المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌القول في "التذوق - جمهرة مقالات محمود شاكر - جـ ٢

[محمود شاكر، أبو فهر]

فهرس الكتاب

- ‌الناسخون الماسخون

- ‌إكمال ثلاثة خروم من كتاب التنبيه على أوهام أبي علي في أماليه

- ‌من خط البغدادي *

- ‌مقاليد الكتب

- ‌أدب الجاحظ

- ‌الصاحب بن عباد

- ‌أبو نواس

- ‌ضحى الإسلام

- ‌الشريف الكتانى

- ‌نابغة بني شيبان

- ‌مقاليد الكتب

- ‌1 - كتاب "حافظ وشوقي

- ‌2 - كتاب الرثاء

- ‌3 - كتاب الخط الكوفي *

- ‌4 - صلاح الدين وشوقي *

- ‌5 - كتاب الشخصية *

- ‌6 - كتاب أمير الشعراء شوقي *

- ‌مقاليد الكتب

- ‌حاضر العالم الإسلامي

- ‌ذكرى الشاعرين

- ‌ماضي الحجاز وحاضره

- ‌الوحي المحمدي

- ‌مقاليد الكتب

- ‌1 - ملوك المسلمين المعاصرون ودولهم

- ‌2 - ابن عبد ربه وعقده

- ‌3 - رحلة إلى بلاد المجد المفقود

- ‌4 - تنبيهات اليازجي على محيط البستاني جمعها وحل رموزها

- ‌مقاليد الكتب

- ‌1 - أنتم الشعراء

- ‌2 - تاريخ مصر الإسلامية

- ‌3 - آلاء الرحمن في تفسير القرآن

- ‌مقاليد الكتب

- ‌1 - ابن خلدون: حياته وتراثه الفكرى

- ‌2 - قلب جزيرة العرب

- ‌الينبوع

- ‌النثر الفني في القرن الرابع

- ‌مقاليد الكتب

- ‌1 - ديوان عبد المطلب

- ‌2 - مرشد المتعلم

- ‌3 - مواقف حاسمة في تاريخ الإسلام

- ‌ ملوك الطوائف، ونظرات في تاريخ الإسلام

- ‌الإسلام والحضارة العربية

- ‌وَحْيُ القلم

- ‌علم معاني أصوات الحروف سر من أسرار العربية نرجو أن نصل إلى حقيقته في السليقة العربية (1)

- ‌علم معاني أصوات الحروف سر من أسرار العربية نرجو أن نصل إلى حقيقته في السليقة العربية (2)

- ‌علم معاني أصوات الحروف سر من أسرار العربية نرجو أن نصل إلى حقيقته في السليقة العربية (3)

- ‌عبقرية عمر

- ‌شاعر الحب والفلوات ذو الرُّمَّة- 1

- ‌شاعر الحب والفلوات ذو الرُّمَّة- 2

- ‌شاعر الحب والفلوات ذو الرُّمَّة- 3

- ‌ جمعية الشبان المسلمين

- ‌ تاريخ اليوم الأول

- ‌ دعوة الشباب إلى الجمعية

- ‌ الاجتماع الأول

- ‌ الاجتماع الثاني والثالث

- ‌ انتخاب مجلس الإدارة

- ‌في حلبة الأدب

- ‌كتاب تطور الأساليب النثرية في الأدب العربي

- ‌ عن كتاب تطور الأساليب النثرية" رد على مؤلفه

- ‌ترجمة القرآن وكتاب البخاري

- ‌ترجمة القرآن في صحيح البخاري

- ‌من أين؟ وإلى أين

- ‌لماذا، لماذا

- ‌تهيئة الشرق لوراثة الحضارات والمدنيات

- ‌شكر

- ‌أنا وحدى

- ‌الطريق إلى الأدب- 1

- ‌الطريق إلى الأدب- 2

- ‌فوضى الأدب وأدب الفوضى

- ‌الأدب والحرب

- ‌إلى على ماهر باشا

- ‌لا تبكوا. .! لا تنوحوا

- ‌تجديد التاريخ المصري ساعة واحدة

- ‌أحلام مبعثرة

- ‌أهوال النفس

- ‌وقاحة الأدب أدباء الطابور الخامس

- ‌قلوب جديدة

- ‌القلم المعطَّل

- ‌اللغة والمجتمع

- ‌أوطانَ

- ‌(حول قصيدة القوس العذراء)

- ‌صَدَى النقد طبقات فحول الشعراء رد على نقد

- ‌[الاستعمار البريطاني لمصر]

- ‌المتنبي

- ‌حديث رمضان. عبادة الأحرار

- ‌مع الشيطان الأخرس

- ‌ يحيى حقي صديق الحياة الذي افتقدته

- ‌لا تنسوا

- ‌عدوى وعدوكم واحد

- ‌أندية لا ناد واحد

- ‌لا تخدعونا

- ‌احذروا أعداءكم

- ‌في خدمة الاستعمار

- ‌حكم بلا بينة

- ‌تاريخ بلا إيمان

- ‌المسلمون

- ‌ لا تسبُوا أصحَابي

- ‌طلب الدراهم من الحجارة

- ‌ألسنَةُ المفترين

- ‌جرأة العلماء

- ‌أحمد محمد شاكر إمام المحدّثين

- ‌ قُرَىَ عَرَبِيَّةَ

- ‌كانت الجامعة. . . هي طه حسين

- ‌مواقف

- ‌في الطريق إلى حضارتنا

- ‌الأندلس تاريخ اسم وتطوره

- ‌المتنبي ليتني ما عرفته- 1

- ‌المتنبي ليتني ما عرفته- 2

- ‌القول في "تذوق الشعر

- ‌القول في "الشعر

- ‌القول في "التذوق

- ‌المتنبي ليتني ما عرفته- 3

- ‌تتمة القول في التذوق

- ‌قضية "التذوق" عندي

- ‌تاريخ "التذوق" عندي

- ‌من هؤلاء

- ‌قضية اللغة العربية

- ‌في زمان الغفلة

- ‌هؤلاء الخمسة

- ‌الفقيه الجليل ورموز التكنولوجيا

- ‌النكبات الثلاث

- ‌الجبرتى الكبير

- ‌الألفاظ المكشوفة في هذا الكتاب طبيعية وينبغي ألا يجهلها البشر

- ‌ذكريات مع محبى المخطوطات

- ‌[تعقيب]

