الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مقاليد الكتب
1 - أنتم الشعراء
تأليف أمين الريحانى -مكتبة الكشاف ومطبعتها- ببيروت سنة 1933
يقول الشاعر المجيد بشارة الخورى:
الهوَى والشبابُ والأملُ المنـ
…
ـشود توحي فتبعث الشّعْرَ حيَّا
والهوَى والشبابُ والأملُ المنـ
…
ـشودُ ضاعتْ جميعُها من يديَّا
يشرَبُ الكأس ذُو الحجا ويبقَى
…
لِغَدٍ في قَرارة الكأسِ شيَّا
لم يَكُنْ لي غدٌ فأفرغتُ كأسى
…
ثَم حطَّمْتها على شَفَتيَّا
أيها الخافقُ المعذَّبُ يا قلْـ
…
ـبى نزحتَ الدُّموعَ من مقلَتيَّا
أفحتمٌ عليَّ إرسال دَمعى
…
كلما لاح بارقٌ في مُحيَّا
يا حبيبى لأجْل عينيك ما ألْـ
…
ـقى وما أوَّلَ الوشاةُ عليَّا
أأنا العاشق الوحيدُ لتُلقَى
…
تبعاتُ الهوَى على كَتفيَّا
فتكون هذه الأبيات الرقيقة سببًا في إثارة الريحانى على الشعراءِ المعاصرين الذين يحبسون شعرهم على البكاءِ والنحيب والحسرة والألم وإظهار الضعف عن تحمل الهوى. ويكثر الجدلُ بين الأدباءِ عن هذا الشعر الباكى الضعيف ويتقسمون الرأي بين راض ومستنكر. ويسخر الريحانىّ في كتابه هذا من الشعر الذي يحبسهُ أهله على الضعف والتخنث والبكاء والتقليد ويهيب بالشعراء إلى القوة والفتوة والرجولة والتجديد.
ونحن من قبلنا لا نحبُّ أن نجادل فيما لا يلدُ الجدل فيه إلَّا العناد والكبرياءَ والتعصب للرأي أو للهوى ولا نبالي أن يقول الناس أصبنا أو أخطأنا إلا أن يكون ميزان الصواب والخطأ العدل والحق والإخلاص والقسط الذي لا يرجح بالناقص ولا يَشيل (1) بالوافي.
(*) المقتطف، المجلد 83، ديسمبر 1933 ، ص: 613 - 614
(1)
شال الميزان: ارتفعت إحدى كَفَّتيه.
الشعراء الخُلَّص الذين لا يطلبون بشعرهم شهرة ولا صيتًا ولا دعوى مستطيلة هم ناسٌ من البشر لهم ما لهم وعليهم ما عليهم إلَّا أنهم من الأمم بمنزلة مقياس الحرارة (الترمومتر) الذي يؤثر فيهِ تقلُّب الجوّ تأثيرًا ظاهرًا بيّنًا يثبته العدد فلا موضع فيه للجدل إلَّا أن يكون هذا المقياس في ذاتِه مختلًّا فاسدًا لا يدلّ على حقيقة الجوّ الذي يحيط به وبذلك يصبح مقياسًا لنفسه لا للناس. والحقيقة لا تعرَف إلَّا من المقياس الصحيح الذي لا خللَ فيه فالناس جميعًا مفتقرون إليه، أما المقياس الفاسد فلا يرجى له خير إلَّا أن يحطَّم أو يهمل وما بأحدٍ إليه حاجة. وهذا مثل الشعراءِ في كل أمة من الأمم.
