجميع أشكاله وصوره، ثم زاد فتعلم النقش على الفصوص والخواتم على أستاذ كبير من أساتذة عصره، ثم زاد أيضًا فتعلّم التركية والفارسية، وقرأ بهما وأقتنى الكتب المكتوبة بهما، وكانت غير متداولة، وفيها التصاوير البديعة الصنعة الغريبة الشكل كما سيأتي. . .
وجاءت سنة 1144 هـ، وهو في الرابعة والثلاثين من عمره، وكان قد صار معدودا في كبار علماء الفقه والعربية وعلم الكلام وسائر العلوم المألوفة في عصره، فحدث تحول غريب جدًا، غير مألوف في حياة أمثاله من الشيوخ يومئذ. وإن لم يفارق طريقه في الفقه والإفتاء وإقراء العلوم المألوفة لعلماء عصره إلى آخر حياته.
شيء غريب غريب! ! في الرابعة والثلاثين من عمره، وبلا سبب ظاهر، بدأ هذا العالم الفقيه الجليل يولى وجهه شطر الرياضيات، فكان في زمانه رجل معروف بمدارستها هو الشيخ محمد النجاحي .. فاتجه إليه ولازمه وقرأ عليه ما كان يحسنه من كتب بعينها، وهي كتاب الرقائق للسبط الماردينى، وكتاب المجيب والمقنطر ونتيجة اللاذقى، وكتاب الرضوانية وكتاب الدر لابن المجدى، ومنحرفات السبط الماردينى، و"إلى هنا انتهت معرفة الشيخ النجاحي"، كما يقول ابنه الجبرتى المؤرخ.
ولا شك في أن الشيخ حسن لم يكد يفرغ من تحصيل ما عند النجاحي، حتى استقل بأمر نفسه، وأقبل على ذخائر الكتب المحفوظة في مكاتب القاهرة العامرة يومئذ بالكتب، ووقف على أصول كتب الرياضيات وسائر الصناعات بهمة لا تفتر، كما يدل عليه ما سيؤول إليه أمره، ولكن ابنه المؤرخ عبد الرحمن الجبرتى، لم يحدثنا عن ذلك حديثا شافيا، لأنه كان يومئذ نطفه في صلب أبيه،
فقد ولد بعد ذلك بسنين في سنة 1168، أي بعد أربع وعشرين سنة. ولكنه قال ما يشعر بذلك وسأسوقه بلفظه:
"وإلى هنا انتهت معرفة الشيخ النجاحي .. وعند ذلك انفتح له الباب، وانكشف عنه الحجاب، وعرف السمت والارتفاع، والتقاسيم والأرباع، والميل الثاني والأول .. والأصل الحقيقي والمعدل، وخالط أرباب المعارف، وكل من كان من بحر الفن غارف .. وحل الرموز، وفتح الكنوز، واستخرج نتائج الذر اليتيم، والتعديل والتقويم. وحقق أشكال الوسائط، في المنحرفات والبسائط، والزيج والمحلولات، وحركات التداوير والنطاقات، والتسهيل والتقريب .. والحل والتركيب، والسهام والظلال، ودقائق الأعمال، وانتهت إليه الرياسة في الصناعة، وأذعن له أهل المعرفة بالطاعة، وسلم له عطارد، وجيمشيد الراصد، وناظره المشترى، وشهد له الطوسي والأبهرى "وهما من أئمة علوم الرياضيات القدماء"، وتبوأ من ذلك العلم مكانا عليا، وزاحم بمنكبه العيوق والثريا".
ولا تشغلك الآن هذه الألفاظ الغريبة عنك، فكلها من المصطلحات القديمة المتوارثة في علوم الرياضيات والفلك ورفع الأثقال والكيمياء، وسائر هذه العلوم، التي هجرها أهلها، ولكنها شغلت دوائر العلم في ديار عدوهم قديما وحديثا وإلى هذه الساعة. والأمر على كل حال ظاهر لا خفاء به.
ظل الشيخ حسن فيما بعد سنة 1144 دائبا لا يفتر في كشف اللثام عن علوم مستكنة في بطون الأوراق والكتب، فبعد قليل قدم إلى مصر عالم متضلع من العلوم الرياضية والمعارف الحكمية والفلسفية، "كما يقول ابنه المؤرخ"، هو الشيخ حسام الدين الهندى، فنزل بمسجد مصر القديمة "مسجد عمرو بن العاص رضي الله عنه"، واجتمع عليه بعض طلبة العلم، فترامى خبره إلى الشيخ حسن في القاهرة، فذهب إليه للأخذ عنه:"فاغتبط به الشيخ وأحبه، وأقبل عليه بكليته". وذلك بلا شك لما وجد عنده من الفهم بعلوم قل أهلها، وبعد عهدهم بها. فلم يزل به الشيخ حسن حتى نقله إلى داره بالقاهرة وأفرد له مكانا، وأكرمه ورفهه، ثم قرأ عليه أمهات الكتب القديمة في الرياضيات والفلك والجغرافيا وعلم
المساحة والهندسة، وسائر علوم الحكمة. وبقي الحسام الهندى عنده إلى أن عزم على الرحلة عائدا إلى بلاده في الهند.
وبعد قليل قدم إلى مصر من السودان، عالم بعلوم الرياضيات والحكمة، على مذهب المغاربة في هذه العلوم، وسكن أولا بدرب الأتراك في القاهرة، هو العلامة الإمام محمَّد بن محمَّد الغلاتى، فحمله الشيخ حسن إلى داره، وقرأ عليه أصول الكتب التي يحسنها في الرياضيات والآلات وغيرها، وبقي عنده إلى أن مات في داره سنة 1154، وكان قبل موته قد جعله وصيا على تركته وكتبه.
* * *
كانت هذه السنوات العشر، "1144 - 1154 هـ"، هي أخطر السنوات في حياة الشيخ حسن الجبرتى، فإنه سلك كل سبيل، وشقى شقاء طويلًا حتى استطاع بذكائه وإصراره وحسن تصوره لما يعانيه، أن يحل لنفسه رموز الكتب العتيقة وألفاظها، وبهذا الجهد والعنت استطاع أن يكشف اللثام عن أسرار العلوم القديمة التي لم يبق في أهل زمانه من يعرفها معرفة تحقيق صحيح كامل، أو قريب من الصحة والكمال. وينبغي أن نعلم أن هذه الكتب العتيقة كانت، بلا شك، هي السجل الأعظم الذي سطرت فيه أبحاث أسلافنا من علماء الحضارة العربية الإسلامية في عصور ازدهارها. فهي تمثل العلم النظرى من ناحية، والتطبيق العملي الذي أدى إلى ظهور أعظم حضارة باذخة رآها العالم الذي نشأت في قلبه وفي زمانه. وهذا التطبيق العملي، هو وليد العلم النظرى، وهو لب الحضارة ومظهرها الحي، وهو ما يسمونه اليوم "التكنولوجيا".
وسترى بعد قليل، أن الشيخ حسن، لما فرغ من حل هذه الرموز التي تضمنتها ألفاظا الكتب العتيقة، دخل بيديه وبنفسه وبتلامذته في طور آخر، هو طور التطبيق العملي. وعسى ألا يكون تطبيقه الجديد هو التطبيق العملي الأول، ولكنه على كل حال، استطاع أن يستوعب أسرار العلم النظرى ومناهجه ويفهمها فهما دقيقا مقاربا للصواب، ثم انبرى بعد ذلك لتطبيقه، منتفعا بالبقايا الباقية في