- ‌كلام منقول بنصه

- ‌في الطبعة الجديدة "للمتنبى

- ‌ الجيل المفرغ

- ‌كتاب الشعر الجاهلي

- ‌هل يبقى الاتهام

- ‌تهمة أكبر

- ‌ليس شكا أزهريا

الفصل: ‌القول في "التذوق

المبين المستجاد، فسموه "النثر"، اختصارا. ولذلك فلفظه في أكثر اللغات مأخوذ من لفظ يدل على نقض الشيء أو تفريقه وتغيير نظامه وحركته، لأنهم حين وضعوه اصطلاحا موجزا، كانوا ينظرون بعين إلى ما يتميز به "الشعر" من التناسق والتوازن والاتساق وإذا تأملت هذا بعض التأمل، لم تجد لما يسمونه في زماننا:"الشعر المنثور" معنى يفهم، لأن لفظ "النثر" مغن عن ذلك كل الغناء، ولأنه ممكن أن يحتمل "النثر" كل ما يحتمله "الشعر" من معان وخصائص، ولأنه لا يزيد عندئذ عن أن يكون "كلاما بليغا مبينا" قد استعار من ضريعه وقسيمه بعض ما جدَّ عنده، ثم ظل، كما كان، مفارقا ذلك الضرب من "الكلام" الذي يقتصر فيه الناس على التفاهم والتعايش وقضاء الحاجات.

وإذا كان ذلك كذلك فلفظ "الشعر" إذن، ليس يدل دلالة صريحة على معنى من المعاني المجردة، بل هو في حقيقته: حروف مركبة في كلمات، وكلمات مركبة في جمل، جمل مقدرة التناسق والتوازن فيما بينها ولكنه ينفرد عن (النثر) بعدئذ، بضرب خاص من التناسق والتوازن مقدر محدود، يكمن في سره نَغَمٌ متساوق يتحدر في تركيب الحروف والكلمات والجمل. وهو بهذا التكوين المتميز الذي يفرق بينه وبين "النثر"، أي "الكلام البليغ المبين" تنتظم فيه المعاني المختلفة الوجوه والغايات، نابعة من أقصى أغوار القلب والعقل والنفس وتجارب الحياة. وهذا قدر كاف في الحديث عن "الشعر" بل لعل قليله كان يغنى عن كثيره.

‌القول في "التذوق

"

فإذا عدنا إلى قولنا: "تذوقَ الشعر" أو "تذوقتُ الشعر"، فإن بديهة اللغة وبديهة متكلميها تسقط عن لفظ "التذوق" هنا عملَ الجارحة، وهي اللسان، فيغرق الحدث أي الفعل الذي يدل عليه عندئذ في الإبهام، وينعدم معه التعين والتميز، وتعلقه هنا بلفظ "الشعر"، وهو على كل حال أشبه بأن يكون معنى من المعاني لا جسم، ولا تعمل فيه جارحة بعينها من الجوارح، فهو بذلك لا يستطيع

ص: 1142

أن يكسب لفظ "التذوق" شيئا يعين على توضيح بعض إبهامه، أو يَسْتَحْيي شيئا مما انعدم من تعينه وتميزه. وكذلك ترى أن "التذوق" هنا حدث (أي فعل) واقع في صميم الحالة الثانية التي ذكرناها آنفا، أي في صميم الغموض والإبهام الذي انعدم معه التميز والتعيين. وأصبحنا نحتاج إلى إعادة النظر في دلالة هذا التركيب.

ويحسن هنا أن نتوقف قليلا عند وقوع "الذوق" و"التذوق" على معنى من المعاني المجرَّدة وتعلُّقه به. فإن "العذاب" مثلا معنى من المعاني المجرَّدة، ولكن تعلُّق "الذوق" به في قولنا:"ذقت العذاب"، إنما صح وحسن، لأن "العذاب" معنى تدركه الحواس إدراكا لا مرية فيه. كما قلت آنفا، ولكنك إذا قلت:"ذقت الفهم" أو "ذقت الكذب" أو "ذقت الإيمان"، وثلاثتها معان مجردة، فهو كلام ساقط مرذول، لأنه فقد التجانس والتطاعم بين طرفيه. ولا يخرجه من رذالته وسقوطه إلا أن تجلب إليه عاملا آخر يعين على التجانس والتطاعم بين طرفيه، فتقول "ذقت لذة الفهم"، و"ذقت وبال الكذب" و"ذقت حلاوة الإيمان"، وما أشبه ذلك من صريح اللفظ أو متشابهه، فيعتدل الكلام عندئذ ويستقيم ويتطاعم طرفاه بهذه الواسطة، وتذهب عنه رذالته وسقوطه. وهذا أمر بين إن شاء الله.

ولنطرح الآن الإلف جانبًا، لأن الإلف يضلل كما يضلل الهوى، ولنُقْبِلْ بأنفس بريئة من سطوة جواذبه ونوازعه، على النظر والتدبر فيما نقوله:"تذوقت هذا الشعر"، أو "تذوق الشعر". و"التذوق" هنا ببديهة اللغة وبديهة متكلميها: حدث مبهم غير متميز ولا متعين، إذ سقط عنه عمل الجارحة، وهي اللسان، سقوطا لا رجعة فيه، وبقى خِلْوا من كل بديل يقوم مقام هذه الجارحة في كشف الإبهام عن صاحب هذا الحدث (أي الفعل)، وينجده بعض النجدة بإكسابه شيئا يدنيه من التعين والتميز. وبيان ذلك أننا حين قلنا:"ذقت العذاب"، فإن "الذوق" صار خِلْوا من الجارحة صاحبة الحدث، وهي اللسان، وصار حدثا مبهما غير متعين ولا متميز، وبلا صاحب يُحْدِثه. ولكن "العذاب"،

ص: 1143

وهو معنى من المعاني المجردة، أكسبه صاحبا مبهما بعض الإبهام، يقوم مقام الجارحة الساقطة عنه، وهو الجسم المحس للعذاب، أو النفس المحسة للعذاب، أو ما شئت = وأكسبه أيضا بعض ما يميزه ويعينه، بالذي هو مضمر في لفظ "العذاب" من إدراك الحواس للوجع والألم واللذع وأشباه ذلك. فهل استطاع "الشعر" هنا، أن يكسب "التذوق" صاحبا يقوم مقام الجارحة التي سقطت عنه؟ ! أو أن يمنحه بشيء مضمر فيه (أي في الشعر) تدركه الحواس، بعضِ ما يدنيه من التعين والتميز؟ أظن أن لا.

فإذا كان لفظ "الشعر" غير قادر بنفسه على شيء من ذلك، كما نرى حتى الآن، فقد وقعنا اضطرارا في حيز هذه المعاني العاجزة عن إحداث التجانس والتطاعم بين طرفي الكلام، مثل "الفهم" و"الكذب" و"الإيمان"، ودفعنا النظر دفعا إلى طرح "تذوقت هذا الشعر" على ركام من الكلام الساقط المرذول الذي فقد التجانس والتطاعم بين طرفيه. ولا تجزع أيها العزيز، لهذا المصير، فقد تعاهدنا أن نقبل على هذا الأمر بأنفس بريئة من جواذب الإلف ونوازعه، أي أن ننخلع انخلاعا من "دروشة" الصوفية وأشباههم.