ونحن من قبلنا أيضًا لا نستنكر على شاعر أن يرقّ حتى يضعف ويبكى ويئن ويتوجع من آلام الهوى وتباريح الصبابة ما كان ذلك الشاعر صادقًا لا يتباكى، محبًّا لا يتصنع لأن الشاعر -كما سلف- رجل من الناس ربما كان له من أسباب الهوى ما يدنفه ويبكيه، وهذه الأسباب تكون له جوًّا يحيط بهِ خاصةً فهو يتأثر به على كل حال. إلَّا أن هذا الشاعر نفسه رجل من أُمَّة يكون لها من أسباب القوة والسيطرة والعزة ما يكون لها، أو رجل من أمة بها من الضعف والفتور والذلّ والاستعباد والمهانة ما تضرب به الضربات الشداد بمعاول الظلم والجَبرية والعدوان والشر الاستعمارى القبيح الدنئ. فلابدَّ للشاعر من هذه الأمة أن يكون لسان الأمة الذي يتكلم بأوجاعها وآلامها وأن يكون من جهة أخرى قائدًا من القوَّاد يقف في قلب الجموع المسكينة خطيبًا تنفذ كلماته إلى القلوب لتحركها وتنعشها وترمى فيها بالحياة والشباب والنشاط وبذل النفس وغلبة الرأي على الشهواتِ والأهواء. وأن لا يكل ساعة عن الجهاد والدعوة إلى الطريق السوىّ. فإذا خلا الشاعر قليلًا قليلًا إلى نفسه وغلبتهُ الحياة الفردية والأهواءُ الخاصة فليقل ما شاءَ بمقدار لا يُلين منهُ ولا يضعف من قوى جنده، وليستجم لنفسه بما يجعله أقدر على الجهاد حين يعود إلى الميدان بين المتألمين والمحطَّمين والباكين مما يصيبهم من وحوش الاستعمار والعدوان التي توسعهم نهشًا وتمزيقًا وافتراسًا.
هذه سبيل الشعر لأمتنا العربية في أمرنا هذا من أيامنا هذه. أما أن يأخذ أحدنا
شعر الشاعر العربي فلا يجد فيه إلَّا الضعف والتخنث والبكاء والذلة والضراعة والحبَّ المريض فذلك أمر لا تقبله النفوس العزيزة التي تستشعر العزة والنخوة والمروءة، وأما الفتنة التي فتن بها الناس من قولهم الشعر العالمي والشعر الإنساني والشعر. . . اللهم إني أعوذ بك من سوء المنقلب. . . فهذا الكلام لا معنى لهُ في حياة الأمم الضعيفة المظلومة التي لا قائد لها ولا إمام .. أيغنّى العصفور الضعيف للثعبان الفاتك ليسحره بألحانه وتغريده. ألا إن لحم العصفور أشهي إلى الثعبان من لحنهِ. . . وما في ذلك إلا سوءُ التقدير وأفن الرأي (1) وقلة الحيلة.
إن الأرض العربية تطالب شعراءَها وأدباءها وكتَّابها وأصحاب الرأي فيها أن يتخذوا ألفاظهم في شعرهم وأدبهم وكتابتهم وآرائهم من النار والحديد والبراكين والدوىّ والرُّعود المجلجلة فعسى أن يهبَّ هؤلاء النوَّام من سباتهم وأن يرجعوا عن غفلتهم ويعلموا أن الأمر جدٌّ وأن الحياة صراعٌ وأن عدة هذا الصراع هو الإيمان والصبر وبذل النفس وكبح الشهوات واطِّراح الجبن والخور. فإذا خرجنا من الميدان بالنصر والظفر فلنطلب نفع الإنسانية في كل بقعة من بقاع الأرض ولنمحُ آثار المظالم والعدوان والفجور والبغى ولنغن ما وسعتنا الألحان وما واتتنا الأغاريد.
وسنعود قريبًا إلى التوسع في هذا القول حين نبتدئ -بعون الله- كلامنا عن الشعر الوطنى في هذه المجلة يوم نجد من شعرائنا إقبالًا على إرسال شعرهم الوطنى كما أمَّلنا ذلك في النشرة التي كتبناها في أول مقتطف نوفمبر الماضي والله المستعان.
(1) أَفَنُ الرأي: فساده وَضَعْفه.