هل ينفع "الشعر" أنه، كما قلنا أحرف مركبة في كلمات، وكلمات مركبة في جمل، وأنه على الجملة "كلام" بليغ مبين، وأنه لولا "اللسان" لما كانت الأحرف والكلمات والجمل والكلام البليغ المبين وأن "اللسان" هو أداة إبلاغه إلى سمع السامع؟ ونعم، هذا عمل اللسان بلا ريب ولكنه عمل لا ينفع "الشعر" شيئا، لأنه، قبل كل شيء، عمل مباين كل المباينة لعمله الأول وهو "التذوق". ثم يزيد الأمر خبالًا أننا، بلا شك حين نقول "تذوقت الشعر" مجرد تذوق أنفس الأحرف، وأنفس الكلمات، وأنفس الجمل، ونفس الكلام المركب منها مجردة جميعها من المعاني. ثم يزيده خبالا على خبال: أن الأحرف والكلمات والجمل والكلام المركب من جميعها، ليس اللسان سببا في إحداثها وتكوينها وتركيبها بل المُحْدِث والمُكَوِّن والمركب فاعل آخر غيره، وإنما اللسان واسطة للأداء والتبليغ، ليس غير، وإذن فعمله هذا في "الشعر" فضلة زائدة معينة للفاعل

ص: 1144

الأول، فهو عمل مموه غير صريح الفعل، ولا أصيل النسبة إلى "الشعر". وعندئذ، فقد بقى لفظ "التذوق" هنا حدثًا لا صاحب له، فاقدا للعامل الذي يحدث التجانس والتطاعم بين طرفي الكلام، أي لما يُكْسِبه التعين والتميز ويخرجه من الإبهام المطلق.

وأخرى، هل ينفع "الشعر" أن أحرفه وكلماته وجمله ومعانيه أيضا، يجرى فيها جميعا تناسق أو توازن مقدر، ويكمن في سرها نغم مُتَساوِق يتحدَّر في تكوينها وتركيبها تحدُّرا يدركه السمع، حين يتتابع تساقُطها على سمع السامع تتابعًا تستلذه جارحة السمع، وهي الأذن؟ عسى أن يكون ذلك نافعا بعض النفع، إذا كان لفظ "الشعر" مقصور الدلالة على ما يميز كلاما من كلام من هذا الوجه ليس غير. فكون لفظ "التذوق" معلقا بلفظ "الشعر" من حيث هو نغم مستكن في أحرفه وكلماته، لا أكثر ولا أقل. فبهذا المعنى وحده يتجانس طرفا الكلام ويتطاعمان، ويخرج قولنا "تذوق الشعر" من الرذالة والسقوط، لأن صريح معناه هو "تذوقت نغم هذا الكلام"، لا غير، بلا عمل للتذوق في معانيه ولا في تركيبه. وهذا بلا ريب، ليس إلّا جزءا يسيرا جدا مما نعنيه حين نقول:"تذوقت الشعر" وإذن فهو غير مُغْنٍ ولا نافع كل النفع.

وأشياء أخرى كثيرة يمكن أن تقال أيضا، إذا نحن أمعنا إمعانا في التأمل والتدبر والتحليل ونحن في حالة البراءة من سطوة الإلف الذي يملك القدرة على أن يضللنا كما تضللنا الأهواء. وأيًّا ما كان، فهذا القدر كاف في أن يدلنا منذ الآن على أننا مهما جئنا به من وجوه التبرير والتحليل فسوف ننتهي إلى شيء واحد مصمت محدد، وهو أن قولنا:"تذوقت الشعر"، لفظ مشكل مجمل مبهم الدلالة غارق في الإبهام لأن صاحبه الأول، أي فاعله على الحقيقة؛ وهو جارحة "اللسان"، قد سقط عن هنا سقوطا لا رجعة فيه: ولأن لفظ "الشعر" لفظ عاجز عجزا عن أن يُكْسِبه صاحبا جديدا معينا متميزا، يمكن أن يتولى إحداث هذا الفعل يكون بديلا من صاحبه الذي سقط عنه، والذي كان معلوما مفهوما وإن لم يُذْكَر لفظه الذي يدل عليه حين نقول:"تذوقت العسل أو الطعام" وهو

ص: 1145

جارحة "اللسان" التي هي جزء لا ينفصل عن الفاعل الذي أسند إليه ههنا "التذوق"، وهو أنا أو أنت أو هي، الذي تدل عليه "التاء" الأخيرة في "تذوقت".

وإذن، فقد أصبح قولنا "تذوقت الشعر" قولا مهددا تهديدا مخوفا، بأن يُؤخَذ، بمرة واحدة وبِرُمَّته، فيُلْقَى على ركام مطروح بعضه فوق بعض من الكلام الساقط المرذول الذي فقد التجانس والتطاعم بين طرفيه، وليس ينجيه من هذا المصير الكئيب، إلا أن نتلمس صاحبا شهم الشمائل نافذ الجراءة يخف إلى نجدته، لا لينتشله من الغرق في معاطف الإبهام والغموض بل لينتاشه قبل كل شيء من دنس الهلاك قبل أن يهوى في قرارة السقوط والخساسة.

وهذا مطلب شريف، لأنه لفظ عزيز على وعليك أيها العزيز. ولكي نهتدي إلى هذا "الصاحب" الذي يملك من النخوة والشهامة والجراءة، ما يحفزه ليثب مسرعا إلى استنقاذه من التهلكة الموبقة، أراه لزاما أن نريح هذين اللفظين "تذوقت الشعر" من كل عناء يوجبه التنقير والتفتيش عن هذا "الصاحب"، وذلك يقتضينا أن نرفه عنهما بتنكُّب طريق التدبر والتأمل والتحليل: الذي يؤدى بنا إلى إنهاكهما إنهاكا مفضيا بهما إلى التلف والبوار. وتنكبُ هذا الطريق، فيما أرى، واجب على كل ذي مروءة، لأنه طريق مسدود على سالكه، في نهايته هوة لا ينجو عليها ناج، مهما حاول وأراغ المهرب.

أما الطريق الآخر، فلست أحب أن أشق عليك فتشدّ رحالك بأنس الصحبة، فأغرر بك في سلوكه معى، فإن للصاحب في السفر ذمة ينبغي أن يرعاها صاحبه، بأن يكاشفه بغوائل الطريق وجوائحه (1) قبل ارتكابه. فهذا طريق قديم كنت قد سلكته منذ دهر طويل، في زمن محنة "الشعر الجاهلي"، التي ألقت بي بغتة في الأمر المخوف المهوب الذي تنخلع عنده القلوب، وهو إعادة النظر في شأن "إعجاز القرآن". نعم، قد نجوت قديما، بحمد الله وبرحمته، من غوائله ولمَّا

(1) الجوائح: المصائب المهلكة.

ص: 1146

أَكَدْ، ولكني لم أكد أفارقه حتى انطرحت وحيدا، لاهثا داميا قد أثخنتنى الجراح، عند طرف منه قد أفضى بي إلى محجة واضحة المناهج بعض الوضوح. ولذلك فأنا أوثر اليوم أن أعاود السير فيه وحدي، بيني وبين نفسي لأنى أخشى أن يكون معالمه عندي قد درست وامحت، وخفي عني مدب أقدامى قديما فيه، وتهدمت بعض الصُّوَى (1) التي كنت نصبتها منارا حيث سرت، لكي أهتدى بها وأستدل على مذاهبى التي بلغت لي يومئذ طريقا قاصدا، كان لي موئلا ومفازا ونجاة وسلامة. ولذلك فأنا أخشى عليك أن تكون لي فيه صاحبا، بل كن لي مراقبا يرقب خطاى من بعيد، فإن وجدتنى قد أشرفت على تهلكة، فنادنى حتى ينقذنى من الضياع صوتك، فهذا معروف تفعله بأخيك، ليس عندي جزاؤه، ولكن عند ربك جزاؤه. وكل ما أملك أن أدعو الله أن يجنبك كل محنة كمحنتى التي بدأت أَصْلَى نارها منذ سنة 1928.

كانت "محنة"، وكان على أن أنجو أو أهلك فيمن هلك. تناهشتنى الشكوك والريب، ووجدتنى يومئذ مخذولا لا معين لي من داخل نفسي ولا من خارج نفسي. لا عِلْمَ عندي ينصرنى، ولا كتاب أعرفه يغيثنى. غدرت بي نفسي، ونكثت عهدها الكتب، وأحاطت لي الشكوك القواصم، وأطبقت على ظلمات بعضها فوق بعض، أخرج يدي فلا أكاد أراها. وكدت ساعة أن أنفض كل شيء نفضة واحدة، ضنا بنفسي على الهلاك، وطلبا للنجاة، ولكن لاح لي في الظلمات بصيص من نور، فامتثلت للحكمة المضيئة التي جرت على لسان الشاعر الجاهلي، الحُصَين بن الحُمام المُرِيّ:

تأخرتُ أسْتبقى الحياةَ، فلم أجدْ

حياةً لنفسي مثل أن أَتقَدَّما

فلم أبال شيئا وتقدمت، "فأما لهذا وأما لذا"، كما يقول أبو الطيب. أحسبنى قد وقعت مرة أخرى منساقا إلى رواية تاريخ قديم غَبَرَ، لا يغنى ولا ينفع، ولكن عذرى أن كلامك قد صادف قلبا محزونا فتذكر:

(1) الصوى: معالم تنصب في الطريق يهتدى بها المسافر.

ص: 1147

تذكر شيئا قد مضى لسبيله،

ومن حاجة المحزون أن يتذكرا

كما يقول النابغة الجعدى، فاعذرنى مشكورا.

كان عليّ يومئذ، فيما رأيت، أن أنبذ علما كثيرا علمته، لا نبذ استخفاف به، أو إغفال له، أو استهانة بمن علَّمنيه، بل نبذ تخوُّف عليه مما أنا مقدم عليه، وتخوف على نفسي من مغبة سطوته عليّ، وهو على كل حال حاضر عتيد (1) لا يغيب عني وضعه، إن وجدت إليه حاجة فإنه يسعفني. ومحال أن يتخلى المرء عن كل علم، فهذا غرور بالعقل والنفس موغل في الجهالة، وكذب مغموس في لجج الباطل. فلابد إذن من علم أستعين به وأهتدى، وأنا موقن بسلامته من كل آفة، فلم أجد علما يقينا لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه: إلا القرآن العظيم، فبه وحده اهتديت، وقصتى بعدئذ تطول وتتشعب، وتختلف فيها المسالك، وتتعدد عندي المطالب. وأخيرا وجدتنى ملتمسا مطلبا واحدا لا أستطيع أن أتجاوزه، حتى أجد في نفسي عنه بيانا شافيا أطمئن إليه. .

ما هو هذا "الكلام" الذي ميزنا الله به عن سائر خلقه وهم من حولنا صموت لا ينطقون؟ من أين يأتي؟ وكيف؟ ومم يتكون؟ وكيف يتخلق ويتصور؟ فإذا الجواب عن هذه الأسئلة مطلب مستعص على الغوص، مفض الى الحيرة، لأن حقيقته غائرة في قلب الأسرار المحجبة، أسرار "الخلق" التي لا يعلم علمها وخَبْأَها إلا الذي له وحده "الخلق والأمر" سبحانه. بيد أن "الكلام" شيء كائن بأمره كسائر ما هو كائن بأمره، فهو إذن آية كسائر آيات خلقه في السموات والأرض. فإن يك مستعصيا جواب هذه الأسئلة جوابا حاسما كاشفا عن حقيقته وأسراره، فإنه، من حيث هو آية من آيات الله، غير مستعص على التأمل والتدبر، بل هو واجب علينا أن نوفي هذه الآية حقها من التدبر والتأمل، لأنه هو سبحانه أمرنا أن نفعل حيث قال:{وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ (20) وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ} ، فامتثالا وطاعة فعلت ما أمر الله به.

(1) عتيد: حاضر قريب.

ص: 1148

ومنذ قليل قلت: "إن الله سبحانه حين خلق هذا الخلق، أنعم عليهم بالقدرة على "النطق"، أي "على الكلام المسموع" وأودعهم قدرة أخرى هي أجل وأعظم، وهي القدرة على "البيان" بهذا الكلام المركب عن كل ما يمكن أن يجول في أنفسهم وفي ضمائرهم. وهذا الذي يجول في الأنفس والضمائر غيب مستور لا يمكن تحديده أو تفسيره واضحا، كيف يجئ؟ وكيف يذهب؟ ". وعلى طول التأمل وجدت هاتين القدرتين توأمين لا يملكان أن يفترقا، لأن عمل الأجل الأعظم، وهو القدرة على "البيان"، معتمدا اعتمادا كاملا شاملا على أدناهما، وهو القدرة على "النطق" بالكلام المركب. ثم وجدت أيضا أنهما قدرتان متداخلتان لا سبيل إلى تمييز إحداهما من الأخرى إلا بآثارهما فيما يصدر عنهما من الكلام، أما تخليص إحداهما من الأخرى، فأمر ممتنع امتناعا حاسما على كل طامع.

وكل قدرة يملكها الإنسان، فلها في بنائه مكمن تستقر فيه، هو أداة صالحة لإظهار فعلها وعملها، كاللسان والأذن والأنف والعين واليد، والعقل أيضا على ما يكتنفه من الغموض = إلا هاتين القدرتين التوأمين المتداخلتين، فقد رأيته معجزا أن نلتمس لهما في هذا البناء الإنساني مكانا تستقران فيه، أو تنتسبان إليه انتسابا صريحا لا يشوبه تردد أو ارتياب. وفوق ذلك، فهاتان القدرتان العجيبتان الغامضتان قد انفردتا بخصائص غريبة كل الغرابة، تميزها بها عن سائر القُدَر الإنسانية. الأولى: أن لهما من خارجهما مترجم يترجم عنهما، وهو "اللسان" صاحب القدرة على "الذوق" وفاعل "الذوق"، فهو مؤد عنهما ما تفعلان، لا غير. والثانية: أن لهما من خارجهما مستقبلا يستقبل ما يؤديه عنهما "اللسان"، وهو "الأذن" صاحبة القدرة على "السمع" وفاعلته، فهي مستقبلة لما تفعلان لا غير، والثالثة: أن لهما مددا لا ينقطع يأتيهما من خارجهما، أي من جميع القوى الإنسانية المُدْرِكة المُحِسَّة، وعلى رأسها العقل والقلب والنفس. وهذا المدد وحده هو الذي يحركهما لأداء عملهما. ولولا هذا المدد المستمر، لبقيتا عاجزتين خامدتين لا تملكان قدرة على فعل شيء البتة. وطبيعة

ص: 1149

هذا المدد الذي لا ينقطع، وطبيعة تكون مادته، عمل غريب جدا، مستعص على التحديد والتفسير، ولكننا نجد آثاره كائنة ظاهرة في كل ما يمكن أن يسمى "كلاما" قابلا للإدراك والفهم.

وأعجب من ذلك وأغرب: أن جميع قوى الإنسان المدركة والمحسة، مقصور أثر ما تفعله وتحدثه وتدركه وتحسه على صاحبها وحده. وليس لقوة واحدة منها حافز يحفزها على تبليغ ما تحدثه أو تحسه إلى غير صاحبها البتة، ولا لإحداهن وسيلة قادرة على التبليغ والأداء. فالذوق واللمس والشم والسمع والبصر، جميعهن قوى تفعل أفعالها، وتدرك الطعم والجسم والرائحة والصوت والصورة، ولكن غير مستكين في طبيعة إحداهن حافز يحفزها إلى تبليغ شيء مما تجد إلى غير صاحبها، ولا تملك إحداهن وسيلة إلى هذا التبليغ. ومعنى ذلك إنه ليس عند أحد من أصحابها مترجم يترجم عنها، وليس عند أحد من البشر مستقبل يستقبل ما يمكن أن ينقله عنها مترجم. أي هي قُوى صُمّ بُكْم لا تبين، ولا تستطيع أن تفصح بما عندها إلا لصاحبها وحده، دون سائر إخوانه البشر.

وإذا اختصرنا الطريق اختصارا، ونظرنا في الأمر من وجه آخر، فسوف ننتهي إلى ما هو أعجب. فنحن نجده وجدانا ظاهرا لا شك فيه: أن هاتين القدرتين الغامضتين الكامنتين في مكان مبهم من أنفسنا نحن البشر، هما وحدهما القادرتان على احتمال كل ما تعمله قوى الإنسان أو تدركه. وأيضا، هما وحدهما القادرتان عن الإفصاح عما تفعله أو تدركه هذه القوى الصم البكم المقصورة على صاحبها وحده. وأيضا، هما وحدهما المالكتان لشيئين: مالكتان لوسيلة عند صاحبها مُترجِمة مُبْلِغة عن هذه القوى الصُّم البُكْم، تؤدى عنها بعض ما تدركه إلى إنسان آخر غير صاحبها = ثم مالكتان لمستقبل عند غير صاحبها يستقبل الترجمة ويبلغها ويؤديها إلى هذا الإنسان الآخر، وهذان هما "اللسان" و"الأذن"؟ . وعندئذ ينشأ سؤال محير بالغ الخطر، محفوف جوابه بالمبهمات من كل جوانبه. هذا المستقبِل، وهو الأذن، إلى أي قوة كامنة في الإنسان الآخر، تؤدى ما تحمل، أو تبلغها ما حملت؟ إلى أخوات هذه القوى

ص: 1150

الصُّم البُكْم نفسها في الإنسان الآخر؟ وبقليل من النظر، يظهر بُطْلان الجواب عن ذاك السؤال، إذا أجبت بنعم. فليس معقولا أو ليس موجودا أصلا: أن السمع يؤدى ما يسمعه من صفة الرائحة أو الطعم، يؤدى إلى أنفس السامع نفس الرائحة، أو يؤدى إلى لسانه نفس الطعم! ! وقس على ذلك سائر القوى الصُّم البُكْم التي يستعصى عليها إدراك شيء مما يحمله السمع من الأسماء والصفات. كل هذا الوجه باطل لا يعرج عليه.

وإذا بطل هذا، لم يبق إذن إلا أن السمع يؤدى ما يسمع إلى العقل أو القلب أو النفس، وثلاثتهن جميعا قوى مركبة معقدة مبهمة الأفعال غامضة التصرف، وإن كنا نجد آثار أفعالها وتصرفها واضحا وضوحا لا نشك فيه. كيف يكون ذلك؟ هذا سر من أسرار "الخلق" التي استأثر بعلمها خالق هذا الخلق، ومُودِعه من حكمته وتدبيره ما أودع. وإن كان هذا التفويض إليه سبحانه لا يعجب أهل زماننا و {يَاأَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (6) الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ (7) فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ} . وعلى كل حال، فقد ألفنا أن نسند إلى ثلاثتهن إدراك جميع ما نسمعه (القلب والنفس هنا رمزان جامعان لقوى كثيرة معقدة خفية في الإنسان).

والذي اصطلح البشر على تسميته "العقل"، أخطر الثلاثة شأنا، وأجهرهن صوتا. و"العقل" على غموض أفعاله وتصرفه، هو أظهر العوامل، بل لعله العامل الأول الذي يمد هاتين القدرتين الغامضتين الكامنتين، (القدرة على النطق، والقدرة على البيان)، بالمدد الذي يحركهما إلى أداء عملهما في تركيب ما نسميه "الكلام". ولكن هل هذا الذي نقوله أو نتصوره صحيح من كل وجه صحة تنفي عنه كل شك أو تردد أو ارتياب؟ هل يستطيع "العقل" مثلا أن يدرك ثم يبين إبانة ما عن "حلاوة الطعم" التي يجدها اللسان، مجردة من هذين اللفظين اللذين أنشأتهما عندنا "القدرة على النطق" و"القدرة على البيان"؟ هل يستطيع "العقل" معزولا عزلا تاما عن هاتين القدرتين أن يقول: هذا أبيض، وهذا أسود، قبل أن يوجد عنده لفظ يدل على السواد أو البياض؟ هل هذا أو ذاك

ص: 1151

من عمل "العقل" منفردا بالإدراك؟ وعشرات من الأسئلة عن المعاني المفردة والمعاني المركبة، وكلها أسئلة لا يملك امرؤ أن يجيب عنها بقولٍ فَصْل جوابا غير قابل للقوادح التي تفسده أو تبطله، مهما ادعى ذلك المرء لنفسه من البسطة في العلم، ومهما سولت له نفسه أنه قادر على التغلغل في أسرار "الخلق" التي استأثر بها فاطر السموات والأرض ومن فيهن.

ومع كل هذا الغموض الذي يحيط بعمل العقل من نواحيه، فالتأمل يضطرنا اضطرارا إلى أن نسلم مرة بأن هاتين القوتين الغامضتين، (القدرة على النطق، والقدرة على البيان) عاجزتان عجزا مطلقا عن أداء عملهما في إنشاء الكلام وتركيبه، لولا مدد العقل = وأن نسلم مرة بأن هذا "العقل" غير مطيق لأداء عمله في التفكير والتبين والتمييز إطاقة ندركها، لولا ما تمده به هاتان القوتان الغامضتان، (القدرة على النطق، والقدرة على البيان)، من الألفاظ التي عنهما وحدهما تنشأ، وبفعلهما وحدهما تتركب، فيما نتوهم. فإذا سلمنا بذلك، فهذا إذن تداخل بين هذه القوى الثلاث ممتنع على الفصل، أي هو تداخل يدور في حلقة مفرغة، لا ندري من أين يبدأ، ولا إلى أين ينتهي. وكذلك يمكن أن يقال عن "القلب" و"النفس" ما قيل في العقل، وإن كان عملهما أشد غموضا من غموض عمل العقل وتصرفه. وهما، من ناحية أخرى، أشد تعلقا بالعقل، والعقل أشد تعلقا بهما.

وإذن، فهذه خمس قُوى: القدرة على النطق، القدرة على البيان، العقل، القلب، النفس، جميعهن قوى متداخلة تداخلا ممتنعا على الفصل، وجميعهن قوى متعانقة تعانقا ظاهرا، ولكن أعمالها جميعا تدور في حلقة مفرغة، وجميعها متغلغل بعضها في بعض تغلغلا باطنا لا يمكن تفسيره أو توضيحه أو تحديده. ويبقى شيء آخر أن هذه القوى المتداخلة بجميعها تتلقى عن الحواس الخمس الظاهرة أفعالها، في ذوق وملمس وشم وسمع وبصر، وتشترك جميعا في إدراك معناها وتبينه وتميزه. وهذا واضح كل الوضوح بعد الذي قلناه آنفا في شأن تداخل هذه القوى تداخلا ممتنعا على الفصل.

ص: 1152

ولكن يبقى بعد ذلك شيء مهم جدا، وهو الذي يعنينا هنا أول ما يعنينا. فأي هذه القوى الخمس المتداخلة المتعانقة المتغلغل بعضها في بعض، أيها أعظم شأنا، وأجل خطرا. ولكى نفضى إفضاء سريعا نافذا إلى جواب هذا السؤال، نأخذ هذه الخمس المتداخلات، فنعزل منها القوتين الغامضتين، وهما "القدرة على النطق" و"القدرة على البيان". فماذا يكون مصير الثلاث الأخر؟ يسقطن جميعا من فورهن هاويات من ذُرَى الشَّرَف (1) التي استوت عليها، لكي تلحق بالقوى الصُّم البُكْم التي لا تطيق أن تفصح لنا عن عملها، بل عن وجودها، أي إفصاح. وإذا أرادت، فإننا نحن أنفسنا لا ندري عندئذ كيف ندرك ما تريد أن تفصح به، ولا ندري أيضا ما هي الوسيلة التي يمكن أن تملكها لتكون مترجمة مبلغة عنها، ولا من يكون المستقبِل الذي يستقبل الترجمة ويؤديها إلى إنسان آخر غير صاحبها. ومعنى ذلك أن "العقل" و"القلب" و"النفس" جميعا ينقلبن إلى قوى مصمتة صامتة عاجزة لا تبين، ولا نطيق نحن البشر عندئذ إدراك شيء من عملها هي، ولا تستطيع أن تبلغنا شيئا مما تدرك، بطل عمل "العقل" و"القلب" و"النفس" بطلانا لا رجعة فيه!

وإذن، فهاتان القدرتان النفيستان الغالبتان الغامضتان الكامنتان فينا حيث لا ندري ولا نعلم، "القدرة على النطق" و"القدرة على البيان"، هما أشرف القوي وأنبلها وأعظمها سلطانا في بناء الإنسان، لولاهما لخرب البنيان: لولاهما لالتحق الإنسان التحاقا مطلقا لا رجعة فيه ولا مخلص منه بسائر خلق الله من الأنعام والبهائم العجماوات أو الجماد. لولاهما لسقط عنه التكليف، ولأشفق الشيخ أبونا آدم إشفاق السموات والأرض والجبال، حين عرض عليهن ربهن الأمانة، فأبين أن يحملنها وأشفقن منها، و {وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا} ، ومع ذلك، وبما حمل من الأمانة، كرم الله بنيه، وجعل منهم الأنبياء والصديقين والشهداء وأولى العلم الذين يشهدون مع الله قائما بالقسط ومع

(1) الشرف: المكان العالى.

ص: 1153

ملائكته أنه لا إله إلا هو العزيز الحكيم. فأي شرف هذا وأي تكريم؟ سبحانك، تباركت ربنا وتعاليت.

وما بلغتُ هذا المبلغ من ظهور سلطان هاتين القدرتين الغامضتين على جميع ما في الإنسان من قُوى، حتى استبان لي أن حياة هذه القُوى حياة يمكن أن نتبينها نحن، متوقف كل التوقف على وجودهما في الحلقة المفرغة التي اندمجن فيها جميعا، والتي لا تقبل الفصل وتستعصى على التقسيم. وإذن، فهاتان القدرتان أحقهن جميعا أن تكون أول من يبلغه السمع من الكلام المسموع. أحق من العقل، ومن القلب، ومن النفس، أي هما أحق قُوَى الإنسان جميعها بذلك. فهذا جواب السؤال عن "الأذن": إلى من تبلغ ما تسمع؟

والذي نجده في أنفسنا عند سماع الكلام البليغ المبين من الشعر وغيره، شاهد على صحة ذلك مقبول الشهادة إن شاء الله. يسمع أحدنا البيت المستجاد من الشعر فتأخذه بغتة عند سماعه هِزَّة وأريحية، ثم يردده في نفسه مرة بعد مرة، فربما مضت الأيام والليالى وهو لا يزال يتوغل في استحسان لفظه وما يتفجر منه من المعاني، ثم ينتبه مرة إلى عيب يشوبه أو يشينه. فالهِزَّة والأريحية توشك أن تكون من وقع هذه الألفاظ المركبة جملة واحدة على أوتار هاتين القدرتين الغامضتين الساريتين في الحلقة المفرغة، وهما صاحبتا السلطان فيها = أما الاستحسان وتفجُّر المعاني من الألفاظ، فيوشك أن يكون من اشتراك قُوَى الحلقة المفرغة جميعا، وهي تحت سلطان هاتين القدرتين في تقليب الألفاظ المركبة وتفليتها والتدسس في ثناياها وأغوارها مرة بعد مرة = وأما ظهور ما يشوبها من عيب أو يشينها، أي الحكم عليها، فيوشك أن يكون إعلانا لسطوة العقل وقدرته المطلقة على التبين والتمييز، حين استوى له، بعد لأي، أن يظهر سلطانه على جميع قُوى هذه الحلقة المفرغة. وهذه المراتب الثلاث في تجربتى، كادت تكون واضحة عندي كل الوضوح.

ولما بلغتُ هذا المبلغ، وجدته ظاهرا عندي أن "القدرة على النطق"، "والقدرة على البيان"، تعتمد إحداهما على الأخرى اعتمادا شاملا كاملا، كما

ص: 1154

قلت آنفا، وأنهما قدرتان توأمان متداخلتان لا سبيل إلى تمييز إحداهما من الأخرى إلا بآثارهما فيما يصدر عنهما من الكلام، وأن تخليص إحداهما من الأخرى أمر ممتنع امتناعا حاسما على كل طامع. فعندئذ آثرت أن أدمجهما معا في كلام واحد دال على قدرة مركبة، وأن أُغلِّب الأجلَّ الأعظم، وهو لفظ "القدرة على البيان"، اختصارا، وفرارًا أيضا من التثنية لغير ضرورة ملزمة، وأكبر من ذلك، إيثارا لما امتن الله به على عباده حيث قال:{الرَّحْمَنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (2) خَلَقَ الْإِنْسَانَ (3) عَلَّمَهُ الْبَيَانَ} [سورة الرحمن: 1 - 4].

ولما بلغت هذا المبلغ تأملت المراتب الثلاث التي ذكرتها آنفا، فوجدت أن لهذه القدرة المركبة الخفية المندمجة في الحلقة المفرغة، وهي "القدرة على البيان"، عملين يتجاذبانها: الأول عملها في إنشاء الكلام وتركيبه وإذاعته، وهذه هي "الإبانة"، والثاني عملها في استقبال الكلام المسموع الآتي من خارج، ثم تقليبه وتفليته والتدسس في ثناياه وفي أغواره مرة بعد مرة، وهذه هي "الاستبانة". وهي تعمل هذين العملين، والسلطانُ في الحلقة المفرغة سلطانُها الأعظم. فإذا ما أصابت هذا السلطان فترة أو وَهْن، انبعث العقل بسطوته يبسط سلطانه على الحلقة المفرغة مستقلا بالتبين والتمييز، منتهيا لإصدار أحكامه على هذا الكلام: وصارت هي من أعوانه في عمله كما كان هو من أعوانها قبل في عملها. فإذا أصدر حكمه فهي بإحدى المنزلتين: إما أن تقبل حكمه بالاستحسان أو الاستهجان طائعة راضية مستبشرة = وإما تسخط هذا الحكم بالاستحسان، أو الاستهجان وتألف أن تطيعه، وتستعلى عليه أحيانا بكبريائها، متهمة إياه بالتقصير في التبين والتمييز.

لما بلغتُ هذا المبلغ رأيتنى محتاجا إلى التوقف طويلا، متثبتا من أمرى في شأن "الإبانة" و"الاستبانة". أما "الإبانة"، فلها عندي حديث طويل متشعب، وفي الحديث عن "الاستبانة" طرف منه مجزئ، و"الاستبانة" كما قلت "هي العمل الثاني الذي تزاوله القدرة على البيان"، حين تتهيأ هذه القدرة لاستقبال الكلام المسموع الآتي من خارج، وتهتز له حين تتلقاه، ثم تشرع من

ص: 1155

فورها في تقليبه وتفليته والتدسيس في ثناياه وفي أغواره مرة بعد مرة. تتحسس ما أنشأه غيرها من أحرف وكلمات وجمل وتراكيب، بما أنست هي من القدرة والدربة على إنشاء مثله وتركيبه. وهذا عمل خفي غامض موغل في الغموض، تَعْسُر الإحاطة به أو تفصيله -ولكن أحدنا، إذا هو أطال تأمل ما يختلج في نفسه حين يسمع، مثلا، شعرا بارعا، أو يعيد ترديده في نفسه، أو يقرؤه على مُكْث مرة بعد مرة، فإنه واجد وجدانا خفيا حركة خفية من عمل هذه القدرة، نابضة في أقصى حسه. فإذا ألح، استبان له بعض عملها استبانة لا تكاد تخفى أحيانا.

فما الذي تطلبه هذه القدرة حين تشرع في "استبانة" الكلام الذي جاءها من خارج؟ هي الآن لمَّا تزل صاحبة السلطان الأعظم على جميع قُوى الحلقة المفرغة التي تعمل معها تحت سلطانها، وعلى رأسها "العقل". أكبر الظن أنها تطلب أول ما تطلب، أثر أختها وضريعتها عند الإنسان الآخر في هذا الكلام، في أحرفه وكلماته وجملة وتراكيبه التي تم التعبير بها عن معان متعانقة جالت في نفس صاحبها. وصاحبتنا تعلم علما ليس بالظن: أن الأحرف والكلمات والجمل والتراكيب تنشأ عندها هي عن آلاف مؤلفة، وحشود حاشدة، وجماهير غفيرة، وموج لُجّى من أعمال الغرائز والطبائع والسجايا والشيم والشمائل والعواطف والشهوات والأهواء والنوازع، جموع بعد جموع تجيش في نفس صاحبها، من بين ثائر متفجر، وهامد الأنفاس. كلهم له عليها حق لازم، لأنه جزء لا يتجزأ من ضمير صاحبه وغيبه وحقيقته التي يتميز بها وينفرد عن سائر إخوانه من البشر. كلهم يطالبها أن تستعد للبيان عنه إثباتا لوجوده. وهي لا تملك إلا أن تستجيب لكل طالب حق. واستجابتها أن تتهيأ هيئة تعين على تميز صاحبها وانفراده عن غيره، وتعبئ قدرتها على الإنشاء والتركيب تعبئة تجعلها عند الحاجة صالحة للدلالة على كل منهم، وعلى وجوده أو حضوره. فكذلك تصبح "قدرة على البيان" متميزة بالدلالة على ضمير صاحبها وغيبه وحقيقته التي ينفرد بها عن غيره من البشر.

ص: 1156

معنى ذلك، أنها حين تمارس إنشاء الكلام وتركيبه، تحمل الأحرف والكلمات والجمل والتركيب ومعاطف المعاني التي تبين عنها أمشاجا متداخلة من الدلالات، ثم تفصل عنها حاملة آثارا مفصحة، أو مستكنة، أو عالقة، أو ناشبة في ثنايا الكلام وفي طواياه وفي أغواره، دالة دلالة على ما يتميز به صاحبها من أعمال الغرائز والطبائع والسجايا والعواطف والأهواء والنوازع، قديمة أو متجددة، ظاهرة أو باطنة. لا، هذا جزء يسير من عملها وخصائصها. فأكبر من ذلك أن هذه القدرة الخارقة الغامضة الغريبة المطيقة للتشكل، قادرة على أن تعبئ نفسها تعبئة صالحة للدلالة -بالأحرف والكلمات والجمل والتراكيب- على هيئة صاحبها وحركته وشمائله وسمته وعلى مئات من السمات الظاهرة والخفية التي يتميز بها صاحبها، تفصل عنها مغروسة في الكلام، ومغروسة أيضا في المعاني أحيانا.

وإذن، فهذه القدرة حين تلتمس هذه الآثار في كلام أتاها من خارج، فهي تمارس عملا خاطفا لأول وهلة في الاهتزاز له، ثم تبدأ تقلب وتفلى وتتدسس في الثنايا والأغوار، وتتحسس ذلك مرة بعد مرة، فترتاح ارتياحا لمهارة أختها الأخرى، أو ترضى رضا، أو ترفض، أو تنفر. فإذا فتر سلطانها في الحلقة المفرغة، اهتبل "العقل" هذه الفترة، فجاء بسطوته ليفرض سلطانه على الحلقة المفرغة، وشرع يفصل ويبين ويميز، ثم حكم، مستقلا بالحكم. فإما رضيت صاحبتنا عن حكمه أو أنكرته.

فهذا طرف من حديث "الاستبانة"، حين توقفت يومئذ عنده متثبتا. ولكني وجدت اللفظ غير كاف في الدلالة، ووجدت أهل زماننا قد أكثروا من ذكر "تذوق الجمال" و"تذوق الموسيقى"، "تذوق الشعر"، و"تذوق الفن"، فرأيته أحسن دلالة على ما تفعله "القدرة على البيان" من لفظ "الاستبانة" فآثرته عليه. وقد سألتنى أن أجد مكانا صالحا أقف عنده من حديثي هذا، فكأنه الآن أصلح مكان للتوقف، ثم أتابع القول في "التذوق" فيما بعد إن شاء الله. وأنا أرجو أن أكون قد استطعت أن أتبين بعض مدب أقدامى في هذا الطريق الموحش القديم، وأرجو أيضا أن أكون صادقا فيما عبرت عن نفسي، أو قصصته.

ص: 1157

وأنا أقول "أرجو أن أكون صادقا"، تخوفا على نفسي من أن أكون قد كذبت أو لفقت فإني رأيت القصاص المبدع والكاتب المطبوع، الأستاذ إبراهيم الوردانى قد فزع فزعا شديدا حين قرأ كلمتى السالفة، ثم أبدى عن فزعه في صواريخه، في صحيفة الجمهورية، يوم الخميس (19 من شوال 1398/ 21 من سبتمبر 1978، فقال إنه قرأ شيئا "مرعبا مخيفا، تدوخ له النفس، بل تتطاير". ولعل فزعه كان لما وجد فيه من ذكر "عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين"، وما كان من سطوه على أعمال الناس وادعائها والاستطالة بها استطالة باذخة، ثم نقل بعض كلامي وختم كلمته بقوله:

"عزيزى القارئ، أنقل عن الكاتب، ويأخذنى الدوار. فالكاتب هو "الأستاذ محمود محمد شاكر - 70 سنة". ورغم قلة شهرته، وعدم ذيوع صيته، إلا أن له في الأروقة الأدبية، ومنذ زمان، لقب الإمام الزاهد، بل الإمام الكبير الزاهد، حتى ولو لمحناه دائما يؤم للصلاة، ولا أحد من خلف ظهره). . . نعم. . نعم. . تهلع النفس أن يكون كذوبا ملفقا، ولكن الهلع الأكبر أن يكون صادقا أمينا".

وأنا أقول لأخى إبراهيم: لا تهلع أن أكون كذوبا ملفقا، فإن أكن ما تخاف، فإنما أنا رجل من الناس، فإن أك كاذبا فعليّ كذبى. وما عليك إلا تدخلنى في غمار الناس وتستريح، فلست "إماما" حتى تهلع، إنما الإمام من يتخذ المؤذنين يؤذنون له على المنائر وأسطح المنازل وأفواه الطرقات. لا مؤذن لي. فإن أكن مصليا، فصلاتى في غار ضيق لا أخافت بها ولا أجهر، والغار لا يتسع لمأموم واحد، فضلا عن زحام المأمومين! وإن يكن هلعك الأكبر لما يصيب "عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين" إذا كنت أمينا وصدقت، فاكفف من هلعك: فإنه غير مجد عليك شيئا، وخذ نفسك بما أمر به الفرزدق "النوار" أم ولديه، حين ماتا ابناها منه، فجزعت عليهما حتى كادت تتلف، فقال لها ضنًّا بها على التلف:

ص: 1158

فما ابناكِ إلا مِن بني الناس، فاصْبرِي

وهل يُرْجِعُ الموتى حنينُ المآتمِ؟

رفِّه، يا أخي، عن نفسك، فالأمر كله أهون من ذلك، فإن الدكتور طه حسين في نفوس الناس أعظم وأجل من أن يصاب بشيء تكرهه، ولا يعمل فيه قدح قادح كذب ولفَّق، أو صدق وأدَّى الأمانة.

ص: 1159